جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

وان اراد : انّه معقول بالفعل لذاته فهذا انّما يصحّ إذا ثبت كونه عاقلا لذاته ، ومن لم يسلّم كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته كيف يسلّم كونه معقولا لذاته؟!. وبذلك يظهر فساد ما فرّع ورتّب عليه ـ أعني : قوله : « فهو عاقل لذاته » ـ ، فانّه إن لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة ، لانّ القدر المسلّم من معقوليته ـ على ما ذكره هنا ـ انّه لا مانع فيه من المعقولية بحيث لو كان هناك عاقل لعقله من دون احتياج إلى تجريده. وهذا القدر من المعقولية يمكن أن يكون باقيا مع عدم كونه عاقلا لذاته ، لانّ عدم كونه عاقلا لذاته لا ينافي كونه بحيث إذا تحقّق عاقل عقله ،

فان أراد بالمعقول بالفعل هذا القدر من المعقولية وبالمعقول بالقوّة ما لا يكون كذلك ـ أي : لا يكون بحيث إذا تحقّق عاقل عقله من دون احتياج إلى شيء آخر من تجريد أو غيره ـ فيكون المنع ظاهر الورود على قوله : « إن لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة » ؛

وإن اراد بالمعقول بالفعل المعقول لذاته بالفعل ـ أي : ما هو الظاهر المتبادر من هذا التركيب ـ وبالمعقول بالقوّة القدر المذكور من المعقولية ، ففيه : انّ كونه معقولا لذاته بالفعل انّما يثبت إذا ثبت كونه عاقلا لذاته ، وهل الكلام الاّ فيه؟.

والحاصل : انّ هذا البيان انّما يصحّح كون المجرّد معقولا بالمعنى المذكور ـ أي : كونه بحيث اذا فرض تحقّق عاقل عقله ـ ولا يصحّح كونه عاقلا ومعقولا لذاته.

ولو قيل : انّ بيان ذلك ـ أي : كونه عاقلا ومعقولا لذاته ـ انّما احالة على ما تقدّم من أنّ معنى العاقلية ليس إلاّ كون الشيء موجودا قائما بذاته حاضرا لديه شيء ، ومعنى معقوليته انّما هو كونه موجودا لموجود قائم بذاته ، وهو ـ أي : المجرّد ـ لكونه قائما بذاته موجودا لذاته القائمة بذاتها غير غائب عنه ذاته تكون ذاته حاضرة عند ذاته ، فيكون عاقلا ومعقولا لذاته ؛

قلنا : لو كان غرضه اثبات معقولية المجرّد وعاقليته لذاته بالفعل بهذا البيان فهو / ١٩ MB / قد ظهر من كلماته السابقة ، فأيّ حاجة إلى اعادته؟!.

ومع ذلك قد عرفت ضعفه وعدم تماميته ؛ هذا.

٤١

ويمكن أن يقال : / ١١٤ DB / انّه لو سلّم كونه معقولا بالفعل لعلّه يكفي لذلك كونه معقولا للواجب ـ تعالى ـ أو للمبادي العالية ، ولا حاجة إلى أن يكون معقولا لذاته ؛ ويمكن أن يخصّص (١) المجرّد في كلامه بالواجب ، فيندفع ذلك.

ثمّ لا شكّ في أنّ المراد بالمجرّد في كلامه هو المجرّد القائم بذاته دون الصور العقلية المجرّدة ، إذ لو لم يخصص بالقائم بالذات ـ بل أبقى على عمومه ـ لانتقض قوله : « فان لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة » بالصور المعقولة ، فانّها غير عاقلة لذاتها مع كونها معقولة بالفعل لا بالقوّة. وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما جعله بهمنيار مقدّمة ودليلا لاثبات كون كلّ مجرّد عالما بذاته وعدم كون شيء من المادّيات عالما بذاته أمران :

الأوّل : انّ وجود المعقول في نفسه وفي الخارج أو من حيث هو معقول نفس وجوده لمدركه من حيث هو ذات خارجي أو من حيث هو مدرك. وقد عرفت انّ بعض هذه الاحتمالات الّتي وقع الترديد فيها خلاف الواقع ، وبعضها وإن صحّ إلاّ أنها لا يثبت المطلوب.

الثاني : انّ مدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده في نفسه أو من حيث انّه مدرك ادراكه لذاته. وقد صرّح أيضا بهذين الأمرين المعلم الثاني في تعليقاته حيث قال : « كلّ ما يصدر عن واجب الوجود فانّما يصدر بواسطة عقليّته لها ، وهذه الصور المعقولة تكون نفس وجودها نفس عقليته لها لا تمايز بين الحالتين ولا ترتّب لأحدهما على الاخر ، فليس معقوليتها له غير نفس وجودها عنه. فاذن من حيث هي موجودة معقولة ومن حيث هي معقولة موجودة ، كما أنّ وجود الباري ليس إلاّ نفس معقوليته لذاته ، فالصور المعقولة يجب أن تكون نفس وجودها عنه نفس عقليته لها وإلاّ لكانت معقولات اخرى علّة لوجود تلك الصور وكان الكلام في تلك المعقولات كالكلام في تلك الصور ، ويتسلسل » (٢) ؛ انتهى.

ولا يخفى انّه لو اراد انّ معقولية الصور نفس وجودها من حيث أنّها معقولة لكان أحد احتمالات الّتي ذكرناه لكلام بهمنيار ، وذكرنا انّه صحيح إلاّ انّه لا يثبت به كون

__________________

(١) الاصل : تخصيص.

(٢) راجع : التعليقات ، ص ٤٤.

٤٢

المجرّد عاقلا لذاته وعدم كون المادّي عاقلا لذاته ؛

وإن أراد انّ معقولية تلك الصور نفس وجودها من حيث أنّها موجودة في الخارج فهو ممنوع ـ كما تقدّم في كلام بهمنيار ـ.

ثمّ لمّا كان كلام هذا المعلّم في الصورة المعقولة للواجب ـ تعالى ـ وصرح بأنّ تعقّل الواجب لتلك الصور نفس وجودها الحاصل عنه ـ تعالى ـ أو الوجود الحاصل عنه ـ تعالى ـ هو الوجود الخارجي يكون ظاهرا في الاحتمال الثاني ، ولا يمكن أن يحمل كلامه على انّ معقوليتها سبب لوجودها عنه ـ تعالى ـ ، لانّه صرّح بعدم ترتب أحدهما على الآخر. وقد صرّح هذا المعلّم في موضع آخر بهذا الاحتمال حيث قال : « اخراج الأيس من الليس ليس إلاّ العلم الفعلي والتعقّل بالذات » (١). وقوله : « وجود الباري ليس الاّ معقوليته لذاته » تصريح بالأمر الثاني ـ أعني : كون وجود المدرك لذاته ـ. نفس ادراكه لذاته وقال أيضا في تعليقاته : « المعقول من الشيء هو وجود مجرّد من ذلك الشيء ، فان كان وجود ذلك الشيء لك وذلك إذا كان مادّيا كان معقولا لك ، وان كان وجوده لذاته كان معقولا لذاته وذلك اذا كان مجرّدا ، فان كان وجوده في الأعيان بهذه الصفة ـ أي : مجرّدا ـ فهو معقول لذاته ، فمعقولية الشيء هى بعينها وجوده المجرّد عن المادّة وعلائقها ، فاذا وجد الشيء بهذا النحو من الوجود في الاعيان كان معقولا لذاته ، وان كان في الذهن ولم يكن مجرّدا في الاعيان كان معقولا لا لذاته » ؛ انتهى.

وفي هذا الكلام أيضا تصريح بانّ وجود المجرّد عين معقوليته لذاته. وبالجملة هذان الأمران ـ أي : كون وجود المعقول في نفسه عين وجوده لمدركه ، وكون وجود المدرك لذاته ـ عين ادراكه لذاته مصرّح بهما في كلام أساطين الحكمة ، ولكن ليس وجهه ظاهرا لنا وليس لنا حيلة إلى تعقّله ؛ ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا!.

على أنّك قد عرفت انّه لو ثبت هذان الأمران أيضا لا يثبت بهما المطلوب ـ أي : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته وعدم كون مادّي عالما بنفسه ـ ، فالنافع في المقام بيان انّ التجرّد علّة للتعقّل والمادّية مانعة عنها ، وغاية ما ذكروه ـ كما علمت ـ : انّ التعقّل عبارة عن

__________________

(١) ما وجدت العبارة في التعليقات ولا في فصوص الحكم أيضا.

٤٣

حضور شيء ووجوده لموجود مجرّد / ١١٥ DA / قائم بذاته ، وكلّ مجرّد قائم بذاته يصدق انّ ذاته حاضرة عند ذاته موجودة لذاته ، فيكون ذاته عاقلة لذاته وكلّ مادّي موجود لغيره ، فلا يكون موجودا لذاته حاضرا عند ذاته. / ١٢٠ MA / وقد علمت انّ كون التعقّل عبارة عن الحضور بمعنى عدم الغيبة لا يفيد ، وبمعنى الانكشاف غير مسلّم ، ووجود المادّي لغيره بمعنى عدم الغيبة عن هذا الغير لا يمنع من انكشاف ذاته لذاته.

فالحقّ في اثبات المطلوب حينئذ ـ أي : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته وعدم كون مادّي عاقلا لذاته ـ بحيث يندفع الشكوك والشبهات أن يقال : لا ريب في أنّ كلّ عاقل مجرّد ، فانّ المدرك للصور العقلية المجرّدة لا يمكن أن يكون مادّيا ـ لما بيناه سابقا من انّه لو كان المحلّ مادّيا لكان الحالّ أيضا مادّيا ـ ، وبذلك يثبت أنّ المادّية مانعة من ادراك المجرّد. وما يصحّ أن يدرك المجرّد ومن شأنه ذلك انّما هو المجرّد القائم بذاته ، لانّ المجرّد القائم بغيره ـ أعني : الصورة العقلية المجرّدة الكلّية ـ لا يمكن أن يدرك شيئا بالضرورة والاتفاق ، فمنشأ صحّة التعقّل ـ أي : ادراك المجرّد ـ سواء كان مجرّدا قائما بذاته أو صورة عقلية مجرّدة إنّما هو التجرّد. ثمّ نقول : التجرّد كما هو منشأ لصحّة التعقّل وامكانه إن كان منشأ لحصوله بالفعل أيضا يثبت المطلوب ـ أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ، بل لكلّ شيء ـ. وإن توقّف التعقّل بالفعل على شيء آخر نقول : هذا الشيء الآخر لا يخلو : إمّا أن يكون قوّة وخاصّة متحقّقة في ذات المجرّد العاقل أو علاقة ورابطة بينه وبين المجرّد المعقول. وعلى الأوّل إن كان تلك القوّة متحقّقة في كلّ مجرّد ثبت المطلوب ـ لانّ كلّ مجرّد حينئذ مشتمل على تلك القوّة الّتي هي شرط حصول التعقل بالفعل ـ فيكون عاقلا بالفعل لذاته ولما عداه. وإن كانت متحقّقة في بعض المجرّدات دون بعض آخر نقول : لا ريب في انّ تلك القوّة لا يخلو إمّا أن تكون منشأ لزيادة التجرّد واشدّيته ونقصانه وضعفه أو لا تتفاوت بها التجرّد زيادة ونقصانا ، والأوّل غير ممكن ـ لما يأتي من أنّ انضمام أمر إلى المجرّد بأيّ طريق كان يوجب نقصان تجرّده بالنسبة إلى مجرّد هو عري عن هذا الأمر ـ. على أنّا نقول : بناء على هذا الشقّ يكون ما هو أشدّ تجرّدا مشتملا على تلك القوّة البتّة ، لانّ المفروض منشئيّة هذه القوّة لزيادة التجرّد وشدّته ولا ريب في أنّ الواجب في أعلى مراتب التجرّد وتجرّده

٤٤

أشدّ وأقوى من تجرّد سائر المجرّدات ، فيكون مشتملا على هذه القوّة والخاصية ، فيكون عاقلا لذاته ولسائر الأشياء. على أنّ النفوس الانسانية مع كونها في أحسن مراتب التجرّد عاقلة لذواتها ولبعض ما عداها ، فتكون مشتملة على تلك القوّة ، فكيف لا يتحقّق في الواجب الّذي هو في أعلى مراتب التجرّد مع كونها منشأ لزيادة التجرّد؟!. وعلى الثاني يلزم المنافاة وخلاف الفرض المثبت بالبرهان ، لأنّ المادّية مانعة من التعقّل فكلّما يكون أقرب إلى المادّية يكون أضعف تعقّلا ، وكلّما يكون أبعد منها واقوى تجرّدا يكون منشئيته للتعقّل أقوى ، فكيف يمكن أن يكون تلك القوّة مع منشئيته للقرب إلى المادّية ونقصان التجرّد منشأ للتعقّل ؛ والثالث غير ممكن ، لانّه لا يمكن أن يكون تجرّد شيء مع فرض انضمام شيء آخر إليه مساويا لتجرّده مع فرض عدم انضمام هذا الشيء إليه ، لأنّ هذا الشيء المنضمّ ان كان مقوّما وذاتيا للمجرّد من حيث هو مجرّد ، فلا ريب في استلزامه للتركيب العقلي. وان لم يوجب التركيب الخارجى ـ لعدم كونه ماديا ـ فيكون منشأ لنقصان التجرّد وضعفه البتة ، وان كان عرضا فامّا أن يكون شيئا متحقّقا خارجيا قائما بالمجرّد أو شيئا اعتباريا نفس أمريّ أو اعتباريا محضا ، والأخير لا يمكن أن يصير منشأ للأمر الحقيقي الواقعي ـ أعني : الظهور والانكشاف ـ ، والأوّلان يوجبان نوع تكثّر ـ لصيرورة المجرّد حينئذ محلاّ لأمر خارجي أو نفس أمري ـ. ولا ريب في أنّ المجرّد الّذي لا يكون محلاّ لشيء منهما أشدّ تجرّدا من المجرّد الّذي يكون محلاّ لأحدهما ، فانّ / ١١٥ DB / المجرّد الّذي قامت به صورة عقلية كلّية يكون أضعف تجرّدا ممّا لم يقم به تلك الصورة ، فكيف بالمجرّد الّذي تقوم به قوّة وجودية وخاصّة ثبوتية ويحتاج في انكشاف الأشياء إليها وإن كانت عرضية بالنسبة إلى مجرّد لم تقم به تلك القوّة. وحينئذ إذا كان التجرّد منشأ لصحّة التعقّل والمادّية مانعة عنه كيف يكون ما هو أقرب إلى المادّية وأضعف تجرّدا عاقلا ولا يكون ما هو أبعد عنها وأشدّ تجرّدا عاقلا؟!.

ويظهر ممّا ذكر انّ تحقّق قوّة في المجرّد زائدة على ذاته موجبة للانكشاف يوجب نقصان التجرّد بالنسبة إليه إذا لم توجد فيه تلك القوّة وكان ذاته مقتضيا للانكشاف ولا يمكن اقتضاءها لأشدّية التجرّد ـ كما أشير إليه آنفا ـ.

٤٥

وعلى هذا ـ أعني : / ١٢٠ MB / كون الأمر الّذي يتوقّف عليه التعقّل بالفعل رابطة وعلاقة بين المدرك والمدرك ـ نقول : الرابطة المتصوّرة بينهما منحصرة بحضور المدرك عند المدرك ، إمّا بذاته أو بصورته ، والحضور بذاته إمّا أن يكون المعقول أمرا مبائنا عن العاقل ولكن يكون بينهما نوع علاقة ـ كأن يكون المعقول آلة أو قوّة للعاقل أو معلولا له صادرا ومترشّحا عنه ـ أو لا يكون أمرا مبائنا عنه ، بل يكون عينه او لوازم ذاته ، ولا ريب انّ اقوى هذه الاقسام ربطا وعلاقة القسم الآخر ـ أعني : كون المعقول عين العاقل حاضرا ذاته عند ذاته ـ. وجميع هذه الاقسام راجعة إلى الحضور ، فانّ المتعقّل بالذات في تعقّل الشيء بصورته انّما هو الصورة وتعقّلها إنّما هو لحضورها عند العاقل وارتسامها في ذاته ، ولذا قيل : انّ العلم منحصر بالحضوري. قال بعض الأعلام : وان سألت الحقّ فليس العلم حقيقة الاّ الحضوري ، والتقسيم بالحصولى والحضوري ليس إلاّ باعتبار أوّل النظر وبادي الرأي ، لأنّ المعلوم بالعلم الحصولي حقيقة ليس الاّ الصورة الحاصلة في العقل وذو الصورة معلوم بالعرض ـ على ما هو رأي الشيخين حيث قالا : انّ النفس لا تدرك إلاّ ما حصل فيها ، وهو الصورة ـ. ويدل على ذلك انّه لو ارتفع ذو الصورة عن الخارج لكان الادراك بحاله ، ألا ترى انّ النائم والمرتسم يدركان ما لا وجود له في الخارج على نحو ادراك ما في الخارج؟! فظهر انّ المعلوم حقيقة هو الصورة وذو الصورة معلوم بالعرض والصورة حاضرة عند النفس ، فتكون الصورة معلومة بالعلم الحضوري. وبناء على ما هو المذهب المنصور من انّ الاشياء تحصل بأنفسها في الذهن ليس العلم الاّ العلم بالكنه ، لا العلم بالوجه ؛ لانّ وجه الشيء إذا حصل في العقل فالمعلوم حقيقة هو حقيقة ذلك الوجه وذو الوجه معلوم بالعرض ، فالمعلوم حقيقة هو كنه الوجه ـ بناء على أنّ الأشياء تحصل بانفسها في الذهن ـ ، فاتّضح انّ العلم حقيقة ليس إلاّ الحضوري وانّ العلم لا يكون إلاّ بالكنه » ؛ انتهى.

وإذا ثبت أنّ جميع اقسام الرابطة راجعة إلى الحضور فنقول : لا ريب حينئذ في أنّ أقوى اقسام الحضور وعدم الغيبة حضور الذات للذات ، فتكون الرابطة الّتي هي شرط التعقّل بالفعل للمجرّد بالنسبة إلى تعقّل ذاته موجودة ، فيكون كلّ مجرّد عاقلا لذاته

٤٦

بالفعل ؛ وهو المطلوب.

وقد ظهر ممّا ذكرناه انّ حضور الشيء عند المجرّد القائم بذاته بمعنى عدم غيبته عنه وان لم يكن عين التعقّل ـ كما هو صريح كلام بهمنيار ـ ، إلاّ انّه مستلزم له ، نظرا إلى انّ كون الشيء مجرّدا قائما بذاته من شأنه العاقلية ـ وحضور شيء آخر عنده جزء أخير للعلّة التامّة لحصول التعقّل بالفعل ـ ، فيترتّب عليه التعقّل والانكشاف. فالفرق بين كلام بهمنيار وبين ما ذكرناه انّما هو بالعينية والاستلزام ، والباعث لذهابهم إلى الاستلزام دون العينية هو ما عرفت من ورود المنع على العينية وظهور المغايرة بين حضور الشيء ـ بمعنى عدم الغيبة عند المجرّد ـ وبين انكشافه له. وأمّا استلزامه له فلا منع فيه بعد قيام الدلالة عليه ـ كما عرفته مفصّلا ـ. وبما ذكرناه يظهر لك انّ حقيقة العلم والتعقّل هو الوجود الانكشافي لموجود قائم بذاته ؛ ولو شئت قلت : الحضور الانكشافي لموجود مستقلّ في الوجود ، فهو نوع خاصّ من الوجود الرابطي لموجود قائم بذاته ، وليس هو مطلق وجود شيء لموجود قائم بذاته أو مطلق حضور شيء له في نفسه لمطلق الوجود الرابطي لموجود قائم بذاته ـ كما هو الظاهر / ١١٦ DA / من كلام جماعة ـ.

فان قلت : حاصل ما ذكرت في دليل الاستلزام انّ المادي لمّا لم يمكن أن يتعقّل الصورة العقلية الكلّية بارتسامها في ذاته ـ لايجابه انقسامها ومادّيتها ـ فوجب أن يكون مدركها هو المجرّد القائم بذاته ، وبذلك يثبت أنّ المادّية مانعة عن التعقّل بادراك الصورة ، فلا يكون المادّي مدركا للشيء بتجريد الصورة وانتقاشها في ذاته ، فالمصحّح لادراك الصورة بالتجريد هو التجرّد وليس مجرّد التجرّد علّة مستقلّة لحصول ادراك الصورة العقلية المجرّدة بالفعل ، والاّ لكان كلّ مجرّد مدركا لجميع الصور الكلّية للأشياء ، وليس كذلك ؛ بل هو المصحّح له ومن شأنه ادراكها. وانّما يتوقّف الحصول بالفعل على شرط آخر ـ وهو أن تحصل تلك الصور في بعض آلات المجرّد وقواه ـ ثمّ هذا المجرّد يدركها امّا بالمشاهدة الحضورية ـ كما تشاهد تلك الآلات نظرا إلى الارتباط الّذي بينهما من غير / ١٢١ MA / أن يجرّد تلك الصورة ويقشرها ويأخذ حقائقها الكلّية وصفوها الخالص الّذي هو حاقّ كنهها ، وهو العلم الحضوري ـ ، أو يجرّدها عن الأغشية واللبوس ويأخذ

٤٧

حقائقها الكلّية وطبائعها المجرّدة ، وهو العلم الحصولي الّذي ينقسم إلى التصور والتصديق. وبه يعلم حقائق الأشياء وحدودها وذاتياتها ولا يعلم ذلك بالعلم الحضوري. ولذا قد يكون شيء حاضرا ومنكشفا للآخر ولا يعلم حقيقته ، فانّ الشجاعة حاصلة في نفس الشجاع حاضرة عندها ولا يعلم حقيقتها وحدّها. وبالجملة المعلوم ممّا ذكرتم انّ ادراك الشيء بالعلم الحصولي ليس من شأن المادّي ولا يمكن حصوله له ـ لاستلزامه انقسام الصورة العقلية ومادّيتها ـ ، بل هو مختصّ بالمجرّد القائم بذاته. ولم يظهر ازيد من ذلك من دليلكم ولم يظهر منه عدم جواز ادراك المادّي للشيء بالعلم الحضوري واختصاصه بالمجرّد ؛ وحينئذ نقول : يجوز أن يكون المادّي مدركا للأشياء بالعلم الحضوري بأن ينكشف بعض الأشياء له لحصول نوع ارتباط وعلاقة من العلاقات المذكورة ؛ بل نقول : يجوز أن يشترط هذا النوع من العلم ـ اي : العلم الحضوري ـ بشرط آخر سوى الحضور للمجرّد القائم بذاته ، لانّ ما حصل من دليلكم انّ مصحّح العلم الحصولي هو التجرّد وموجبه بالعقل ليس الاّ أحد العلاقات المذكورة ، وهذا لا يوجب أن يكون العلم الحضوري أيضا كذلك ، فلم لا يجوز أن يكون مصحّحه شيئا غير التجرّد وموجبه بالفعل شيئا آخر من العلاقات المذكورة أو غيرها؟! ، لانّ انكشاف الأشياء ـ سواء كانت مادّية أو مجرّدة ـ للمادّى بالحضور لا يستلزم ارتسام صورها الكلّية العقلية في ذاته حتّى يوجب انقسام المجرّد ومادّيته.

قلت : لا ريب في تحقّق الانكشاف وحصوله في كلّ من العلم الحصولي والحضوري ، إلاّ انّ شرط حصول الانكشاف بالفعل في الحصولي هو الصورة وقيامها بالمدرك ، وشرطه في الحضوري هو حضور ذات المدرك عند المدرك بأحد الأنحاء المذكورة ، والغرض انّ مصحّح الانكشاف الحصولي هو التجرّد بمعنى انّ ما من شأنه ان يحصل له هذا الانكشاف هو المجرّد دون المادّي ، فالمادّي من حيث هو مادّي لا يناسب ذاته هذا الانكشاف ولا يمكن عليته له. ولا ريب في أنّ الانكشاف الحضوري ليس مخالفا بالنوع لهذا الانكشاف ، لانّ حقيقتها واحدة ، كيف وحقيقة كلّ منها ظهور شيء عند غيره لقيام الربط والعلاقة. إلاّ انّ الظاهر في الحصولى أوّلا وبالذات صورة وفي الحضوري عين

٤٨

خارجية. والبديهة قاضية بأنّ ما لا يناسب أحد الظهورين لا يناسب الآخر أيضا ، واختلافهما في المتعلّق لا يصير منشأ لاختلاف الحقيقة ، فيعلم منه أنّ المجرّد من حيث هو مجرّد مناسب ومصحّح للتعقّل والمادّي من حيث هو مادّي غير مناسب ومانع عنه وإن كان فساد لزوم انقسام المجرّد ومادّيته مخصوصا بتحقّق الحصولي للمادّي. وبالجملة البديهة حاكمة بانّه إذا كانت المادّية مانعة عن العلم الحصولي يكون مانعة عن العلم الحضوري أيضا ؛ والفرق تحكّم باطل.

وإن تأمّلت بعد في اتحادهما في هذا الحكم وجوّزت الفرق ـ نظرا إلى اختصاص الفساد الّذي هو لزوم انقسام المجرّد ومادّيته في الحصولي دون الحضوري ـ فيثبت لك المطلوب بطريق آخر لا يتطرّق إليه شبهة أصلا ، وهو : انّه لا ريب في انّ العلاقات المذكورة راجعة كلّها إلى الحضور هى شرط التعقّل بالفعل لتعقّل العاقل ولا يمكن أن يكون مجرّد حصول أحد تلك العلاقات علّة مستقلّة للتعقّل بالفعل بمعنى أنّ كلّما يحصل له أحد تلك العلاقات بينه وبين شيء آخر يكون مدركا وعاقلا ـ سواء كان / ١١٦ DB / مجرّدا أو مادّيا ـ. ولا يتوقّف على شيء آخر متحقّق للعاقل ، لانّه بديهى البطلان لاستلزامه تعقّل كلّ شيء لما هو غير غائب عنه. على انّه مستلزم لأحد المطلوبين ـ أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ـ وان لم يستلزم المطلوب الآخر ـ أعني : عدم كون المادّيات عاقلة لذواتها ـ ، فيلزم أن يوجد سوى الربط أمر آخر في المدرك يكون مصحّحا ومنشأ للتعقّل الانكشافي ، فهو إن كان مجرّد التجرّد فيثبت المطلوب ، وإن كان مجرّد المادّية ـ أي : ما له مادّية ، سواء كان نفس المادّة أو الصورة الجسمية أو النوعية أو الاعراض القائمة بالجسم ـ ، لكان كلّ مادّي عاقلا لذاته ولكلّ ما هو لا يغيب عنه بالتعقّل الحضوري ، وهو بديهى / ١٢١ MB / الفساد. وان كان شيئا آخر فامّا أن يكون ذلك الشيء هو الوجود الخاصّ للمدرك ، أو مهيته الخاصة المختصّة به ـ أي : مهيته مع تشخّصه أو تشخّصه الخاصّ فقط ، سواء كان التشخّص نحو وجوده أو غيره ـ ، أو الوجود العامّ الشامل له ولغيره من الموجودات ، أو مهيته المشتركة بينه وبين الكثيرين المتفقة معه في الحقيقة ـ أعني : نوعه ـ ، أو جزء مهيته ـ أعني : جنسه أو فصله أو صفة من صفاته وقوّة وخاصّة من قواه و

٤٩

خاصّياته ـ.

فعلى الثلاثة الأول يلزم اختصاص التعقّل بموجود واحد شخصى ، وبطلانه ظاهر ؛ وعلى الرابع يلزم تحقق التعقّل لجميع الموجودات ، وفساده أظهر ؛

وعلى البواقي ـ أعني : كون المصحّح للتعقّل الحضوري هو النوع أو الجنس أو الفصل أو وصف لازم أو مفارق ـ فان أريد بها ما يؤخذ من الموادّ والصور والقوى الجسمية حتّى يكون جميع أفرادها مادّية لزم اختصاص التعقّل بالماديات وعدم تحقّقه لمجرّد أصلا ، وهو باطل ؛ لأنا نعلم بديهة انّ النفوس الناطقة عاقلة لذواتها مع أنها مجرّدة ؛

وإن اريد بها ما يؤخذ من حقائق المجرّدات وخواصّها أو الاعمّ لزم اختصاص التعقل بجميع افراد مجرّدة او مجرّدة ومادية داخلة تحت أمر نوعي أو جنسي أو فصلي أو وضعي غير التجرّد. ونحن إذا تتبّعنا وتصفّحنا عقلاء العالم باعتقاد أيّ فرقة نجد خلاف ذلك ونجد انتقاض ذلك طردا أو عكسا ، لانّه إن قيل بتحقّق التعقّل للواجب والعقول والنفوس الفلكية والانسانية فمع استلزامه للمطلوب ـ أعني : كون الواجب عاقلا لذاته ـ نقول أنّها ليست مشتركة في أمر جنسي أو نوعي أو فصلي ، ولا نجد أيضا صفة مشتركة مختصّة بها سوى التجرّد ، لانّ سائر صفاتها المشتركة ـ كالوجود والشيئية ـ يتناول غيرها من المادّيات أيضا ، وان قيل بتحقّقها لغير الواجب من المذكورات فلا ريب في عدم اشتراكها في النوع. وما يتصوّر جنسا لها ـ وهو الجوهرية ـ يشمل غيرها من المادّيات أيضا مع عدم صلاحية أكثرها للتعقّل بالضرورة والاتفاق. وكذا لا نجد صفة أو قوّة مشتركة بينها خاصّة بها ، وكذا الحكم إن قيل باختصاص التعقّل بالنفوس الفلكية والإنسانية ؛

وان قيل : هما مشتركان في التصرّف والتدبير في البدن ، فيجوز أن يكون التعقّل مستندا إليه ؛

قلنا : لو سلّم اتحاد التصرف في الجسم الفلكي والجسم العنصري حتّى يكون صفة واحدة مصحّحة للانكشاف نقول : لا ريب في أنّ التدبير فرع التعقّل ومرتّب عليه ، فالتعقّل علّة له ، فكيف يكون معلولا له؟!. وان قيل باختصاص التعقّل بالنفوس

٥٠

الانسانية فهي وإن كانت إمّا متّحدة بالنوع ـ كما ذهب إليه ارسطو واتباعه ـ أو متّحدة بالجنس مختلفة بالنوع ـ كما ذهب إليه جماعة ـ إلاّ أنّ تعقّلها لا يمكن أن يستند إلى نوعها أو جنسها أو إلى ما يتصوّر فصلا أو وصفا لازما لها ، لأنّ حدّ النفس عندهم انّها جوهر مجرّد شأنها أن يتدبّر ويتصرّف في البدن ، فقولنا : « جوهر » جنس لها والبواقي ـ أعني : التجرّد والتدبير للبدن ـ فصل أو عرض ذاتي لها ، والمجموع هو النوع لها. فلا يخلو أنّ التعقّل امّا ان يستند إلى الجنس فقط ـ أعني : الجوهرية ـ أو إلى التجرّد فقط ، أو إلى التدبير للبدن فقط ، أو إلى الجوهرية والتجرّد معا ، أو إلى الجوهرية والتدبير للبدن ، أو الى التجرّد والتدبير للبدن ، أو إلى الثلاثة ؛

فعلى الأوّل يلزم تحقّق التعقّل لكلّ جوهر ، وهو بديهي البطلان ؛

وعلى الثاني يلزم المطلوب ؛

والثالث ظاهر البطلان ، لانّ التدبير للبدن أمر عرضي للنفس مرتّب على التعقّل ، لانّها ما لم تكن متعقّلة لم يمكن لها التدبير في البدن. فالتعقّل متقدّم على التدبير ، فلا يمكن أن يكون متأخّرا عنه معلولا له. وبالجملة عدم منشئيته ومصحّحيته للتعقّل أمر ظاهر ؛

وعلى البواقي يلزم توارد العلّتين مستقلّتين أو العلل المستقلّة على معلول واحد ، لأنّ الانكشاف أمر واحد بسيط وهذه الأشياء الثلاثة أمور متغايرة خارجية واقعية ، فاستناده / ١١٧ DA / إليها أو إلى اثنين منها يوجب مناسبة الواحد من حيث هو واحد للمتعدّد من حيث هو متعدّد ؛

ولو قيل باعتبارية بعضها وعدميته وخصّ الواقعية والتحقّق الخارجي بواحد منها وخصّت العلّية والمنشئية به ، فرجع إلى كون واحد منه منشأ ومصحّحا ، فحكمه كما مرّ.

وبهذا الطريق ـ أي : طريق التحليل ـ يمكن اثبات المطلوب ـ أي : كون التجرّد منشأ ومصحّحا للتعقّل دون غيره لو قيل بتحقّق التعقّل لغير الانسان من الحيوانات ، أو بامكانه لبعض الموجودات الغير المحصّلة. فانّه لو كان شيء من / ١٢٢ MA / الحيوانات غير الانسان عاقلا فاذا حلّلناه وحصّلنا اجزائه الذاتية وصفاتها لم يصلح شيء منها لمنشئية التعقّل إلاّ التجرّد للزوم النقص في الطرد أو العكس ـ بنحو ما مرّ ـ. ولذا من اثبت التعقّل لغير

٥١

الانسان من الحيوانات اثبت له نفسا مجرّدة. وفي الموجودات الغير المحصّلة ـ لو جوز وجود عاقل فيها ـ نقول : لا بدّ من كونه مجرّدا واستناد تعقّله إلى تجرّده ، إذ لو كان مستندا إلى شيء غير متحقّق في الموجودات المحصّلة لوجب أن لا يتحقّق التعقّل في الموجودات المحصّلة ، ولو كان مستندا إلى أمر ذاتي أو عرضي يتحقّق في الموجودات المحصّلة ، فقد عرفت الحال فيه.

فقد ظهر وتحقّق بما ذكرناه انّ منشأ التعقّل ومصحّحه هو التجرّد ، فكلّ مجرّد من شأنه التعقّل وحصوله بالفعل له يتوقّف على أحد العاقلات المذكورة ؛ وفي تعقّله لذاته لا يحتاج إلى علاقة خارجة عن ذاته ، لانّ حضور ذاته لذاته من أقوى العلاقات للانكشاف.

ثمّ على ما ذكرناه من أنّ وجود المجرّد القائم بذاته عند ذاته منشأ وسبب للتعقّل ومستلزم للانكشاف وليس التعقّل عين وجوده الخارجي وإن لزم أن يكون كون المجرّد عالما ينكشف له المعلومات غير نفس حقيقته لازما لها والحقيقة هي عين مبدأ الانكشاف لا عين الانكشاف نفسه الاّ أنّه لا يلزم قيام أمر خارجي زائد على ذاته بذاته حتّى يلزم التركيب والتكثير ، لانّ الانكشاف إذا لم يكن لاجل قيام الصورة بذات العالم ولم تكن الصورة الحاصلة منشأ له ومصداقا لصدق العالمية بل كان نفس حقيقة العالم وحدها منشأ لصدق العالم ولا يحتاج في صدق عالميته إلى أمر آخر وراء ذاته ـ كما في العلم الصوري ، فانّ مصداق العالمية فيه ومنشأه هو أمر آخر غير نفس ذات العالم وهو الصورة القائمة ـ لا يوجب التكثير والتركيب ، لانّ الانكشاف وإن لم يكن نفس حقيقة العالم بل صفة لها إلاّ انّه ليس صفة زائدة يوجب انضمام شيء آخر إلى حقيقة العالم الانكشاف هو الظهور والظهور هو ارتفاع الحجب والموانع ، وكلّما يشتدّ الظهور يصير ارتفاع الأغيار والموانع أقوى ويكون التجرّد أشدّ. فكما انّ التجرّد صفة لذات المجرّد وليست عين ذاته إلاّ أنّها لا يوجب تكثّرا وتركّبا ـ بل كلّما كان أشدّ كان الموصوف به أشدّ بساطة ووحدة ، وكذلك كلّما يشتدّ الظهور والانكشاف يكون ذاته أشدّ تجرّدا عن الموانع والحيثيات وأقوى بساطة ووحدة ـ ، فالتجرّد والانكشاف من الصفات الّتي ترفعان التركيب والتكثير ، وبقدر زيادتهما وشدّتهما يزداد البساطة والوحدة و

٥٢

يشتدّان لمن ثبتا وتحقّقا له. والحاصل انّ المنشأ والمبدأ في علم المجرّد بذاته انّما هو مجرّد ذاته وصرف حقيقته من غير مدخلية لشيء آخر ، من دون لزوم تكثر وتعدّد واختلاف حيثيّات من هذه الجهة.

وربما يورد هنا ايراد ؛ وهو : أنّه لا ريب في أنّ المنشأ في علم المجرّد بذاته إنّما هو ذاته فقط من غير مدخلية لغيره من الصور القائمة أو لشيء منفصل عنه مربوط به يصير علاقة للحضور ، إلاّ انّ العلم لمّا كان هو الانكشاف وقلتم انّ هذا الانكشاف غير ذات المجرّد فان اردتم انّ مفهومه غير ذاته فحينئذ ما ذكرتم من عدم التركيب ممنوع ، إلاّ انّه لا يلزم منه كون الانكشاف الحاصل للمجرّد مغايرا لذاته ، فيلزم أن يكون الانكشاف عين ذاته بمعنى كون ذاته فردا منه ، وهو ممنوع ؛ لانّه لازم ذاته لا عينه ، لانّه لا ريب في تغاير أصل الذات والانكشاف الحاصل له. وكيف يحكم عاقل بأنّ حقيقة المجرّد وذاته هو ظهور غيره له؟! ؛

وإن اردتم انّ ما يصدق عليه مفهوم الانكشاف ـ أي : الظهور الحاصل للمجرّد ـ غير ذاته ، فلا ريب في انّه عرض حاصل له ، فيلزم التركب وكونه محلاّ لهذا العرض.

والجواب عن الايراد المذكور : انّه لا ريب في أنّ الانكشاف أمر عرضي نفس أمري منتزع عن حاقّ ذاته ـ كالوجود العامّ ـ ومع ذلك من العرضيات الّتي منشأ لزيادة التجرّد عن المادّية / ١١٧ DB / والحجب ، ولا ريب في أنّ الأمور الانتزاعية العرضية لا يوجب التكثّر والتركيب في الخارج ، لانّ مغايرتها للذات المنتزعة عنه إنّما هو بالنظر إلى مفهوماتها وتغاير المفهوم للذات لا يوجب تكثّرا / ١٢٢ MB / أو تركّبا. وأمّا مصداقها فليس إلاّ مجرّد الذات ، فانّ مفهوم الوجود ـ أعني : الوجود العامّ ـ مغاير لحقيقة الواجب مثلا ولا يوجب تكثّرا فيه ، ومصداقه انّما هو الذات فقط. والحاصل انّ منشأ الانكشاف ومصداقه في علم المجرّد بذاته انّما هو مجرّد ذاته بمعنى انّ ما يصدق عليه مطلق العلم في الخارج انّما هو مجرّد الذات ، وان كان مفهوم الانكشاف مغايرا له. وليس في الخارج أمر خارجي ينقسم إلى حقيقة المجرّد هو الانكشاف ، بل هو أمر اعتباري نفس أمري منتزع عنه انتزاع الوجود العامّ عن الوجود الخاصّ والفوقية عن السقف. فكما انّ

٥٣

الوجود العامّ مغاير لصرف الوجود القائم بالذات ـ الّذي هو الحقيقة الواجبية ـ مع أنّ أحد المصداقات والافراد له في الخارج هو الحقيقة الواجبية وليس له في الخارج سوى هذا الفرد شيء آخر زائد هو الوجود العامّ منضمّ إلى هذا الفرد ، بل التغاير انّما هو من حيث المفهوم ؛ وفي العقل وفي الخارج ليس الاّ شيء واحد بسيط ينتزع عنه هذا المفهوم ؛ فكذلك حكم التعقّل بالنسبة الى المجرّد.

وحاصل هذا الجواب : انّ ما هو المغاير لذات المجرّد إنّما هو مفهوم التعقّل وليس بإزاء هذا المفهوم في الخارج سوى الذات شيء يكون مصداقا له ، بل مصداقه هو عين ذات المجرّد بمعنى انّ فردا من التعقّل قائم بنفسه هو ذات المجرّد وليس في الخارج وراء ذاته شيء آخر هو التعقّل من قوّة زائدة أو صورة حاصلة ، كما هو فينا ؛ بل ما ينكشف الأشياء للمجرّد لذاته ليس إلاّ عين وجوده. وبهذا الطريق يصحّح عينية صفات الواجب ، فانّ الواجب ـ تعالى ـ على هذا فرد من كلّ واحد من الصفات قائم بذاته ، فانّ فردا من العلم قائم بذاته هو الواجب ـ تعالى ـ ، وكذا فردا من القدرة ... وغيرها من الصفات الكمالية. فكما انّ الحرارة إذا قامت بغيره يكون هذا الغير حارّا لأجلها والضوء إذا قام بغيره يكون هذا الغير مضيئا وإذا قام كلّ منهما بنفسه يكون حرارة وحارّا وضوء ومضيئا من غير افتقار إلى محلّ ومصداق آخر ، فكذلك التعقّل فانّه إذا كان بصورة زائدة يكون التعقّل قائما بغيره ويكون هذا الغير لأجله عاقلا وإذا قام بذاته يكون عقلا وعاقلا ؛ لا العقل والعلم بمعنى الانكشاف ـ لبداهة انّ ذاته سبحانه ليس عين الانكشاف الّذي هو أمر اعتباري ـ ، بل العقل والعلم بمعنى ما ينكشف به الشيء ـ كما هو أحد اطلاق العلم ـ. فعلى هذه الطريقة يكون صرف الوجود القائم بذاته الّذي هو حقيقة الواجب عين جميع الصفات الكمالية ، بمعنى انّه فرد لكلّ منها ، لا انّه حقيقة لا يطلق عليه تلك الصفات وإنّما هي نائب مناب الكلّ والكلّ منتزع عنها بحيث لا يلزم فيه التركّب والتكثّر ، بل هو هو بعينه والتغاير لمجرّد المفهوم ـ كالوجود الخاصّ والمطلق ـ.

لا يقال : يرد على هذه الطريقة انّه كيف يمكن أن يكون محض الوجود القائم بذاته مع كونه حقيقة مجهولة الكنه عندهم فردا للعلم الّذي هو الانكشاف أو القدرة الّتي

٥٤

هي صحّة الفعل والترك مع أنّها صفات منتزعة عنه ، ونحن نعلم انّ المنتزع غير المنتزع منه ، فانّ الحصّة المعيّنة من الانكشاف المنتزعة عن الواجب وإن لم يحتج انتزاعه إلى أمر آخر زائد سوى الواجب إلاّ انّه ليس عينه ، وكما أنّ الحصّة المعيّنة من الوجود العامّ المنتزعة عن الواجب ـ تعالى ـ ليس عينه وكذا الفوقية المنتزعة عن السقف ليست عينه فكذا التعقّل ـ أعني : الانكشاف الحاصل للواجب ، أي : الظهور اللازم لذاته المنتزع عن حقيقته ـ غير ذاته ، فكيف يكون الذات فردا منه ومصداقا له؟! ؛ بل المصداق للتعقّل العامّ بالعقل المجرّد لذاته انّما هو هذا التعقّل الخاصّ الحاصل له ، سواء قيل : انّه فرد من التعقّل العامّ أو حصّة منه ، كما انّ المصداق أو الفرد او الحصّة أو ما يشابه ذلك لمطلق الفوقية ليس عين هذا السقف ؛ بل الفوقية المنتزعة عنه.

لأنّا نقول : قد يجيء انّ العلم يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : المعنى الاضافي المصدري ؛

وثانيها : ما ينكشف به الشيء ؛

وثالثها : الملكة الّتي نقتدر بها على استحضار المنكشفات.

والمراد من كون الواجب فردا للعلم انّه فرد للعلم بمعنى ما ينكشف به الشيء ، يعنى كما أنّ أحد افراده الصور الحاصلة / ١١٨ DA / القائمة بالنفس فكذا أحد افراده الذات المجرّدة فهو فرد لمطلق العلم بمعنى ما ينكشف به الشيء ، لا العلم بمعنى الانكشاف ـ الّذي هو أمر اعتباري ـ. مثال ذلك انّ ذاته ـ تعالى ـ فرد لمطلق الوجود قائم بذاته كما انّ وجود الممكن فرد منه قائم بغيره ، وليس فردا للوجود المطلق الّذي هو أمر اعتباري ، بل منشأه وليس فردا له. وبالجملة العلم بمعنى الانكشاف كيف يكون / ١٢٣ MA / حقيقة الوجود فردا منها والقدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور كيف يكون صرف الذات فردا منه مع انّ حقيقة الوجود والذات غير الانكشاف وصحّة الصدور واللاصدور غير الايجاد وغير سائر الصفات الكمالية؟!. فالمراد انّ حقيقة الوجود فرد من العلم بمعنى ما ينكشف به الشيء والانكشاف من لوازمه الّتي يقتضيها ومن منتزعاته الّتي ينتزع عنه. وحينئذ فلو حمل ما ذكره الفارابى وبهمنيار وغيرهما من الفلاسفة من « أنّ تعقّل الواجب لذاته و

٥٥

عاقليته للأشياء عين وجوده » على ذلك لكان صحيحا ، يعني كان مرادهم : انّ عاقليته بمعنى ما ينكشف به ذاته والأشياء هو عين وجوده وعاقليته بمعنى أنّ الانكشاف عين وجوده. فمبدأ التعقّل بمعنى الانكشاف ومنشأه هو ذات المجرّد ومصداق مفهوم التعقّل. وهذا المعنى ـ أي : ما يصدق عليه التعقّل العامّ في تعقل المجرّد لذاته ـ هو هذا التعقّل الحاصل له ، لا ذاته بعينه. إلاّ أنّ هذا المصداق أمر عرضي منتزع عن ذاته ، ومع ذلك منشأ لزيادة التجرّد وارتفاع المادّية والحجب ، فلا يلزم في الذات تركّب وتكثّر ؛ والتعقّل الّذي يكون الذات فردا منه ومصداقا له هو التعقّل بمعنى ما ينكشف ويظهر به الأشياء ، لا نفس الانكشاف والظهور.

وعلى هذا فالظاهر عدم الفرق بين هذا المذهب في تصحيح عينية الصفات ـ أعني : القول بكون ذاته فردا من كلّ صفة ـ وبين القول بالنيابة ، وكون النزاع بين القول بالفردية والنيابة لفظيا ، لانّ حاصل القول بالنيابة انّ ذاته ـ تعالى ـ نائب مناب جميع الصفات بمعنى انّ ذاته ـ تعالى ـ لمّا كان محض الوجود والوجود القائم بذاته مبدأ لجميع الصفات الكمالية من غير افتقار إلى أمر زائد قائم بذاته يكون مصحّحا لتلك الصفات والصفات بمعنى الاضافات ينتزع عنها ، ولكونها أمورا اعتبارية عرضية منتزعة عنه لا يوجب تركّبا وان كانت واقعية نفس أمرية ؛ فانّ الظاهر انّ مرادهم من قولهم : « انّ ذاته نائب مناب جميع الصفات » : انّ ذاته بمنزلة القوّة الزائدة والصورة الحاصلة فينا. وكما تكون تلك القوّة والصورة فردا من الصفة بالمعنى الحقيقي لا بالمعنى الاضافي بمعنى انّ القوّة الّتي يتمكّن بها على الفعل والترك مثلا فرد من القدرة بمعنى ما يحصل به القدرة بالمعنى الاضافي الاعتباري لا أنّها فرد من هذا المعنى الاضافي الاعتباري وانّ الصورة العلمية القائمة بانفسنا فرد من العلم بمعنى ما ينكشف به الأشياء لا أنّها فرد من الانكشاف ، فكذلك يكون ذاته ـ سبحانه ـ فردا من القدرة والعلم بالمعنى الحقيقي ـ أي : بمعنى ما يحصل به صحّة الفعل والترك وما ينكشف به الاشياء ـ. فمرادهم من النيابة انّ ذاته بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ بمنزلة القوى العرضية والصور الزائدة بالنسبة إلينا. ولو كان مرادهم انّ القوى والصور الزائدة أفراد من الصفات بمعانيها الحقيقية ويصدق تلك الصفات عليها وذاته ـ

٥٦

تعالى ـ ليس فردا منها ولا يصدق عليه أصلا أو كان مرادهم انّ تلك القوى والصور الزائدة أفراد من الصفات بالمعاني الاضافية حتّى تكون الصورة الحاصلة مثلا فردا من الانكشاف والواجب ليس فردا منه ، فلا ريب في بطلانه ؛ وسيجيء لذلك في مبحث الحياة زيادة بيان.

وبالجملة لا ريب في أنّ حقيقة الوجود الصرف القائم بذاته مبدأ لجميع الخيرات والكمالات ، وما من كمال إلاّ وهو يترشّح عنه ، ولا تنال ماهية خيرا وكمالا إلاّ وهو منه وجميع الصفات الكمالية راجعة إلى الوجود ، فلا يمكن أن يكون صرف الوجود المفيض لجميع الموجودات فاقدا لكمال. وهذا متفق عليه على الطريقين ، فانّ جميع تلك الكمالات بمعانيها الحقيقية عين الوجود الصرف القائم بذاته ، وبمعانيها الاضافية لوازمه ومنتزعاته وشئونه واعتباراته من غير لزوم شائبة تركّب وتكثّر ، وإن صدق عليه المفهومات الكثيرة المتغايرة ، لانّ صدق المفهومات المتغائرة على ذات واحدة بسيطة لا يوجب تغاير المصداقات ، إلاّ إذا استلزم ذلك الصدق اختلاف حيثيات وهو غير متحقق في علم المجرّد بذاته له وفي سائر صفاته الكمالية.

وعلى التحقيق يكون الذات فردا من الصفات الحقيقية ومنشأ ومبدأ / ١١٨ DB / للصفات العرضية الاعتبارية المنتزعة الّتي هى مصداقات وحصص لمفهومات اعتبارية عامّة من دون لزوم تعدّد ، لانّ تكثّر الأمور المنتزعة العرضية عن ذات واحدة بسيطة لا يوجب تغاير المبدأ / ١٢٣ MB / والمنشأ إلاّ إذا استلزم ذلك الانتزاع اختلاف حيثيات ؛ وهو غير ممنوع فيما نحن فيه.

ثمّ المجرّد إن كان وجوده زائدا على مهيته ـ كغير الواجب من المجرّدات ـ يمكن أن يتحقّق له العلم الحصولي والحضوري بواسطة علاقة خارجية ، فكما يمكن أن يحلّل إلى الماهية والوجود فكذلك يمكن أن يحلّل إلى الذات والصفات الزائدة ، لأنّه لا ريب في أنّ الصورة الحاصلة للمجرّد القائمة به زائدة على ذاته وحقيقته ، إلاّ أن تكون تلك الصورة كلّية مجرّدة لا يلزم مادّية ذلك المجرّد وتركيبه. ويمكن أيضا أن يفتقر إلى أمر آخر يصير رابطة لتعقّله وان لم يكن وجوده زائدا على مهيته ، بل كان محض الوجود الخالص ، فلتعاليه

٥٧

عن مطلق شوائب التركيب واستعلائه التامّ على عمّا عداه لا يكون علمه بشيء حصوليا ولا حضوريا مفتقرا إلى علاقة خارجية ؛ بل منشأ علمه بذاته وبجميع ما عداه هو مجرّد ذاته التامّة ، كما أنّ علم غيره من المجرّدات بمجرّد ذاته كذلك ؛ وسيجيء ـ إن شاء الله ـ بيان كيفية علمه بما عداه بهذا الطريق. فلا يكون فيه تركيب خارجي ولا عقلي أصلا ، ولا يلزم فيه تكثّر سوى انتزع الانكشاف والظهور عن ذاته ، وكذا انتزاع التجرّد وغيره من صفاته من ذاته الحقّة ولا يلزم منه تكثّر وتركّب ـ كما عرفته ـ ؛ هذا.

وبما ذكرناه يظهر الجواب عمّا قيل : كون الشيء عالما ينكشف له المعلومات حال خارجي يغاير لنفس حقيقته ، فلا يكون نفس حقيقة العالم وحدها مصداقا لصدق العالم في علم الشيء بنفسه ، فانّ كلّ شيء في نفسه هو هو لا غيره ، فلو تغيّر عمّا هو عليه في نفسه لاحتاج إلى مصداق آخر وراء ذاته ، فلا بدّ من كون الشيء عالما بنفسه مثلا من أمر آخر غير نفس ذاته يكون مصداقا لعالميته ، فلا يكون العلم بالشيء نفس حصول ذلك الشيء فقط ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع : انّه لو أراد من « المصداق » ما هو المنشأ والمبدأ ، فلا نسلّم انّ عالمية كلّ شيء لا بدّ له من مبدأ سوى الذات زائد عليه ، فانّه كما يجوز أن تكون الصورة مصحّحة للانكشاف فلم لا يجوز أن يكون بعض الذوات ـ أي : الذوات المجرّدة ـ أيضا كذلك؟! ؛

وإن اراد كون الشيء عالما ـ أي : تعقّله ـ لا بدّ له من مصداق ـ أي : ما يصدق عليه هذا التعقّل العامّ ـ سوى الذات ـ أي : يكون في ذات المجرّد شيء يصدق عليه انّه فرد أو حصّة من التعقّل غير ذاته ، لانّ الذات لا يكون فردا للتعقل ـ ، ففيه : انّا نلتزم انّه ينتزع من الذات أمر عرضي هو مصداق لمفهوم التعقّل ، وليس فيه فساد ـ كما تقدّم ـ.

وقال بعض الأعلام الإلهيين في الجواب عن الايراد المذكور : انّ كون عالمية الشيء في علم المجرّد بذاته وصفا خارجا عن نفس ذاته غير ممنوع ، بل يكون نفس حقيقة الشيء الغير الجسمي مصداقا لكونه عالما بذاته ولا يحتاج إلى مصداق آخر مغاير لنفسه ، فانّ صدق المفهومات المتغائرة على ذات واحدة لا يستدعي تغاير المصداقات إلاّ إذا استلزم

٥٨

ذلك الصدق اختلاف حيثيات ، وهو فيما نحن بصدده ـ أي : علم المجرّد بذاته ـ غير ممنوع ؛ وإن سلّم في غيره. قال الشيخ في التعليقات : « اذا قلت انّى أعقل الشيء فالمعنى انّ أثرا منه موجود في ذاتي ، فيكون لذلك الأثر وجود ولذاتي وجود ، فلو كان وجود ذلك الاثر لا في غيره بل فيه لكان أيضا يدرك ذاته ، كما انّه لمّا كان وجوده لغيره ادركه الغير. ومن توهّم أن كون المجرّد عالما بذاته وصف زائد على ذاته يستدعي مصداقا لزمه القول بعدم كون الواجب الحقّ عالما بذاته إلاّ بعد تحقّق أمر زائد على ذاته ـ تعالى ـ ، وهو باطل ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه إن كان مراده : انّ علم الشيء بنفسه ـ أعني : انكشافه لديه وظهوره بين يديه ـ هو عين وجوده وحقيقته وليس للانكشاف مصداق مغاير لنفسه ـ وبالجملة انّ حقيقة المجرّد ووجوده هو عين الانكشاف في الخارج بمعنى كونه فردا لهذا الامر الاضافي ـ ، فقد علمت انّه ليس الأمر كذلك ، لانّ ظهور المجرّد عند ذاته انّما هو لازم ذاته لا عينه ، ولا يلزم تغاير يوجب الفساد ، لكونه امرا اعتباريا انتزاعيا ؛ وكلام الشيخ أيضا لا يدلّ على العينية بمعنى كون الذات فردا منه ، فانّ ما هو موضع الاستشهاد من كلامه ـ أعني : قوله : « فلو كان وجود ذلك الاثر لا في غيره بل فيه ... الى آخره » ـ انّما يدلّ على انّ المجرّد يدرك ذاته ، لانّ معنى التعقّل للشيء أن يتحقّق أثر موجود في المعقول للعاقل. فاذا كان أصل هذا الأثر موجودا في العاقل لكان مدركا لذاته. فحاصل كلام الشيخ : انّ المجرّد يدرك ذاته من / ١١٩ DA / غير احتياج إلى شيء زائد عن ذاته ، / ١٢٤ MA / بل ذاته مصحّح ومنشأ له ، فيرجع الى الطريقة الّتي اخترناها ، ولا يدلّ على أنّ الذات فرد من هذا الادراك ؛

وان كان مراده : انّ عالمية المجرّد بذاته لا تحتاج إلى مصداق ـ أي : مبدأ ومصحّح ـ سوى ذاته ليرجع إلى الطريقة المختارة ، فهو حقّ ومطابق لكلام الشيخ. فعلى ما اخترناه علم المجرّد بذاته وجميع الصفات الكمالية للواجب مبدئها ومنشأها عين الذات من غير افتقار إلى شيء آخر زائد على الذات ـ من قوّة أو صورة أو ذاتي أو غيرها ـ يكون مبدأ لها إلاّ أنّ الذات ليست عين تلك الصفات بمعنى كونها فردا لها ، لأنّها أمور اعتبارية

٥٩

انتزاعية ومحقّق الحقائق كيف يكون عين الأمر الاعتباري؟!. ولكونها اعتبارية انتزاعية وإن كانت نفس أمرية لا يلزم التعدّد والتكثّر في الذات ، وعينية الصفات حينئذ راجعة إلى عدم تحقّق أمر زائد في ذاته يكون مصحّحا لتلك الصفات الاعتبارية الانتزاعية ـ أعني : الانكشاف والوجود العامّ وصحّة الفعل والترك والايجاد وغير ذلك ـ ، بل الذات من حيث هي منشأ ومصحّح لذلك.

ثمّ انّ الامام الرازي في المباحث المشرقية اعترض على عدم كون علوم المجرّدات بذواتهم غير زائد على ذواتهم : بأنّ الأشياء الّتي تعقل ذواتها لو كان عقلها لذواتها غير زائد على ذواتها لكان من عقلها عقلها عاقلة لذواتها ، وليس كذلك ؛ إذ اثبات كونها عاقلة لذواتها يحتاج إلى تجشّم اقامة برهان ، وبيان اثبات علمها غير بيان اثبات وجودها. وكذا ليس من اثبت وجود الباري ـ تعالى ـ اثبت علمه بذاته ـ تعالى ـ بل يلزمه اقامة حجة أخرى له ؛ انتهى.

ولا يخفى انّه على ما ذكرنا من انّ المراد بعينية علم المجرّد بذاته وعدم زيادته على ذاته وكذا عينية صفات الواجب لذاته هو انّ العلم الّذي هو الانكشاف كغيره من الصفات الكمالية أمر اعتباري منتزع عن ذاته ليس شيئا خارجيا منضمّا إلى الذات ومع ذلك سبب لزيادة البساطة والوحدة ، فسقوط اعتراضه ظاهر ؛ لانّ تعقّل المجرّد لذاته ليس حينئذ عين ذاته بمعنى كون ذاته فردا له ، بل هو من لوازمه واعتباراته ، والعلم بوجود الشيء لا يوجب العلم بلوازمه المنتزعة عنها. فاذا علمنا وجود مجرّد لا بدّ أن يثبت بدليل مستأنف انّ من لوازمه تعقّله لذاته بذاته. نعم! ، لو فرض تعقّلنا له بكنهه وبجميع الوجوه فيلزم حينئذ انّا نعقله عاقلا لذاته.

وأمّا على ما ذهب إليه الفارابي وبهمنيار من كون وجود المجرّد نفس تعقّله لذاته وكونه مصداقا لهذا التعقّل فقال بعض الذاهبين الى طريقتهم في الجواب عنه : انّ معقولية الشيء عبارة عن وجوده لشيء له فعلية الوجود والاستقلال ـ أعني : كونه غير قائم بشيء آخر ـ ، فالجوهر المفارق لمّا كان بحسب الوجود العيني غير موجود لشيء آخر ـ بل كان موجودا لذاته ـ كان معقولا لذاته ، وإذا صارت مهيته في عقل آخر فصارت بهذا

٦٠