جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

من الأشاعرة وهم لم يثبتوا الثبوت ، بل المعتزلة اثبتوه. وما ذكره من جعل الأزلي وصفا لمتعلّق الكلام ـ أعني : العلم به ـ فحاصله أنّ كلامه الّذي نفسه حادث والعلم به قديم سمعه بلا صوت وحرف ، وهذا وإن لم يكن فيه فساد إلاّ أنّه خلاف ظاهر قول الغزالي. وإذا لم يكن لأزلية الكلام المسموع معنى ينبغي التأمّل في أنّه إذا قطع النظر عن ازليته ـ بل قيل : بكونه حادثا ـ هل يجوز أن يكون مسموعا بلا حرف وصوت كما ذكره الغزالي أم لا؟.

فنقول : قال بعض المشاهير لبيان ذلك : إنّ الكلام الّذي هو مسموع بلا صوت ولا حرف باعتبار الوجود العيني ـ أي : ما ليس له صوت ولا حرف في الوجود العيني أعني : عالم الملك وإن كان له صوت وحرف في عالم المثال أو عالم العقل ـ له معنيان :

أحدهما : اللفظ الدالّ على المعنى المراد بإلقائه باعتبار الوجود المثالي البرزخى على نحو ما يسمع في المنام ، لا العقلي على نحو الالهام العقلي ؛

وثانيهما : المعنى الّذي هو مقصود بالذات بإلقاء اللفظ الدالّ عليه ، وهذا هو الكلام بالحقيقة عند الغزالي. نظير هذا ما قال من أنّ حقيقة الحمد هي اظهار الصفة الكمالية سواء كان باللفظ الدالّ عليها أم لا ؛ فانّ اللفظ الدالّ عليها بالحقيقة هو الحمد باعتبار الدلالة عليها ، وخصوص اللفظ لا دخل له في كونه حمدا. فعلى هذا انّما يكون الكلام اللفظى عنده كلاما باعتبار أنّه دالّ على ما هو المراد بالذات بإلقاء اللفظ بحيث لو امكن القاء هذا المعنى بدون القاء اللفظ يكون كلاما ، والقائه يكون تكلّما ؛ فليس خصوص اللفظ شرطا لا في الكلام ولا في التكلّم. فعلى الأوّل يكون المراد من سماع موسى ـ عليه‌السلام ـ كلامه بلا صوت وحرف : أنّه ـ عليه‌السلام ـ سمع الألفاظ المثالية البرزخية الّتي ليست لها صوت وحرف في العين وإن كان لها صوت وحرف في عالم المثال ؛ وعلى الثاني يكون المراد منه : انّه القى على روعه المعاني المقصودة من دون توسّط لفظ أصلا ؛ واطلق على هذا الالقاء التكلّم وعلى المعاني المتلقّاة الكلام لما ذكر مفصّلا. ومراد الغزالي هو الثاني.

وأنت خبير بانّه لا مانع شرعا وعقلا من تحقّق أحد المعنيين المذكورين ، لأنّ تحقّق

٤٤١

كلّ منهما في الواقع ونفس الأمر ممّا لا موجب لانكاره ؛ أمّا الأوّل فكما يسمع في المنام أو بالالهام العقلي ؛ وامّا الثاني فكما في كلّ معنى يلقى إلى النفس ، إلاّ أنّ الثاني راجع إلى العلم وليس كلاما بحسب اللغة والعرف ، والأوّل وإن امكن منع كونه كلاما أيضا إلاّ أنّ الظاهر تحقّق العرف الخاصّ على اطلاق الكلام عليه.

فان قيل : مطلق الكلام هل هو عند الغزالي مشترك لفظي بين الكلام اللفظي وبين الكلام الّذي هو مسموع بلا صوت وحرف بالمعنى الثاني؟ ، أو مشترك معنوي بينهما؟ ، أو مجاز في الثاني؟ ؛

قلنا : الظاهر / ٢١١ DB / من مذاقه أنّ اطلاق الكلام بمعنى ما به التكلّم على اللفظي وعلى الّذي بلا صوت وحرف بالاشتراك المعنوي ، فانّ معناه ما ينبئ عن الواقع أو يسفر عن الطلب ونحوه ، سواء كان الانباء والاشعار بلا واسطة ـ كمعان الألفاظ ـ أو بواسطة ـ كالالفاظ الدالّة على المعاني المنبئة عن الواقع ، كالقضايا العقلية أو المشعرة عن الطلب / ٢٠٨ MB / أو التحسّر أو التمني كالانشائيات ـ ، وعلى هذا يطلق الكلام بالاشتراك المعنوي على ثلاثة اقسام :

أحدها : الكلام اللفظي الّذي هو في عالم الحسّ ، وعلى هذا لا يكون إلاّ بالحرف والصوت ؛

وثانيها : الكلام اللفظي ، لكن باعتبار عالم المثال ؛

وثالثها : مجرّد المعنى المقصود ، وهو الّذي لا يكون من جنس الحروف والأصوات مطلقا. وهذان الأخيران بلا صوت وحرف في عالم الحسّ وإن كان الثاني بالصوت والحرف في عالم المثال. فما ذكرناه سابقا من أنّ المعنى المقصود بإلقاء الألفاظ هو الكلام بالحقيقة عند الغزالي المراد منه انّه أقوى الفردين وإن كان الفرد الاضعف ـ أعني : اللفظى ـ أيضا كلاما بالحقيقة. ومن نظر إلى أنّ معاني الألفاظ هي المنبئة عن الواقع أو المشعرة عن الطلب ونحوه بلا واسطة حكم بأنّ استعمال الكلام فيها بالحقيقة وفي غيرها بالمجاز وإن اشتهر فيه ؛ ولهذا قال الشاعر :

٤٤٢

إنّ الكلام لفي الفؤاد وانّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا(١)

ومنهم من ذهب إلى عكس ذلك ـ كالمعتزلة ـ ، فالنزاع ليس إلاّ في أنّ اطلاق الكلام على معاني الألفاظ هل هو بطريق المجاز ـ كما هو رأي المعتزلة ـ ، أو بالحقيقة بأن يكون قسما من الكلام ـ كما هو مختار الغزالي ـ ، أو بأن يكون استعماله في اللفظ بالمجاز المشهور ـ كما هو رأي بعض ـ ؛ وقد عرفت ما هو الحق.

فان قيل : هل المتحقق لموسى ـ عليه‌السلام ـ سماع الكلام بلا صوت وحرف بالمعنى الأوّل؟ ، أو بالمعنى الثاني؟ ، أو بكلا المعنيين؟ ، وهل بينهما تلازم من الطرفين من أحدهما أم لا؟ ؛

قلت : قد ذكر بعض المشاهير أنّه تحقّق لموسى ـ عليه‌السلام ـ كلا السماعين ، فانّهما يتحقّقان معا ما دام الملقى إليه متعلّقا بعالمي الملك والمثال ؛ وأمّا إذا لم يتحقّق للملقى إليه تعلّق بأحدهما فانّما يتحقق له سماع الكلام بالمعنى الثاني ، وهذا هو مقام يتمنّاه العارفون ؛ انتهى.

اقول : إنّ المعنى الأوّل ـ كما عرفت ـ هو اللفظ الدالّ على المعنى المراد باعتبار الوجود المثالي أو العقلي ، والمعنى الثاني هو المعنى الملقى. وحينئذ نقول : إنّ المعنى الملقى الّذي هو الكلام بالمعنى الثاني إن كان مشروطا بتجرّده عن الألفاظ المثالية والعقلية فلا يمكن اجتماع السماعين بالنسبة إلى معنى واحد في وقت واحد بأن يكون هذا المعنى في وقت واحد مسموعا في ضمن الألفاظ المثالية ومجرّدا عنها معا ـ لاشتراط الأوّل بوجود الألفاظ المثالية والثاني بعدمها ـ ، وحينئذ فلا يثبت بين المعنيين تلازم أصلا. وعلى هذا فما حكم هذا القائل بتحقق السماعين معا لموسى ـ عليه‌السلام ـ منظور فيه ، إلاّ أن يقال : ليس غرضه من تحققهما له تحقّقهما له بالنسبة إلى معنى واحد في وقت واحد بأن يكون معنى واحد في وقت واحد مسموعا له بالالفاظ المثالية وبدونها ، بل غرضه تحقّقهما له بالنسبة إلى معان متعددة بأن يكون بعض المعاني مسموعا له في ضمن الألفاظ المثالية أو العقلية وبعضها مسموعا له مجردا عنها وإن لم يكن مشروطا بتجرّده عنها ، بل

__________________

(١) البيت لأخطل. راجع : شرح المقاصد ، ج ٤ ص ١٥٠.

٤٤٣

كان المراد منه هو المعنى الّذي هو مقصود بإلقاء اللفظ الدالّ عليه ـ سواء كان مجردا عن الألفاظ المثالية أو العقلية أو في ضمنها ـ ؛ وحينئذ يكون الكلام بالمعنى الثاني أعمّ من الكلام بالمعنى الأوّل. فكلّما تحقّق الأوّل تحقّق الثاني ، لأنّ المراد بالأوّل ليس مجرّد الألفاظ المثالية أو العقلية من دون اشتمالها على معنى ، بل هي الألفاظ المثالية المتضمّنة لمعنى البتة ، وعلى هذا يثبت التلازم بينهما من أحد الطرفين عكسا دون الطرف الآخر. فاذا تحقّق الخاصّ ـ أعني : الكلام بالمعنى الأوّل ـ يثبت في ضمنه الكلام بالمعنى الثاني ويمكن أن يتحقّق الكلام بالمعنى الثاني ، فلا يتحقّق الكلام بالمعنى الأوّل. وحينئذ فما ذكره القائل المذكور من تحقّق كلا السماعين لموسى ـ عليه‌السلام ـ الظاهر أنّه لم يرد منه تحقّق السماع / ٢١٢ DA / بالمعنى الثاني في ضمن السماع بالمعنى الأوّل ، لأنّ هذا تحقّق أحد السماعين والاستماعين بالمعنى الأوّل المشتمل على المعنى الثاني الّذي هو كالجنس ، وعلى الألفاظ المثالية الّتي هي كالفصل. ولا يصحّ أن يعبّر عن تحقّق الخاصّ المشتمل على العام وعلى الفعل المميز بتحقّق الخاصّ والعامّ معا ، بل أراد منه تحقّق السماع بالمعنى الأوّل بالنسبة إلى المعنى وتحقّق السماع بالمعنى الثاني لا في ضمن الألفاظ المثالية ، بل مجرّدا عنها بالنسبة إلى معنى آخر.

ثمّ الظاهر اشتراط السماع بالمعنى الثاني بالتجرّد من الألفاظ المثالية ، لأنّ هذا السماع فوق السماع بالمعنى الأوّل ، ولذا حكم القائل المذكور بانّه انّما يتحقّق للمتخلّقين ـ أي : إنّ تحقّقه مقصور عليهم ولا يتحقّق لغيرهم ـ ، وحكم بانّه ممّا يتمنّاه العارفون. فالمراد من تحقّقهما معا لموسى ـ عليه‌السلام ـ تحقّقهما له بالنسبة إلى معان متعدّدة في أوقات متعدّدة ، ويكون تحقّق السماع بالمعنى الأوّل له في وقت كان متعلّقا بعالم الملك أو المثال بعدد تحقّق السماع بالمعنى الثاني بعد انخلاعه منهما.

فان قيل : كيف يصحّ السماع بدون الحرف والصوت؟ ؛

قلنا : قد اجاب عنه بعض المشاهير : بأنّ / ٢٠٩ MA / المراد بالسماع ليس إلاّ الاطّلاع الحضوري الخاصّ لمن ألقي إليه الكلام بالمعنى المذكور ـ أي : ما ينبئ عن الواقع ، وهو الّذي يتعلّق بالتكلّم الّذي هو القائه ـ. وحاصله : انّ سماع الكلام بدون

٤٤٤

الصوت والحرف يتصوّر بأنّ السماع لا يكون إلاّ الاطّلاع الحضوري الخاصّ ، ويجوز أن يحصل لمن ألقي إليه الكلام ـ بالمعنى المذكور ـ الاطّلاع الحضوري على الكلام الّذي هو قائم بالمتكلّم.

وأورد عليه : بأنّ هذا راجع إلى العلم الحضوري ، والعلم الّذي يحصل بالسماع انّما هو علم خاصّ يحصل بحصول صورة المسموع في السامعة ـ على ما بيّن في موضعه ـ ؛ إلاّ أن يقال : إنّه يجوز أن يحدث الواجب ـ جلّ شأنه ـ صورة المسموع في السامعة بدون أن يحصل الصوت أوّلا في الهواء ثمّ يتموّج إلى أن يصل إلى السامعة ـ على ما هو المتعارف في السماع ـ. والحقّ أن يقال : أنّ السماع بلا حرف وصوت حسّيّين إمّا أن يكون بالحروف والأصوات البرزخية ، فهو كما يكون في المنام ؛ أو بالحروف والاصوات العقلية ، فهو كما يكون في الالهامات العقلية ؛ فكما أنّ السماع بالأصوات والحروف الحسّية نوع خاصّ من السماع لا يمكن انكاره لاحساسه ، فكذا السماع بالحروف والأصوات البرزخية والعقلية نوع خاصّ من السماع لا يمكن انكاره لادراكه بالقوى البرزخية والقوّة العقلية ؛ وأمّا السماع بدون حرف وصوت أصلا فهو راجع إلى الاطّلاع الحضوري الخاصّ.

فان قيل : ما الدليل على أنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ سمع الكلام بلا صوت وحرف؟ ؛

قلنا : الدليل على ذلك ـ على ما ذكره بعض المشاهير ـ : إنّه لم يسمع كلّ ما سمع موسى ـ عليه‌السلام ـ كلّ من له أذن حسّاسة على تقدير كونه قريبا منه.

فان قيل : عدم سماع الغير لا يدلّ على أنّ كلامه ـ تعالى ـ مع موسى ـ عليه‌السلام ـ بدون الحرف والصوت ، لأنّه يجوز أن يتحقّق كلامه المسموع لموسى ـ عليه‌السلام ـ بالآذان أيضا بايجاده له إيّاه في الهواء المجاور لصماخه ـ أي : يكون الكلام المذكور بالحروف والأصوات الموجدة منه تعالى في الهواء المجاور لصماخه عليه‌السلام ـ ، لغرض استماعه دون غيره ؛

قلنا : على تقدير هذا التحقّق اختصّ السماع بجهة مخصوصة ، لأنّ ما قام بالهواء فله وضع حقيقي ، فلا يسمع إلاّ من جهة مخصوصة مع أنّه قد نقل أنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ سمع من جميع الجهات ، أي : سمع على نحو ستّة إلى جميع الجهات على السوية ، لا أنّه سمع

٤٤٥

في الجهات حقيقة ، لأنّ سماع موسى ـ عليه‌السلام ـ على ما هو الفرض راجع إلى تعقّل إجمالي ولا يتصوّر في المعنى كونه في الجهات.

وربما يورد عليه : بأنّه لو اوجد الألفاظ في صماخ موسى ـ عليه‌السلام ـ لامكن أن يكون نسبته إلى جميع الجهات على السوية ، لأنّه لم يجيء من جهة خاصّة بل انّما يوجد هناك ، ولو فرض استماعه من جميع الجهات حقيقة فيجوز أن يوجد الله الكلام في الهواء المحيطة بموسى ـ عليه‌السلام ـ من جميع الجهات لا من جهة واحدة حتّى يلزم خلاف النقل. على أنّه يرد على أصل الدليل بأنّه يجوز أن يحدث / ٢١٢ DB / الله ـ تعالى ـ في سمع من كان قريبا من موسى ـ عليه‌السلام ـ مانعا يمنعه عن السماع.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ ما ذكر دليلا لسماع موسى ـ عليه‌السلام ـ بلا صوت وحرف ليس تامّا ؛ ومنه يظهر عدم الوجه المنقول من الغزالي لاختصاصه ـ عليه‌السلام ـ بكونه كليما.

وقال بعض الفضلاء : الدليل على سماع موسى بلا صوت وحرف هو أنّه يمكن السماع بلا صوت وحرف بأن يحدث الواجب ـ تعالى ـ صورة المسموع في السامعة بدون أن يحصل الصوت أوّلا في الهواء ثمّ تموّج إلى أن يصل إلى الصماخ ـ على ما هو المتعارف في السماع ـ. ونظير هذا في الرؤية أنّ المتعارف في الرؤية أنّه يشترط فيها مقابلة المرئي وعدم القرب والبعد / ٢٠٩ MB / المفرطين وغير ذلك من الشرائط ، ومع ذلك ذكر أنّه يجوز أن يحصل صورة المرئي في الحسّ المشترك بدون مقابلة المرئى في الخارج وبدون تأدية البصر إلى الحسّ المشترك ـ كما هو المتعارف ـ. لكن هذا بطريق خرق العادة ، فيكون معجزة ، فلا يكون إلاّ للانبياء ـ على ما حقّقه الشيخ في إلهيات الشفا ـ.

وأنت خبير بأنّ امكان السمع بلا صوت وحرف على المنهج المذكور لا يفيد القطع بأنّ سماع موسى ـ عليه‌السلام ـ كان بهذا النحو ، غاية ما في الباب أنّه يفيد جواز السماع بدون حرف وصوت ، ولا كلام فيه ؛ انّما الكلام في كون سماع موسى ـ عليه‌السلام ـ كذلك.

ثمّ ما ذكره عن الغزالي في الوجه المنقول عنه من تشبيه السماع بلا صوت وحرف

٤٤٦

برؤية ذاته ـ سبحانه ـ في الآخرة بلا كمّ وكيف ، ففيه : أنّه لا يمكن رؤية ذاته ـ سبحانه على ما بيّن بالأدلّة القاطعة ـ. والمراد من الرؤية الّتي وردت في الظواهر محمولة على العلم اليقيني. وما ذكره من أنّ السماع بلا صوت مبني على مذهب من يجوّز تعلّق الرؤية والسماع بكلّ موجود حتّى الذات والصفات يدلّ على أنّ المراد بالسماع بلا صوت وحرف هو الاطّلاع الحضوري ، لأنّ السماع والرؤية اللذان يجوز تعلّقهما بكلّ موجود هما قسمان من الاطّلاع الحضوري ، ولذا يصحّ تعلّقهما بغير المحسوسات.

فان قيل : السماع إذا كان بمعنى حصول الاطّلاع الحضوري للمخاطب على ما يلقى إليه ، فلا يكون لخرق العادة مدخل فيه ، فلا معنى لما يقال في هذا المقام أنّ هذا بطريق خرق العادة ؛

قلت : قال بعض المشاهير في جواب ذلك : إنّ ما هو خرق العادة هاهنا أن يطّلع المخاطب على المعانى الّتي هي الملقاة من المتكلّم بدون الاطّلاع على الألفاظ الدالّة أوّلا ثمّ يطّلع على الألفاظ لا من جهة مخصوصة ، فانّ العادة جارية بأن يطّلع المخاطب على المعاني بعد الاطّلاع على الألفاظ الدالّة عليها في جهة مخصوصة. والحاصل : إنّ التكلّم في الانسان انّما يتعلّق بالالفاظ أوّلا وإن كان المقصود الأصلي منه القاء المعانى ، فيسمع الملقى إليه الكلام الالفاظ أوّلا ثمّ يحصل له الكلام الّذي بلا صوت قائم بالهواء ، وأمّا التكلّم بالنسبة إلى الله في الوحي فانّه هو القاء المعانى أوّلا ثمّ القاء الألفاظ باعتبار الوجود الكلّي المثالي أو بلسان الملك المنزل. وجاز أن يحصل احيانا بلسان النبيّ القاء الألفاظ بتبعية القاء المعاني بايجادها في الهواء. وذلك الجواز هو عقلي ، فمتعلّقات تكلّم الباري ـ تعالى ـ على عكس متعلّقات تكلّم الانسان غالبا. وأمّا الالهام الإلهي ـ وهو الّذي يسمّى الالفاظ المتعلّقة به « الحديث القدسي » ـ فهو القاء المعانى بالقلب دون القاء الألفاظ الدالّة عليها ؛ انتهى.

اقول : تحقيق الكلام في هذا المقام بحيث يكون تفصيلا لهذا الكلام ويظهر به جلية الحال ـ فيما سبق ممّا نقلناه عن الغزالي وغيره ـ هو : أنّ حصول العلم للانسان انّما يتصوّر على انحاء ثلاثة :

٤٤٧

الأوّل : أن يكون بطريق الفكر والنظر ، ويسمّى « اكتسابا » و « استبصارا » ، وهو طريق النظّار من العلماء ؛

الثاني : أن يكون بطريق التهجّم والالقاء من حيث لا يدري من دون أن يطّلع على السبب المفيد له ، ويسمّى « حدسا » و « الهاما » و « نفثا في الروع » ؛

والثالث : أن يكون بطريق التهجّم والالقاء مع الاطّلاع على السبب المفيد له ـ وهو الملك الملهم للحقائق من قبل الله ـ ، ويسمّى « وحيا » ، وهو طريق الأنبياء.

ثمّ كيفية الوحي على طريق الحكماء هي أنّ نفس النبيّ لكمال قوّته النظرية وشدّة نوريتها وقوّة حدسها شديدة التشبّه بالروح الاعظم ، فتتصل به متى أراد من غير تعمّل وتفكّر ويفيض عليه ما شاء من العلوم من غير / ٢١٣ DA / توسّط تعليم بشري ، ولذلك يمكن أن يحصل له في أقصر زمان من العلوم / ٢١٠ MA / ما لا يحصل لغيره في أزمنة متطالية وينتهي بقوّة حدسه إلى آخر المعقولات في أسرع أوان ويدرك امورا يقصر عن ادراكها سائر آحاد الناس. وقوّته المتخيّلة مع كونها في غاية القوّة في نهاية الانقياد والاطاعة لنفسه القدسية بحيث لو اتصلت بالروح الأعظم وارتسمت بصور المعقولات انجذبت المتخيلة إليها بحيث كلّ صورة انتقشت في النفس على سبيل التجرّد والكلّية انتقشت مثال وشبح منها في المتخيّلة على سبيل التمثّل والجزئية ، فتحاكي القوّة المتخيلة جميع مدركات القوّة العقلية ؛ فان كانت مدركاتها ذاتا مجرّدة حاكتها بصور اشخاص يكون أفضل افراد المحسوسات الجوهرية في غاية الحسن والصفا ونهاية البهجة والبهاء ، وإن كانت معاني مجردة وأحكاما كلّية حاكتها بصور اللفظ المفردة محفوظة في غاية الفصاحة والبلاغة وارتسام المتخيلة بالصور المذكورة على غاية القوّة والظهور يؤدّيها إلى الحسّ المشترك بحيث يصير صور الدّواب المجردة مدركة بحسّ البصر وصور الالفاظ مدركة بحسب السمع فيشاهد أنّ شخصا في غاية الحسن والبهاء يلقي كلاما في نهاية البلاغة والفصاحة. ولمّا كان افاضة الروح الأعظم ما يفيض من العلوم والأحكام باذن الله ـ سبحانه ـ فيكون الشخص المرئي ملكا كريما نازلا من الله ، والفاظه المسموعة كلاما صادرا من عنده ـ سبحانه ـ ؛ فكما أنّ في المادّيات يرى الشخص

٤٤٨

المادّي في الخارج أوّلا ثمّ يصير متخيّلا ثمّ يصير معقولا ففي المجرّدات على عكس ذلك ـ أي : يعقل ذات المجرّد أوّلا ثمّ يتخيّل ثمّ يصير مرئيا ـ. وكما أنّ المادّي بعد صيرورته معقولا لا يكون قائما بذاته ـ بل يكون قائما بالنفس العاقلة ـ فكذلك المجرّد بعد صيرورته محسوسا لا يكون قائما بذاته ـ بل يكون قائما بالحسّ المشترك ـ ، فالملك المنزل ينزل أوّلا على قلب النبيّ ـ أعني : نفسه الناطقة القدسية ـ ثمّ على خياله ثمّ يدرك بحسّه الظاهر.

وكذلك الحال في كلامه ـ سبحانه ـ ، فانّه يلقي المعاني أوّلا على قلب النبيّ ثمّ تصير متخيلة ثمّ تصير الفاظا مسموعة بالسمع الظاهر ؛ وكلام المخلوق بعكس ذلك ، فانّه يسمع الألفاظ أوّلا بالسمع الظاهر ثمّ تصير متخيّلة ثمّ تصير معانيها معلومة للنفس. وإلى ما ذكرنا يشير ما ذكره الحكماء في القوّة المتخيلة حيث قالوا : « وممّا يتعلّق بهذه القوّة مشاهدة الوحي للأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ في اليقظة ، فانّهم لقوّة انفسهم وانجذابهم إلى الملكوت وقدرتهم على قوّتي الوهم والخيال يحصل لهم في اليقظة ما يحصل لغيرهم في المنام من ادراك الأمور الغيبية ، فيدركون الشيء بحاله أو بمثاله ويتمثّل لهم شبح حامل الوحى من جبرائيل ـ عليه‌السلام ـ أو غيره من الملائكة المقرّبين ، فيشاهدونه ويتمثّل لهم ما يدركونه من المعانى ، فيسمعون منه خطابا بألفاظ مسموعة مقروءة ، وهذه نبوّة مختصّة بالقوّة المتخيّلة ؛ وهاهنا نبوات أخرى متعلقة بالقوة العقلية » ؛ انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم! : أنّ المراد من المعنى الثاني الّذي ذكره الغزالي لسماع الكلام بلا صوت وحرف ـ أعني : المعنى الّذي هو المقصود بالذات بإلقاء اللفظ الدالّ عليه هو الوحى على ما هو الظاهر ـ ففيه : أنّ الوحي حاصل لجميع الرسل ، فلا وجه لتخصيص موسى ـ عليه‌السلام ـ بكونه كليم الله لقضية الطور والشجرة ؛ اللهم إلاّ أن يقال : كلّ رسول كليم الله إلاّ أنّه اطّرد لوجه التسمية وشيوعها.

وهو كما ترى!. مع أنّ المعنى الثاني ـ على ما ذكره ـ هو مجرّد القاء المعاني في الروع من دون حرف وصوت أصلا ، وهو الّذي ذكرنا أنّه يسمّى بالالهام ؛ والوحى ـ على ما ذكره الحكماء ـ لا ينفكّ عن اللفظ والصوت. وإن كان المراد منه مجرّد ما نفهمه من ظاهره ـ أعني : القاء المعاني من دون حصول شروط الوحى فيه وكان الوحى عنده

٤٤٩

هو المعنى الأوّل ـ ، ففيه : أنّه لا وجه حينئذ لكون المعنى الثاني أعلى مرتبة من المعنى الأوّل ـ كما حكم به بعض المشاهير ـ ، لأنّه لا ريب في أنّ الوحى على مراتب ، فسماع الكلام للبشر ومجرّد القاء المعانى / ٢١٠ MB / في الروع ـ أعني : الالهام ـ يحصل لأكثر الناس ، فلا وجه لكونه خرقا للعادة.

وثانيها ـ أي : ثانى وجوه تخصيص / ٢١٣ DB / موسى عليه‌السلام بكونه كليم الله ـ : انّه ـ عليه‌السلام ـ سمع الكلام بصوت وحرف من جميع الجهات على خلاف العادة.

وأورد عليه : بانّه إذا كان سماع الصوت من جميع الجهات لم يكن الصوت متحقّقا في الأعيان ، لأنّ الصوت باعتبار الوجود العيني انّما يقوم بالهواء ، فله وضع حقيقي لا محالة ، فلا يسمع إلاّ من جهة مخصوصة. فعند التأمّل يرجع هذا الجواب إلى الجواب الأوّل ، لأنّ الصوت يكون معتبرا فيه باعتبار الوجود الظلّي المثالي ـ كما في الجواب الأوّل ـ. فحاصل الجواب الأوّل : إنّ المسموع كان بلا صوت وحرف موجودين في الأعيان ، ولذا يسمع من جميع الجهات ؛ وحاصل الجواب الثاني : إنّ المسموع انّما يسمع من جميع الجهات ، وهذا المسموع لا يصحّ أن يكون بالصوت الموجود في الأعيان ـ كما لا يخفى ـ. فهذا المسموع إن حكم عليه بانّه صوت فانّما يصحّ إن أريد بالصوت ما هو المسموع في المنام من الأصوات ، فانّه انّما هو صوت موجود بالوجود الظلّي المثالي ، فمحصّل الجوابين واحد لا تغاير إلاّ بالاعتبار والعبارة.

نعم! ، لو حمل الجواب الأوّل على أنّ المراد منه أنّ المسموع بلا صوت وحرف مطلقا ـ أي سواء اعتبر وجودهما العيني أو المثالي ـ كان مغايرا للجواب الثاني ؛ وحينئذ يكون حاصل الجواب الأوّل : أنّ المسموع انّما هو المعاني الملقاة بدون الألفاظ العينية وبدون وجودها المثالي ، وحاصل الجواب الثاني : أنّ المسموع هو الألفاظ باعتبار وجودها المثالي ؛ انتهى.

وفيه : انّه يجوز أن يتحقّق الصوت في الهواء المحيط بموسى ـ عليه‌السلام ـ ، فيكون له باعتبار الوجود العيني وضع حقيقي بالنسبة إلى جميع الجهات ، فيسمع حينئذ من جميع الجهات على خلاف العادة. وحينئذ لا يرجع هذا الجواب إلى الجواب الأوّل ،

٤٥٠

لأنّ السماع من جميع الجهات غير مأخوذ في الجواب الأوّل ومأخوذ في الجواب الثاني ؛ ولا حاجة إلى حمل الجواب الثاني على أنّ المسموع هو الألفاظ باعتبار وجودها المثالي ، إذ الظاهر أنّه اعتبر فيه الصوت الخارجي ولا ضير فيه ، ويتصوّر سماعها باعتبار وجودها العيني من جميع الجوانب ـ كما قررناه ـ.

والحاصل : إنّ الهواء محيط بالسامع من جميع الجهات ، فربما أوجد الله ـ تعالى ـ الصوت في جميع الهواء المحيط فسمعه من جميع الجهات ، وتحقّق وضع حقيقي للهواء لا ينافي ذلك. نعم! ، لو لم يكن الهواء في بعض الجهات كان كذلك ، وما سمعنا من جهة خاصّة مع أنّ الهواء محيط بنا في جميع الجهات لأنّه لا يحدث منشأ الصوت إلاّ من جهة خاصّة ، فاذا لم يختصّ المنشأ في جهة خاصة بأن أوجدها الله ـ تعالى ـ في كلّ الهواء المحيط به ـ عليه‌السلام ـ دفعة بنسبة واحدة لا يلزم الاختصاص بجهة خاصّة ؛ هذا.

واعلم! ، أنّه يمكن في حقّنا أيضا سماع الصوت من جميع الجهات بأن يفرض أنّ شخصا من الأشخاص احاط بجميع جوانبه اشخاص ينادونه دفعة ، فانّه يسمع من جميع الجوانب في آن واحد ؛ فكما يجوز ذلك في حقّنا يجوز ذلك في حقّ نبيّ الله ـ عليه‌السلام ـ بطريق الأولى. غاية ما في الباب أن يكون موسى ـ عليه‌السلام ـ سمع من جميع الجهات كلام الله ـ تعالى ـ ونحن نسمع كلام المخلوق كذلك.

وثالثها : أنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ سمع من جهة لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا ؛ وحاصله : أنّه ـ تعالى ـ اكرم موسى ـ عليه‌السلام ـ فافهمه كلامه بصوت تولّى بخلقه من غير كسب لأحد من خلقه. وعلى هذا الوجه يكون المسموع هو الألفاظ الموجودة في الأعيان بايجاده ـ تعالى ـ بدون كسب المخلوق.

وأورد عليه : أمّا أوّلا بانّ هذا ليس موافقا للنقل المذكور ـ أي : ما نقل من أنّه عليه‌السلام سمع من جميع الجهات ـ ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّه يلزم على هذا الجواب أن يسمع من هو قريب من الشجرة المشهورة أو الطور ، وليس كذلك ؛ لأنّ الوحى على الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لا يسمعه غيرهم من / ٢١١ MA / الحاضرين. وأيضا ملقي الكلام إلى جميع الأنبياء هو الله

٤٥١

ـ سبحانه ـ فما وجه تخصيص موسى ـ عليه‌السلام ـ بكونه كليم الله من بينهم؟.

ودفع ذلك : بأنّ القائه ـ سبحانه ـ الكلام إلى جميع الأنبياء بتوسّط الملائكة من جبرئيل أو غيره ، والالقاء بدون / ٢١٤ DA / توسّط الملك انّما هو الالقاء الّذي حصل لموسى ـ عليه‌السلام ـ في الطور.

ويمكن دفع الايراد الثاني بأنّه يجوز أن يخلق الله ـ تعالى ـ الكلام في هواء خاصّ له خصوصية وضع بالنسبة إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ دون غيره ؛

وبأنّه يجوز أن يوجد الله ـ تعالى ـ مانعا في سمع من هو قريب منه ؛

وبأنّه ربما أوجد الله ـ تعالى ـ الصوت لموسى ـ عليه‌السلام ـ في الهواء الّذي في صماخه ، فلا يلزم سماع غيره.

ثمّ الايراد الثاني يرد على الجواب الثاني أيضا لو اعتبر فيه الوجود الخارجي للصوت والحرف ، ودفعه بمثل ما ذكر في دفعه من الجواب الثالث كأن يقال : إنّه ـ تعالى ـ أوجد الصوت في الهواء المجاور لصماخه ، وكونه من جميع الجهات باعتبار أنّ نسبته إلى جميع الجهات على السواء ؛ هذا.

والصحيح في الجواب أن يجمع بين الوجهين الأخيرين بأن يقال : إنّه ـ عليه‌السلام ـ سمع الكلام بصوت وحرف خارجيين من جميع الجهات وكان ملقي الكلام هو الله ـ سبحانه ـ من غير كسب لأحد من خلقه ، فنحن وإن سمعنا كلام الله ـ سبحانه ـ لكن لا نسمعه من الله ـ تعالى ـ بخلاف ما سمعه موسى ـ عليه‌السلام ـ ، فانّه يسمع من الله ـ تعالى ، أي : يكون ملقي الكلام الّذي سمعه موسى عليه‌السلام هو الله تعالى ـ ، فهذان الوجهان ـ أعني : السماع من جميع الجهات وكون الملقى هو الله تعالى ـ هما الباعثان لاختصاص موسى بكونه كليم الله ـ تعالى ـ.

وربما يجمع في الجواب بين الوجوه الثلاثة ، وهو أيضا لا يخلوا عن قوّة ؛ بأن يقال : إنّه ـ عليه‌السلام ـ سمع الكلام من جميع الجهات لا بألفاظ موجودة في الخارج بل بألفاظ مثالية ، وكان ملقيها هو الله ـ سبحانه ـ من دون توسّط أحد من خلقه ، وتحقّقه

باعتبار الوجود الخارجي ـ الّذي هو التحقق في الهواء ـ ليس شرطا للوحى قبل

٤٥٢

ظهوره في لسان الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وايجاده ـ تعالى ـ إيّاها فيه. والحاصل : انّ ايجاد الله ـ تعالى ـ الالفاظ في لسان النبيّ ـ عليه‌السلام ـ ليس شرطا لوجود الوحي ، بل شرطا لظهور الوحى ؛ وذلك الظهور بالنسبة إلى الغير لا بالنسبة إلى الّذي يوحي إليه كموسى ـ عليه‌السلام ـ. نعم! ؛ يمكن أن يقال بجواز مقارنة تحقّق الألفاظ للوحي بمجرد الاحتمال العقلي.

وإذ ثبت أنّ القرآن وكلام الله اسمان لهذا المؤلّف المخصوص لا من حيث تعيين المحلّ ـ ولذلك يكون واحدا بالنوع ـ فحينئذ ما يقال : أنّ المكتوب في كلّ مصحف والمقروء بكلّ لسان كلام الله فباعتبار الوحدة النوعية ؛ وما يقال : إنّه حكاية عن كلام الله ـ تعالى ـ ومماثل له وانّما الكلام هو المخترع في لسان الملك فباعتبار الوحدة الشخصية.

ثمّ الاختراع في لسان الملك إمّا أن يكون في عالم الملك ، أو عالم المثال ، أو عالم الملكوت ـ أي : عالم التجرد الصرف ـ ؛ وعلى الاخيرين يكون استعمال اللسان على سبيل التشبيه والمجاز. وربما قيل : تحقّق اللسان على الحقيقة في عالم المثال ، وهو اللسان اللطيف المثالي ـ كما في المنام ـ. وجميع الأقسام الثلاثة واقع على ظاهر كلام أهل الشريعة.

وأمّا الحكماء وبعض المتكلّمين فهم القائلون بالقسمين الأخيرين ـ أعني : الاختراع في عالم المثال والاختراع في عالم الملكوت ـ ولا يقولون بوقوع اختراع كلام الله في عالم الملك وإن كان المقروء بالألسن بحسب وجوده في عالم الملك بعد اختراعه من عند الله ـ تعالى ـ في عالمي التجرد والمثال كلام الله ـ تعالى ـ عندهم ، فالكلام المنزل أوّلا لا يكون بالصوت القائم بالهواء ضرورة أنّ الانزال في الملكوت مقدم على الانزال في عالم المثال المقدّم على الانزال الملكي.

ثمّ وجود الألفاظ في عالم الملكوت انّما هو وجود ظلّي عقلي كما أنّ وجودها في عالم المثال وجود ظلّي مثالي. والوجود / ٢١١ MB / الظلّي هو الوجود الّذي يسمّى الاشراقيون ما في عالم الملك مثالا بالنسبة إليه ، فانّهم يسمّون الموجودات الخارجية في

٤٥٣

عالم الملك « مثالا » بالنسبة إلى تلك الموجودات باعتبار وجودها الظلّي ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير : إنّ الكلام اللفظي له أربعة اعتبارات بكلّ اعتبار منها يحكم عليه بانّ له نحوا من الوجود ـ وإن كان بالمجاز في بعض الاعتبارات ـ :

أحدها : اعتبار أنّه قائم بالهواء ، وبهذا الاعتبار موجود في الأعيان / ٢١٤ DB / وليس لاجزائه قرار في الوجود ؛

وثانيها : اعتبار تحقّقها في العالم اللطيف الّذي يسمّى بعالم المثال ، ويكون له في هذا العالم حدوث بالتدريج وبقاء بجميع اجزائه. وأمّا إنّه يمكن أن يكون له حدوث في هذا العالم دفعة ـ كحدوث النقش الحادث في قطعة الشمعة من وضع الخاتم المنقوش عليها ـ فهو محتمل عند العقل ، وادّعى البعض وقوعه ؛

وثالثها : اعتبار اندراجه في العلم في عالم المجرّدات ، وتحقّقه في هذا العالم دفعي حدوثا مع البقاء ؛

ورابعها : اعتبار اندراجه في العلم السابق على الممكنات ـ أعني : العلم الإجمالي الّذي هو عين ذات الواجب ـ. وبهذا الاعتبار لم يحكم عليه بالحدوث ، ولا يكون مخلوقا ، ويكون سائر الممكنات شريكا له في ذلك الاندراج. فجميع ما يندرج في هذا العلم الاجمالي الأزلي الّذي هو عين الذات عند المحقّقين تكون متعلّقات لهذا العالم متّصفة بالمعلومية بهذا العلم. ومن جملة متعلّقات هذا العلم الكلام اللفظي العيني ، فيكون معلوما بالعلم الإجمالي كسائر الأشياء. وله صفة أخرى غير المعلومية وهي كونه متعلّق التكلّم الأزلي الّذي هو عين الذات ومغاير بالاعتبار للعلم والقدرة وغيرهما من سائر الصفات الحقيقية الّتي هي عين الذات. ولمّا كان عند المحققين ما وجد في الذهن موافقا لما يوجد في الخارج في الحقيقة كان الألفاظ الموجودة في الخارج موافقة الماهية للالفاظ الموجودة في الاذهان والمجرّدات ، ولذلك كان للكلام اللفظى فردان كلّ منهما بحيث لو استعمل فيه الكلام كان حقيقة.

وهذا هو المنشأ لما اختاره الشهرستاني في تصحيح كلام الأشعري من أنّ الكلام النفسي عبارة عن الألفاظ الدالّة باعتبار وجودها في الذهن لكن لا يصحّ الحكم بانّه

٤٥٤

قديم إلاّ باعتبار اندراجه في العلم القديم الّذي هو عين ذات الواجب ـ تعالى ـ ، فيكون بالحقيقة العلم الّذي هو عين ذاته ـ تعالى ـ قديما. ولا نزاع للمعتزلة في ذلك ، بل نزاعهم انّما هو في كون الكلام الّذي هو متعلّق التكلّم قديما باعتبار ذاته ، لا باعتبار العلم الإجمالي الّذي هو عين ذات الواجب ؛ انتهى.

أقول : انّك قد عرفت فيما سبق اطلاق القول بالعلم الإجمالي ، فيكون الاطلاق الرابع للكلام اللفظى عندنا باعتبار اندراجه في العلم التفصيلي الّذي هو عين ذاته بالمعنى المذكور.

ثمّ العلم بالكلام اللفظى ـ أي : الألفاظ الدالّة على معانيها المخصوصة ـ يتناول العلم بنفس الالفاظ الدالّة والعلم بمعانيها ، فما اختاره الشهرستاني في تصحيح كلام الأشعري من أنّ الكلام النفسي عبارة عن الألفاظ الدالّة باعتبار وجودها في الذهن ليس شيئا وراء العلم بنفس الألفاظ ، إذ ليس الألفاظ الدالّة باعتبار وجودها في الذهن إلاّ العلم بها.

ثمّ من حيث انّها معلومة للواجب ـ سبحانه ـ يكون العلم بها قديما ، ومن حيث انّها معلومة لغيره ـ تعالى ـ يكون العلم بها غير قديم ، وهو ما قيل في المشهور من : أنّ الكلام النفسي انّما هو معاني الألفاظ الموجودة في الاذهان من حيث هي حاكية عن الأمور الخارجة ـ وذلك في الأخبار ـ ، ومن حيث هي مقتضية للطلب ـ وذلك في الأمر والنهي ـ بأن يكون معاني الألفاظ بحيث يمكن أن يفهم من الفاظها الدالّة عليها طلب الفعل أو الترك أو من حيث هي مشعرة للتغيير ونحوه ليس شيئا وراء العلم بمعاني الالفاظ ، إذ معاني الألفاظ الموجودة في الاذهان ليس إلاّ العلم بها ؛ فهذا العلم قديم إن كان من الواجب ـ تعالى ـ وحادث إن كان من غيره.

فان قيل : كلّ واحد من الألفاظ ومعانيها الموجودة في الاذهان إذا اخذت من حيث هي يكون غير العلم بها وإن لم ينفكّ بوصف الموجودية في الاذهان من العلم بها ، إلاّ أنّ أحدها / ٢١٢ MA / من حيث هي ممكن ؛ فالكلام النفسي على توجيه الشهرستانى هي الالفاظ من حيث هي ، وعلى توجيه المشهور هي المعانى من حيث هي. وعلى هذا

٤٥٥

فيكون الكلام النفسي ـ أعني : نفس الألفاظ أو المعانى ـ غير العلم بها ، ولذا قالوا لا يصحّ / ٢١٥ DA / الحكم على الكلام النفسي بهذين التوجيهين بانّه قديم باعتبار ذاته. نعم! ، يصحّ الحكم على العلم به ـ أي : العلم المقدّم الّذي هو غير زائد على ذات الواجب تعالى ـ بانّه قديم.

قلنا : انّهم صرّحوا بأنّ الكلام النفسي هو الألفاظ أو المعاني الموجودة في الأذهان ، فقيد الموجودية في الاذهان معتبر في تعريف الكلام النفسي عندهم. ولا ريب في أنّ بعد اعتبار هذا القيد لا يكون الكلام النفسي إلاّ العلم بالالفاظ أو معانيها ، كيف ولو لم يؤخذ هذا القيد داخلا في التعريف لم يبق معنى محصّلا للكلام النفسي؟! ، إذ القول بانّ الكلام النفسي هو الألفاظ أو المعانى من دون وجودها في الذهن غير معقول. ومع اعتبار هذا القيد وإن تحقّق معنى معقول إلاّ أنّه ليس شيئا سوى العلم ؛ والمعتزلة أيضا قائلون به مع أنّ النزاع بينهم وبين الأشاعرة مشهور وتتبّع كلام الأشاعرة يعطي الجزم بانّ الكلام النفسي عندهم غير العلم ، بل قد صرّحوا بذلك ـ كما نقلناه سابقا ـ. وقد عرفت أيضا أنّ الكلام النفسي عندهم غير الكلام الحقيقي الّذي هو الصفة الازلية وغير زائد على ذات الواجب ـ تعالى ـ ، لأنّ التكلّم الحقيقي كما عرفت ـ عبارة عن قوّة القاء الكلام اللفظى وايجاده ، فيكون فردا من القدرة.

ومعلوم أنّ الأشاعرة لا يجعلون الكلام النفسي فردا من القدرة وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير حيث قال : وظنّي إنّ من حكم بانّ الكلام النفسي قديم انّما أراد به معنى التكلّم الحقيقى الّذي هو أمر مغاير للعلم والقدرة وغير زائد على الذات ، فانّ ذاته ـ تعالى ـ يقتضي القاء الكلام إلى الغير ، فالمتكلّم الحقيقى هو عبارة عن ذاته ـ تعالى ـ من حيث أنّه يقتضي القاء الكلام اللفظي أو المعنوي إلى من يصحّ أن يكون مخاطبا ، وهذا معنى غير العلم والقدرة وغيرهما من باقي الصفات الحقيقية بالاعتبار ؛ انتهى.

ووجه الضعف أمّا أوّلا : فلما عرفت من أنّ كلام الأشعري ـ على ما نقل عنهم ـ لا يمكن حمله على ذلك وإن كان ذلك في نفسه صحيحا ؛ كيف ولو كان مراد الأشاعرة ذلك لم يكن لأحد ايراد عليهم وارتفع النزاع بين الفريقين! ؛

٤٥٦

وأمّا ثانيا : فلما اشير إليه من أنّ التكلّم الحقيقي فرد من القدرة ، فالحكم على الاطلاق بانّه غير القدرة محلّ نظر ؛ هذا.

وقيل : إنّ من قال إنّ كلام الله ـ سبحانه ـ ليس قائما بلسان أو قلب ولا حالاّ في مصحف أو لوح فيراد به الكلام الحقيقي الّذي هو الصفة الازلية ، ومنعوا من القول بحلول كلامه ـ تعالى ـ في لسان أو قلب أو مصحف وإن كان المراد هو اللفظي رعاية للتأديب واحترازا عن ذهاب الوهم إلى الحقيقي الأزلي ؛ على أنّ اطلاق اسم المدلول على الدالّ وكذا اجراء الصفات الدالّ على المدلول شائع ذائع ، مثل : سمعت هذا المعنى من فلان وقرأته في بعض الكتب وكتبته بيدي ، فاطلاق اسم كلّ من الكلام الحقيقي واللفظى على الآخر واجراء صفاته على الآخر لا بأس به ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّ القائل بهذا القول إن كان هو الأشعري فلا ريب في أنّ مراده من الكلام الّذي ليس قائما بلسان أو قلب هو الكلام النفسي ، لا الحقيقى ـ على ما يظهر من تتبع كلماتهم ـ.

وقال بعض المشاهير بعد نقل هذا الكلام قد عرفت أنّ الكلام : الحقيقى الأزلي انّما هو بمعنى التكلّم الحقيقي الّذي هو عبارة عن كون الواجب بحيث يقتضي القاء الكلام اللفظى أو معناه إلى المخاطب ، أو بمعنى العلم بما يتكلّم به ـ أي : العلم الاجمالى الّذي هو غير زائد على ذاته تعالى ـ ، فحينئذ يكون معنى الكلام الحقيقى الازلي : الكلام الحقيقى الّذي هو ازلى العلم ، وحينئذ يكون وصف الكلام بالازلى وصفا بحال متعلّقه ـ وهو العلم به ـ. ولا يخفى عليك أنّ المعنى الأوّل ـ أي : / ٢١٢ MB / التكلّم الحقيقى الّذي يكون ازليا حقيقية ـ كاف في الاعتذار المذكور ، فلا حاجة فيه إلى اعتبار المعنى الثاني ـ أعني : كونه بمعنى العلم بما يتكلّم به ـ ، لأنّ فيه ارتكاب تمحّل في الوصف بالازلية. لكن قوله : « على أنّ اطلاق اسم المدلول ـ ... إلى آخره ـ » لا يلائم إلاّ المعنى الثاني ، لأنّ في المعنى الأوّل الّذي هو التكلّم الحقيقي ليس دالاّ ولا مدلولا إلاّ بالتأويل ؛ انتهى.

وقد عرفت أنّ ارجاع كلام الأشاعرة / ٢١٥ DB / إلى التكلّم الحقيقى أو العلم بالكلام اللفظى تعسّف كلماتهم تأبى عن الحمل على ذلك.

٤٥٧

وحديث العلم الإجمالي قد عرفت ما فيه مرارا.

الثالث من أدلّة المعتزلة على أنّ كلامه ـ سبحانه ـ ليس أزليا : إنّ كلامه ـ تعالى ـ لو كان ازليا لزم الكذب في إخباره ، لأنّ الإخبار بطريق المضيّ كثير في كلام الله ـ تعالى ـ ، مثل : ( إِنَّا أُرْسِلْنا ) و( قالَ مُوسى ) و( فَعَصى فِرْعَوْنُ ) إلى غير ذلك ؛ وصدقه يقتضي سبق وقوع النسبة ولا يتصوّر السبق على الأزلي ، فتعيّن الكذب ، وهو محال على الله ـ تعالى ـ.

وغير خفيّ بأنّ هذا الدليل يثبت الكلام اللفظي وحدوثه ولا ينافي ثبوت الكلام بمعنى نفس الالقاء ، لأنّه أيضا حادث ؛ ولا ثبوت الكلام الحقيقي الّذي هو عين الذات ، لأنّه ليس مدلولا للكلام اللفظي حتّى يلزم من حدوثه حدوثه.

وبذلك يظهر أنّ هذا الدليل يدلّ على بطلان الكلام النفسي القديم الّذي قال به الأشاعرة ، لانّهم إن حملوا الاخبار المذكورة الّتي وقعت بطريق المضيّ في كلامه ـ سبحانه ـ على الكلام النفسي لزم حدوثه ـ لما ذكر ؛ وإن حملوها على الكلام اللفظي بأن يقولوا إنّ المتصف بالمضي وغيره انّما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم أو قالوا إنّ كلامه ـ تعالى ـ في الأزل لا يتصف بشيء من الماضي والحال والاستقبال ـ لعدم الزمان ـ وانّما يتّصف بها فيما لا يزال بحسب التعلّقات وحدوث الازمنة والأوقات ؛ وبالجملة اتصافه بتلك الاوصاف ليس إلاّ باعتبار تعلّقه بالكلام اللفظي فيما لا يزال ؛ ففيه : إنّ تصحيح هذا الأمر ـ أعني : براءة كلامه تعالى في الأزل من الاوصاف المذكورة وعدم اتصاف المدلول بهما ـ غير جائز ، لوجوب التطابق بينهما.

وقال بعض المشاهير من جانب الأشاعرة : إنّ ما قالوا من أنّ كلامه الأزلي لا يتّصف بالمضيّ واخويه مرادهم منه كلامه بمعنى التكلّم الحقيقى ـ أعني : القدرة على ايجاد الكلام اللفظي ـ أو العلم بمدلول الكلام اللفظي ، وهما ليسا مدلولين للكلام اللفظي ، والمتصف بالمضيّ ومقابليه هو المعنى الّذي هو مدلول اللفظ بالحقيقة ، وبتبعية اتصافه باحدها يتّصف اللفظ الحادث به ، فيكون مدلول اللفظ الحادث حادثا لا محالة. وبالجملة لا شبهة في أنّه لا معنى للمعنى القديم غير التكلّم الحقيقي الّذي هو عين الذات أو

٤٥٨

العلم الإجمالي لمدلول الألفاظ وبالالفاظ ، فوجب حمل كلامهم على أحدهما ، وهما ليسا مدلولين للكلام اللفظي. وما قالوا : إنّ ازلية الأزلي مدلول الكلام اللفظي انّما هو الازلى التأويلي ـ أي : ازلي القدرة أو العلم ـ ، فالمدلول الّذي هو أزلي ليس ازليته إلاّ باعتبار القدرة أو العلم الّذي هو غير زائد على ذاته ، فوصف المدلول بالازلي انّما هو وصف بحال المتعلّق ـ كما مرّ غير مرّة ـ.

ثمّ الظاهر أنّ مرادهم من مدلول الكلام اللفظي الّذي يكون العلم أو القدرة به أزليا إنّما هو المدلول الالتزامى الّذي هو الكلام بمعنى التكلّم ، وحينئذ فيكون الكلام الأزلي الواقع في كلامهم بمعنى التكلّم الأزلي الّذي هو غير زائد على ذاته ـ تعالى ـ ، وحينئذ فلا اشكال ؛ انتهى.

وحاصل ما ذكره : إنّ المراد بالكلام الأزلي هو الكلام بمعنى التكلّم الحقيقي حقيقة أو العلم الإجمالي بمدلول الكلام اللفظي ، وهما ليسا مدلولين للكلام اللفظي بالحقيقة كما أنّ المدلول الحقيقي للكلام اللفظي ليس ازليا بالحقيقة لأنّ مدلوله بالحقيقة انّما هو المعقول المفهوم منه. و/ ٢١٣ MA / هذا المعنى المعقول منه هو الموصوف بالمضى وغيره أوّلا وبالذات ، واتصاف اللفظ بهما انّما هو بتبعية اتصافه بهما ، فيكون مدلول اللفظ الّذي هو حادث حادثا لا محالة ثمّ يوصف هذا المدلول بالازلية تجوزا ، كما أنّ كلّ واحد من التكلّم الحقيقي والعلم بوصف المدلولية كذلك ؛

بيان الأوّل : إنّ المدلول الحقيقي يوصف بالأزلية باعتبار القدرة أو العلم الّذي هو غير زائد على ذاته ، فيقال : هذا المدلول الّذي هو الكلام النفسي حقيقة ازلية القدرة المتعلّقة به أو ازلي العلم / ٢١٦ DA / المتعلّق به ، فوصف المدلول بالازلي انّما هو وصف بحال متعلّقه ؛

وبيان الثاني : إنّه قد يقال : إنّ المتكلّم الحقيقي مدلول الكلام اللفظي ، وغرضهم من مدلوليته بالنسبة إليه أنّه فائض عنه وناش منه ووجود المعلول دال على وجود العلّة ، فهذه الدلالة ليست من قبيل الدلالة اللفظية الوضعية ، بل من قبيل الدلالة العقلية. وقد يقال : العلم المتعلّق بمدلول الكلام اللفظي مدلول له. وغرضهم من مدلوليته أنّ صدور

٤٥٩

الكلام اللفظي على هذا التأليف العجيب والنظم الغريب يدلّ على سبق العلم الكمالي وثبوته له ـ تعالى ـ ، فيكون هو أيضا مدلولا له بالدلالة العقلية لا الوضعية. وبالجملة لمّا لم يكن للقول بالمعنى القديم الزائد على ذاته معنى أصلا ـ للزوم تعدّد الواجب ـ وجب حمل المعنى القديم على العلم الإجمالي المتعلّق بمدلول الألفاظ وبالالفاظ ، فحينئذ يجب حمل المدلول الواقع في كلماتهم ـ من أنّ مدلول الألفاظ قديم ازلى غير قائم بلسان وغير حالّ في محلّ ـ على المدلول الالتزامي ، وهو التكلّم ، فانّ الكلام اللفظي يدلّ على وجوده ، فيكون منشئا لما هو مدلول اللفظ بالمطابقة ، فالدّلالة عليه بطريق الالتزام. وهو ازلى من غير ريب ، لأنّه عين ذاته المقدّسة ، وهو التكلّم الحقيقى أو العلم الإجمالي المتعلّق بالكلام اللفظي ـ كما مرّ ـ.

وأنت خبير بانّ كون التكلّم الحقيقى ـ أعني : القدرة على الكلام اللفظى ـ أو العلم به ازليا وان كان صحيحا في نفسه إلاّ أنّ حمل كلام الأشاعرة على أحدهما تعسّف بارد ؛ فانّهم مصرّحون بانّ الكلام النفسي الّذي هو مدلول الكلام اللفظى قديم ، فيرد عليهم : انّ مدلول الحادث حادث. وما ذكره من التأويلات ـ مع كونها تأويلات بعيدة ـ لا يناسب الاطلاقات اللغوية والعرفية ، وتأبى كلام الأشاعرة عنها.

الرابع : انّ كلامه يشتمل على أمر ونهي واخبار واستخبار ونداء وغير ذلك ، فلو كان ازليا لزم الأمر بلا مأمور والنهى بلا منهي والاخبار بلا سامع والنداء والاستخبار بلا مخاطب ، وكلّ ذلك سفه وعبث لا يجوز أن ينسب إلى الحكيم!.

وأجاب عنه عبد الله بن سعيد الأشعري : بانّ كلامه ـ تعالى ـ في الأزل ليس بأمر ولا نهي ولا خبر وغير ذلك ، وانّما تصير أحد الاقسام فيما لا يزال.

وفيه : إنّ وجود الجنس من غير أن يكون أحد الأنواع غير معقول ، وإنّ التغيير على القديم محال.

وما قيل : انّ المراد أنّه امر واحد يعرض له التنوّع بحسب التعلّقات الحادثة من غير أن يتغيّر هو في نفسه ؛ لا يخفى ضعفه.

وقال بعض المشاهير : إنّ جواب عبد الله بن سعيد صريح في أنّ المراد بالكلام

٤٦٠