جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

من القدح فيها البتة.

ثمّ إنّه لا بدّ هاهنا من تحقيق ما هو الحقّ في كلامه ـ سبحانه ـ ، ثمّ نشير إلى ما توجّه من الصحّة والفساد فيما ذكره الطوائف.

فنقول الكلام يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : القدرة على احداث الأصوات والحروف في جسم من الأجسام وقوّة القائها إلى الغير ؛

وثانيها : نفس هذا الاحداث والإلقاء ، وهو المعنى المصدري. والغالب اختصاصهما باسم التكلّم دون الكلام سيّما المعنى الأوّل ؛

وثالثها : ما به التكلّم ـ أي : نفس الأصوات والحروف الّتي يحصل التكلّم بها ـ ، فانّ مثل تكلّمت كلاما بكلام دقيق وقع فيه « كلاما » مفعولا مطلقا لقولنا : تكلّمت ، فيكون بمعنى تكلّما. وقولنا : « بكلام دقيق » بمعنى ما به التكلّم ـ أي : الحروف والاصوات ـ ، فالمعنى : تكلّمت تكلّما بمنتظم دقيق.

ثمّ لا ريب في أنّ تكلّمه ـ سبحانه ـ بالمعنى الأوّل هو بعينه قدرته ـ سبحانه ـ على خلق الاصوات والحروف في بعض الاجسام ، فكونه متكلّما بهذا المعنى هو كونه قادرا على احداث الكلام في جسم من الأجسام كما أنّ إطلاق المتكلّم بهذا المعنى علينا باعتبار قوّتنا على احداث الكلام في بعض الأجسام الّتي لنا قدرة على تحريكها ـ كالهواء وغيره ـ.

ثمّ إنّ هذه القوّة هي ما يحصل به التكلّم بالمعنى الثاني ، وهي فينا ملكة قائمة بذواتنا نتمكّن بها من القاء ما في روعنا إلى الغير ، وفي الواجب ـ سبحانه ـ عين ذاته بمعنى أنّ ذاته بذاته هو منشأ احداث الأصوات والحروف ومناط ايجادها من دون افتقار إلى صفة زائدة وملكة قائمة ، فيخلقها في أيّ جسم يريد لافادة ما في قضائه السابق على من يشاء من عباده. وعلى هذا يكون التكلّم بهذا المعنى عين ذاته ـ سبحانه ـ بمعنى أنّ ذاته بذاته هو منشأ الإلقاء الفعلي كما أنّ التكلّم بهذا المعنى فينا عين الملكة القائمة المصحّحة للالقاء الفعلي ـ أي : احداث الحروف والاصوات في جسم

٤٢١

من الأجسام لإعلام / ٢٠٦ DB / الغير ـ. وبما ذكر ظهر أنّ المتكلّم من قام به التكلّم ، وهو أحد المعنيين الأوّلين ، لا من قام به الكلام ـ أي : ما به التكلّم ، أعني : الحروف والاصوات ـ.

ثمّ لا ريب في أنّ التكلّم بالمعنى الأوّل ثابت للواجب بالعقل لدلالة أدلّة عموم القدرة عليه ، وهو قديم ؛ وأمّا التكلّم بالمعنى الثاني فهو حادث ، وثبوته بالشرع دون العقل ، إذ لا طريق للعقل إلى اثبات تحقّق الإلقاء الفعلي عنه ـ سبحانه ـ وانّما عرفنا من الشريعة بالتواتر القطعي النفسي المؤكّد بالمعجزات أنّ الواجب انزل ما انزل من الكتب إلى انبيائه الكرام وأوجد الكلام فيما اوجد لإعلام بعض اصفيائه العظام وبعد ثبوت التكلّم بالمعنى الثاني يثبت الكلام بالمعنى الثالث أيضا ، لأنّ التكلّم الفعلي لا ينفكّ عمّا به التكلّم من الاصوات والحروف ، فهو أيضا حادث.

وبما ذكر ظهر أنّ قول العلاّمة الطوسي في التجريد : « وعمومية قدرته تدلّ على ثبوت الكلام » (١) اشارة إلى اثبات الكلام بالمعنى الأوّل ، يعنى : أنّ قدرته ـ تعالى ـ شاملة لجميع الممكنات ومن جملة الممكنات القاء الكلام بمعنى الحروف والاصوات الدالّ على المعنى المراد إلى الغير لا علامه ، فعموم قدرته يدلّ على الكلام بمعنى قوّة الإلقاء ؛ فالدليل العقلي يدلّ على قوّة الإلقاء. / ٢٠٤ MA / فالثابت من كلام المحقّق انّما هو هذا المعنى فقط. وامّا التكلّم بمعنى نفس الإلقاء المستلزم لما به التكلّم فانّما ثبت من الشرع ، فبالعقل والشرع يثبت الكلام بمعانيه الثلاثة ـ أعني : قوّة الإلقاء الثابت بالعقل ، ونفس الإلقاء ، وما به التكلّم اللازم لنفس الإلقاء ـ ، وهما ثابتان بالشرع.

وإذا عرفت ذلك نقول : على المعنى الأوّل انّما يصحّ القياس الأوّل دون الثاني ، لكذب صغراه ، فانّ التكلّم الحقيقي الّذي هو قدرة الإلقاء نفس ذات الواجب ـ كما أشير إليه ـ فيكون قديما بلا تعدّد القدماء. وعلى المعنى الثاني لا يصحّ شيء من القياسين ؛ أمّا الثاني فلكذب صغراه ؛ وأمّا الأوّل فلمنع كبراه ، فانّما يمتنع كون كلّ صفة له قديمة ، فانّ المسلّم إنّ الصفات الحقيقية له ـ تعالى ـ قديمة ، وأمّا صفاته الاضافية فليست قديمة ، و

__________________

(١) راجع : المسألة السادسة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢٢٤.

٤٢٢

الكلام بالمعنى الثاني انّما هو من الصفات الاضافية. وعلى المعنى الثالث انّما يصحّ القياس الثاني لا القياس الأوّل ، لكذب الصغرى.

وعلى هذا فلا حاجة إلى القدح في أحد القياسين ، لامكان أن يحمل الكلام في القياس الأوّل على المعنى الأوّل وفي القياس الثاني على المعنى الأخرى. فالحقّ إنّ التدافع بين ذينك القياسين انّما نشأ من فهم عدم اشتراك اللفظ وجعل الكلام المذكور فيهما بمعنى واحد ، وتوهّم جريان الحكم بالمعنى الآخر فيه مع كون اللفظ مشتركا بين معان ومخالفة حكم كلّ منهما للآخر.

وإذ ظهر ما هو الحقّ في كلامه ـ تعالى ـ فلنشير إلى ما يرد على المذاهب المذكورة ؛ فنقول : أمّا مذهب الحنابلة ففساده أظهر من أن يخفى على أحد! ، فإنّ القول بأنّ كلامه ـ تعالى ـ منحصر بالحروف والاصوات وهي قائمة بذاته وقديمة والقول بأنّ الجلد والغلاف قديمان ممّا يشمئزّ عنه من له ادنى مسكة! ، ولعمري كفى شاهدا في حماقتهم ما نقل عنهم : إنّ الجسم الّذي كتب فيه القرآن صار قديما بعد ما كان حادثا!.

ولعدم صدور امثال هذه الهفوات عن انسان أوّل جماعة كلامهم ؛

فقيل : لعلّهم لم يعرفوا معنى القدم والحدوث وحسبوا أنّ نسبة الحدوث إلى كلامه ـ تعالى ـ ولو بمعنى ما به التكلّم إهانة ؛

وقيل : لعلّ امتناعهم من إطلاق الحادث على المصحف وتوابعه لأجل أن لا يتوهّم حدوث الكلام بمعنى التكلّم القائم بذاته ؛

وقيل : لمّا كلّفوا بالقول بأنّ كلامه ـ تعالى ـ مخلوق ولفظ المخلوق مشترك بين الحادث والمفترى لم يجوّزوا إطلاق هذا اللفظ عليه لئلاّ يذهب من لا وقوف له على أنّ مرادهم من المحدث إلى انّهم اعترفوا بكون هذا المؤلّف مفترى ، وقالوا : انّه غير مخلوق ـ أي : غير مفترى ـ حتّى الجلد والغلاف فنسبوا إليهم انّهم قالوا بقدمه. ثمّ انهم التزموا عدم إطلاق المحدث أيضا عليه لانّهم لو اطلقوا عليه لفظ المحدث والحادث الّذي هو أحد معنيى المخلوق لاستلزم جواز إطلاق المخلوق أيضا ، وهو توهم كون القرآن مفترى.

وأنت تعلم بأنّ هذا التأويل يجعل حماقتهم أكثر! ، مع أنّه لا معنى لكون الجلد و

٤٢٣

الغلاف غير مفترى!.

وقيل : إنّ مرادهم بقدم الكلام قدم علم الباري ـ تعالى ـ ، ولهذا قالوا بقدم الجلد / ٢٠٧ DA / والغلاف ، فانّ العلم بهما أيضا قديم.

وغير خفيّ بأنّ ما ذكروه لا يلائم شيئا من هذه التأويلات ؛ بل الأولى الاعراض عن التأويل ، فانّه جار في اكثر المذاهب الباطلة والتعرّض له انّما نشأ من التعصّب المبرّى عنه أهل الحقّ.

وامّا مذهب الكرامية ففيه : أنّه لا معنى لقيام الاصوات والحروف بذاته ـ تعالى ـ ، سواء قالوا بانحصار كلامه فيها ـ على ما في شرح المواقف ـ أو قالوا بانّ قوله وكلامه هو قدرته على التكلّم ـ كما في شرح المقاصد ـ. نعم! ، الفساد في الأوّل أشدّ ، لانّه مع لزوم قيام المنتظم بذاته يلزم جعل كلامه منحصرا به ـ أي : بما به التكلّم ـ مع أنّ التكلّم الحقيقى هو القدرة على التكلّم والاضافي هو نفس احداث الحروف والاصوات.

وامّا مذهب المعتزلة فالظاهر ممّا نقلنا عنهم انّهم قالوا بالكلام بالمعنى الثاني والثالث وبحدوثهما ؛ وأمّا قولهم بالمعنى الثالث فظاهر ممّا نقلنا عنهم ؛ وأمّا قولهم بالمعنى الثاني فلأنّهم قالوا ـ كما نقلنا عنهم ـ : إنّ معنى كونه ـ تعالى ـ متكلّما : أنّه خلق الكلام في بعض الأجسام ، والظاهر المتبادر من الخلق : الخلق بالفعل ، وهو نفس الاحداث والإلقاء الّذي هو معنى اضافي. وأمّا قولهم بحدوثهما فلتصريحهم به ـ كما نقلناه عنهم ـ. ولا ريب في أنّ القول بهما وبحدوثهما / ٢٠٤ MB / من دون القيام بذاته ـ تعالى ـ وإن كان حقّا نقول به إلاّ أنّه ليس في كلامهم أثر من الكلام بالمعنى الأوّل ـ أعني : القدرة على الإلقاء ـ ، فانّ قولهم : « معنى كونه متكلّما إنّه خلق الكلام ـ ... إلى آخره ـ » لا يثبت منه إلاّ التكلّم الاضافي الحادث الّذي هو المعنى الثاني دون التكلّم الحقيقى الّذي هو المعنى الأوّل ، إذ المتبادر من الخلق هو الخلق بالفعل ، وهو ليس من الصفات الحقيقية لكونه حادثا غير ثابت في الأزل. وبالجملة التكلّم المذكور في كلامهم هو المعرّف بأنّه خلق الحروف والاصوات في بعض الأجسام ؛ وهو ليس من الصفات الحقيقية ، لأنّ التكلّم الحقيقى يعرف بأنّه أمر هو مصدر تأليف الكلمات أو القدرة على ذلك التأليف وخلقه ، و

٤٢٤

هو نفس ذات واجب الوجود عند المحقّقين ، فانّه ـ تعالى ـ قادر بذاته على تأليف الكلمات. فثبت أنّ التكلّم الحقيقي غير مصرّح به في كلامهم لظهور دخوله تحت عموم القدرة ، حتّى لو كانوا قائلين به أيضا ـ وإن لم يتعرضوا له هاهنا كما هو الظاهر ـ فيكون مذهبهم في الكلام مطابقا للحقّ وموافقا لما اخترناه ، وإن كان عدم تصريحهم به لعدم اثباتهم ايّاه ؛ فحصل المخالفة بيننا وبينهم من هذه الجهة.

ويرد عليهم أنّه لا وجه لاخراج الكلام الحقيقي عن أقسام الكلام.

ثمّ إنا قد ذكرنا في المباحث السابقة أنّ المعتزلة قدحوا في صغرى القياس الأوّل ، وهذا إنّما يتأتّى إذا حمل الكلام المذكور فيه على المعنى الثالث ـ أعني : ما به التكلّم ـ ، إذ لو حمل على المعنى الثاني ـ أعني : التكلّم الفعلي الّذي هو من الصفات الغير الحقيقة ، أي : ايجاد الكلام بالفعل ـ ينصرف القدح إلى كبرى القياس الأوّل ، ويندفع القدح عنه بالكلّية إن أريد بالتكلّم ما هو من الصفات الحقيقية.

وأمّا مذهب الأشاعرة ـ أعني : القول بالكلام النفسي ـ فيرد عليه : إنّ الكلام النفسي لا يرجع إلى معنى محصّل سوى العلم بمدلولات الألفاظ ومعانيها وعباراتها أو تخيّل الألفاظ ، وتوهّم ما يوجد من الكلام ـ أعني : ما يسمّى بحديث النفس ـ. والأوّل عين صفة العلم ، والثاني لا يليق بساحة كبريائه ـ سبحانه ـ لتقدّسه عن خطرات الأوهام وتخيّل ما يتجدّد من الألفاظ والكلام وسائر ما يتخيّله العوامّ.

قال بعض المشاهير ما توضيحه : إنّ للكلام معنيين :

أحدهما : التكلّم ؛

وثانيهما : ما به التكلّم. فالاشاعرة إن ارادوا بقولهم : « كلامه ـ تعالى ـ ليس من جنس الاصوات والحروف » : إنّ تكلّمه ـ تعالى ـ ليس من جنس الاصوات والحروف ، فيرد عليه : إنّ التكلّم مطلقا ـ أي سواء كان من الله تعالى أو من غيره ـ ليس من جنس الاصوات والحروف ، فلا وجه لتخصيص كلامه ـ سبحانه ـ بهذا المعنى بأنّه ليس من هذا الجنس ؛

ويرد عليهم أيضا : انّه لا معنى حينئذ لقولهم : « أنّ الكلام النفسي مدلول الكلام

٤٢٥

اللفظي » ،

لأنّ التكلّم سواء كان بمعنى قوّة الإلقاء أو نفس الإلقاء ليس مدلولا للحروف والألفاظ. إلاّ أن يصرف عن ظاهره ويقال : إنّ مرادهم من كون التكلّم مدلولا للكلام اللفظي ـ أعني : الحروف والاصوات ـ : إنّه يعرف بسبب الكلام اللفظي انّ في الشخص صفة التكلّم ، على أن يكون من قبيل دلالة المعلول على العلّة لأنّ التكلّم سواء اخذ / ٢٠٧ DB / صفة حقيقة أو اضافية علّة للكلام اللفظي ومبدأ له ، فدلالة الكلام اللفظي عليه من قبيل دلالة المعلول على العلّة فيكون المراد من الدلالة الدلالة العقلية دون الوضعية. وهذا صرف عن الظاهر ، لأنّ المتبادر من الدلالة عند الاطلاق الدلالة اللفظية الوضعية ، فإرادة الدلالة العقلية خلاف الظاهر.

ثمّ إذا أريد بالتكلّم التكلّم الحقيقي الّذي هو القدرة على تأليف الكلمات أو الانتزاعي الاضافي الّذي هو نفس الاحداث وصرف قولهم إنّه مدلول الكلام اللفظي عن ظاهره ـ كما ذكرناه ـ ، يصحّ الحكم على رأي الأشاعرة بأنّه قديم ومعنى قائم بذاته ، لانّهم قائلون بزيادة الصفات على ذاته ـ تعالى عن ذلك ـ وإن لم يصحّ القيام عندنا ؛ لأنّ التكلّم الحقيقي عين ذاته والاضافي صفة اعتبارية انتزاعية ؛

وإن ارادوا بالكلام المذكور ما به التكلّم فلم يصحّ قولهم ، بل هو معنى قائم بذاته ـ تعالى ـ ، لأنّ الحروف والاصوات ليست قائمة بذاته ـ تعالى ـ إلاّ على القول بأنّ الموجودات في الشهود العلمى قائمة بذاته ـ تعالى ـ كما ذهب إليه الحصوليون ، فانّ علمه ـ تعالى ـ بالاشياء إذا كان حصوليا يكون جميع الأشياء قائمة بذاته ـ تعالى ـ قياما علميا بمعنى أنّ صورها قائمة به ـ تعالى ـ / ٢٠٥ MA / قديمة ، والكلام بمعنى ما به التكلّم أيضا من جملة الأشياء ، فيكون قائما به ـ تعالى ـ في الشهود العلمى. فما به التكلّم ليس قائما بالمتكلم إلاّ في الشهود العلمي ؛ يعنى إنّ صور الحروف والألفاظ قائمة به ـ تعالى ـ.

ثمّ لو أريد من القيام القيام في الشهود العلمي فمع كونه خلاف الظاهر يرد عليهم أيضا : أنّ الكلام بهذا المعنى متعدّد باعتبار ذاته كالألفاظ ـ أي : كما أنّ الألفاظ الموجودة في الخارج متعدّدة كذلك هذه الألفاظ باعتبار الشهود العلمي متعددة ـ ، فلا يصحّ قولهم

٤٢٦

: انّ كلامه ـ تعالى ـ واحد عندنا وانقسامه إلى الأمر والنهى والخبر والنداء والاستفهام انّما هو بحسب التعلّق ، لأنّ هذا الحكم ـ أعني : الوحدة والانقسام بحسب التعلّق ـ انّما يصحّ في الكلام بمعنى التكلّم الّذي هو صفة حقيقية له ـ تعالى ـ لا في الكلام بمعنى ما به التكلّم ، إلاّ أن يراد به ـ أي : بالكلام الواحد المنقسم بحسب التعلّق ـ العلم الاجمالي الّذي هو عين ذات الحقّ ، أو العلم الانتزاعى الاجمالي الّذي هو منتزع عن ذاته ـ تعالى ـ. وحينئذ يرد عليهم : أنّه لا يصحّ الحكم بقيامه بذاته ـ تعالى ـ ، لأنّ العلم الاجمالي عين ذاته ـ تعالى ـ وانّه لا يكون مدلولا للكلام اللفظي إلاّ بالصرف عن الظاهر ـ كما سبق ـ.

على أنّه يلزم على هذا التوجيه خلاف ما تقرّر عند الأشاعرة من أنّ كلامه ـ تعالى ـ صفة له غير العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ، فاذا رجع الكلام إلى العلم الاجمالي يلزم كون الكلام عين صفة العلم ، وهو خلاف مذهبهم. وبالجملة الحكم بأنّ الكلام ـ بمعنى ما به التكلّم ـ معنى واحد قائم بذاته ـ تعالى ـ وهو مدلول الكلام اللفظي المركّب من الحروف بدون رجوعه إلى العلم الاجمالي الّذي هو غير زائد على ذاته ـ تعالى ـ لا وجه لمعقوليته ، ومع ذلك الرجوع لا يصحّ الحكم بقيامه بذاته ـ تعالى ـ ، لأنّ العلم الاجمالي نفس ذاته ـ تعالى ـ. نعم! ، لو قالوا بالعلم الاجمالي الواحد الزائد على ذاته ـ تعالى ـ يصحّ الرجوع المذكور. وحينئذ لا نزاع للمعتزلة معهم إلاّ في زيادته ، ولا ريب في أنّ تلك الزيادة لا يصحّ في العلم بمعنى مناط الانكشاف ، لانّه عين ذاته ـ تعالى ـ ، بل انّما يصحّ في العلم الانتزاعي الزائد في التعقّل ـ أعني : العلم المصدري الّذي سيق منه علم ويعلم وعالم ـ ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّ التأويلات المذكورة لكلام الأشاعرة من التعسّفات الباردة وهي لا تلائم ما صرّحوا به ، فانّهم ذكروا : أنّ الكلام لفظي وهو المؤلّف من الحروف ؛ ونفسي وهو المعنى القائم بالمتكلّم وقالوا هو مدلول الكلام اللفظي ـ كما قال شاعرهم :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وانّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا (١)

وصرّحوا بانّ الكلام النفسي مغاير للعلم والإرادة والكراهة وسائر الصفات

__________________

(١) البيت لأخطل. راجع : شرح المقاصد ، ج ٤ ص ١٥٠.

٤٢٧

المشهورة ، وهو عبارة عن نسبة أحد طرفي الخبر إلى الآخر القائمة بنفس المتكلّم. واستدلوا على كون هذه النسبة القائمة بالمتكلم مغايرة للعلم بأنّ المتكلّم قد يخبر عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ؛ وعلى كونها مغايرة للارادة بأنّه قد يأمر الرجل بما لا يريده ، كالمخبر لعبده هل لطعه أم لا ، وكالمعتذر من ضرب عبده لعصيانه ، فانّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه ؛ وعلى كونها مغايرة للكراهية بأنّه قد / ٢٠٨ DA / ينهى الرجل عمّا لا يكرهه ، بل يريده في صورتي الاختيار والاعتذار. واستدلّوا على قيام تلك النسبة المسمّاة بالكلام النفسي بالمتكلم بأنّ المتكلّم من قام به الكلام لا من أوجد الكلام ولو في محلّ آخر ، للقطع بأنّ موجد الحركة في جسم آخر لا يسمّى متحركا ، وإنّه لا يسمّى من يخلق الاصوات مصوّتا وإنّا إذا سمعنا قائلا يقول : أنا قائم نسمّيه المتكلّم وإن لم نعلم إنّه الموجد لهذا الكلام ، بل وإن علمنا أنّ موجده هو الله ـ سبحانه كما هو رأي الأشاعرة ـ ، وحينئذ فيجب قيام الكلام بذاته ـ تعالى ـ حتّى يكون متكلّما. ولا ريب في أنّ الكلام القائم بذات الباري لا يجوز أن يكون هو الحسّي ـ أعني : المنتظم من الحروف المسموعة ـ ، لانّه حادث ضرورة أنّ له ابتداء وانتهاء وأنّ الحرف الثاني لكلّ كلمة مسبوق بالأوّل مشروط بانقضائه ، فيكون له أوّل فلا يكون قديما ، والحرف الأوّل أيضا لمّا كان له انقضاء لا يكون قديما ـ لامتناع طريان العدم على القديم ـ فالمجموع المركّب منهما أيضا لا يكون قديما. والحادث يمتنع قيامه بذات الباري ـ تعالى ـ ، فتعيّن أن يكون هو المعنى الثاني إذ لا ثالث يطلق عليه اسم الكلام ، وهو الّذي يسمّى بالكلام النفسي. فانّ من يراد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو اخبار أو استخبار أو غير ذلك يجعل في نفسه معانى يعبّر عنها بالالفاظ الّتي نسمّيها بالكلام الحسّي ، فالمعنى الّذي يجده من نفسه ويدور في الخارج ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات / ٢٠٥ MB / ويقصد المتكلّم حصوله في نفس السامع ليجري على موجبه هو الّذي نسمّيه كلام النفس وحديثها.

ثمّ إنّ المعتزلة المنكرين للكلام النفسي قالوا : إذا صدر من المتكلّم خبر فهناك ثلاثة أشياء :

٤٢٨

أحدها : العبارة الصادرة عنه ؛

والثاني : علمه بثبوت النسبة أو انتفائها بين طرفي الخبر ؛

والثالث : ثبوت تلك النسبة أو انتفائها في الواقع.

والاخيران ليسا كلاما حقيقيا بالاتفاق ، فتعيّن الأوّل.

وإذا صدر عنه أمر أو نهي فهناك شيئان :

أحدهما : لفظ صادر عنه ؛

والثاني : إرادة أو كراهة قائمة بنفسه متعلّقة بالمأمور به أو بالمنهي عنه.

وليست الإرادة والكراهة أيضا كلاما حقيقيا اتفاقا ، فتعيّن اللفظ. وقس على ذلك سائر اقسام الكلام. والحاصل : أنّ مدلول الكلام اللفظي الّذي يسمّيه الأشاعرة كلاما نفسيا ليس أمرا وراء العلم في الخبر ، والإرادة في الأمر ، والكراهة في النهي.

ثمّ اجابوا عن الدليل الّذي ذكره الأشاعرة للمغايرة بين الكلام النفسي والعلم بأنّ المعنى النفسي الّذي يدّعون أنّه قائم بنفس المتكلّم ومغاير للعلم في صورة الاخبار عمّا لا يعلمه هو ادراك مدلول الخبر ـ أعني : حصوله في الذهن مطلقا ، أي : سواء كان مع التصديق بنسبته أم لا ـ. والحاصل : أنّ الأشاعرة إن أرادوا بقولهم : « إنّ النسبة المذكورة المسمّاة بالكلام النفسي مغايرة للعلم » : انّها مغايرة للعلم التصديقي ، فهو مسلّم ، إلاّ أنّ ذلك لا يضرّنا ؛ وإن أرادوا به : أنّه مغاير للعلم التصوري أيضا ، فهو ممنوع ، لأنّ هذا المدلول هو حصول الخبر في الذهن ، والعلم ليس إلاّ ذلك.

ثمّ ما ذكروه عن المغايرة بين الكلام النفسي وبين الإرادة والكراهة ففيه : انّ المغايرة بين المدلول والإرادة والكراهة في صورتي الأمر بما لا يريده والنهى عمّا يريده بل في صورتى الأمر بما يريده والنهى عمّا يريده أيضا مسلّمة ، إلاّ أنّ هذا المدلول حاصل في ذهن المتكلّم ، والحصول في الذهن مطلقا ليس أمرا وراء العلم بمعنى الادراك المطلق ـ كما في صورة الخبر عمّا لا يعلمه ـ ؛ هذا.

والجواب عمّا ذكروه ـ من أنّ المتكلّم من قام به الكلام لا من اوجد الكلام في محلّ آخر ـ ، ففيه : إنّ لفظ المتكلّم انّما اشتقّ من التكلّم ، فمعناه بحسب اللغة انّما هو ما قام به

٤٢٩

التكلّم ، فالمتكلم من قام به الكلام بمعنى التكلّم لا بمعنى ما به التكلّم ، فانّ ما به التكلّم باعتبار الوجود العيني انّما قام بالهواء لا بالمتكلّم ، بل انّما قام بالمتكلّم ايجاد ما به التكلّم والقائه إلى المخاطب لا عدم الغير ، وهو ـ أعني : ايجاد الكلام بقصد الافادة والاعلام ـ هو التكلّم. فمراد من قال : « إنّ المتكلّم أوجد الكلام » : إنّ المتكلّم أوجد الكلام على قصد الافادة والاعلام ، فلا يرد أنّه على زعم الأشاعرة موجد كلام العباد ـ بل كلّ افعالهم ـ هو الله ، فيلزم أن يكون هو ـ سبحانه ـ متكلّما باعتبار خلق كلامهم ، ولا شك أنّه لا يطلق عليه ـ تعالى ـ المتكلّم بهذا الاعتبار ؛ وذلك لانّه ليس خلق / ٢٠٨ DB / كلام العباد منه ـ تعالى ـ لقصد الافادة والاعلام من جانبه ـ تعالى ـ مع أنّ هذا معتبر في إطلاق المتكلّم على خالق الكلام.

وما ذكروه من أنّ موجد الحركة في جسم آخر لا يسمّى متحرّكا ، ففيه : انّ المتحرّك ما قام به التحرّك ، لا ما قام به التحريك ، ولهذا لا يسمّى موجد الحركة في جسم آخر متحرّكا.

والحاصل : أنّ المتكلّم من قام به التكلّم الّذي هو مبدأ اشتقاق الصيغة ومعناه خلق الكلام ، فلا شكّ في أنّه صادق على موجد الكلام ؛ والمتحرّك ما قام به التحرّك ، ومعناه الحركة لا خلق الحركة ؛ فقياس المتكلّم على المتحرّك خطاء وإن كان كلاهما مشتركين في قيام مبدأ اشتقاق الصيغة بالفاعل ، إلاّ أنّ مبدأ اشتقاق المتكلّم ـ أي : التكلّم ـ معناه على زعم المعتزلة خلق الكلام في الهواء ومبدأ اشتقاق المتحرّك ـ أي : التحرّك ـ هو الاتصاف بالحركة ، وكلا المبدءين قائمان بالفاعل المتصف بذلك المشتقّ.

وما ذكروه من أنّا إذا سمعنا قائلا يقول : أنا قائم نسمّيه المتكلّم وإن قلنا أنّ موجده هو الله ـ سبحانه ـ ، ففيه : إنّ الايجاد المأخوذ في تعريف التكلّم ـ كما تقدّم ـ هو الإلقاء على قصد الاعلام سواء كان ايجادا حقيقيا أو لا ، ففي الصورة المذكورة الملقي هو المتكلّم ، فانّه يقصد الاعلام بإلقاء الكلام وإلاّ كان موجد الكلام هو الله ـ سبحانه ـ. نعم! ، لو اوجد الله الكلام في العباد بقصد الاعلام من جانبه ـ تعالى كما في الشجرة أو لسان الملك ـ لكان ذلك كلاما له ـ تعالى ـ وكان هو المتكلّم دون الشجرة والملك ، وهو مسلّم

٤٣٠

عند الكلّ.

وبما ذكرناه ظهر ضعف قولهم : إنّ الكلام القائم بذات الباري لا يجوز أن يكون هو الحسّي ، فتعيّن أن يكون هو المعنى ؛ إذ قد عرفت أنّ الكلام القائم بذات الباري ـ تعالى ـ هو بمعنى التكلّم لا بمعنى ما به التكلّم ـ أعني : الألفاظ الدالّة على المعانى أو معانيها الدالّة على أمور أخر الّتي هي المقصودة بالذات بإلقاء الألفاظ الدالّة عليها بناء على ما ذهب إليه الغزالى من أنّ هذا هو الكلام بالحقيقة على ما يأتي الاشارة إليه ـ ، والتكلّم ليس إلاّ ايجاد ما به التكلّم وهذا الايجاد ليس شيئا من اللفظ / ٢٠٦ MA / والمعنى. على أنّ قيام المعنى الّذي هو الكلام النفسي عند الأشاعرة بذات الواجب غير جائز ، لأنّ هذا المعنى أيضا يكون حادثا فلا يجوز أن يقوم بذاته ـ تعالى ـ كما قالوا في الالفاظ بعينه. ولا يصحّ إطلاق القديم عليه ، لأنّ إطلاق الكلام النفسي القديم على معانى الالفاظ الحادثة غير معقول ؛ وهذا هو معنى قول المحقّق الطوسي : « والنفساني غير معقول ـ ، أي : الكلام النفسي القديم ـ وهو معاني الألفاظ ـ غير معقول.

فان قيل : مراد من قال بالكلام النفسي القديم : إنّ العلم الاجمالي بالكلام قديم ؛

قلنا : هذا تأويل فيه ارتكاب مجاز في مقابلة الخصم المحقّ ، فيشمّ منه رائحة النفسانية والتعصّب ؛ ولذا قال بعض الفضلاء : إنّ في قول المحقّق : « والنفساني غير معقول » حيث لم يقل : « وكلام النفسي » أو « النفسي » ايماء تطبيقا بأنّ اثبات هذا الكلام بارتكاب التمحّل لا يخلو عن النفسانية والتعصّب!.

ثمّ إنّ المعتزلة تمسّكوا لاثبات أنّ الكلام هو المنتظم من الحروف وأنّ النفسي القديم الّذي يدّعيه الأشاعرة ليس كلامه بوجوه لا بدّ لنا من ايرادها وذكر ما يتعلّق بها من الفوائد وما قيل للجواب عن بعضها وتحقيق ما هو الحقّ ، وبيان أنّها هل هي تنتهض حجة لما اخترناه ، أو لا؟ ، وعلى التقدير الثاني هل يكون شيء منها منافيا لشيء ممّا اخترناه ، أم لا؟.

فمنها : انّه قد علم بالضرورة من دين نبيّنا محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إنّ هذا القرآن هو الكلام المؤلّف المنتظم من الحروف المسموعة المفتتح بالتحميد المختتم

٤٣١

بالاستعاذة ، وعليه انعقد اجماع السلف وأكثر الخلف.

ومنها : إنّ ما اشتهر وثبت بالنص والاجماع من خواصّ القرآن انّما يصدق على هذا المؤلّف الحادث لا المعنى القديم ، وتلك الخواصّ كونه ذكرا ـ لقوله تعالى : ( وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ ) (١) ـ ؛ عربيّا ـ لقوله ـ تعالى ـ : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) (٢) ـ ؛ ومنزلا على النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بشهادة النصّ من تلك الآية وأمثالها واجماع الأمّة ؛ ومقروء بالالسن للاجماع ؛ ومسموعا / ٢٠٩ DA / بالاذان للاجماع ولقوله ـ تعالى ـ : ( حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ) (٣) ؛ ومقرونا بالتحدّي لكونه معجزا اجماعا ؛ ومفصّلا إلى السور والآيات ـ لقوله تعالى : ( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ) (٤) ـ ؛ وقابلا للنسخ ؛ وهو من آيات الحدوث ، لانّه إمّا رفع أو انتهاء وشيء منها لا يتصوّر في القديم ، لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ؛ وواردا عقيب إرادة التكوين ـ لقوله تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٥) ، إذ معناه : انّا إذا أردنا شيئا قلنا له كن فيكون ، قوله « كن » أمر وهو قسم من كلامه ـ تعالى ـ متأخّر عن الإرادة الواقعة في الاستقبال ـ لكونه جزء له ـ ، فيكون حادثا ـ.

فان قيل : وقوع كلمة « كن » عقيب إرادة تكوين الأشياء على ما يقتضيه كلمة الجزاء وإن دلّ على حدوثها لكن عموم لفظ شيء حيث وقع في سياق النفي يقتضي قدمها ، إذ لو كانت حادثة لكانت واقعة بكلمة « كن » آخر سابقة وتسلسلت.

وإن جعل هذا الكلام مجازا ـ كما قال البيضاوي : « إنّه تمثيل لتأثير قدرته في مراده بامر المطاع للمطيع في حصول المامور من غير امتناع وتوقّف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعا لمادّة الشبهة وهو قياس قدرة الله على قدرة العبد » (٦) ـ فلا يكون له دلالة على حدوث كلمة كن ؛

__________________

(١) كريمة ٥٠ ، الأنبياء.

(٢) كريمة ٤ ، يوسف.

(٣) كريمة ٦ ، التوبة.

(٤) كريمة ١ ، هود.

(٥) كريمة ٤٠ ، النحل.

(٦) ما وجدت العبارة في البيضاوي. وانظر : نفس التفسير ، ص ٣٥٦ ، ذيل هذه الكريمة.

٤٣٢

قلنا : قد اجيب عنه بوجوه :

أحدها : إنّ المراد من الآية أنّه ليس قولنا لشيء من الأشياء عند تكوينه إلاّ هذا القول ـ أي : قول « كن » ـ ، وهذا لا يقتضي ثبوت هذا القول لكلّ شيء ، بل غايته أنّه لو قيل فيما يراد تكوينه قول لكان هذا القول ـ أعني : قول « كن » ـ ، كما تقول : ما أقول لأحد عند ارشاده إلاّ أن اقول له اعلم! ، فانّه لا يدلّ على أنّك تقول اعلم لكلّ أحد ترشده ، بل على أنّك لو قلت شيئا لأحد عند ارشاده لكان القول لفظ اعلم. وحينئذ نقول : لا يلزم أن يكون قول « كن » ممّا يلزم أن يقال فيه قول حتّى يكون مسبوقا بمثله.

ومنها : إنّ الواقع بكلمة « كن » ـ كما نقل سابقا عن شرح المقاصد ـ هو المحدث لا الحادث ، فانّه واقع بمجرّد القدرة ، ولا ريب في أنّ قوله ـ سبحانه ـ لا يكون محدثا بل يكون حادثا ، فلا يلزم مسبوقيته بكلمة « كن » ، فلا يلزم التسلسل.

ومنها : إنّ ظاهر قوله ـ تعالى ـ : « إذا اردناه » يدلّ على اختصاصه بالزمانيات ، لأنّ « إذا » للتوقيت ، فلا يكون وقوع / ٢٠٦ MB / القديم ـ كصفات الواجب سبحانه إذا كانت زائدة على الذات كما هو مذهب الأشاعرة ، ووقوع الحوادث الغير الزمانية ـ بأمر « كن » ، ومكتوبا في المصاحف للاجماع. ولا ريب في أنّ المكتوب في المصحف ليس هو الصور والاشكال ـ كما توهّم ـ ، بل المكتوب انّما هو اللفظ لأنّ الكتابة تصوير اللفظ بحروف هجائية. نعم! ، المثبت في المصحف هو الصور والاشكال.

وأورد عليه صدر المحقّقين : بأنّه لا يلزم من كون الكتابة تصوير اللفظ بحروف الهجائية أن يكون المكتوب لفظا ، فانّ نقش الفرس على الجدار مثلا تصوير الفرس بالنقش ومن البيّن أنّ النقش ليس فرسا ، بل نقشه المشعر به ، فكذا المكتوب صورة اللفظ المشعرة به لا نقشه. والحاصل : إنّ اللفظ انّما هو الحروف المرتّبة المنتظمة المسموعة من قبيل الاصوات وما هو مكتوب انّما هو نقش الألفاظ وصورتها وليس بألفاظ حقيقة ، بل هو دالّ على الالفاظ. وعلى هذا يصحّ أن يقال : اللفظ مكتوب والفرس منقوش بمعنى أنّ اللفظ الّذي هو الحروف المنتظمة المسموعة مصورة ـ أي : وضع صورته في القرطاس مثلا ـ ، لأنّ الكتابة انّما هو تصوير اللفظ والفرس الّذي هو حقيقة خارجية

٤٣٣

جعل منقوشا ـ أي : وضع نقشه في الجدار ـ ؛ ولا يصحّ أن يقال : المكتوب لفظ والمنقوش فرس ، لأنّ المكتوب انّما هو الصورة وصورة الشيء ليس حقيقة ذلك الشيء ، وكذا المنقوش انّما هو النقش ونقش الشيء ليس حقيقة ذلك الشيء.

وغير خفيّ بأنّ هذا الايراد غير وارد ، لأنّ من قال : إنّ الكتابة تصوير اللفظ ، لم يقل : إنّ الصور هو اللفظ حتّى يلزم عليه كون المنقوش هو الفرس ، بل قال : إنّ المصوّر ـ وهو المكتوب ـ هو اللفظ ـ أي : ذو الصورة هو اللفظ ـ. وعلى هذا يلزم أن يكون المنقوش هو الفرس ـ أي : ذو النقش هو ـ ، ولا فساد في ذلك. فانّ / ٢٠٩ DB / ذا الصورة هو اللفظ وذا النقش هو الفرس قطعا. وبالجملة الكتابة لمّا كانت معناها جعل اللفظ أو غيره ذا صورة ونقش لم يصدق المكتوب حقيقة على النقش والصورة ، إذ الصورة لم يجعل ذا صورة ـ إذ هي عين الصورة ـ والنقش لم يجعل ذا نقش ـ إذ هو عين النقش ـ وانّما جعل اللفظ أو المعنى ذا صورة ونقش ، وهذا لا ريب فيه. فالمكتوب والمصوّر هو اللفظ والحقيقة الخارجية حقيقة دون الصور والنقش. نعم! ، المثبت هو الصور والنقوش حقيقة ـ كما ذكر أوّلا في جواب من توهم أنّ المكتوب هو الصور والاشكال دون الألفاظ ـ. والفرق بين الكتابة والاشكال ظاهر.

وبما ذكر ظهر أنّ المكتوب هو الألفاظ دون الصور والاشكال ، وايراد صدر المحققين غير وارد.

وقال بعض المشاهير : لا خفاء في أنّه لمّا كان الكتابة هو تصوير اللفظ كان اللفظ مكتوبا ـ أي : مصوّرا ـ لا محالة ، فانّ كون الكتابة عبارة عن تصوير اللفظ مستلزم لكون المكتوب عبارة عن اللفظ. والحاصل : إنّ العادة جارية بأن يقال : إنّ الألفاظ مكتوبة وأرادوا من هذا القول أنّ الصور الدالّة عليها مكتوبة ، وبمقتضى هذه العادة يقال : إنّ الكتابة تصوير اللفظ وإلاّ فبالحقيقة الكتابة تصوير الصور الدالّة على الألفاظ لا تصوير الألفاظ ؛ ولا يخفى حال نظير الكتابة ـ كالتنقيش ـ إذا نسب إلى الفرس ونحوه ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ ما ذكره أوّلا من قوله : « لا خفاء ... إلى قوله عبارة عن اللفظ » كلام حقّ ؛ توضيحه ما ذكرناه في دفع ايراد صدر المحققين ؛

٤٣٤

وامّا ما ذكره بقوله : « والحاصل أنّ العادة ـ ... إلى آخره ـ » رجوع عن الحقّ والتزام لارتكاب المسامحة والتجوّز في القول بانّ اللفظ مكتوب والمكتوب بالحقيقة هو الصورة ، والعادة تجري بإطلاق المكتوب على اللفظ على خلاف الحقيقة ؛ ولا يخفى فساده ممّا حقّقناه.

ثمّ ما ذكره من أنّ الكتابة تصوير اللفظ ، ففيه : إنّه إن أراد بتصوير الصور اثبات صور الصور فهو اشنع كلّ شنيع! ؛ وإن أراد به : اثبات الصور الدالّة على الألفاظ ، فهو معنى تصوير الألفاظ ، لأنّ معنى تصوير الألفاظ هو اثبات صورها الدالّة عليها.

ثمّ لا يخفى أنّ الدليلين المذكورين للمعتزلة لا يدلاّن إلاّ على أنّ القرآن وكلام الله يطلقان على هذا المؤلّف المنتظم المخصوص ؛ وأنّ الصفات والخواصّ المذكورة ـ أعني : كونه ذكرا عربيا ومنزلا ومقروء بالالسن ... إلى آخره ـ انّما هي صفات وخواصّ لهذا المؤلّف المنتظم ؛ ولا يدلاّن على عدم إطلاق كلام الله على قدرة القاء هذا المؤلّف وعلى نفس القائه. والظاهر إنّ المعتزلة أيضا لم يريدوا منهما اثبات عدم إطلاق القرآن وكلام الله على مدلول هذا المؤلّف الّذي هو الكلام النفسي. وأنت خبير بانّهما لا يدلاّن على ذلك / ٢٠٧ MA / أيضا ، ولذا اجاب الأشاعرة عن هذا الدليلين بأنّه لا نزاع في إطلاق اسم القرآن وكلام الله ـ تعالى ـ على هذا المؤلّف الحادث ـ وهو المتعارف عند العامّة والقرّاء والأصوليين والفقهاء ، وإليه ترجع الخواصّ الّتي هي من صفات الحروف وسمات الحدوث ـ ، وانّما كلامنا في انّهما يطلقان بطريق الاشتراك على مدلوله الّذي هو القديم أيضا ، وهذان الدليلان لا ينفيان هذا الاطلاق.

واعترض صدر المحققين على هذا الجواب بوجهين :

أحدهما : إنّ المعتزلة اقاموا أدلّة ظاهرة على أنّ القرآن هو الألفاظ المسموعة المؤلّفة من الحروف وحكموا بأنّ ذلك من ضرورة دين نبيّنا ـ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، ومن البيّن أنّ القياسين المتعارضين المذكورين جاريان فيه ، والأشاعرة ما قدحوا في أدلّتهم ولم ينكروا الضرورة المذكورة ، بل سلّموا أنّ القرآن بهذا المعنى هو المتعارف عند الجمهور وذكروا في معرض الجواب أنّ للقرآن معنى آخر لا يجري فيه

٤٣٥

القياسان المذكوران ؛ وذلك لا يجدي نفعا! ، لظهور أنّ الاشكال في القرآن بهذا المعنى ـ أي : بمعنى المؤلّف ـ يجري فيه القياسان ولا يندفع عنه الاشكال بأنّ للقرآن معنى آخر لا يجري فيه القياسان المذكوران ـ كما لا يخفى ـ ؛ انتهى.

وفيه : إنّ الجواب الّذي ذكره الأشاعرة ليس جوابا عن جريان القياسين المتعارضين في كلامه ـ سبحانه ـ ، بل هو جواب عن قول المعتزلة : إنّ معنى القرآن وكلام الله ـ تعالى ـ منحصر في الألفاظ والعبارات بالدليلين المذكورين ، فانّ / ٢١٠ DA / الدليلين المذكورين انّما يدلاّن على أنّ القرآن والكلام يطلقان على الألفاظ ، وامّا انّهما لا يطلقان إلاّ عليهما فلا يكون مقتضى الدليلين. فعدم نفع الجواب المذكور انّما يكون إذا كان محلّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة في أنّ هذا المؤلّف المنتظم هل هو كلام الله أم لا؟ ؛ والحال إنّ ذلك ليس محلّ النزاع بين الفريقين ، لانّهما متّفقان في أنّ هذا المنتظم من الحروف كلام الله ـ سبحانه ـ ؛ والنزاع في أنّ كلام الله ـ سبحانه ـ هل هو منحصر في ذلك أو يكون له معنى آخر سوى هذا المؤلّف الحادث؟. فالمعتزلة يقولون بالحصر والأشاعرة يقولون بعدم الحصر والدليلان المذكوران من جانب المعتزلة لا يفيدان الحصر المذكور ، بل يفيدان كون هذا المؤلّف الحادث كلام الله ، والأشاعرة غير متنازعين في ذلك ؛ فجوابهم بأنّ هذين الدليلين لا يفيدان الحصر يدفع قول المعتزلة ويثبت به مدّعاهم.

ثمّ قول السيد المحقّق في الاعتراض : « ومن البيّن أنّ القياسين المتعارضين المذكورين جاريان فيه ـ أي : في المؤلّف المنتظم من الحروف ـ » ، إن أراد به أنّ القياسين المذكورين جاريان فيه لا على سبيل التعارض ، ففيه : إنّ الجاري فيه حينئذ ليس إلاّ القياس الثاني ، ولذا قد تقدّم انّهم ـ أي : المعتزلة ـ قدحوا في صغرى القياس الأوّل نظرا إلى كون كلامه ـ سبحانه ـ منحصرا عندهم بالمؤلّف الحادث ؛ وإن أراد انّهما جاريان فيه على سبيل التعارض فهو ممنوع ، إلاّ أنّهما جاريان على سبيل التعارض في المعنى الآخر الّذي اثبته الأشاعرة أيضا. وبالجملة تخصيص كلامه ـ سبحانه ـ بمعنى المؤلّف الحادث بجريان القياسين فيه لا وجه له أصلا.

٤٣٦

وثانيها : إنّ مدلول الكلام اللفظي انّما هو مسمّيات الأسامي من العبارات وهي ليست صورا ذهنية ـ كما ذهب إليه الحكماء ـ ، لأنّ المتكلّمين ينكرون الوجود الذهني ، فهى من اعيان الموجودات كالسماء والارض ؛ ومن البيّن أنّ بعض الأعيان جواهر قائمة بذواتها وبعضها اعراض قائمة بالجواهر ، ولا يظهر لقيام اعيان الموجودات بذاته ـ تعالى ـ ولا لقيامها بغيره وجه وجيه ؛ انتهى.

وحاصله ابطال الكلام النفسي بأنّه عند الأشاعرة مدلول الكلام اللفظي وهو مسمّيات الأسامى والألفاظ ، والمسمّيات لما لم تكن موجودات ذهنية لانكار المتكلّمين الوجود الذهنى فهي من الموجودات الخارجية ، ولا معنى لقيام الموجود الخارجى بذاته ـ سبحانه ـ ، فقول الأشاعرة بقيام الكلام النفسي بذاته ـ تعالى ـ لمّا كان راجعا إلى قيام موجود خارجي بذاته ـ تعالى ـ فهو بيّن البطلان.

ويمكن أن يقال بعنوان العلاوة : لو جوّز كون المسمّيات الّتي هي الكلام النفسي من الموجودات الذهنية لكانت راجعة إلى العلم ، فلا يكون شيئا وراء العلم مع أنّ الأشاعرة قالوا بمغائرتها للعلم.

ثمّ لا يخفى إنّ هذا الوجه دليل على حدة لابطال الكلام النفسي ، ولا مدخلية له لتصحيح الدليلين المنقولين من المعتزلة لحصر كلامه ـ سبحانه ـ في اللفظي ، ولا ينتهض ايرادا على الجواب الّذي ذكره الأشاعرة منهما ، لأنّ حاصل جوابهم عنهما انّهما يدلاّن على إطلاق كلام الله ـ سبحانه ـ على هذا المؤلّف المخصوص ولا يفيدان حصر كلامه فيه ، فإقامة دليل على حدة على انحصار كلامه فيه وبطلان الكلام النفسي لا يجعل الدليلين المذكورين تامّين.

والجواب المذكور ساقط ، وهو ظاهر.

وبما ذكرناه يظهر / ٢٠٧ MB / أنّ ما ذكره بعض الأفاضل بأنّه يمكن تتميم الدليلين بحيث يفيدان الحصر ـ بأن يقال : لمّا ثبت بهما أنّ هذا المنتظم من الحروف كلام الله ولم يقم دليل عقلي ولا نقلي على وجود أمر آخر هو الكلام النفسي ولا على كونه كلام الله سبحانه ، فيلزم الحصر ـ ليس على ما ينبغي ، لأنّ ضميمة قولنا : « ولم يقم دليل عقلي ـ

٤٣٧

... إلى آخره ـ » يخرج الدليلين عن حقيقتهما ويصيّرهما دليلين آخرين. وكذا مثل هذه الضميمة ، إذ اقامة دليل على مجرّد بطلان الكلام النفسي يكفي لمطلوب المعتزلة وإن لم يتعرّضوا لاطلاق كلام الله على هذا المؤلّف الحادث ، لأنّ الأشاعرة موافقون لهم في هذا الاطلاق ، فلا حاجة إلى بيانه واثباته ؛ هذا.

ثمّ إنّ بعض المشاهير أجاب عن ثاني وجهي اعتراض السيد المحقّق بأنّ المتكلّمين / ٢١٠ DB / وإن انكروا الوجود الذهني لكنّهم قد اثبتوا الثبوت بدل الوجود الذهني ، فمسمّيات الأسامي والعبارات مندرجة عندهم في الأعيان الثابتة ، فهي عندهم قديمة باعتبار الثبوت قائمة بذاته ـ تعالى ـ على نحو قيام العلم بالأعيان الثابتة بذاته ـ تعالى ـ ، فقوله : « فهو من أعيان الموجودات كالسماء والارض » وهم. نعم! ؛ يرد عليه : أنّ مدلول الكلام اللفظي أمور متعدّدة ، فكيف يصحّ القول بأنّه أمر واحد في الأزل ومتعلّق فيما لا يزال بالامور المتعدّدة ـ كما قالوا في تصحيح مذهبهم كما مرّ وسيأتي ـ؟! ، فيحتاج إلى رجوعه إلى العلم الاجمالي الّذي هو عين ذاته. أو يقال المراد بمدلول الكلام اللفظي مدلوله بحسب الالتزام ـ أي : القوّة على تأليف الكلمات ـ ، فانّ ذاته ـ تعالى ـ بذاته قادر على تأليف الكلمات والقائها ، وحينئذ يرجع الكلام النفسي إلى التكلّم الحقيقى الّذي هو عين الذات ويصير النزاع لفظيا ، لأنّ النزاع المعنوي بين الأشاعرة والمعتزلة في أنّه هل يكون للواجب ـ جل شأنه ـ صفة حقيقة غير العلم والقدرة هي الكلام النفسي أم لا؟ ؛ فالاشاعرة قالوا بأنّ الكلام النفسي صفة حقيقية له ـ تعالى ـ غير العلم والقدرة وغيرهما من الصفات الحقيقية ؛ والمعتزلة ينازعونهم في ذلك ، فاذا يلزم على الأشاعرة ارجاع الكلام النفسي إلى العلم والقدرة ، فلا يبقى إلاّ النزاع في إطلاق لفظ الكلام النفسي على العلم والقدرة ، وهذا كلام لفظي ؛ انتهى بأدنى توضيح.

ويرد على ما ذكره أوّلا : « إنّ المتكلّمين اثبتوا الثبوت ـ ... إلى آخره ـ » : بانّ الذين اثبتوا الثبوت هم المعتزلة ، والأشاعرة غير قائلين بالثبوت ، فلا يصحّ هذا الجواب من قبل الأشاعرة ، فيبقى اعتراض السيد واردا عليهم ؛

وما ذكره اخيرا ـ من امكان تاويل الكلام النفسي إلى العلم الاجمالي أو التكلّم

٤٣٨

الحقيقي ـ فقد عرفت حاله فيما سبق.

تذنيب

قد ظهر ممّا قرّرناه أنّ الكلّ متّفقون على إطلاق القرآن وكلام الله على هذا المؤلّف المنتظم من الحروف ، وقد اتّفق الكلّ أيضا على أنّ إطلاق هذين اللفظين عليه ليس لمجرّد أنّه دالّ على كلامه القديم ـ أي : الكلام النفسي عند الأشاعرة وقوّة الإلقاء عند غيرهم ـ حتّى لو كان مخترع هذه الألفاظ غير الله ـ تعالى ـ لكان هذا الاطلاق بحاله ، بل لأنّ له اختصاصا آخر به ـ تعالى ـ وهو أنّه اخترعه بأن اوجد أوّلا الاشكال في اللوح المحفوظ ـ لقوله ـ تعالى ـ : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (١) ـ ، والأصوات في لسان الملك ـ لقوله ـ تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) (٢) ـ.

وقد اختلف القوم في انّهما هل هما اسمان لهذا المؤلّف بشرط قيامه باوّل لسان اخترعه فيه أو اسمان له من حيث هو من دون اعتبار المحلّ ؛ فقيل بالأوّل ـ أي : انّهما اسمان لهذا المؤلّف المخصوص القائم بأوّل لسان اخترعه الله تعالى فيه حتّى أنّ ما يقرأه كلّ أحد من سواه بلسانه يكون مثله ، لا عينه ـ ؛ وقيل بالثانى ـ أعني : انّهما اسمان له لا من حيث تعيّن المحلّ ـ ، فيكون واحدا بالنوع ويكون ما يقرأه القاري ـ أيّ قارئ كان ـ نفسه لا مثله. وهذا الحكم في كلّ شعر وكتاب ينسب إلى مؤلّفه.

وهذا هو الأصحّ ؛ ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ) (٣).

فان قيل : إذا أريد بكلام الله ـ تعالى ـ المنتظم من الحروف المسموعة من غير اعتبار تعيين المحلّ فكلّ أحد منّا يسمع كلام الله ـ تعالى ـ ، فما وجه اختصاص موسى ـ عليه‌السلام ـ؟ ؛

__________________

(١) كريمة ٢٢ ، البروج.

(٢) كريمة ٤٠ ، الحاقّة.

(٣) كريمة ٦ ، التوبة.

٤٣٩

قلنا قد ذكر القوم لهذا الاختصاص وجوها ، فلنذكرها ونشير إلى ما هو الحقّ.

منها : ما ذكره الغزالي ، وهو : إنّه كان يسمع كلامه الأزلي بلا صوت وحرف كما ترى في الآخرة ذاته ـ تعالى ـ بلا كيف وكمّ. وهذا على مذهب من يجوّز تعلّق الرؤية والسماع بكلّ موجود حتّى الذات والصفات ، لكن سماع غير الصوت والحروف لا يكون إلاّ بطريق خرق العادة.

أقول : مراده من كلامه الأزلي إن كان هو الكلام النفسي فقد عرفت عدم معقوليته فضلا عن أزليته ؛ وإن كان هو القدرة / ٢٠٨ MA / على ايجاد ما به التكلّم أو نفس ايجاده فلا معنى لسماعه. قال بعض المشاهير : لا حاجة إلى التقييد بقوله : « الأزلي » ، بل لا معنى له إلاّ باعتبار أنّ المسموع له ـ تعالى ـ نوع من الثبوت في الأزل على الوجه الاجمالي الّذي / ٢١١ DA / ذهب إليه بعض المتكلّمين ، أو باعتبار أنّ للواجب ـ سبحانه ـ علما ازليا هو عين ذاته ـ تعالى ـ. فيكون معنى قوله : « كلامه الازلي » : الكلام الأزلي الّذي كان العلم به ازليا ، فيكون « الأزلي » وصفا « للكلام » بحال متعلقه.والحاصل : أنّ المسموع ليس وراء الكلام بمعنى ما به التكلّم ، وهو ليس ازليا ؛ وإن كان المراد منه المعنى المقصود بإلقاء اللفظ ـ على ما يأتي من أنّه الكلام بالحقيقة عند الغزالي لأنّه بهذا المعنى أيضا لا يعقل ازليته إلاّ بأحد من التأويلين المذكورين الجاريين في الكلام اللفظي الّذي يلزمه الحرف والصوت ، بل في جميع الموجودات ـ. فلا حاجة إلى ذكر الأزلي في هذا الجواب ، لأنّه لا يفيد تخصيص الكلام المذكور بالمعنوي الّذي هو مراد الغزالي ، فلا يكون محتاجا إليه ؛ انتهى بادنى توضيح.

وأنت خبير بأنّ عدم الاحتياج إليه ظاهر على مذهب اهل الحقّ القائلين بانّه لا يعقل أزلية الكلام المعنوي إلاّ بأحد التأويلين ؛ وامّا على زعم الأشاعرة القائلين بأنّ الكلام المعنوي صفة ازلية للواجب سوى العلم والقدرة والإرادة وسائر الصفات بلا تأويل فقيد الأزلية مخصوص بالمعنوي وفائدته اخراج اللفظى ، وكأنّه منظور الغزالي ؛ فلا بحث إلاّ على أصلهم.

ثمّ القول بتحقيق نوع من الثبوت للحوادث في الأزل بيّن الفساد ، مع أنّ الغزالي

٤٤٠