جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

الازلي هو ما به التكلّم ، فانّ كلامه لا يصحّ إلاّ باعتبار هذين المعنيين ، وكونه امرا واحدا يعرض له التعلّقات الحادثة انّما يصحّ أيضا لو كان المراد به أحد المعنيين. وحينئذ فحاصل كلام الأشعري : انّ الواجب الوجود بذاته متكلّم في الأزل ولا يحتاج في تكلّمه إلى أمر زائد على ذاته ـ تعالى ـ ، فذاته ـ تعالى ـ من حيث يقتضي القاء الكلام إلى المخاطب تكلّم ولا يحتاج الواجب في تكلّمه إلى أمر زائد على ذاته من لسان أو غيره ، فكذلك لا يحتاج في العلم الإجمالي إلى ما به التكلّم الّذي هو الكلام اللفظى واحضاره ، ولا إلى صورة خيالية أو غيرها ، فينحصر له ـ تعالى ـ ، فانّ ذاته كاف في احضار ما به التكلّم وانكشافه. فذاته ـ تعالى ـ علم اجمالي بما تكلّم ـ تعالى ـ به ، فذاته كاف في التكلّم واحضار ما به التكلّم. فما به التكلّم له نحو من الوجود باعتبار / ٢١٣ MB / اندراجه في المعلومات بالعلم الّذي هو غير زائد على الذات ، فهو كسائر المعلومات مندرج في علمه الكمالي ، فانّ للانسان تكلما وما به التكلّم ـ وهو الصورة الخيالية للالفاظ أو الصورة المثالية لمعانى الألفاظ ـ ؛ وفي التكلّم يحتاج إلى اللسان وفي ما به التكلّم إلى الخيال أو ما في حكمه ـ كالحسّ المشترك والحافظة وغيرهما من القوى الجزئية للنفس ـ. وامّا ذات الواجب ـ تعالى ـ فلا يحتاج في التكلّم إلى الغير ، فهو بذاته متكلّم ، فتكلّمه ـ تعالى ـ غير زائد على ذاته ولا يحتاج أيضا إلى امر زائد على الذات فيما به التكلّم. فنسبة ذاته ـ تعالى ـ إلى ما به التكلّم كنسبة الصور الخيالية للالفاظ فينا في تلك الالفاظ الّتي هي ما به التكلّم ، فكما أنّ الصورة الخيالية باعتبار وجودها في النشأة الخيالية علم بما به التكلّم من غير احتياج إلى صورة اخرى في انكشافه فكذلك نفس ذاته ـ تعالى ـ علم بما به التكلّم من غير احتياج / ٢١٦ DB / إلى تلك الصورة وغيرها ، بل ذاته ـ تعالى ـ منشئا لانكشاف الألفاظ ومعانيها. فذاته ـ تعالى ـ بمنزلة هذه الصورة في الانكشاف ، بل لا نسبة بينهما ، فذاته ـ تعالى ـ من حيث أنّه منشئا لانكشاف الالفاظ ومعانيها سبب لأن يكون للألفاظ ومعانيها نحو من الوجود الإجمالي ووحدة باعتبار لو تأمّلت يرجع ذلك الوجود وتلك الوحدة إلى العلم الإجمالي بها. ولأجل أنّ الالفاظ والمعاني مندرجان في العلم الإجمالي وهما بهذا الاعتبار واحد والكلام النفسي راجع إلى

٤٦١

العلم الإجمالي. قيل : الكلام النفسي القائم بالمتكلّم هو شامل للفظ والمعنى ، لأنّه عين العلم الإجمالي الّذي هو شامل لهما. فيكون كلام الله هو الكلام النفسي باعتبار أنّه مثبت في صقع الربوبية في مكمن الغيب بنحو من الثبوت العلمي على نحو العلم الإجمالي ، لأنّ الكلام النفسي الراجع إلى العلم الإجمالي لمّا كان شاملا للفظ والمعنى ؛ وهما عبارتان عن الكلام اللفظى ، لأنّه المؤلّف المخصوص الدالّ على المعاني المخصوصة. ويكون كلام الله ـ تعالى ، أي : كلامه اللفظى ـ هو كلامه النفسي ، باعتبار اندراجه في العلم الإجمالي الّذي هو الكلام النفسي وهو معنى ثبوته في صقع الربوبية. وتنزيله عبارة عن تعلّق الظهور به في عالم الممكنات والشهادة. وهذا مأخوذ من كلام الشهرستاني في تصحيح كلام الأشعري.

وبالجملة ليس للمعتزلة نزاع في تحقّق المعاني المذكورة ـ أعني : اقتضاء الالقاء والقوّة عليه والعلم بالالفاظ ومعانيها ـ ، بل نزاعهم ليس إلاّ في اطلاق الكلام بمعنى ما به التكلّم على علمه الإجمالي بمعنى ما به التكلّم بالحقيقة ؛ أي : نزاعهم في أنّ الكلام بهذا المعنى ـ أي : معنى ما به التكلّم باعتبار اندراجه في العلم الإجمالي ـ هل يطلق عليه الكلام المذكور حقيقة أم لا يكون حقيقة غير العلم الإجمالي؟ ، وتسميته بالكلام اللفظي نوع من التجوّز وليس إلاّ باعتبار أنّ متعلّقه كلام بهذا المعنى حقيقة وهم محقّون في ذلك؟. وغاية توجيه الأشعري أن يقال : لذات الواجب ـ تعالى ـ تكلّم ازلي غير زائد على ذاته وللتكلّم الأزلي ما به يتعلّق ذلك التكلّم في الأزل وهو الكلام الأزلي وكفى في تحقيق التكلّم الأزلي علمه ـ تعالى ـ الأزلي بما يتكلم به ، فالعلم الازلي بما يتكلم به هو ما يتعلّق به التكلّم الأزلي ، ولا نعنى بالكلام النفسي إلاّ ما يتعلّق به التكلّم.

وتوضيح هذا التوجيه في اطلاق الكلام بمعنى ما به التكلّم على علمه الإجمالي هو أنّ لذات الواجب تكلما ازليا غير زائد على ذاته ـ سبحانه ـ ، وهذا التكلّم هو الكلام الازلى لاطلاق الكلام على هذا المعنى أيضا حقيقة ، وكونه ـ تعالى ـ متكلّما في الأزل أي يقتضي أن يوجد الكلام ـ الّذي هو بمعنى ما يتكلّم به ـ في الأزل ، بل يكفى في تحقّقه كونه بحيث يمكن أن يصدر عنه ما يتكلّم به على وفق العلم الإجمالي الازلى السابق عليه المتعلّق بهذا الكلام ، فالكلام النفسي الّذي هو العلم الإجمالي المتعلّق بما به التكلّم هو الكلام بمعنى ما به

٤٦٢

التكلّم باعتبار الوجود العلمي الاجمالي. فهذا العلم الّذي هو نفس ما يتكلّم به بوجه الاندراج باعتبار كونه متعلّق التكلّم الازلى كلام بمعنى ما به التكلّم حقيقة ، لأنّا لا نعني بالكلام الّذي بهذا المعنى إلاّ أن يكون متعلّق الكلام الأزلي.

وفي هذا التوجيه تمحّل! ، فانّ التكلّم الازلي الّذي هو عين الذات لا يتعلّق بالعلم الأزلي حتّى يصحّ كون متعلّق التكلّم الأزلي ازليا ، بل انّما يتعلّق بشيء هو معلوم بالعلم الأزلي ، وذلك هو ما به التكلّم ، وهو حادث / ٢١٤ MA / والعلم به ازلي. فيكون المعلوم كلاما لا نفس العلم ، والأزلي هو نفس العلم لا المعلوم ، فلا يتحقّق الكلام الأزلي. ونهاية تأويل الكلام الأشعري أن يقال : حقّق في الانسان التكلّم وما به التكلّم وهذه الألفاظ الموجودة في الأعيان وعلم بتلك الألفاظ ، وهو ـ أي : المعلوم بتلك الالفاظ ـ الكلام النفسي ، فالكلام النفسي عنده ما يتعلّق به التكلّم بمعلومه. ولأجل أنّ العلم بما يتكلّم به في الانسان كلام نفسي اطلق الأشعري الكلام الأزلي على العلم بالكلام اللفظي الّذي هو متعلّق التكلّم. وحاصل هذا التوجيه والتأويل تسليم أنّ تعلّق التكلّم انّما هو بالمعلوم. لكن اطلاق الكلام على العلم باعتبار تعلّق التكلّم بمعلومه ، فكما أنّه تحقّق في الانسان ثلاثة أمور منها الكلام / ٢١٧ DA / النفسي ـ وهو العلم بالكلام اللفظي ـ فكذا في حقّه ـ تعالى ـ أيضا ؛ فاطلاق الكلام النفسي على العلم بما يتكلّم به الّذي يتعلّق به التكلّم اطلاق حقيقي والعلم ازلي ، فالكلام باعتبار هذا الاطلاق ازلي. وهذا الاطلاق أيضا ممّا لا يرتضيه المعتزلة. وأيضا على تقدير صحّته انّما يصحّ في العلم الّذي هو عين المعلوم لا العلم الإجمالي المذكور ؛ وتوضيح ذلك : أنّ اطلاق الكلام على العلم ـ سواء طابق المقصود أم لم يطابق ـ ممّا لا يرتضيه المعتزلة ، لأنّ العلم هو المنشأ للانكشاف والكلام ليس كذلك. وعلى تقدير الارتضاء لا يطابق المقصود من اطلاق الكلام ـ بمعنى ما به التكلّم ـ على العلم إلاّ أن يراد بالعلم العلم التفصيلي الزائد على الذات الّذي يمكن أن يكون نفس الكلام بمعنى ما به التكلّم ، لا العلم الإجمالي المباين له.

والغرض من هذا التطويل أنّ كلامه بلا تأويل بأحد من المعنيين المذكورين في معنى الكلام الأزلى لا يصحّ أصلا ؛ انتهى ما ذكره بتوضيح.

٤٦٣

وليس ملخّص كلامه إلاّ أنّ مراد الأشاعرة من الكلام النفسي هو العلم الإجمالي وإنّ اطلاقه عليه صحيح ، إمّا بالتوجيه الّذي ذكره أوّلا أو بالتأويل الّذي ذكره أخيرا.

وهما مع بعدهما ومخالفتهما للاطلاقات العرفية واللغوية ممّا يأبى عنه كلام الأشاعرة ، فانّ ظاهر كلامهم عدم كون الكلام النفسي ـ الّذي قالوا ـ به هو التكلّم الحقيقى أو العلم الّذي هما غير زائدين على الذات ، فانّهم قالوا بزيادة الكلام النفسي والكلام الأزلي ؛ كيف وجميع الصفات عندهم زائدة على ذاته ـ سبحانه ـ؟!.

والحاصل أنّه فرق بين أن يقال : مرادهم ذلك ، وبين أن يقال : المعقول ذلك ؛ والمسلّم هو الثاني دون الأوّل. ولقد احسن اخيرا حيث صرّح بعدم صحّة كلام الأشاعرة بدون التأويل ، ويظهر أنّ هذا التأويل صدر عن غيرهم لا عنهم ؛ هذا.

وقد اجيب عن الدليل المذكور للمعتزلة ـ أعني : الدليل الرابع ـ : بانّ السفه والعبث انّما يلزم لو خوطب المعدوم وأمر في عدمه ، وأمّا على تقدير وجوده بأن يكون طلبا للفعل ممّن سيكون ـ كما في طلب الرجل تعلّم ولده الّذي أخبر صادق بانّه سيولد ـ وكما في خطاب النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بأوامره ونواهيه كلّ مكلّف يولد إلى يوم القيمة أو اختصاص خطاباته باهل عصره وثبوت الحكم فيمن عداهم بالاجماع أو القياس بعيد جدّا.

وأورد عليه : بانّ طلب الرجل تعلّم ولده ليس طلبا حقيقة ، بل هو العزم على الطلب وتخيّله ، وهو ممكن وليس نفسه ؛ وأمّا نفس الطلب فلا شكّ في كونه سفها ؛ بل قيل : هو غير ممكن ، لأنّ وجود الطلب بدون من يطلب منه محال.

قيل : وهذا الجواب مشهور بين الجمهور وكلامهم متردّد في أنّ معناه إنّ المعدوم مأمور في الأزل بأن يتمثّل ويأتي بالفعل على تقدير الوجود أو المعدوم ليس بمامور في الازل ، لكن لمّا استمرّ الأمر الأزلي إلى زمان وجوده صار بعد الوجود مأمورا.

قال بعض المشاهير : التحقيق أنّ ذاته ـ تعالى ـ بحيث يقتضي التكليف والأمر بعد ايجاد المكلّفين ، فمن نظر إلى أنّ ذاته ـ تعالى ـ بذاته يقتضي التكليف وأنّ ذاته منشأ للتكليف حكم بانّ المعدوم مأمور في الأزل بمعنى أنّ منشأ الأمر تحقّق في الأزل ، ومن

٤٦٤

نظر إلى استمرار الأمر الأزلي ـ وهو منشأ الأمر إلى زمان وجود المامور به وأنّه بعد وجوده يصير مأمورا بالفعل ـ حكم بانّ المعدوم ليس مأمورا به في / ٢١٤ MB / الأزل ؛ انتهى.

وحاصله التوجيه لكلّ واحد من المتخاصمين بارتكاب التجوّز ، وهو : إنّ من قال : الأمر في الأزل يتعلّق بالمعدوم ، فبناء كلامه على أنّ منشأ الأمر ـ وهو ذاته تعالى الأزلى ـ موجود في الأزل ، فكان الأمر المتعلّق بالمعدوم موجودا ؛ ومن قال بعدم تعلّق الأمر في الازل بالمعدوم ـ بل يستمرّ إلى زمان وجوده ؛ وبعده يتعلّق به مراده ـ إنّ منشأ الأمر وهو ذات الله ـ تعالى ـ بسرمديته مستمرّ ، فكان امره مستمرّا.

وأورد عليه : بانّ استمرار الأمر الأزلي لا دخل له في الحكم بانّ المعدوم / ٢١٧ DB / ليس بمأمور ، فيكفي أن يقال : ومن نظر إلى أنّ المعدوم بعد وجوده يصير مأمورا بالفعل حكم بانّ المعدوم ليس بمامور ، فانّ استمرار الأمر الأزلي إن لم يكن مضرّا بهذا الحكم لا يكون نافعا له.

وأجيب عنه : بانّ المراد إنّه وإن استمرّ الأمر الأزلي بمعنى منشأ الأمر عند هذا الناظر إلاّ أنّ الأمر لا يصير بالفعل عنده إلاّ بعد الوجود.

أقول : في جواز تعلّق خطاب المشافهة بالمعدومين اختلاف مشهور بين علماء الأصول ؛ والحقّ ـ على ما بيّناه في كتبنا الأصولية ـ جواز ذلك ؛ لكن لا على سبيل الحقيقة ، بل على سبيل المجاز إن تعلّق بالمعدومين فقط ، أو التغليب أو مجاز المشارفة إن تعلّق بالمعدومين والموجودين معا. وبذلك يظهر أنّ ما قيل : إنّ خطاب الحاضرين يكون قصدا والغائبين والمعدومين يكون ضمنا وتبعا انّما يجري فيما يكون متعلّق الخطاب الموجودين والمعدومين معا.

وقد ظهر ممّا ذكر ـ من صحّة تعلّق خطاب المشافهة بالمعدومين تجوّزا ـ أنّ الدليل المذكور غير تامّ ، لأنّه مبنيّ على ما ذكر من كون الأمر بلا مأمور والنهي بلا منهي والاخبار بلا سامع والنداء بلا مخاطب.

الخامس : إنّ الأمر لو كان ازليا لكان ابديا ، لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، فيبقى

٤٦٥

التكليف في دار الجزاء ؛ وهو باطل اجماعا.

السادس : إنّ الكلام لو كان ازليا لاستمرّ ازلا وابدا ـ لما ذكر آنفا ، ـ فلم يختصّ مكالمة موسى ـ عليه‌السلام ـ بالطور ؛ وهو باطل اجماعا.

السابع : إنّ القديم يستوي نسبته إلى جميع ما يصحّ تعلّقه به ـ كما في العلم ـ ، فيتعلّق الأمر والنهي بكلّ فعل حتّى يكون المأمور منهيا وبالعكس ؛ واللازم باطل قطعا. وهذا الوجه منهم الزامي على الأشاعرة حيث لا يقولون بالحسن والقبح العقليين ليمنعوا صحّة تعلّق الأمر بما يتعلّق به النهي وبالعكس.

وأجيب عن هذه الأدلّة الثلاثة : أنّ الكلام وإن كان ازليا لكن تعلّقاته بالأشخاص والأفعال حادثة بإرادة من الله ـ تعالى ـ واختيار ، فيتعلّق الأمر بصلاة زيد بعد بلوغه وينقطع عند موته ، ويتعلّق الكلام بموسى ـ عليه‌السلام ـ في الطور.

وأورد على الخامس أيضا : بانّ ابدية الأمر لا يقتضي بقاء التكليف ، لأنّ وجود الأمر ـ بل كلّ خطاب دائما ـ لا يقتضي إلاّ حصول مفاده ومقتضاه دائما ، وليس مفاد الأمر الاتيان بالفعل في كلّ وقت حتّى إذا حصل مفاده لزم حصول التكليف في دار الجزاء ، بل مفاده الاتيان بالفعل في دار الدنيا وهو باق دائما ، والتكليف به واقع دائما حتّى يصدق أنّ المكلف مأمور في العقبى بالاتيان بالفعل في دار الدنيا. وهذا ما قالوا : إنّ صدق المطلقة دائمي ، نظيره لو قال أحد مخاطبا لزيد : افعل كذا في اليوم الجمعة المخصوصة مثلا وفرضنا صدور هذا الكلام منه دائما قبل هذا اليوم وبعده لا يقتضي إلاّ اتيان زيد بالفعل المذكور في يوم الجمعة المخصوصة دون فعله دائما ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه لو كان للكلام النفسي القديم معنى محصّل لم يكن هذه الأدلّة الثلاثة صالحة لإبطاله ، لما ذكر من الجواب والايراد. فالعمدة في ابطاله ما تقدّم من أنّه ليس له معنى محصّل سوى الكلام الحقيقي أو العلم الكمالي ، وهو غير متنازع فيه.

ثمّ لا ريب في أنّ غرض المعتزلة من هذه الأدلّة ابطال الكلام اللفظي الأزلي دون التكلّم الحقيقى ، فهى غير دالة على عدم اعتقادهم بالتكلّم الحقيقي ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير : جميع هذه الأدلّة إنّما تنتهض في الكلام اللفظي باعتبار

٤٦٦

وجوده العيني وفي معناه باعتبار كونه مدلولا له بالعقل ، وجميع الأجوبة مبنية على أنّ الكلام الازلي هو التكلّم الحقيقى الّذي هو أمر واحد غير زائد على ذاته ـ تعالى ـ ، أو العلم الاجمالي / ٢١٥ MA / بالكلام مع اقترانه باقتضاء القاء الكلام للاعلام في وقته لا الالقاء بالفعل في الأزل وإن كان الاقتضاء ازليا ، وهو ـ أي : العلم الإجمالي ـ أمر واحد غير زائد على ذاته عند المحقّقين ؛ انتهى.

وأنت بعد الاحاطة بما تقدّم تعلم حقّية هذا الكلام ؛ هذا.

وبقى لنا من هذا المبحث أن نذكر كلاما أورده صاحب المواقف في تحقيق كلام / ٢١٥ DA / الله النفسي ونشير إلى حقيقة الحال فيه. وحاصل ما أورده هو : أنّ اللفظ يطلق تارة على مدلول اللفظ ، وأخرى على الأمر القائم بالغير. فالشيخ الأشعري لمّا قال الكلام هو المعنى النفسي فهم الاصحاب منه أنّ مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده ، وأمّا العبارات فانّما يسمّى كلاما مجازا لدلالتها على ما هو كلام حقيقة. حتّى صرّحوا بانّ اللفظ حادث على مذهبه أيضا ، لكنّها ليست كلامه ـ تعالى ـ حقيقة. ومذهب الّذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة ـ كعدم تكفير من أنكر كلاميّة ما بين دفّتي المصحف مع أنّه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة ؛ وكعدم المعارضة والتحدّي بكلام الله تعالى الحقيقي ؛ وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتفطّن في الاحكام الدينية ـ ؛ فوجب حمل كلام الشيخ على أنّه أراد المعنى الثاني. فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله ـ تعالى ـ وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور ، وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة ، إذ هي من أفعال البشر. وعلى هذا يكون الفرق بين الملفوظ والتلفّظ وبين المكتوب والكتابة وبين المقروء والقراءة وبين المحفوظ والحفظ بالقدم والحدوث.

وما يقال من : أنّ الحروف والألفاظ مترتّبة متعاقبة فيكون حادثة فلا يمكن أن يكون الأمر الشامل لها وللمعنى جميعا قديما مع أنّ الكلام اللفظي النفسي عند الشيخ الأشعري قديم ؛ فجوابه : إنّ ذلك الترتيب انّما هو في اللفظ بسبب عدم مساعدة الآلة ، فالتلفّظ

٤٦٧

حادث ، والأدلّة الدالّة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ ـ جمعا بين الأدلّة ـ. وهذا الّذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخّروا اصحابنا إلاّ أنّه بعد التأمّل يعرف حقيقته. وقد قال بعض الفضلاء : هذا المحمل لكلام الشيخ ممّا اختاره الشهرستاني في كتابه المسمّى بنهاية الاقدام ؛ ولا شبهة في أنّه اقرب إلى الاحكام الظاهرة المنسوبة إلى قواعد الملّة ؛ انتهى كلام صاحب المواقف.

قال بعض المشاهير : الظاهر إنّ فهم الاصحاب إنّ مراد الشيخ هو مدلول اللفظ وحده ليس من مجرّد قوله : « انّ الكلام هو المعنى النفسي » ، بل الظاهر أنّ باعث فهمهم هو ذلك مع ضميمة أخرى لم ينقل هنا ، إذ لو كان باعث فهمهم مجرّد ما ذكره امكن أن يحمل كلامه بانّ مراده بالكلام النفسي هو المعنى النفسي ـ على ما هو الكلام بمعنى التكلّم ، أي : كون الذات بحيث يقتضي القاء الكلام إلى المخاطبين ـ ؛ وحينئذ يصحّ كلامه بلا تأويله إلى ما ذكره صاحب المواقف ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام بطوله لا طائل تحته! ، فانّك قد عرفت أنّ الكلام النفسي الّذي قال به الشيخ الأشعري لا يمكن حمله على التكلّم الحقيقي ، فانّ المتبادر من مجرّد الكلام النفسي هو مدلول اللفظ وفهم قدرة ايجاد الكلام اللفظي منه خلاف الظاهر ، ففهم الاصحاب منه ذلك في موضعه ، مع قطع النظر عن سائر أقاويله الصريحة في أنّ مراده منه ذلك دون التكلّم الحقيقي.

فالحقّ أنّ ما فهم اصحاب الشيخ الأشعري من كلامه والتأويل الّذي / ٢١٥ MB / ذكره صاحب المواقف لكلامه كلاهما باطلان! ؛

أمّا الأوّل فقد عرفت وجه فساده مفصّلا ، ونزيدك هنا ونقول : لا ريب في أنّ مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون قديما لأنّه مثل اللفظ في الحدوث ؛ قال بعض المشاهير : كون المدلول قديما انّما يصحّ أن لو كان المراد بمدلول الألفاظ المدلول الالتزامي الّذي هو التكلّم القائم بالمتكلّم ـ كما مرّ ـ ؛ وامّا المدلول المطابقي فلا خفاء في أن لا فرق بينه وبين اللفظ في كونهما حادثين وفي التأويل إلى العلم ، فانّ اللفظ ـ مثل : « قال فرعون » ـ والمدلول المطابقي سيّان في الحدوث ، وفي العلم بهما قديم.

٤٦٨

ويرد على ما ذكره من قولهم : « فامّا العبارات فانّما يسمّى كلاما مجازا » : أنّ المتبادر المشهور في استعمال الكلام انّما هو العبارات والألفاظ الدالّة عليه ، وهو علامة كونه حقيقة فيها. ولهذا قال المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم : « الأصل في الكلام هو المؤلّف من الحروف / ٢١٨ DB / المسموعة الدالّة بالوضع على ما قصد دلالته عليه ليحصل التفاهم بين أشخاص النوع ، ووجوده لا يتحصّل إلاّ بعد العلم بالمعاني وتقدير ترتيب اجزاء المؤلّف ، وبعينه الحروف المرتّب بعضها على بعض بحسب الوجود العلمي حتّى يمكن تأليف الكلام باعتبار الوجود العيني على وفق ترتيب الذهنى ، فبعض الناس ـ كالمنطقيين ـ يطلقون اسم الكلام على ذلك التقدير في الذهن ، وبعضهم يطلقون على ذلك العلم. والمتكلّمون يصفونه ـ تعالى ـ بالكلام لورود الشريعة بذلك ، إذ لولاه لما يتوهّم العوامّ الوحي ؛ فمنهم من قال : إنّه هو العلم ؛ ومنهم من قال : إنّه زائد على العلم قديم غير مؤلّف ولا مسموع ؛ ومنهم من قال : زائد محدث أو قديم مؤلّف ليس بمسموع ، لكن يطابق المسموع ، ومنهم من قال : إنّه مؤلّف مسموع. والّذين يقولون إنّه مع ذلك قديم لا يتفكّرون في معنى قولهم » (١) ؛ انتهى.

وقد اشار بقوله : « الأصل في الكلام هو المؤلّف » إلى أنّه أيّ معنى عن المعاني المغايرة لهذا المعنى إذا استعمل فيه الكلام والكلمات كان ذلك على سبيل المجاز ـ كمعاني الألفاظ ، والموجودات العينية ، والعلم بالالفاظ ، كما ورد في حقّ عيسى عليه‌السلام : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ) (٢) عليها‌السلام ؛ وقال تعالى : ( ـ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (٣) ؛ وقال امير المؤمنين عليه‌السلام : « أنا كلام الله الناطق » (٤) ؛ وكما قيل : ان بسائط الموجودات حروف ومركّباتها كلمات ـ. قال بعض المشاهير : فان قيل : يمكن اثبات اللفظية بالقياس ـ كما هو المشهور ـ ، فيمكن به اثبات أنّ الكلام موضوع لما يعمّ الألفاظ والمعاني ، فانّ كلامية الألفاظ الموضوعة انّما يكون لأجل كونه حكاية عن الواقع

__________________

(١) راجع : شرح رسالة مسئلة العلم ، المسألة السابعة عشرة ص ٤٣.

(٢) كريمة ١٧١ ، النساء.

(٣) كريمة ١٠ ، فاطر.

(٤) راجع : بحار الأنوار ، ج ٨٢ ص ١٩٩.

٤٦٩

ـ كما في الاخبار ـ أو مشعرا للطلب ونحوه ـ كما في الانشائيات ـ ، وتلك الحكاية وذلك الاشعار انّما يوجدان بالذات في معاني الألفاظ ؛ وبذلك يعلم أنّ كلاّ من الألفاظ الموضوعة ومعانيها كلام. وأيضا الكلام الّذي ينقسم إلى الخبر والأمر والنهي وأمثالها انّما يكون بالحقيقة معاني الألفاظ الموضوعة ، فانّ الخبر ما يحتمل الصدق والكذب ، والأمر ما يقتضي الطلب ، والصدق والكذب انّما يعرضان للمعاني بالذات ؛ وكذلك اقتضاء الطلب ونحوه انّما هو من عوارض المعاني.

وأيضا إذا قيل في الأمر بالقيام مثلا بالعربى أو بلغة أخرى لا يختلف الأمر بالحقيقة وإن اختلف العبارات ، وهذا هو الباعث للحكم بانّ القديم بالحقيقة هو معانى الألفاظ المؤلّفة الموضوعة ؛

قلنا : على كلّ من التقديرين المذكورين ـ أي : كون الكلام هو اللفظ فقط ، أو اللفظ والمعنى ـ لا يصحّ الحكم على الكلام بانّه صفة لذات / ٢١٦ MA / الحقّ وقديم إلاّ بتأويله إلى العلم الإجمالي به ـ كما اختاره الطائفة الّتي أشار إليها المحقّق الطوسي في الكلام المنقول عنه بقوله : « ومنهم من قال بانّه هو العلم » ـ ، أو إلى العلم به مع ضميمة اقتضاء الذات لا لقائه إلى المخاطبين ـ كما ذهب إليه الطائفة الّتي أشار إليها بقوله : « ومنهم من قال بانّه زائد على العلم قديم غير مؤلّف ولا مسموع » ـ. وامّا القول بانّه مؤلّف قديم ليس بمسموع وزائد على العلم ، فلا يصحّ الحكم عليه بانّه صفة لذات الحقّ ، لأنّه إذا كان الكلام مؤلّفا فلا بدّ له من تمييز بعض الأجزاء عن بعض وترتيب فيما بينهما ، وهذا لا يتصوّر إلاّ باعتبار الوجود العيني أو الوجود الارتسامي في شيء موجود في الخارج ، فلا يكون صفة لذات الحقّ إلاّ على مذهب من قال بالعلم التفصيلي القديم. وكان معنى زيادته على العلم أنّ له ضميمة قصد القائه إلى المخاطبين. وقوله ـ أي : قول المحقّق ـ : « ومنهم من قال إنّه مؤلّف مسموع » اشارة إلى ما اختاره من مذهب المعتزلة. وقوله : « والذين يقولون ... إلى آخره » اشارة إلى مذهب الحنابلة. وقوله : « ولا يتفكّرون في معنى قولهم » اشارة إلى انّهم لا يفهموا معنى الحدوث والقدم ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ ما ذكره ـ في جواب السؤال المذكور من أنّ الكلام سواء كان هو اللفظ

٤٧٠

أو المعنى لا يمكن أن يكون صفة لذات الحقّ ـ وإن كان حقّا إلاّ أنّ الأصوب في الجواب عنه منع صحّة اثبات اللغة بالقياس ـ كما هو مقرّر عند أهل التحقيق من علماء الأصول ـ.

ثمّ ما ذكر في السؤال لبيان اطلاق الكلام حقيقة على المعاني ـ بأنّ الحكاية عن الواقع والإشعار للطلب انّما يوجدان بالذات في المعانى ـ ، ففيه منع ظاهر ؛ لأنّ الاشعار / ٢١٩ DA / بالذات انّما يكون في الألفاظ ، فانّ التفهيم والتفهم انّما يحصلان بالألفاظ ، فاذا كان طريق فهم المعاني منحصرا بالالفاظ فالمفسّر للطلب والحكاية ليس إلاّ الألفاظ.

وما ذكر من : « أنّ الكلام الّذي ينقسم إلى الخبر والأمر والنهي وأمثالها انّما يكون بالحقيقة معانى الالفاظ ـ إلى قوله انّما هو من عوارض المعاني » ، فيه : انّا لا نسلّم أنّ معانى الألفاظ ينقسم إلى الخبر والانشاء ، بل الألفاظ ينقسم إليها. ومعنى قولهم : « الخبر ما يحتمل الصدق والكذب » : إنّ الخبر لفظ معناه يحتمل الصدق والكذب ، لأنّ كلمة « ما » في « ما يحتمل » عبارة عن اللفظ ، ومعناه : الخبر لفظ يحتمل معناه الصدق والكذب ؛ وكذا الأمر لفظ معناه يقتضي الطلب. ونظير ذلك كثير ، مثل ما يقال : إنّ الاسم ما دلّ على معنى في نفسه ، بلفظ ما وإن كانت عامّة بحسب الظاهر لكن العموم ليس بمراد ، بل المراد الخاصّ ـ وهو اللفظ ـ. وبالجملة الخبر والانشاء لا يكون حقيقة صفة لشيء غير اللفظ. وما قيل من : « أنّه إذا قيل في الأمر بالقيام ـ ... إلى قوله ـ : لا يختلف الأمر بالحقيقة وإن اختلف العبارات » ، ففيه : إنّه انّما يتمّ ذلك إذا لم يكن لخصوصية لفظ دون لفظ دخل في الأمر بالقيام ، والأمر ليس كذلك ، فانّه وضع في اللغة العربية لفظ خاصّ للأمر بالقيام ولا يصحّ الأمر بدون غيره من الألفاظ العربية ؛ وكذا في التركى وغيره من اللغات لفظ خاصّ للأمر بالقيام ولا يصحّ بغيره ، فلخصوصية لفظ كلّ طائفة دخل في الأمر بالقيام ، ولا يحصل الغرض بدون ذلك اللفظ حتّى يؤدّي بغيره ، لاختلاف الأمر بالحقيقة ؛ هذا.

وممّا يرد على ما فهم اصحاب الأشعري من كلامه المفاسد الّتي اشار إليها صاحب المواقف ، وقد تقدّم بعضها وقد عرفت أنّه قد اجاب عنها بعضهم بأنّه لا نزاع في اطلاق اسم القرآن وكلام الله ـ تعالى ـ بالاشتراك اللفظي على هذا المؤلّف الحادث ، و

٤٧١

انّما يقول الأشعري انّهما يطلقان على معنى آخر هو الكلام النفسي ، فلا يلزم شيء من المفاسد المذكورة من لزوم عدم المعارضة والتحدّي وعدم كون المقروء والمحفوظ كلام الله حقيقة وعدم تكفير من أنكر كلامية ما بين دفّتي المصحف ، / ٢١٦ MB / فانّ من أنكر كلامية ما بين دفّتي المصحف انّما يكفّر لو اعتقد أنّه ليس كلام الله ـ تعالى ـ بمعنى أنّه من مخترعات البشر ، أمّا إذا اعتقد أنّه ليس كلام الله ـ تعالى ـ بمعنى أنّه ليس صفة قائمة بذاته ـ تعالى ـ بل هو دالّ على ما هو صفة حقيقة وهو من مبدعات الله ـ تعالى ـ ومخترعاته ـ بأن اوجده في لسان الملك أو في لسان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أو اوجد نقوشا دالّة عليه في اللوح المحفوظ ـ فليس من الكفر في شيء ؛ بل هو مذهب اكثر الأشاعرة ، فلا ينبغي أن يتوهّم كونه كفرا.

وأورد بعض المشاهير على هذا الجواب : بانّ الكلام عند الخصم ـ أعني : المعتزلة ـ حقيقة في الأصوات والحروف ، والاشتراك اللفظى الّذي ادّعاه المجيب غير مسلّم عند الخصم. وأيضا كلّ واحد من معنيي الكلام ـ اللّذين التزمهما المجيب ـ حادث باعتبار الوجود الخارجي وإن كان قديما باعتبار اندراجه في علم الواجب ، فلا يمكن أن يكون المدلول الّذي هو الكلام أيضا عند الأشعري قديما صفة لذات الحقّ. ومراد صاحب المواقف من المفسدة الأخيرة إنّه علم من الدين ضرورة كون ما بين دفّتي المصحف كلام الله ـ تعالى ـ حقيقة لا بالمجاز ـ أي : أوجده الله تعالى حقيقة لا مجازا ـ ، وينبغي أن يكفّر من ينكره على الاطلاق وإن لم يحكم بكفره مع التأويل الّذي ذكره المجيب. وعلى ما فهم أصحاب الأشعري من أنّ اطلاق الكلام على العبارات والألفاظ مجازا يلزم عدم كفر من ينكره مطلقا ، لأنّه يفهم من ظاهر كلامهم حينئذ أنّ ما بين دفّتي المصحف ليس من مخلوقات الواجب وموجدا لله ـ تعالى ـ حقيقة ، بل ما هو من موجداته ومخلوقاته ـ تعالى ـ حقيقة هو المعانى ، فيلزم عدم كفر المنكر المطلق مع أنّ من انكره كافر مطلقا ـ أي : سواء كان اطلاق الكلام على ما بين الدفّتين حقيقة أو مجازا ـ.

والحاصل : انّ اعتراض صاحب المواقف على / ١١٩ DB / من فهم كلام الأشعري مجازية الكلام اللفظي بانّه مخالف لضروري الدين ، ويلزم عدم تكفير المنكر المطلق مع

٤٧٢

أنّه ينبغي تكفيره ، وليس مراده أنّه لا يمكن تأويل كلام الأشعري بغير ما ذكره نفسه كتاويل المجيب حتّى لا يكون انكار من ينكره كفرا ، لأنّه لا ينكره مطلقا. ولا يستلزم ذلك عدم تكفير من ينكره مطلقا ، فانّه على تقدير الاشتراك اللفظي أيضا من ينكر كلامية ما بين دفّتي المصحف فهو كافر. نعم! ، من ينكر كلامه بمعنى أنّه صفة قائمة بذاته لا يكون كافرا. والملخّص انّ صاحب المواقف لا ينكر تأويل المجيب لكلام الأشعري بطريق الاشتراك اللفظي الّذي لا يستلزم عدم تكفير المنكر المطلق ، ويسلّم أنّه على تقدير الاشتراك اللفظي لا فساد في عدم التكفير بالمعنى الّذي ذكره المجيب ، وانّما اعتراضه على من قال بالمجاز المستلزم لعدم تكفير المنكر المطلق.

ثمّ على تقدير الاشتراك اللفظي انّما يلزم عدم تكفير من ينكر الكلامية بمعنى كونه صفة قائمة بذاته ـ تعالى ـ ؛ هذا.

والظاهر أنّ الأشاعرة قائلون بكون الكلام اللفظي كلاما حقيقة وانّما يدّعون وجود الكلام بمعنى آخر ، فالتكفير المترتّب على انكار ما بين دفّتي المصحف كلاما غير لازم عليهم.

فان قلت : إن أريد من ما بين دفّتي المصحف النقوش الدالّة على الألفاظ الّتي هي كلام الله فظاهر أنّ هذه النقوش ليست كلام الله حقيقة ، فلا وجه لتكفير من ينكر كونه كلام الله حقيقة ؛ وإن أريد منه مدلول تلك النقوش ـ أعني : الألفاظ ـ ، فلا ريب في كونها كلام الله حقيقة إلاّ انّها ليست ما بين دفّتي المصحف حقيقة ، فلا وجه للقول بأنّ ما بين دفّتي المصحف كلام الله حقيقة ، لأنّ ما بين دفّتي المصحف حقيقة هي النقوش واطلاق كلام الله عليها مجاز من قبيل اطلاق اسم المدلول على الدالّ ؛

قلنا : إنّ تلك النقوش وإن لم تكن كلام الله حقيقة لكن أجرى عليها شرعا احكام كلام الله ـ تعالى ـ ، ولهذا لا يجوز مسّ تلك النقوش بدون الطهارة ، فكأنّها كلام الله ـ تعالى ـ حقيقة شرعا ؛ فالتكفير المرتّب على انكار كونها كلام الله ـ تعالى ـ شرعي لا عقلي.

وأمّا الثاني ـ أعني : ما ذهب إليه صاحب المواقف في توجيه كلام الشيخ

٤٧٣

الأشعري من أنّ الكلام النفسي شامل للفظ والمعنى معا وإنّ ترتيب الحروف انّما هو في اللفظ دون الملفوظ / ٢١٧ MA / حتّى يكون التلفّظ حادثا دون الملفوظ وإنّ الترتيب فينا انّما هو لقصور الآلة ـ ، فيدلّ على بطلانه : أنّ ذلك أمر خارج عن طور العقل ، وما ذلك إلاّ مثل أن يقال : يمكن أن تكون حركة تكون اجزائها مجتمعة في الوجود ولا يكون لبعضها تقدّم على البعض ، وانّما يتعاقب اجزاء الحركة فينا لعدم مساعدة الآلة. وإذا كان عدم الترتب في الملفوظ باطلا لزم كونه حادثا ويكون المعنى أيضا حادثا ، فلا يمكن أن يكون ما هو شامل لهما قديما صفة لذات الحقّ.

وأجاب عنه بعض المشاهير : بانّ ذلك انّما يكون خارجا عن طور العقل باعتبار الوجود الخارجي ، وأمّا باعتبار الوجود العلمي أو العقلي أو الظلّي أو المثالي فليس خارجا عنه وبهذا الاعتبار قيل : إنّ كلام الله بمعنى التكلّم على أقسام ستّة :

أحدها : التكلّم الحقيقي الّذي هو غير زائد على ذاته ـ تعالى ـ وكونه ـ تعالى ـ باعتبار ذاته بحيث يقتضي الأوامر والنواهي وشبههما والقاء الاخبار إلى المخاطبين ؛ وهو الّذي يسمّى بـ « الخطاب القديم » ؛

وثانيهما : هو التكلّم الّذي بينه وبين المجرّد القدسي ، وهو القاء الواجب ـ تعالى ـ ما يحكم ويوجد إلى العلم الإجمالي بالقلم الأعلى ؛

وثالثها : التكلّم الّذي هو القاء الواجب ـ تعالى ـ ما يحكم ويوجد بواسطة القلم إلى اللوح المحفوظ ، وكتابته فيه ما يحكم ويوجد ؛

ورابعها : التكلّم النفسي الّذي هو القاء الواجب ـ تعالى ـ إلى النفوس المجردة الاحكام والاخبار ؛

وخامسها : التكلّم المثالي الّذي هو القاء الألفاظ المثالية الدالّة على المعاني المقصودة إلى النفوس الإنسانية في عالم المثال ؛

وسادسها : التكلّم الّذي هو القاء الألفاظ الدالّة على المعانى المقصودة إلى النفوس الانسانية في عالم الملك ، وبإزاء كلّ تكلّم كلام لائق بمعنى ما به التكلّم.

وحاصل هذا الجواب إنّ الترتّب في الألفاظ انّما يكون باعتبار الوجود الخارجي

٤٧٤

لا باعتبار الوجود العقلي أيضا ، فمراد صاحب المواقف أنّ الألفاظ ليس فيها ترتيب باعتبار الوجود العقلي. / ٢٢٠ DA /

ولا يخفى ما في هذا الجواب! ، فانّه وإن كان في نفسه حقّا إلاّ أنّه لا يمكن حمل كلام صاحب المواقف عليه ، لأنّ قوله : « وترتّب الحروف والألفاظ انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة » يأبى عن هذا التوجيه ، لأنّ عدم الترتّب في الألفاظ باعتبار الوجود العقلي ليس مختصّا بالواجب ـ تعالى ـ ، بل فينا أيضا كذلك ؛ فلا وجه حينئذ لقوله : « انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة ». فلا بدّ من الحمل على الوجود الخارجي حتّى يتصوّر في بادى الرأي أنّ ترتّب الحروف والألفاظ باعتبار الوجود الخارجي انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة ؛ وحينئذ يتوجّه عليه الايراد المذكور.

وأورد المحقّق الدواني على توجيه صاحب المواقف أيضا بانّه كيف يتصوّر أن تكون الصفة القائمة بذاته ـ تعالى ـ والأصوات القائمة بنا متّحدة الحقيقة حتّى يصحّ أن يقال : إنّ تلك الاصوات قائمة بذاته ـ تعالى ـ من غير ترتّب فينا ، وترتّبه لقصور الآلة.

وهذا الايراد يمكن تقريره على وجهين :

أحدهما : إنّه باعتبار تلك الأصوات متّحدة مع صفته ـ تعالى ـ ، فينبغي أن لا يكون منتظمة مؤلّفة وباعتبار انّها اصوات ينبغى أن تكون مترتّبة منتظمة ، فكيف يجتمع هذان الأمران؟! ؛

وثانيهما : إنّه لا يجوز اتحاد صفة الله ـ تعالى ـ مع الحقيقة الممكنة حتّى يقال : إنّ حقيقة الأصوات باعتبار انّها صفة للواجب ـ تعالى ـ لا تكون مع ترتيب ، وباعتبار انّها مع الممكنات تكون مرتبة. على أنّه إذا كان / ٢١٧ MB / الشيء متّحد الحقيقة يجب أن لا يختلف بحسب الحقيقة ، فيجوز أن لا يختلف تلك الاصوات في الترتيب وعدمه ، لأنّه لو جاز هذا لجاز أن لا يكون الحركة في محلّ تدريجية الوجود وفي محلّ آخر غير تدريجية الوجود ؛ وهذا ليس إلاّ السفسطة الصريحة!.

فان قيل : يجوز هذا باعتبار الوجودين ـ أعني : الذهني والخارجي ـ ؛

قلنا : كون الحروف والاصوات صفة للواجب ـ تعالى ـ يقتضي كونها من

٤٧٥

الموجودات الخارجية ، ومع اتحاد حقيقتها للموجودات الخارجية الحاصلة في الألسن المرتّبة بعضها على بعض يقتضي القول بكونها مرتّبة في الواجب أيضا ؛ هذا خلف!.

ثمّ أجاب بعض المشاهير عن ايراد المحقّق : بأنّ صاحب المواقف لم يصرّح بأنّ الكلام النفسي بالمعنى المذكور صفة له ـ تعالى ـ ليرد الايراد المذكور ، بل صرّح بقيام الأمر الشامل للفظ والمعنى بذاته ـ تعالى ـ ، وأراد به نحو قيام الصور العلمية بذاته ـ تعالى ، على ما ذهب إليه الشيخ ـ ؛ بل أراد به اندراجه في علمه القديم ليتناول المذهبين في العلم ـ أعني : كون العلم القديم هو العلم الإجمالي أو الصور القائمة بذاته تعالى أيضا ، كما ذهب الشيخ والفارابي ـ ؛ انتهى.

وفيه : إنّ صاحب المواقف صرّح بأنّ الكلام النفسي عند الشيخ الأشعري مجموع اللفظ والمعنى ويكون ذلك المجموع قائما بذاته ـ تعالى ـ ، وظاهر أنّ ما هو قائم بذاته ـ تعالى ـ صفة له ـ تعالى ـ ، فالتصريح بالقيام في حكم التصريح بكونه صفة. ويدلّ على ذلك قوله : « وترتيب الحروف والألفاظ انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة » ، لأنّ هذا صريح في أنّ الألفاظ قائمة به ـ تعالى ـ بدون الترتيب.

وما ذكره من أنّ مراد صاحب المواقف أنّ هذا الأمر الشامل للفظ والمعنى مندرج في علمه القديم ، ففيه : إنّه حينئذ يرجع الكلام النفسي إلى العلم ، وليس هو مذهب الأشاعرة. فلو كان مراد الأشاعرة من الكلام النفسي هو العلم لا تقع المخالفة بينهم وبين المعتزلة ـ كما أشير إليه مرارا ـ.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما صرّح به هذا القائل بعد ذلك أيضا بأنّ المراد بالقيام ـ الّذي ذكره صاحب المواقف ـ هو الاندراج في علم الله المقدّم على الايجاد.

ثمّ هذا القائل قال بعد هذا الكلام : فان قيل : يمكن أن يقال : المراد بذلك القيام نحو قيام الصور العلمية بذاته ـ تعالى ـ كما ذهب إليه بعض الحكماء من أنّ الصور العلميّة قائمة بذاته ـ تعالى ـ بدون تأثير ذاته ـ تعالى ـ منه واكماله ـ تعالى ـ به ؛

قلت : هذا انّما يصحّ عند من قال بالتغاير بين ذاته ـ تعالى ـ وصفاته ، ولم يقل به الأشعري. ويمكن أن يقال : الأشعري لم يقل بالتغاير في الصفات الكمالية وانّما في

٤٧٦

غيرها ، فهو قائل به. ومن هذا القبيل قيام الصور العلمية التفصيلية عند من قال به ؛ والظاهر أن يكون الأشعري قائلا بذلك القيام.

فان قيل : هذا مناف لقول الأشعري من أنّ الكلام النفسي أمر واحد يتكثّر متعلّقاته ـ كما هو المشهور ـ ؛

قلت : قد مرّ غير مرّة / ٢٠٠ DB / من أنّ هذا الحكم انّما يستقيم في الكلام بمعنى المتكلّم أو في العلم الإجمالي بالكلام ، فعلى هذا يجب حمل قول صاحب المواقف على الاندراج في العلم الإجمالي ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ المشهور أنّ الأشاعرة قائلون بزيادة الصفات الكمالية ومثبتون للقدماء السبعة ، ومن ثمّ كفّرهم المعتزلة حيث قالوا : أنّ النصارى انّما كفروا لما أثبتوا مع ذاته ـ تعالى ـ صفات ثلاثة قديمة يسمّوها اقانيم ـ هي : العلم والوجود والحياة ـ ، فكيف لا يكفّر من اثبت مع ذاته ـ تعالى ـ صفات سبعا أو اكثر؟.

والأشاعرة اجابوا عن ذلك ـ بعد تسليم زيادة الصفات ـ : بانّ النصارى انّما كفّروا لانّهم اثبتوها ذوات لا صفات ـ وإن تحاشوا عن التسمية بالذوات وسمّوها صفات ـ ، فانهم قالوا بانتقال اقنوم العلم إلى المسيح والمنتقل لا يكون إلاّ ذاتا ، واثبات المتعدد ـ أعني : الذوات القديمة ـ هو الكفر دون اثبات الصفات القديمة في ذات واحدة. وعلى ما ذكر من أنّ الأشاعرة قائلون بزيادة الصفات فمرادهم من قولهم : « انّ صفاته ـ تعالى ـ لا هو ولا غيره » : أنّ صفاته ـ سبحانه ـ ليست عين ذاته ـ تعالى ـ ولا غيرا مبائنا منفصلا ، بل تكون صفاته قائمة / ٢١٨ MA / بذاته. وبذلك يظهر أنّ الأشاعرة قائلون بالمغايرة والقيام كما صرّح به هذا القائل أخيرا ، إلاّ أنّ جواز القيام والمغايرة عند الأشاعرة لا يصحّح كون الكلام النفسي صورة علمية قائمة بذاته ـ تعالى ـ ، لما عرفت مرارا من أنّ كلماتهم صريحة في مغايرة الكلام النفسي للعلم. على أنّ العلم عند الأشاعرة ليس بحصول صور الأشياء في ذاته ـ تعالى ، كما يقول به بعض الفلاسفة ـ ، بل العلم عندهم صفة واحدة قائمة بذاته ـ تعالى ـ لها اضافات وتعلّقات إلى المعلومات ، كما أنّ القدرة عندهم صفة واحدة قائمة بذاته ـ تعالى ـ لها تعلّقات إلى المقدورات ، فبعد

٤٧٧

ارجاع الكلام النفسي إلى العلم لا يكون قيامه عندهم كقيام الصور العلمية بذاته وحصولها فيه ـ تعالى ـ ؛ هذا. وما اشار إليه أخيرا من استقامة ارجاع الكلام النفسي الّذي هو أمر واحد ويتكثّر متعلّقاته إلى التكلّم الحقيقي أو العلم الإجمالي ، قد عرفت حقيقة الحال فيه مرارا ؛ فلا نطيل الكلام باعادته.

ثمّ إنّ المحقّق الدواني بعد ما ردّ توجيه صاحب المواقف قال : إنّ في هذا المقام ـ أي : في تحقيق كلام الأشعري ـ كلام يقتضي تمهيد مقدّمة ؛ وهي : أنّ صفة التكلّم فينا عبارة عن قوّة تأليف الكلام ، وكلامنا عبارة عن الكلمات الّتي هي مترتّبة لنا في الخيال. وبعد تمهيد هذه المقدمة أقول : إنّ صفة الكلام القائمة بذاته ـ تعالى ـ صفة هي مصدر تأليف الكلمات وإنّ كلامه ـ تعالى ـ هي الكلمات الّتي مؤلّفة له ـ تعالى ـ بذاته في علمه القديم بغير واسطة ، وهذا الكلام خطاب متوجّه إلى مخاطب مقدّر وامتيازه عن العلم ظاهر ، فانّ كلام غيره ـ تعالى ـ معلوم له وليس كلامه ـ كما أنّ كلام غيرنا معلوم لنا وليس كلامنا ـ ، فقد تحقّق العلم بدون صفة الكلام تخلف الكلام ، فلم يلزم تحقّق الكلام في أيّ موضع تحقّق العلم.

وهذا الّذي ذكرناه ليس ما ذهب إليه الحكماء من أنّ كلامه ـ تعالى ـ علمه ؛ ولا ما ذهب إليه الحنابلة ومن يحذوا حذوهم من أنّ كلامه ـ تعالى ـ حروف وأصوات يقومان بذاته وانّها قديمة ؛ وليس مثل كلام صاحب المواقف من أنّ كلامه الأصوات والحروف الموجودة أو ما يشمل الحروف والاصوات والمعاني معا ، ولا ما هو المشهور من الأشعري من أنّ كلامه ـ تعالى ـ انّما هو المعنى المقابل للفظ ، بل هو تحقيق وتنقيح لمذهب الأشعري ـ كما يظهر بالتأمّل الصادق ـ.

ولمّا كان علمه ـ تعالى ـ واحدا محيطا بجميع المعلومات كان كلامه أيضا واحدا مشتملا على اقسامه من الكتب والصحف واللغات المختلفة والاخبارات والانشائيات ، ولمّا كان كلامه ازليا كان الخطاب فيه متوجّها إلى المخاطب المقدّر لا مخاطب موجود في الأزل ، فيكون المضيّ والحضور والاستقبال فيه بالنسبة إلى الزمان المقدّر للمخاطب المقدّر ، فلا اشكال في ورود بعضها بصيغة الماضي وبعضها بصيغة الحال وبعضها بصيغة

٤٧٨

الاستقبال.

فان قلت : قد اطّرد العرف على أنّ من انشأ كلاما بكتابة يسمّى متكلّما وينسب إليه ذلك الكلام بانّه قوله وكلامه ـ كما / ٢٢١ DA / يقال : قال : الشافعى كذا وكذا ، و: ابو حنيفة كذا ـ ؛ وانّما ينسب إليهم هذه الأقوال بأنّهم كتبوه ، فلم لا يجوز أن يكون كلام الله ـ تعالى ـ من هذا القبيل ـ كما يقول المعتزلة ـ؟ ، فيكون نسبته إليه ـ تعالى ـ بسبب أنّه كتب في الألواح المحفوظة أو أوجده في لسان الملك أو الرسول.

قلت : أمّا أوّلا فلأنّ من لم يقدّر على تأليف الكلمات في النفس لا يسمّى متكلّما وإن أوجد النقوش ، وكذلك من علم أنّه ليس له قصد إلى تلك الألفاظ والحروف لا يسمّى متكلّما ، ونسبة القول إلى من كتب شيئا من الكلام بسبب اعتقاد أنّه دالّ على كلامه النفسي حتّى لو علم أنّه ليس له الكلام النفسي لم يسمّ متكلّما أصلا ، كما لو فرضنا أنّه صدر هذه النقوش عن غير الانسان ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ النصوص السمعية دالّة على اثبات صفة الكلام له ـ تعالى ـ ، وظواهر تلك النصوص انّها صفة مغايرة لسائر الصفات ـ كالعلم والقدرة والإرادة ـ ، والقول بما قاله المعتزلة يؤدّي إلى أن لا يكون الكلام صفة اخرى بل راجعة إلى القدرة على خلق الكلمات في محالّها ، والتجاوز عن الظاهر من غير ضرورة مستنكر!. على أنّه لا يمكن الدلالة على نفي الكلام النفسي ، ولو نفوه لزم القدح في كونه متكلّما بالمعنى العرفي. وبعد ثبوت الكلام النفسي يتمّ ما ذكرناه / ٢١٩ MB / من تحقيق مذهب الأشعري من غير خلل ؛ انتهى.

قال بعض المشاهير : وأنت إذا تأمّلت فيهما علمت انّهما راجعان إلى مذهب من قال : « إنّ كلامه ـ تعالى ـ القديم هو العلم الإجمالي بالكلام مع ضميمة التوجّه إلى المخاطب المقدّر ـ كما مرّ الاشارة إليه ـ » ؛ وأنت قد عرفت أنّ كلام صاحب المواقف ليس راجعا إلى العلم الإجمالي.

وامّا كلام هذا المحقّق فظاهره أنّ صفة التكلّم له ـ تعالى ـ عبارة عن قوّة الالقاء والقدرة على تأليف الكلمات ، وهذا هو التكلّم الحقيقي وهو حقّ نقول به ـ كما مرّ

٤٧٩

الاشارة إليه ـ. وكلامه ـ تعالى ـ هي الكلمات المؤلّفة الموجودة في علمه القديم من حيث كونها خطابا إلى مخاطب مقدّر ، وهذا هو الكلام النفسي عنده. ومعلوم انّ هذا راجع إلى العلم ، لأنّ الكلمات الموجودة في علمه القديم هو العلم بالكلمات ، وقد تقدّم أنّ بعضهم وجّه الكلام النفسي بمثل ذلك ، وأشرنا إلى أنّه راجع إلى العلم وهو خلاف ما يفهم من كلمات الأشاعرة ، لأنّه يرفع النزاع بينهم وبين المعتزلة مع أنّ الخلاف بينهم مشهور والردّ والجرح فيما بينهم في كتبهم مسطور.

ثمّ إنّه اعترض على الكلام المنقول من المحقّق الدواني بوجوه :

منها : انّ قوله : « إنّ صفة التكلّم فينا عبارة عن قوّة تأليف الكلام ـ ... إلى آخره ـ » يستلزم أن يكون صفة التكلّم راجعا إلى صفة القدرة ، لأنّ قوة التأليف هي القدرة عليه بمعنى أنّه قسم خاصّ من القدرة لا أنّه عين القدرة المطلقة حتّى يتوجّه عليه أنّه ليس عين القدرة المطلقة ، لانّها قد تحقّق بدون الكلام ؛ ولا نزاع للمعتزلة في ثبوت صفة التكلّم بهذا المعنى. على انّا بحثنا في الكلام اللفظي لا في التكلّم ولا في الكلمات المترتّبة في الخيال ، لأنّ وجودها في الخيال وجود علمي ، فيكون راجعا إلى العلم. والقول بأنّ الأشياء تحصل بانفسها في الذهن لا باشباحها لا ينفع في هذا المقام ، لأنّ اللازم من حصول الأشياء بانفسها في الذهن هو حصول حقيقة الأشياء وماهياتها لا اشخاصها ، لأنّ الشخص الذهني غير الشخص الخارجي ـ على ما تقرّر في موضعه ـ ؛ فالّذي حصل في الذهنى حقيقة الكلام اللفظي لا فرد الكلام اللفظي. وبالجملة لا نسلّم أنّ الألفاظ المترتّبة في الخيال هي فرد من الكلام اللفظى. ولهذا لو كان شخص رتّب في خياله الفاظا دالّة على المعاني بالوضع ولم يتلفّظ بها في الخارج صحّ أن يقال : إنّه لم يتكلّم ولم يأت بكلام.

ومنها : إنّ قوله : « صفة الكلام القائمة بذاته ـ تعالى ـ صفة هي مصدر تأليف الكلمات » محصّله يرجع إلى قدرة تأليف الكلمات ، ولا نزاع للمعتزلة في ذلك ، فلا يكون كلامه ـ تعالى ـ صفة اخرى غير العلم والقدرة وسائر الصفات ـ على ما هو مذهب الأشاعرة ـ ، فلا يصلح هذا أن يكون وجها لكلامهم.

٤٨٠