جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

ومنها : إنّ قوله : « وكلامه ـ تعالى ـ هي الكلمات الّتي هي مؤلفة له ـ تعالى ـ بذاته في علمه القديم بغير واسطة » / ٢٢١ DB / إن أراد انّ تلك الكلمات لها وجود علمي في ذاته ـ تعالى سواء كان العلم عين الذات أم لا ـ ، فهو حقّ لا نزاع للمعتزلة في ذلك ، لأنّ جميع الأشياء ـ سواء كانت الفاظا أو غير الفاظ ـ معلومة له ـ تعالى ـ في الأزل ، لكن الألفاظ والكلمات المترتّبة باعتبار وجودها العلمي ليست فردا من الكلام اللفظي ، ولهذا لو تخيّل واحد منّا كلمات مرتّبة مدّة مديدة ولم يتلفّظ بها في الخارج يصحّ أن يقال في حقّه : أنّه لم يتكلّم في تلك المدّة.

وإن أراد أنّ تلك الكلمات المرتّبة تصدر عنه في الخارج بسبب علمه القديم والقدرة القديمة ، فهو أيضا حقّ لا نزاع للمعتزلة فيه.

وأيضا الكلام هو ما يكون من جنس الحروف والاصوات ، فالّذي في علمه القديم إن كان من جنسهما يلزم قدم غيره ـ سبحانه ـ ، وهو باطل ؛ ومع ذلك يلزم جواز اشتراك الواجب والممكن في صفة من الصفات باعتبار الجنس أو النوع ، وهي الكلام ـ لأنّ كلام الممكن أيضا من جنس الأصوات والحروف ـ.

وإن لم يكن ما في علمه القديم من جنس الأصوات والحروف ومع ذلك كان فردا من الكلام اللفظي لزم جواز أن يكون لطبيعة واحدة فردان : أحدهما فيه تعاقب وتدريج ـ كالكلام اللفظى الموجود في الخارج ـ ، والآخر ليس فيه / ٢١٩ MA / تدريج وتعاقب ـ كالكلام اللفظي الّذي في علمه القديم ، على ما هو الفرض ـ.

فاذا جاز ذلك فنقول : فليتّجه أن يكون لطبيعة الحركة فردان : أحدهما أن لا يكون أجزائها مجتمعة ، والآخر أن يكون أجزائها مجتمعة ، وهو بديهى البطلان ـ على ما ذكره هذا المحقّق في شرح العقائد ـ. ويظهر أنّ الكلام اللفظي إذا حصل في الذهن لا يكون فردا من الكلام اللفظي ، بل يكون فردا من العلم.

فان قلت : مذهب التحقيق إنّ علم الواجب ـ سبحانه ـ بالاشياء حضوري ، ومن جملة الأشياء الكلمات المركّبة من الأصوات والحروف ، فتكون جميع الكلمات حاضرة بأنفسها عند الواجب ـ سبحانه ـ ، وهذه الكلمات الحاضرة بانفسها عند الواجب يجوز

٤٨١

أن تكون هي الكلام النفسي ؛ وبذلك يتّضح الكلام النفسي الّذي قال به الأشعري ؛

قلت : الكلمات المعلومة للواجب بالعلم الحضوري الحاضرة بانفسها عنده لها اعتباران :

أحدهما : من حيث أنّه موجودات خارجية ، ولا ريب في أنّها من هذه الحيثية أمور مترتّبة متعاقبة الاجزاء ، فتكون حادثة ولا يمكن أن تكون صفة لذات الحقّ ؛

وثانيهما : من حيث أنّها منكشفة للواجب ، وانكشافها ليس سوى العلم ، فلا يتحقّق شيء زائد على العلم يكون هو الكلام النفسي.

ومنها : إنّ قوله : « وهذا الكلام الأزلي خطاب متوجّه إلى مخاطب مقدّر » ، فيه : إنّ الّذي هو ازلي ليس إلاّ العلم والقدرة ، لا الكلام حتّى يصحّ أن يكون خطابا متوجّها إلى مخاطب مقدّر ، لأنّ الخطاب فرع الكلام.

ومنها : إنّ قوله : « وامتيازه عن العلم ظاهر ـ ... إلى آخره ـ » لا يفيد مطلوبه ، لأنّ غاية ما يلزم منه إنّ كلامه ـ تعالى ـ ليس عين طبيعة علمه ، لأنّ علمه يتحقّق في موضع ولا يتحقّق كلامه فيه ، ولا نزاع للمعتزلة في ذلك ، لأنّ ما ذكرناه ـ من أنّ الكلام النفسي على ما وجّهه راجع إلى العلم ـ لم نرد منه إنّه عين العلم المطلق ، بل مرادنا منه أنّه فرد منه ، فيكون الكلام النفسي قسما من العلم وأخصّ منه ، فتحقّق العلم في موضع بدون تحقّق الكلام النفسي فيه لا يدلّ على أنّه ليس فردا منه.

وأيضا يتوجّه عليه نقض أورده بعض الأفاضل ، وهو : أنّه لو تمّ ما ذكره يصحّ أن يقال : إنّ علمنا قد يتعلّق بغير أحوالنا وهو معلوم لنا وليس أحوالنا ، فلا يكون علمنا باحوالنا من باب علمنا ، وهو كما ترى!.

وأيضا : علمنا المتعلّق ببناء في قصدنا أن نبنيه غير علمنا ببناء زيد مثلا ، فلا يكون الأوّل منهما علما بالبناء بل صفة أخرى ، إذ لنا أن نبني بهذا العلم هذا البناء وليس لنا أن نبنيه بالعلم بالآخر ؛ فلا يكون مبدأ أحدهما هو مبدأ الآخر.

فالحقّ أنّ هاهنا علمين : أحدهما : علمنا بكلامنا ؛ وثانيهما : علمنا بكلام غيرنا. والأوّل منهما علم فعلي يمكن أن يوجد به كلامنا في الخارج وليس الثاني منهما كذلك ، و

٤٨٢

لا يلزم منه أن يكون الأوّل منهما أصواتا مركّبة ليكون هناك كلام. ولذا صحّ أن يقال : انّي قصدت أن اذكر كلاما ولم اذكره ؛ كيف ولو كان ما رتّبناه في علمنا كلاما لكفر أحد منّا اذا تخيّل في ذهنه كفرا!.

ومنها : إنّ قوله : « وهذا الّذي ذكرناه ليس / ٢٢٢ DA / ما ذهب إليه الحكماء » ، فيه : إنّ من ادّعى من الحكماء أنّ كلامه ـ تعالى ـ راجع إلى علمه مراده : أنّ كلامه فرد من العلم وقسم خاصّ منه ، وقد عرفت أنّ ما جعله هذا المحقّق كلاما نفسيا ـ أعني : الالفاظ الموجودة في العلم القديم ـ ليس إلاّ قسما خاصّا من العلم وفردا منه ، فما ذكره عين ما ذكره الحكماء.

ومنها : إنّ قوله : « ولمّا كان علمه ـ تعالى ـ واحدا محيطا ـ ... إلى آخره ـ » ، يرد عليه : أنّه لا يلزم من شمول العلم لجميع المعلومات شمول كلامه لجميع اقسام الكلام من اللغات المختلفة والاخبارات والإنشاءات ، وكيف يتصوّر أن يكون كلام واحد عربيا وعبريا وسريانيا وفارسيا وتركيا!. وبالجملة لا يتصوّر أن يكون ما هو كلام لذات واحدة بدون ارجاعه إلى العلم كلاما واحدا شاملا لجميع أقسام الكلام. نعم! طبيعة الكلام من حيث هي شاملة لجميع اقسام الكلام ومنقسمة إليها ، وليست طبيعة الكلام قائمة بالهواء ، بل ما هو الكلام / ٢١٩ MB / حقيقة هو القائم بالهواء وهو فرد لطبيعة الكلام.

ومنها : إنّ قوله : « فلأنّ النصوص السمعية دالّة على اثبات صفة الكلام وظواهر تلك النصوص انّها صفة مغايرة لسائر الصفات » ، يرد عليه : أنّه إن أريد أنّ ظواهر النصوص دالّة على انّها مغايرة بالذات فهو ممنوع ؛ وإن أريد : انّها دالّة على المغايرة في الجملة فهو ممنوع ، والمغايرة في الجملة حاصلة فيما نحن فيه. والحاصل : إنّه ورد في الشرع أنّ صفات الواجب بعضها مغاير للبعض بالذات ـ كالعلم والقدرة ـ ، وبعضها ليس كذلك ـ كالمعطي والرازق ، فانّ الرازق أخصّ من المعطي ، ومثل ذلك كثير ـ ، فلم لا يجوز أن يكون الخالق والمتكلّم مثل المعطي والرازق بأن يكون الخالق أعمّ من المتكلّم؟ ـ لأنّ المتكلّم هو الخالق الخاصّ ـ. وفائدة ورود المتكلّم بعد ورود الخالق ـ على ما ذكره المحقّق الطوسي في شرح الرسالة ـ هي أنّه لو لا ورود الشرع بكونه ـ تعالى ـ

٤٨٣

متكلّما لتوهّم العوامّ أنّ القرآن ليس كلام الله ـ تعالى ـ بأن يكون معنى القرآن من الله ـ تعالى ـ ولفظه من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، لأنّه يجوز أن يكون معنى كونه ـ تعالى ـ خالق كلّ شيء أنّه خالق كلّ شيء اعمّ من أن يكون بواسطة أو بغيرها ، فيتوهّم أنّ خلق الكلام بواسطة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ؛ فورد الشرع بانّ الله خالق الكلام اللفظي كالنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وغيره من افراد الانسان. غاية ما في الباب أنّ غيره ـ تعالى ـ محتاج إلى الآلة المخصوصة بخلافه ـ سبحانه ـ ، كما ان الله ـ تعالى ـ سميع وبصير من دون الاحتياج إلى الآلة المخصوصة.

ومنها : إنّ قوله : « ولو بقوّة لزم القدح في كونه متكلّما » ، يرد عليه : أنّ هذا انّما يرد لو نفوا كونه ـ تعالى ـ موجدا للأصوات والحروف الدالّة على المعنى بالوضع ، وهم لا ينفون ذلك ، بل يبالغون في اثباته! ، وانّما ينفون الكلام النفسي الّذي اثبته الأشاعرة لقيام البرهان على بطلانه ؛ ولا يلزم من هذا النفي القدح في اثبات ما هو الكلام حقيقة ، بل هو نصرة في اثباته ؛ هذا.

وقال العلاّمة النيشابوري في تفسيره : إنّه لا برهان على أنّ كلّ صوت يقوم بجسم ولا على أنّ كلّ حرف فانّما يقدر عليه ذو جارحة ، بل لعلّ ذلك في الشاهد فقط. فالكمال القديم كمال قديم ناطق وسميع وبصير ولا آلة ولا جارحة ، كما أنّه ادراك وعلم من غير قوى وعضو. ومن لم يدركه كما ينبغي فلا يلومنّ إلاّ نفسه ، فانّ كلامه كتابه وكتابه صواب وقوله فصل وحكمه عدل ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّ هذا الكلام انّما يصحّ على قول من قال : أنّ اللفظ موضوع للمعنى المشترك بين الوجود الذهني والوجود العيني ، فانّه على هذا القول يصحّ أن لا يكون الحروف قائمة بالجسم. وأيضا قوله : « فالكلام القديم إلى آخره ـ » إنّه يصحّ لو حمل الكلام على المعنى المصدري ـ أي : كون الذات بحيث تحصل منه القاء الكلام بمعنى ما به التكلّم إلى المخاطب ـ ، أو حمل على ما يتكلّم به ؛ وحكمه عليه بالقدم باعتبار اندراجه في العلم القديم.

قال بعض المشاهير : وليعلم أنّ مرجع تحقيق صاحب المواقف والمحقّق الدوانى و

٤٨٤

العلاّمة النيشابوري ومن قال إنّ تكلّمه بالقرآن ـ الّذي هو عبارة عن كتابته على اللوح المحفوظ ـ راجع إلى العلم وإنّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء على الوجه الّذي عليه في الوجود بمنزلة نقش الأشياء وكتابته / ٢٢٢ DB / على لوح الوجود ، واحد ؛ وجميع هذه التحقيقات الأربعة بناها على أنّ المراد من الكلام النفسي هو العلم. وتنقيحها يحتاج إلى مقدّر ، وهي : أنّ الاتصاف بالتكلّم هل يمكن بدون الكلام بمعنى ما به التكلّم أم لا؟ ـ كما حكم به المحقّق الطوسي حيث قال في شرح رسالة العلم في بيان المسألة الثامنة عشر : « وهي إنّه تعالى يصحّ وصفه بأنّه متكلّم أزلا أم لا؟ ، والقائلون بقدم الكلام يحكمون بصحّة وقوعه والقائلون بحدوثه يحكمون بامتناعه » (١) ـ ؛ انتهى كلام المحقّق.

فنقول : إن أرادوا بالتكلّم ما ينافي السكوت والآفة ، أي : القاء الكلام إلى المخاطب بالفعل لم يوجد بدون الكلام والمخاطب فيكون الشيء ذا كلام تعلّق به قدرة القائه القائمة بذلك الشيء أي كان المراد بكون الشيء متكلّما ثبوت الكلام الّذي تعلّق به قدرة الالقاء له وإن لم يوجد المخاطب كان التكلّم واتصافه ـ تعالى ـ بالكلام / ٢٢٠ MA / حينئذ نافعا لثبوت الكلام له ـ تعالى ـ ، فانّ تحقّق الكلام له في الأزل مع قطع النظر عن المخاطب بان يثبت له الكلام القديم بأحد المعاني المذكورة لتوجيه كلام الأشعري كان اتصافه ـ تعالى ـ في الأزل ، وثبت له التكلّم في الأزل ، وإن كان كلامه حادثا ولم يثبت له الكلام القديم كان الاتصاف به حادثا ؛ وإن أرادوا به قدرة القائه الكلام إلى المخاطب على تقدير وجوده مع إرادة الالقاء لم يكن اتصافه ـ تعالى ـ به في الأزل مستلزما لتحقّق الكلام ، كما أنّ إرادة ايجاد الكلام في الأزل لا يستلزم وجود الكلام فيه ، لجواز أن يكون الوجود الأزلى ممتنعا على غيره ـ تعالى ـ. والحقّ أنّ التكلّم الكمالي هو المعنى الأخير وهو مستلزم للعلم بالكلام ، فيتحقّق كلام الأشعري أنّ الكلام القديم الّذي هو ضروري في اتصافه ـ تعالى ـ بالتكلم في الأزل انّما هو العلم بالكلام اللفظي بناء على أنّه حقيقة عند اطلاق الكلام ، بمعنى أنّ المتبادر من الكلام انّما هو الكلام اللفظى ، واطلاق الكلام على غيره مجاز ، والعلم بمعنى الكلام اللفظى بناء على أنّ الكلام حقيقة في معنى الكلام

__________________

(١) راجع : شرح رسالة مسئلة العلم ، المسألة الثامنة عشرة ص ٤٤.

٤٨٥

اللفظي أو العلم بما هو أعمّ منهما بناء على أنّه حقيقة فيما يعمّ اللفظ والمعنى ـ على ما مرّ ـ. ويجب أن يحمل على العلم الإجمالي ليصحّ وصفه بالقدم والوحدة ـ كما هو مذهب الأشعري ـ. وبالجملة صحّة التحقيقات الأربعة المذكورة في تصحيح مذهب الأشعري ـ أعني : تحقيق صاحب المواقف وتحقيق المحقّق الدواني والعلاّمة النيسابوري ومن قال إنّ تكلّمه بالقرآن عبارة عن كتابته ـ ... إلى آخره ـ » انما يكون باعتبار رجوعها إلى أنّ الكلام القديم هو العلم الإجمالي الّذي تحقّقه بمنزلة تحقّقه ـ كما لا يخفى ـ ، والمحقّق الطوسي لا ينكر ذلك التأويل ، بل كلامه ليس إلاّ في عدم الاحتياج إليه.

فان قيل : كيف يقول المحقّق لا احتياج إلى التأويل المذكور مع أنّ الاحتياج إليه حاصل لوجهين : أحدهما : كون التكلّم صفة كمالية ، وثانيهما : العبارات الواقعة في الشريعة ـ مثل قوله تعالى : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (١) ؛ ومثل قوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) (٢) ـ فانّ تلك الآيتين تدلاّن على أنّ القرآن الّذي هو كلام الله ـ تعالى ـ انزل من العلم إلى العين ، فالمندرج في العلم الإجمالي القديم هو القرآن الّذي هو كلام الله القديم باعتبار هذا الاندراج. وهذا خلاصة التحقيقات الأربعة المذكورة ، فانّ الاختلاف فيها انّما هي في العبارة.

قلت : لا شيء من هذين الباعثين ـ أعني : كون التكلّم صفة كمالية والعبارات الواقعة في الشريعة ـ بوثيق عند المعتزلة والمحقّق الطوسي ؛

أمّا الأوّل : فلانّهم يمنعون كون التكلّم الّذي لا بدّ له ممّا به التكلّم صفة كمالية قديمة حتّى يحتاج إلى اثبات شيء أزلي يطلق عليه الكلام ، لأنّ مثل هذا التكلّم ـ أعني : التكلّم بالفعل ـ صفة اعتبارية لا صفة كمالية ، لانّها حادثة والحادث لا يصحّ أن يكون صفة كمالية له ـ تعالى ـ ، بل التكلّم الكمالي عندهم قدرة القاء الكلام على تقدير وجود المخاطب وإرادة القائه. ولا يخفى أنّه لا يستلزم وجود هذا المعنى في الأزل ثبوت شيء هو ما به التكلّم في الأزل ، لأنّه راجع إلى القدرة ؛

وامّا الثاني ـ أعني : العبارات الواقعة في الشريعة ـ فلأنّ المراد : أنّ القرآن المجيد

__________________

(١) كريمة ٢٢ ، البروج.

(٢) كريمة ٤ ، يوسف.

٤٨٦

صورته في اللوح المحفوظ وذلك لا يقتضي اطلاق اسم القرآن المجيد على الصورة المثبتة في اللوح / ٢٢٣ DA / المحفوظ ، بل على ذي الصورة. ويمكن أن يقال : اطلق اسم القرآن المجيد على ما في اللوح المحفوظ ـ أعني : علمه القديم ـ على سبيل التجوّز ، فانّ اطلاق اسماء الأشياء على تلك الأشياء إذا كانت موجودة في الاذهان شايع وإن لم يكن على سبيل الحقيقة. وقس على هذه الآية أمثالها ؛ انتهى ما ذكره بعض المشاهير بالتوضيح وذكر مقدّماته المطلوبة.

وحاصله ليس إلاّ ارجاع الكلام النفسي إلى العلم الإجمالي بالكلام اللفظي وتأويل التحقيقات الأربعة إليه. وأنت قد عرفت مرارا أنّ هذا تعسّف فاسد وتكلّف بارد! ، فانّ مراد الأشاعرة من الكلام النفسي ليس العلم الإجمالي ؛ كيف ولو كان مرادهم ذلك لارتفع النزاع بينهم وبين المعتزلة مع أنّ التنازع بينهم ممّا لا يمكن / ٢٢٠ MB / انكاره؟!.

ثمّ إنّه لا ريب في أنّ الواجب ـ سبحانه ـ عالم في الأزل بجميع الألفاظ والحروف والكلمات والعبارات الّتي توجد منه ـ سبحانه ـ ومن غيره لا بالعلم الإجمالي ـ لبطلانه عندنا ، كما عرفت ـ ، بل بالعلم التفصيلي الاشراقي ـ على ما مرّ مفصّلا ـ. إلاّ أنّ هذا العلم ليس صفة تكلّمه ـ تعالى ـ ، بل صفة تكلّمه الّتي هي من الصفات الازلية الكمالية هي قدرته على الالقاء عند إرادته صفة تكلّمه الّتي هي من صفاته الاضافية هي نفس الإلقاء الفعلي وكلامه هو الكلمات والألفاظ الصادرة عنه ـ سبحانه ـ بهاتين الصفتين. وبين تلك الكلمات والألفاظ ترتّب وتدريج ، بل هي قائمة بالهواء أو جسم آخر إن كان صدورها عنه في عالم الشهادة ، ويمكن عدم الترتّب والقيام بجسم إن كان صدورها عنه في عالم التجرّد أو المثال ؛ فتأمّل!.

٤٨٧

الفصل السابع

في صدقه ـ سبحانه ـ

٤٨٨
٤٨٩

( الفصل السابع )

( في صدقه ـ سبحانه ـ )

قد اتفق أهل الأديان على أنّ الكذب في كلامه ـ تعالى ـ محال ؛ وقد استدلّ المعتزلة على ذلك بوجهين والأشاعرة بوجوه.

امّا الوجهان اللّذان استدلّ بهما المعتزلة :

فاوّلهما هو : أنّ الكذب في الكلام قبيح ، نظرا إلى أنّ الكلام الّذي يتّصف بالصدق والكذب عند المعتزلة من قبيل الأفعال دون الصفات ، لأنّ الكلام عندهم إمّا بمعنى

التكلّم الحقيقي ـ أعني : كون المتكلّم على وجه يمكن منه القاء الكلام اللفظي إلى من يريد تفهيمه ـ ، أو بمعنى ما به التكلّم ـ أعني : الألفاظ المنتظمة الدالّة على المعاني المقصودة ـ ، أو بمعنى الكلام المصدري وهو التكلّم بالفعل ، وهو خلق الألفاظ الدالّة على المعاني المقصودة. ومعلوم أنّ التكلّم الحقيقي الّذي هو من الصفات لا يتّصف بالصدق والكذب ، فالمتصف بالكذب أوّلا وبالذات هو الكلام اللفظي ـ أعني : الألفاظ الدالّة على المعاني المقصودة ـ وثانيا وبالتبع هو التكلّم بالفعل ـ الّذي هو خلق الألفاظ ـ ، فانّ اتصافه بالكذب بتبعية اتصاف الكلام اللفظي به. ولا ريب في أنّ الكذب في تكلّمه ـ تعالى ـ الفعلي ـ وإن كان بالتبع ـ قبيح. ومع قطع النظر عن اتصاف التكلّم الفعلي بالكذب نقول : لا ريب في أنّ اتصاف الكلام اللفظي به وخلق الألفاظ

٤٩٠

الدالّة على المعاني الكاذبة قبيح ، والله ـ سبحانه ـ لا يفعل القبيح اصلا ، اي : لا يجوز أن يفعله وإن كان مشتملا على حسن ، كالكذب النافع. فاندفع ما قيل من : أنّ الكذب قد يكون حسنا لكونه نافعا ، وذلك بأنّ الكذب النافع لا يخرج عن كونه قبيحا وإن كان له حسن بوجه ما.

قيل : يتراءى منه المنافاة لما قيل في دفع الشبهة الثنوية من : « أنّه يجوز أن يفعل الواجب ـ سبحانه ـ ما كان خيريته غالبة على شرّيته ، وليس ذلك قبيحا » ؛

وأجيب عنه : بانّه لا شيء من الكذب بحيث يكون حسنه غالبا على قبحه.

وهو كما ترى!.

وتقرير الاشكال في المقام : إنّه ما وجه عدم صدور الكذب المشتمل على الحسن ـ كنفع الغير ـ عنه مع أنّ الكلام له معان ثلاثة :

أحدها : ما به التكلّم ، وهو الألفاظ الدالّة على المعاني ؛

وثانيها : خلق الألفاظ الدالّة على المعاني

وثالثها : التكلّم الحقيقي ـ أعني : كون الذات بحيث يقتضي القاء الكلام إلى من يريده ـ ، / ٢٢٣ DB / والمتّصف بالصدق والكذب انّما هو الكلام بالمعنى الأوّل والثاني دون الكلام بالمعنى الثالث. ولا ريب في أنّ الكلام بالمعنيين الأوليين من قبيل أفعاله ـ سبحانه ـ دون صفاته ، وما هو من صفاته انّما هو الكلام بالمعنى الثالث.

ثمّ الممتنع كون صفاته ـ تعالى ـ مشتملة على القبح دون افعاله ، إذ لم يثبت عدم جواز اشتمال بعض أفعاله وبعض ما يترتّب على ايجاده على قبح ما ، بل هو واقع! ـ كما في الشيطان والسموم المهلكة والاشخاص الشريرة وغيرها ـ ؛ فانّه لا نزاع في أنّ الشرور والقبائح واقعة في عالم الوجود ، غاية ما في الباب انّهما مستندان إلى الأشياء الصادرة عنه ـ تعالى ـ بالذات وإليه ـ سبحانه ـ بالعرض ـ على ما تقرّر في موضعه ـ ، فيجوز أن يصدر عنه ـ سبحانه ـ الكذب المشتمل على حسن ما ويكون مستندا إلى الألفاظ الدالّة على المعاني الّتي هي صادرة عنه ـ تعالى ـ بالذات وإلى الايجاد الّذي هو فعله ـ سبحانه ـ بالعرض.

٤٩١

وأجاب بعض الأفاضل عن هذا الاشكال : بانّه لو صدر هذا القسم من الكلام ـ أعني : الكذب المشتمل على النفع ـ عنه ـ تعالى ـ فلا يخلو من أنّه ـ تعالى ـ إمّا أن لا يقدر ايصال هذا النفع المترتّب عليه بوجه آخر إلى الغير من حيث هو فاعل ، فيلزم عجزه المنافي لقدرته الكاملة ؛ أو لا يعلم وجها آخر حتّى يتمكّن به من ايصال / ٢٢٢ MA / النفع إلى الغير ، وهذا أيضا ظاهر البطلان. ولا يمكن وصول هذا النفع إلى الغير بدون هذا الكذب بالنظر إلى هذا القابل واستحقاقه ، لا بالنظر إلى الفاعل ، لأنّ استحقاق القابل أيضا ممّا له مدخل في جلب المنفعة له ، وهذا أيضا باطل ، أمّا أوّلا فلأنّ القبح لا يورث النفع اللائق للمكلّف ـ وهو الارتقاء من حضيض الطبيعة إلى ذروة الكمال اللائق للنشأة الأخرى ـ ، فان القبيح كالسمّ المنافي لصحّة النشأة الباقية. فكيف يصير سببا لحصولها ومبنى الشريعة الترغيب والتحريص على تحصيلها؟! ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ صدور الكلام الكاذب عنه ـ تعالى ـ المشتمل على الحسن ـ أعني : النفع للغير ـ يوجب صدور الشرّ الكثير المشتمل على الخير بوجه بالذات من الخير المحض المبرّى عن كلّ نقص وآفة ؛ وهذا باطل ، لاستلزامه جهة النقيصة في ذاته ـ تعالى ـ.

وغير خفيّ بانّه يمكن المناقشة في مواضع من هذا الجواب.

وقريب من الشقّ الأوّل من هذا الجواب ما ذكره بعض الفضلاء من أنّ من كان قادرا وحكيما على الاطلاق بحيث يكون جميع الموجودات تحت قدرته يحكم العقل بديهة بأنّ ايجاد الكلام الكاذب منه قبيح وإن كان ذلك الكلام الكاذب مشتملا على حسن ؛ نعم! ، الكلام الكاذب الّذي يكون مشتملا على حسن لا يكون قبيحا في بعض الأوقات بالنسبة إلى من لم تكن قدرته مشوبة بالعجز أصلا ولا يكون قادرا عالما حكيما على الاطلاق ، فالعقل يحكم بأنّ الكذب في كلامه قبيح وإن كان مشتملا على حسن.

والأصوب في الجواب عن الاشكال المذكور أن يقال : الفرق متحقّق بين ايجاد الألفاظ الدالّة على المعاني الكاذبة وبين ايجاد الشيطان ومثله من الموجودات المشتملة على الشرور والقبائح ، فانّ المحرق مثلا يكون محمولا على النار حقيقة وعلى فاعل النار

٤٩٢

بالمجاز وبالعرض ، وكذا الشرير يحمل على الشيطان حقيقة وبالذات وعلى فاعله وموجده بالعرض وبالمجاز ؛ وأمّا الكلام الكاذب فكما يحمل عليه الكاذب بالذات وبالحقيقة فكذلك يحمل على ملقي الكلام وموجده أيضا من دون تفاوت ، لأنّ حمل الكاذب والصادق على المتكلّم حقيقي وذاتي وليس مجازيا عرضيا ، لأنّ الصادق معناه بالفارسية : « راست گو در قول خود » ، والكاذب معناه بالفارسية : « دروغ گو در قول خود » ، فلو جاز ايجاده ـ تعالى ـ كلاما كاذبا يلزم جواز حمل الكاذب عليه ـ تعالى ـ حقيقة وبالذات ، فيلزم النقص في صفته ـ تعالى ـ ؛ وهو محال ، لأنّ ما يحمل عليه ـ تعالى ـ حقيقة وبالذات يجب أن يكون كمالا على الاطلاق بحيث لا يكون فيه نقص بوجه من الوجوه. وبالجملة العقل السليم حاكم بأنّ الكذب والتلبيس واظهار ما هو خلاف الواقع ونفس / ٢٢٤ DA / الأمر نقص وقبيح يجب تقديسه ـ تعالى ـ عنه.

ولا ريب في أنّ هذا الدليل بناء على المذهب الحقّ من ثبوت حكم العقل بحسن الأفعال وقبحها تامّ صحيح لا خدشة عليه.

وثانيهما : أنّ الكذب ينافي مصلحة العالم ، لأنّه إذا جاز وقوع الكذب في كلام الله ـ تعالى ـ ارتفع الوثوق عن اخباره بالثواب والعقاب وسائر ما اخبر به من احوال الآخرة والأولى ، وفي ذلك فوات مصالح لا يحصى ، والأصلح واجب عليه ـ تعالى ـ عندهم ، فلا يجوز اخلاله به.

قال بعض الأفاضل : كذبه ـ سبحانه ـ أو جواز كذبه مع اطّلاع العباد عيه ينافي مصلحة العالم ويرتفع الثقة معه ، أمّا لو وقع الكذب في الواقع أو جاز ولم يقع ولكن يحفظ الحال ـ تعالى ـ بحيث لا يطّلع عليه أحد لا يلزم خلاف المصلحة وارتفاع الثقة ولا ينافي وجوب الأصلح عليه ـ تعالى ـ ؛

وغير خفيّ بانّه لو جاز الكذب عليه ـ تعالى ـ يعرف العقلاء ذلك كلّيا وإن لم يطّلعوا عليه بخصوص القضايا الخارجية ؛ وبه يحصل ارتفاع الثقة ومنافاة مصلحة العالم. وأمّا الوجوه الّتي استدلّ الأشاعرة بها على استحالة الكذب عليه ـ تعالى ـ :

فمنها : إنّ الكذب نقص ، والنقص على الله ـ تعالى ـ محال اجماعا ؛

٤٩٣

وأيضا : لو صدر عنه الكذب لزم أن نكون نحن أكمل منه ـ تعالى ـ في بعض الأوقات ـ أعني : وقت صدقنا وكذبه سبحانه ـ.

ثمّ استحالة النقص على الواجب ـ سبحانه ـ يدلّ عليه العقل أيضا ، وليس طريق اثباته مجرّد الاجماع ، وبذلك يندفع ما قيل : إنّ اثبات حجّية الاجماع موقوف على صدق الرسول الموقوف على صدقه ـ تعالى ـ ، فاثبات صدقه ـ تعالى ـ بالاجماع دور ؛ / ٢٢٢ MB / هذا.

وقيل : وهذا الوجه من وجوه الأشاعرة ـ أعني : لزوم النقص على تقدير الكذب في كلامه ، تعالى ـ انّما يدلّ على صدق الكلام النفسي الّذي هو صفة قائمة بذاته ـ تعالى ـ ، إذ لو وقع الكذب فيه لزم نقصان صفته ـ تعالى ـ مع كمال صفتنا ، ولا يدلّ على صدقه ـ تعالى ـ في الكلام اللفظي الّذي يخلقه في جسم دالاّ على معنى مقصود منه ، لأنّه على تقدير وقوع الكذب في الكلام اللفظي الّذي يخلقه انّما يلزم النقص في فعله ـ تعالى ـ والنقص في فعله ليس لنقص في صفاته الكمالية الّذي يقول الأشعري باستحالته على الله ـ سبحانه ـ ، بل هو القبح العقلي بعينه ، إذ لا فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه إلاّ بمجرد العبارة ؛ فرجع هذا الوجه للأشاعرة إلى الوجه الأوّل للمعتزلة. مع أنّ الأشاعرة لا يقولون بالقبح العقلي ، فلا يمكنهم التمسّك بلزوم النقص في افعاله ـ تعالى ـ في دفع الكذب عن كلامه اللفظي مع أنّ الأهمّ بيان صدقه ـ تعالى ـ في الكلام اللفظي ، إذ أمر التكليف للعباد انّما يفهم منه لا من النفسي.

وادّعى بعض الأعلام استلزام كذب الكلام اللفظي لكذب النفسي حيث قال : مرجع الصدق والكذب انّما هو المعنى دون اللفظ ، ولمّا كان الكلام النفسي عندهم عين مدلول الكلام اللفظي ومعناه كان كذب الكلام اللفظي راجعا إلى كذب الكلام النفسي ولزم النقص في صفته ـ تعالى ـ.

واعترض عليه : بأنّ القاء الكلام اللفظي إلى آخر وايجاده على ثلاثة أقسام :

أحدها : ايجاده بدون قصد القاء المعنى المقصود منه ؛

وثانيها : ايجاده مع الاعتقاد بمدلوله ؛

٤٩٤

وثالثها : ايجاده بدون الاعتقاد بمدلوله.

ولا يلزم من كذب الكلام اللفظى الكذب في الكلام النفسي الّذي هو الصفة القائمة بالذات إلاّ في الصورة الثالثة لا في الصورتين الأوليين ، لأنّه إذا اعتقد المتكلّم مدلول كلامه اللفظي الّذي القاه إلى المخاطب وكان اللفظي الدالّ كاذبا لزم كون المتكلّم معتقدا لخلاف الواقع ، وأمّا إذا لم يقصد المتكلّم القاء المعنى أو قصد ولم يعتقد مدلوله فلا يلزم من كذبه اعتقاد المتكلّم لخلاف الواقع ، فلا يلزم النقص في الصفة بمجرّد خلق الحروف والكلمات الدالّة على المعاني الكاذبة في الأجسام.

وأنت خبير بأنّ الصورة الأولى لا يتصوّر بالنسبة إلى جنابه ـ سبحانه ـ ، لأنّه ـ تعالى ـ عالم بجميع الأشياء بحيث لا يعزب عن علمه شيء أصلا.

قيل : والصورة الثانية أيضا مندفعة بأنّ كلّ كلام لفظي فله مدلول ، فان كان مدلوله / ٢٢٤ DB / مطابقا للواقع كان صادقا ـ سواء كان المتكلّم اعتقد بمدلوله أم لا ، وسواء كان اعتقد بنقيضه أم لا ـ ؛ وبالجملة لا دخل لاعتقاد المتكلّم في صدقه وكذبه ؛ وإن لم يكن مدلوله مطابقا للواقع كان كاذبا ـ سواء كان المتكلّم اعتقد بمدلوله أم لا ، وسواء كان اعتقد بنقيضه أم لا ـ. ولمّا كان الكلام النفسي عندهم مدلول الكلام اللفظي فذلك المدلول إن كان مطابقا للواقع كان الدالّ عليه صادقا ، وإن لم يكن مطابقا للواقع كان الدالّ عليه كاذبا ، فلا يتصوّر أن ينفكّ صدق / ٢٢٣ MA / أحدهما عن صدق الآخر وكذب أحدهما عن كذب الآخر ، لأنّ صدق الكلام اللفظي وكذبه تابع لصدق الكلام النفسي وكذبه ؛ انتهى.

وفيه : إنّ كلاّ من صدق الكلام اللفظي وكذبه وإن كان منوطا بمطابقته للواقع وعدمه ولم تكن لاعتقاد المتكلّم وعدمه مدخلية في ذلك ـ على ما هو الحقّ ـ إلاّ أنّ المتكلّم إذا لم يعتقد مدلول هذا الكلام اللفظي وكان غير مطابق للواقع لم يكن المتكلّم معتقدا لما هو خلاف الواقع ، فلا يلزم نقص في صفته وإن كان هذا الكلام كاذبا ؛ بخلاف ما لو اعتقد مدلوله وكان كاذبا ، فانّه يلزم حينئذ اعتقاده بخلاف الواقع ، فيلزم النقص في صفته. فالواجب ـ سبحانه ـ إذا صدر منه كلام لفظي كاذب علم خلافه ولم يتعلّق

٤٩٥

علمه بمدلوله لم يلزم من كذبه نقص في صفته ـ سبحانه ـ. ولذا اعرض بعضهم عن هذا الوجه ـ لاندفاع الصورة الثانية ـ وقال لبيان عدم تصوّرها بالنسبة إليه ـ تعالى ـ بأنّ ايجاد الكلام اللفظي مع قصد الالقاء بدون الاعتقاد بمدلوله ـ كما في صورة الامتحان ـ ، ولا يعدّ ذلك سفها. وقد ثبت ممّا ذكر أنّ الصورة الأولى لا تتصوّر بالنسبة إلى جنابه ـ تعالى ـ ، والصورة الثانية يتصوّر بالقياس إليه ـ تعالى ـ ولا يلزم فيها من كذب الكلام اللفظي كذب الكلام النفسى ، فلزوم كذب النفسي من كذب اللفظي منحصر بالصورة الثالثة ؛ إلاّ أنّه مع ذلك نقول : لا يلزم نقص في صفة كمالية ، لأنّ مدلول الكلام اللفظي المطابقى ليس صفة لذاته ـ تعالى ـ ، كالكلام اللفظي ولا أمرا واحدا ، بل انّما يكون الصفة القائمة بذاته هو التكلّم الحقيقي الّذي هو القدرة على الالقاء أو العلم بالكلام وبمدلوله. ولا يخفى أنّه لا يلزم من كذب الكلام اللفظي وكذب مدلوله اللّذين هما من الأفعال النقص في قدرته على الالقاء وعلمه بالكلام اللّذين هما من الصفات ، اذ لا يلزم من القدرة على ايجاد الخبر الكاذب الملقى أو العلم التصوّري بمضمونه نقص في الادراك.

وأنت بعد ما عرفت من أنّ الكلام النفسي الّذي هو مدلول الكلام اللفظى ليس له معنى محصّل وما هو الثابت الواجب في الواقع ونفس الامر ليس إلاّ التكلّم الحقيقي الواقع إلى قدرة خاصّة أو العلم بالكلام ولا يلزم من كذب الكلام اللفظي كذب فيهما تعلم أنّه لا يلزم من كذب الكلام اللفظي إلاّ نقص في فعله ـ سبحانه ـ ، ولا يلزم منه نقص في صفة من صفاته الكمالية. إلاّ أنّ العقل السليم حاكم بأنّ مجرّد القاء الكلام الكاذب وإن كان صفة اعتبارية نقص وهو ـ سبحانه ـ منزّه عنه.

وعلى هذا فالفرق بين هذا الدليل والوجه الأوّل للمعتزلة : إنّ بناء الوجه الأوّل على لزوم القبح العقلى وبناء هذا الدليل على لزوم النقص في الصفة الاعتبارية ، فيمكن للأشعري الاستدلال بهذا الدليل وإن لم يمكنه الاستدلال بالقبح العقلى.

وأنت بعد التأمّل تعلم انّهما راجعان إلى أمر واحد ، والتفريق بينهما مشكل ، لأنّه مع قطع النظر عن الحسن والقبح العقليين لا نعلم أنّ الكذب قبيح حتّى يكون القائه نقصا.

٤٩٦

فان قيل : النقص في الصفة الاعتبارية ممّا لا فساد فيه ، ألا ترى أنّ ايجاد الأعمى والأصمّ والأشلّ وغيرهم من المخلوقات الناقصة ايجاد ناقص متحقّق؟!.

قلنا : التحقيق إنّ النقص لا يدخل في صفة من صفاته ـ سبحانه ـ أصلا ـ سواء كانت حقيقية أو اعتبارية ـ ، ولا في فعل من افعاله مطلقا ؛ قال المعلّم الثاني : « الأوّل ـ تعالى ـ تامّ القدرة والحكمة والعلم كامل في جميع أفعاله لا يدخل في أفعاله خلل البتة ولا يلحقه عجز ولا قصور. والافات والعاهات الطبيعية انّما هي تابعة لضرورات اختلاف المهيات والاستعدادات بحسب الكمال والنقصان ولعجز المادّة من / ٢٢٥ DA / قبول النظام التامّ » ؛ انتهى.

فليس في الايجاد نقص وقصور أصلا ، بل النقص والقصور انّما هو من جهة القابل ولا قصور من جانب الفاعل أصلا ، ولا بخل في جوده مطلقا.

وقال صاحب التحصيل ما حاصله : إنّ هذا القصور قد لا يكون لعلّة ، إذ من البيّن أنّه ليس للماهيات الممكنة في ذواتها ولا في كونها ممكنة سبب ولا في حاجتها إلى علّة لوجودها سبب ولا يكون المتضادّين متمانعين في الوجود ولا يكون كلّ كائن فاسد علّة ولا لقصور الممكن عن الوجود الواجبي ونقصانه عن رتبته علّة ولا لكون النار محرقة وكون المحترق في قبوله الاحراق علّة ، إذ كلّ ذلك من مقوّمات المهيات وطبائع الامور أو من لوازمها. ولهذا نظائر ، مثل كون إحدى غايات بعض الموجودات مضرّة ببعض الموجودات ومفسدة له ، كما أنّ غاية القوّة الغضبية مضرّة بالعقل وإن كانت خيرا بحسب القوّة الغضبية. فهذه نقصانات ليس لأجل علل معدّة مرتبة ، فانّ نقصان الأرض عن رتبة ، الواجب لذاته اكثر من نقصان الشمس عن رتبته وليس هذه لعلّة معدّة ، بل لاختلاف المهيات في ذواتها. فلو كان النقصان في جميع المهيات منشأ لها لكانت المهيات واحدة ، وكما أنّ ماهية الانواع متفاوتة في ذلك كذلك مهيات الاشخاص التي تحت الانواع.

ثمّ النقصان قد تكون من / ٢٢٣ MB / المعدّات الموجبة لنقصان الاستعدادات العارضة للموادّ ، لكن يجب انتهائها إلى حركة واحدة دورية أزلية أبدية يكون التغيّر والتبدل ذاتيا لها لئلاّ يلزم الدور أو التسلسل ، وهي ملزومة أن تكون للموادّ استعدادات

٤٩٧

متعاقبة يكون كلّ واحد منها علّة ذاتية لما هو معها من المعدّات وعلّة عرضية لما يوجد بعدها فلا يلزم من حدوث الحوادث علل غير متناهية ؛ انتهى.

وعلى هذا فكلّ ما يصدر عنه ـ تعالى ـ يصدر على وجه لا يتصوّر أكمل ممّا هو واقع ، وإلاّ لكان صدور ما هو أنقص منه ـ تعالى ـ ملزوما لترجيح المرجوح على الراجح. فالواجب ـ سبحانه ـ أظهر بنور فيضه وجود كلّ ما هو قابل لفيضانه ، فالكلّ من الله بحسب الوجود كما يشير إليه قوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ).

وامّا النقائص الواقعة في عالم الوجود فليست إلاّ من قصور ذاتيّ غير معلّل ومن قصور غير ذاتي معلّل ـ كما مرّ مفصّلا في كلام بهمنيار ـ. وقد اشير إلى ذلك في قوله ـ سبحانه ـ : ( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) (١). والسّر في ذلك ـ على ما مرّ ـ أنّ الخير هو الوجود والشرّ هو العدم ، والوجود لا يكون إلاّ فائضا من جنابه ـ تعالى ـ والعدم انّما هو مقتضى الفطرة الامكانية ، فكلّ خير وكمال انّما هو من الله وكلّ شرّ ونقص فهو من طبيعة الممكن لا منه ـ سبحانه ـ.

وإذا عرفت ذلك نقول : لا ريب في أنّه إذا صدر الكلام الكاذب منه ـ سبحانه ـ يكون هذا الكذب نقصا مستندا إليه ـ تعالى ـ لا إلى الماهية القابلة ، فيجب تنزيهه ـ سبحانه ـ عنه.

ومنها : أنّه ـ سبحانه ـ لو اتصف بالكذب لكان كذبه قديما ـ إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى ، فيلزم أن يمتنع عليه الصدق المقابل لذلك الكذب وإلاّ لجاز زوال ذلك الكذب ، وهو محال ـ فانّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ـ ؛ واللازم ـ وهو امتناع الصدق عليه تعالى ـ باطل ، فانا نعلم بالضرورة إنّ من علم شيئا امكنه أن يخبر عنه على ما هو عليه.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه انّما يدلّ على كون الكلام النفسي صادقا دون اللفظي ، مع أنّ الأهمّ بيان صدق اللفظي دون النفسي.

وربما أجيب عن ذلك بما قيل في الوجه الأوّل من أنّ مرجع الصدق والكذب انّما

__________________

(١) كريمة ٧٩ ، النساء.

٤٩٨

هو المعنى دون اللفظ ، فكذب الكلام اللفظي راجع إلى كذب الكلام النفسي ـ كما ذكر في الوجه الأوّل ـ ، وكذب الكلام النفسى قديم فكذب اللفظي أيضا قديم ، وحينئذ يلزم ما ذكر من المحذور في الكلام اللفظي أيضا ، فثبت منه عدم وقوع الكذب فيه.

وردّ بعضهم هذا الجواب : بأنّ الأشاعرة لمّا جوّزوا حدوث الكلام اللفظي مع قدم الكلام النفسي فان جوّزوا حدوث صفة اللفظي ـ أعني : حدوث كذبه ـ كان أولى وبقبول العقل أحرى ، وإذا كان كذبا حادثا عندهم فلا يجري هذا الدليل فيه. / ٢٢٥ DB /

وقال بعض المشاهير : إنّ هذا الوجه كالوجه الأوّل في اجراء الجواب المذكور ، وتفصيل اجرائه في هذا الوجه أن يقال : إذا كان مرجع الصدق والكذب هو المعنى دون اللفظ وكان الكلام النفسي عبارة عن مدلول الكلام اللفظي فلا يتصوّر كذب الكلام اللفظى بدون كذب الكلام النفسي ، فكذب الكلام اللفظي انّما يكون بكذب الكلام النفسي ؛ فلو كذب الكلام اللفظي كذب الكلام النفسي ؛ وكذبه انّما يكون قديما بما ذكر.

أقول : إن كان مراده إنّ القدم في الكذب منحصر في الكلام النفسى ـ لأنّه إذا كان الكلام اللفظي حادثا ومدلوله قديما يجوز أن يكون كذب أحدهما قديما وكذب الآخر حادثا ، فالملازمة وعدم الانفكاك انّما يكون بين أصل كذب الكلام اللفظي وكذب الكلام النفسى لا بين وصف الكذبين أيضا ، أعني : القدم والحدوث لجواز أن يكون كذب أحدهما قديما وكذب الآخر حادثا ـ ، ففيه : انّ كذب الكلام اللفظي لو كان حادثا يجري هذا الوجه في ابطال كذبه ووجوب صدقه ؛

وإن كان مراده انّ كذب اللفظي ككذب النفسي قديم ، ففيه : إنّه لا يتصوّر كون أصل الكلام اللفظي حادثا وكون صفته ـ أعني : كذبه ـ قديما ، وهو ظاهر بديهي. فظهر أنّ جريان الجواب المذكور في هذا الوجه باطل ، ومنه يظهر عدم دلالة هذا الوجه على بطلان كذب الكلام اللفظي.

فان قيل : على ما ذكرت يكون كذب الكلام اللفظي حادثا وتجويز حدوثه لا يمكن أن يتحقّق بدون كذب الكلام النفسي ـ بناء على الجواب المذكور ـ ، فيلزم منه تجويز كذب الكلام النفسي وهو باطل بالدليل المذكور ـ أعني : الوجه الثاني للأشاعرة ـ ،

٤٩٩

/ ٢٢٤ MA / فيجب أن يدفع الجواب المذكور بما نقلناه عن بعض المشاهير في الوجه الأوّل من أنّ القاء الكلام اللفظي إلى آخر وايجاده على ثلاثة اقسام ، ولا يلزم من كذب الكلام اللفظي الكذب في الكلام النفسي إلاّ في القسم الثالث دون القسمين الأوّلين ؛

قلت : تجويز حدوث كذب الكلام اللفظي انّما هو بعد تسليم وقوع الكذب فيه ، ونحن بيّنا عدم جواز كذب كلام الله اللفظي بلزوم القبح العقلي والنقص في فعله لولاه ، وهما باطلان عندنا ؛

وأيضا قد عرفت أنّ الكلام النفسي ليس له معنى معقول ولا يرجع إلى معنى محصّل ، اللهم إلاّ أن يرجع إلى التكلّم الحقيقي أو العلم وإن لم يكن مطابقا لقول الأشعري ولا معنى لوقوع الكذب فيهما ، فاذا لم يدلّ هذا الوجه على بطلان كذب اللفظي أيضا يثبت سقوطه بالكلّية.

ثمّ ما ذكره بعض المشاهير في رفع الجواب المذكور قد عرفت حاله.

هذا ؛ مع أنّه يرد على ما ذكر في الوجه المذكور ـ من أنّه مع قدم الكذب يمتنع الصدق وإلاّ جاز زوال الكذب ـ : بانّا لا نسلّم أنّه بالصدق يزول الكذب. وتفصيل ذلك : أنّه إن أريد بزوال الكذب : زوال مدلول اللفظ الكاذب بعد حصول معنى صادق أو زوال اللفظ الكاذب بعد حصول لفظ صادق فهو ممنوع ، لأنّه لا تنافي بين قيام المعنى الصادق والكاذب كليهما بذات واحدة ـ كما في أنفسنا حين اخبارنا بما علمنا إنّه مخالف للواقع ـ ، انّما المحال اعتقادهما معا ، فيجوز أن يصدر خبر واحد عن شخص واحد مرّتين في إحداهما كان مدلوله صادقا وفي الأخرى كان مدلوله كاذبا وكلاهما كانا قائمين بهذا الشخص الواحد ؛ وكذا حال اللفظ الصادق والكاذب ، فانّه باللفظ الصادق لا يزول اللفظ الكاذب. والحاصل : إنّ الكلام النفسي ليس أمرا واحدا قائما بذاته ـ تعالى ـ عندهم حتّى يمتنع أن يكون صادقا وكاذبا ، بل المشهور عندهم أنّ الكلام النفسي عبارة عن مدلول الكلام اللفظي ومدلول الكلام اللفظي يتعدّد بتعدّد الكلام اللفظي ، وإذا كان الكلام اللفظي أمورا متعدّدة فيجوز أن يكون بعضها صادقا وبعضها كاذبا ، فما هو صادق يكون صادقا ابدا وما هو كاذب يكون كاذبا ابدا ؛

٥٠٠