جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

هو معنى العينية. وفي غيره ـ سبحانه ـ منشأ تلك الصفات الاضافية لا بدّ ان يكون قوّة زائدة قائمة به.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما قيل : إنّ العينية بهذا المعنى يرجع إلى نفي الصفات عنه ـ تعالى ـ واثبات لوازمها وآثارها له ، فانّ القول بنفي الصفات عنه ـ سبحانه ، كما ذهب إليه بعض العرفاء ـ ليس حقّا عندنا ـ كما يأتى مفصّلة ـ. نعم! ، يرجع العينية بهذا المعنى إلى نفي الصفات الحقيقية الزائدة على ذاته ـ تعالى عنه سبحانه ـ.

المذهب الثاني في تصحيح عينية الصفات : إنّ ذاته ـ سبحانه ـ نائب مناب جميع الصفات بمعنى انّ ما يترتّب على الصور العلمية الزائدة القائمة بنفوسنا مثلا من الانكشاف يترتّب ذلك في الواجب على ذاته ، وحقيقة العلم هو تلك الصورة الزائدة القائمة بغيره ، لأنّ العلم صفة والصفة الحقيقية من حقّها أن تكون قائمة بغيره ، فما هو القائم بذاته ـ أعني : ذاته ، سبحانه ـ لا يطلق عليه شيء من الصفات ولا يكون فردا منها بل هو ذات مجهولة الكنه نائب مناب / ١٩١ MA / صفة العلم والقدرة والإرادة وغيرها ـ أي : يترتّب عليه ما يترتّب على غيرها من المعاني الاضافية ؛ أعني : الانكشاف وصحّة الصدور واللاصدور وغيرهما ـ.

وعلى هذا فالفرق بين المذهب الأوّل ـ أعني : القول بكون ذاته فردا من كلّ صفة ـ وهذا المذهب : انّ الذات على هذا المذهب لا يكون فردا من الصفات ولا يحمل عليه تلك الصفات حقيقة ، بخلاف المذهب الأوّل وان كانا مشتركين في ان الذات على كلّ منهما منشئا للمعاني الاضافية ويترتّب عليه من دون افتقار إلى أمر عرضي زائد قائم به.

وغير خفي بأنّ لزوم كلّ صفة بمعنى المناط والمنشأ للصفات الاضافية قائمة بغيرها ممنوع ؛ بل كلّ من الصفات الكمالية بمعانيها الحقيقية يمكن أن يكون قائما بذاته ، فانّه كما يطلق العلم على الصورة العلمية القائمة بالنفس ـ لاقتضائها الانكشاف ـ فلم لا يطلق على ذات المجرد مع اقتضائه ذلك؟! ؛ فالفرق بينهما في الصدق وعدمه وفي الفردية وعدمها تحكّم!.

ولو سلّم انّ اللغة لا يساعد ذلك فلا يضرّنا ، لأنّ الحقائق الخارجية لا مدخل فيه

٣٦١

للعرف واللغة.

ثمّ انك قد عرفت فيما تقدّم بأنّه يمكن أن يرجع القول بالنيابة إلى القول بالفردية ، بأن يقال : المراد من قولهم : « انّ ذاته ـ تعالى ـ نائب مناب جميع الصفات » انّ ذاته بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ بمنزلة ما يقوم بنفوسنا من القوى والصور الزائدة العرضية بالنسبة إلينا ، فكما انّ الصورة الحاصلة في الذهن فرد من العلم بالمعنى الحقيقي ـ أي : بمعنى ما يحصل به الانكشاف ـ والقوّة القائمة بالنفس المصحّحة للفعل والترك فرد من القدرة بالمعنى الحقيقي ـ أي : بمعنى ما تحصّل به القدرة بالمعنى الاضافي الاعتباري ـ فكذلك ذاته ـ سبحانه ـ فرد للعلم والقدرة بالمعنى المذكور ؛ فاطلاق النيابة إنّما هو إذا اعتبر بالنسبة إلينا. ولو لم يحمل القول بالنيابة على ذلك وبني على ما هو الظاهر منه ـ من أنّ ذاته ليس فردا من الصفات بالمعنى الحقيقي ـ كان قولا ظاهر البطلان! ، لأنّ المعنى الحقيقي للعلم هو ما ينكشف به الأشياء ، فإذا كان ذاته بحيث ينكشف به الأشياء من دون مدخلية شيء آخر فما الباعث حينئذ في عدم كونه فردا من مطلق ما ينكشف به الأشياء؟! ، وما السبب في عدم اطلاق هذا العلم بهذا المعنى عليه؟! ؛ وقد عرفت انّ اللغة لا مدخلية له في المباحث العقلية ، مع انّ منع اللغة للفردية وعدم الإطلاق ممنوع ـ كما لا يخفى على العارف ـ.

ولا يقال : إنّ المراد من القول بالنيابة انّ ذاته ـ سبحانه ـ نائب مناب الصفات بالمعنى الاضافي الاعتباري ، إذ لا ريب في أنّ العلم بمعنى الانكشاف مثلا لا يطلق على ذاته ـ سبحانه ـ وليس ذاته فردا من الانكشاف ، لأنّ ذاته حقيقة خارجية بل هو محقّق الحقائق والانكشاف أمر اعتباري وكذا الحال في سائر / ١٩٣ DB / فرد من الانكشاف مثلا ، لأنّ هذا لا معنى له ، فانّ انكشاف الأشياء لا يمكن أن يكون له فرد قائم بذاته ، بل هو يكون ثابتا لشيء البتّة. وأيضا حقيقة الانكشاف ثابتة له ـ تعالى ـ كما هو ثابت لغيره ـ سبحانه ـ ، فلا معنى لكون ذاته نائبا عنه ، وكون حقيقته ثابتا لغيره. وأيضا النيابة إنّما تكون في ترتّب الأثر ، والأثر إنّما هو الصفات الاضافية ـ كالانكشاف وغيره ـ ، فإذا كان الانكشاف في غير الواجب أصل العلم وحقيقته وكان

٣٦٢

ذاته ـ سبحانه ـ نائبا عنه فما يبقى أمر آخر حتّى يترتّب على النائب والمنوب عنه ؛ وقس على الانكشاف غيره من الصفات الاضافية الاعتبارية.

المذهب الثالث في تصحيح عينية الصفات : ما ذهب إليه بعض المتأخّرين ؛ وهو : انّ الصفة هاهنا بمعنى الخارج المحمول ـ كالعالم والقادر والمريد ـ ، وهو عين ذاته ـ تعالى ـ بحسب الحمل المواطاة.

وتوضيح هذا المذهب ـ كما قيل ـ ، انّ الموجود ما يعبّر عنه بالفارسية بـ « هست » ، وهذا لا يستدعى قيام الوجود به ، وكذا العالم ما يعبّر عنه بـ « دانا » ، والقادر ما يعبّر عنه بـ « توانا » ، وتفسير الموجود بما قام به الوجود والعالم بما قام به العلم والقادر بما قام به القدرة إنّما هو بمقتضى اللغة. ولما دل البرهان على عدم قيام الوجود والعلم والقدرة وكذا سائر الصفات به ـ تعالى ـ وانّه موجود عالم قادر علم انّ قيام المبدأ به غير لازم.

فيقال بعد تمهيد ذلك : انّ صفة الشيء على قسمين :

أحدهما : ما يقوم به في نفس الأمر ـ كالعلم بالنسبة / ١٩١ MB / إلى زيد مثلا ـ ،

وثانيهما : عرضي لا يقوم به كالعالم والقادر بالنسبة إليه ، فانّهما عين زيد في الخارج ـ لصحّة حملهما عليه مواطاة ـ وزائدان على مهيته. والصفة بالمعنى الأوّل مغاير للموصوف في الواقع وبالثاني عينه فيه. والمراد بقولهم : « انّ صفاته ـ تعالى ـ عين ذاته » : انّ صفاته ـ سبحانه ـ من القسم الثاني لا الأوّل الزائد على الذات ، وقد عرفت أنّ قيام المبدأ غير لازم ، فصحّ كون الصفات عين الذات من غير تكلّف. وبالجملة الصفة الّتي تكون عين الذات إنّما هي الصفة بمعنى الخارج المحمول على الموصوف مواطاة ـ مثل العالم والقادر وأمثالهما ـ.

وهذا المذهب في غاية الفساد.

أمّا أوّلا : فلأنّ امثال العالم والقادر والمريد إنّما يعدّ من الاسماء لا الصفات ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ كون الصفة بهذا المعنى عين ذاته ـ سبحانه ـ لصحّة حملها عليه مواطاة مشتركة بين الواجب بالذات والممكن ، وحينئذ فلا معنى للقول بأنّ صفات

٣٦٣

الواجب عين ذاته دون غيره ـ كما هو مذهب الحكماء والمعتزلة ـ ، لأنّ الصفة بمعنى الخارج المحمول مواطاة عين في الواجب والممكن بهذا المعنى المذكور بلا تفاوت ؛

وأمّا ثالثا : فلأنّكم لمّا اعترفتم بأنّ مبدأ اشتقاق كلّ صفة محمولة عليه غير قائم به ـ تعالى ـ فيلزمكم الاعتراف بأنّ ذاته ـ سبحانه ـ بذاته منشئا ومناط للآثار والمعاني الاضافية المترتبة على الصفات الزائدة ، فيرجع ما ذكرتم إلى أحد المذهبين الأوّلين ، إذ لو قلتم بعدم منشئية ذاته ـ سبحانه ـ لها لزمكم القول بعدم انكشاف الأشياء له ـ تعالى ـ أصلا وبعدم تمكّنه على ايجاد الأشياء وهكذا ، فيلزم نفي جميع الصفات الكمالية وآثارها المترتّبة عليها عنه ـ تعالى ـ ؛ وهو كفر وزندقة عقلا وشرعا ؛

وأمّا رابعا : فلانّه يعتبر في الخارج المحمول أن لا يكون محمولا ذاتيا للموضوع وإلاّ لم يكن خارجا ، والمعبّر عنه بمفهوم الموجود والعالم والقادر والمريد ـ وغيرهما من الصفات الكمالية ـ يكون ذات الواجب ـ جل شأنه ـ بمحض ذاته مع قطع النظر عن جميع ما عدا ذاته ، ولا احتياج في ثبوت هذه المفهومات له ـ تعالى ـ إلى حيثية تقييدية ولا إلى حيثية تعليلية ، فيكون ثبوتها له ـ تعالى ـ ضرورية ذاتية ، فيكون نسبتها إلى ذات الواجب نسبة الذاتي وإذا كانت نسبتها نسبة الذاتي فلا يصحّ القول بكون شيء منها خارجا محمولا ، بل الجميع محمولات ذاتية غير خارجة.

تتميم

ذهب جماعة إلى أنّ كلّ ما يوصف به ـ تعالى ـ من الصفات الحقيقية والاضافية والسلبية اعتبارات يحدثها عقولنا عند مقايسة ذاته ـ سبحانه ـ إلى الغير من غير أن يكون موجودة له ـ سبحانه ـ في نفس الأمر فالصفات بأسرها منفية عنه ـ سبحانه ـ ولا يتصف بشيء منها في الواقع ونفس الأمر ، إذ الاتصاف بشيء منها في نفس الأمر يوجب النقص والتركيب / ١٩٤ DA / والتكثّر ، فكمال معرفته نفي الصفات عنه وذلك هو التوحيد المطلق والاخلاص المحقّق الّذي هو نهاية العرفان وغاية سعى العارف من كلّ حركة حسّية وعقلية. وما يكون في نفس الأمر من غير تعقّل نقص فهو

٣٦٤

الوحدة المطلقة المبراة عن كلّ لاحق ؛ وقد أشار إلى ذلك سيدنا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في بعض خطبه بقوله : « وكمال الاخلاص نفي الصفات عنه » ؛ فليس للواجب ـ سبحانه ـ في نفس الأمر صفة ثبوتية ولا سلبية. وجميع ما يوصف به ـ سبحانه ـ من الصفات إنّما هو اعتبارات محضة يحدثها عقولنا عند مقايسة ذاته ـ سبحانه ـ إلى غيرها.

والباعث في هذا الوصف ـ كما وردت به الكتب الالهية والسنن النبوية ـ أمران :

أحدهما : ليعمّ التوحيد والتنزيه كلّ طبقة من الناس ؛

والثاني : انّه لمّا كان دأب العقلاء أن يصفوا خالقهم ـ سبحانه ـ بما هو أشرف طرفي النقيض ـ لما تقرّر في عقولهم من أعظميته ومناسبة أشرف الطرفين للأعظمية ـ كان وصف الله ـ تعالى ـ به من الصفات الحقيقية والاضافية والسلبية كلّها كذلك من غير أن تكون تلك الصفات ثابتة له ـ تعالى ـ في الواقع. وربما احتجّوا على ذلك بما روي عن الامام الهمام محمّد بن عليّ الباقر ـ عليه وعلى آبائه السلام ـ : « هل يسمّى عالما وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين؟! ؛ وكلّما ميزتموه بأوهامكم في ادقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ، والباري ـ تعالى ـ واهب الحياة ومقدّر الموت. ولعلّ النمل الصغار يتوهّم انّ لله ـ تعالى ـ زبانيتين فانّهما كمالها ويتصوّر انّ عدمهما نقصان لمن لا يكونان له » ؛ هكذا حال الفضلاء فيما يصفون الله ـ تعالى ـ به / ١٩٢ MA / فيما احسب وإلى الله المفزع.

أقول : لمّا كان حاصل هذا المذهب على الظاهر انّه ليس للواجب ـ سبحانه ـ شيء من الصفات في الواقع ونفس الأمر ، لذا لم نجعلها معدودا من المذاهب المعروفة لتصحيح عينية الصفات ؛ لأنّ العينية فرع اثبات الصفة وعلى هذا المذهب لا يثبت صفة بوجه ، فهو يوجب التعطيل في حقّه ـ سبحانه ـ. وقد أتى ببطلانه شرائع الأنبياء وصرّح بفساده أساطين الحكماء. كيف ولو جوّز العقل أن ينفى عنه العلم والقدرة والحياة وغير ذلك من الصفات الكمالية لوجب عزل العقل في باب معرفة الله ـ تعالى ـ رأسا! ، فلا يمكن أن يثبت له البساطة ، أو يقال انّه محض الوجود ، أو ليس بجاهل ، أو ليس بمركّب ، أو يجب ان يكون على أعلى طرفي النقيض ، أو واجب الوجود ، أو موجد للكلّ

٣٦٥

أو غير ذلك ؛ بل ليس له أن يدرك افتراقه عن الممكن وتميّزه عنه ، فان ذلك فرع التفاوت في الصفة. ولا ريب في أنّ ذلك مخالف للقواعد العقلية ومناف لما اعطته الشرائع النبوية. ومن وصفه ـ سبحانه ـ بالصفات الكمالية الكثيرة وكونها مجرّد اعتبار يحدثها العقول من غير ثبوتها له ـ تعالى ـ في الواقع لا ينفى التعطيل عنه ـ سبحانه ـ في الواقع. والمراد من نفي الصفات في قول امير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : « كمال الإخلاص نفي الصفات عنه » (١) : هو نفي الصفات الزائدة عنه ، أو نفي صفات المخلوقين ـ كما صرّح به عليه‌السلام في آخر الخطبة ـ ؛ أو نفي الصفات بالنظر إلى الموحّد العارف لا بالنظر إلى الواقع بمعنى انّ كمال اخلاص العقول البشرية أن يعتبر ذاته ـ سبحانه ـ فقط من غير ملاحظة شيء آخر ؛ وهذا إنّما يتصوّر لها عند غرقها في أنوار كبرياء الله ونقص كلّ ما عداه عنه وتنزيهه عن كلّ لاحق له وطرحه عن درجه الاعتبار وان كان ثابتا في الواقع ونفس الأمر ، وهو التوحيد المحقّق والاخلاص المطلق المسمّى في عرف المجرّدين بـ « مقام التجلية والنقص والتفريق ».

وأمّا الكلام المنقول عن الامام أبي جعفر الباقر ـ عليه‌السلام ـ ، فيمكن ان يكون المراد منه : انّ اطلاق العالم والقادر عليه ـ تعالى ـ ليس كاطلاقهما على واحد منّا ، فانّ اطلاقهما على واحد منّا إنّما يكون باعتبار قيام مبدأ اشتقاقهما ـ أعني : العلم والقدرة ـ به ، واطلاقهما عليه ـ تعالى ـ ليس بذلك الاعتبار لامتناع قيام الشيء به ـ تعالى ـ. وانّما اطلقوا لفظ العالم عليه من حيث وجدوا انّه ـ تعالى ـ هو الّذي وهب العلم للعلماء وافاضه عليهم ، والمفيد لغيره كمالا لا يمكن أن يكون عاريا عنه ، فحكمنا عليه ـ تعالى ـ / ١٩٤ DB / بأنّه عالم لأجل ذلك. وعدم كون الشيء عاريا عن الكمال لا يوجب ان يكون بقيام الكمال به ، بل يمكن أن يكون لكونه عين ذاته ؛ وفي الواجب ـ تعالى ـ إنّما هو كذلك. وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية. قال بعض المشاهير بعد نقل الحديث المذكور : « هذا كلام حقّ دافع لقول من قال بزيادة الصفات الحقيقية على الذات ومؤيّد لقول من قال : صفاته الحقيقية عين ذاته ، لأنّه نفى كون صفاته مثل صفاتنا الزائدة ، بل

__________________

(١) راجع : نهج البلاغة ، الخطبة الأولى ص ٣٩.

٣٦٦

ليس له ـ تعالى ـ إلاّ كونه منشئا وواهبا لهذه الصفات فلا صفة حقيقية قائمة به ، وإنّما هو الذات البحت المنشأ والواهب لهذه الصفات ، وهذا هو المراد من العينية.

وقيل : معنى الحديث انّه لا يفهموا ان الله ـ تعالى ـ موصوف بما وصفتموه ـ من العلم والقدرة والحياة وغير ذلك ـ بالمعانى الّتي فهمتموها من تلك الصفات ، لأنّ كلّما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق ـ أي : حادث ممكن ـ مصنوع مثلكم ـ أي : في الامكان والحدوث والاحتياج إلى المادّة ـ مردود إليكم (١) ـ أي : بالحقيقة انتم مرجع هذا المميز ـ ؛ فلا ينبغي الاعتقاد بأنّه ـ تعالى ـ موصوف بمثل هذه الأشياء بهذه المعانى الّتي ميزتموها ، بل حالكم في هذا كحال النمل الصغار. فالعقلاء لمّا وجدوا انّ الله ـ تعالى ـ واهب العلم والقدرة وقصدوا بوصف خالقهم ما هو الأشرف عندهم وصفوه بهذه الصفات الّتي كانت أشرف عندهم من الطرف المقابل ، إلاّ أنّ في نفس الامر لا يوصف ـ تعالى ـ بهذه الأشياء ، بل له الطرف الأشرف من جميع الامور وإن لم يفهم انّه بأيّ نحو وما هذا الطرف الأشرف. وعلى هذا يكون الثابت له من الصفات ما هو الأشرف وعلى النحو الّذي هو الأشرف في الواقع ونفس الامر ، لا على النحو الّذي نفهمه ونتصوّره أشرف.

وغير خفي بأنّ هذا القائل إن كان مراده انّ معنى الحديث انّ الواجب كون الواجب ـ تعالى ـ على ما هو الأشرف في الواقع ونفس الأمر من الصفات وكيفية اتصافه بها وعدمها له أصلا وانّا لا نعلم ما هو الأشرف في الواقع مطلقا ؛

ففيه : انّه إذا لم يكن لنا سبيل إلى / ١٩٢ MB / تعقّل ما هو الأشرف في الواقع مطلقا وكان للواجب ـ تعالى ـ الطرف الأشرف في الواقع دون غيره لم يكن لنا القطع إلى اثبات شيء من الصفات له وعدم اثباته له وإلى اثبات نحو اتصافه ـ تعالى ـ بها ، فيلزم التعطيل المنفي بالعقل والنقل من الحديث المذكور ، مع أنّ هذا القائل صرّح بأنّ مضمون الحديث بالحقيقة نفي هذه الصفات ومؤيّد القول بالعينية. على انّه يلزم حينئذ عدم جواز حكمنا بوجوب اتصافه ـ سبحانه ـ بالطرف الأشرف في الواقع ـ لجواز كون

__________________

(١) راجع : بحار الأنوار ، ج ٦٩ ص ٢٩٣.

٣٦٧

ذلك أيضا نقصا في حقّه ـ ، فانّ العقل إذا كان معزولا في معرفته بالكلّية لم يكن له الحكم بذلك أيضا. وإن كان مراده انّ معنى الحديث إنّ بعض ما هو الأشرف يمكن لنا تعقّله فيجب أن نحكم بثبوته له ـ تعالى ـ في الواقع ولكن بعض آخر من الصفات وعدمها أو نحو اتصافه بها ممّا لا يمكن لنا تعقّل اشرفيته في الواقع وان حكم عقولنا ظاهرا بالأشرفية ، مثل انّا نعلم انّ هذه الصفات الكمالية المشهورة من الطرف الأشرف له وعدم كونها زائدة بل كونها عينا له أيضا من الطرف الأشرف في الواقع ، إلاّ انّا لا نعلم انّ العينية الّتي هو الأشرف في الواقع حقيقته ما ذا؟ ، وانّ كون تلك الصفات على الكمال الأتمّ الّذي لا يتصوّر أتمّ وأقوى وأكمل منه كما يليق بجناب قدسه كيف هو؟ ؛

ففيه : انّ ذلك مسلّم ونحن نقول به ، إذ المعقول لنا انّ تلك الصورة الكمالية ثابتة له ـ تعالى ـ مع عينيتها له ـ سبحانه ـ ، إلاّ انّ حقيقة تماميتها وكونها فوق التمام ـ كما يليق بجناب كبريائه ـ فغير معقولة لنا بكنهها كذاته ـ سبحانه ـ ، إلاّ انّ ذلك لا ينافي علمنا بعينيتها له في الواقع ونفس الأمر.

ويمكن أن يحمل قول القائلين بنفي الصفات عنه ـ تعالى ـ على هذا ؛ وحينئذ فيكون صحيحا ؛ فتأمّل.

اعلم! ، أنّ المحقّق الطوسي قال في شرح رسالة العلم : « المستند في اثبات حياته ـ تعالى ـ انّ العقلاء قصدوا وصفه ـ تعالى ـ بالطرف الأشرف من طرفي / ١٩٥ DA / النقيض ، ولمّا وصفوه بالعلم والقدرة ووجدوا انّ كلّ ما لا حياة له يمتنع الاتصاف بها وصفوه ـ تعالى ـ بالحياة ، لا سيّما وهو أشرف من الموت ـ الّذي هو ضدّها ـ. ونعم ما قال عالم من أهل بيت النبوّة ـ عليهم‌السلام ـ : هل يسمّى عالما وقادرا ـ ... إلى آخر الحديث الّذي نقلناه عن ابى جعفر الباقر عليه‌السلام ـ » (١).

ومراد المحقّق ـ كما قيل ـ : انّ طريق اثبات الحياة وغيرها من الصفات الكمالية للواجب ـ تعالى ـ عند العقلاء هو ان ينظروا إلى اشرف طرفي النقيض ـ أي : الّذي هو كمال للموجود بما هو موجود ـ ، ثمّ اثبتوه له ـ تعالى ـ ، فانّهم يقولون : انّ الواجب

__________________

(١) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة الخامسة عشرة ، ص ٤٣.

٣٦٨

ـ تعالى ـ ينبغي أن يكون صرف الوجود التامّ المبرّى عن كلّ قصور ونقصان ، فانّه إذا كان أحد طرفي النقيضين أشرف من الآخر ويكون كمالا للموجود المطلق من غير لزوم فقر ونقصان لجاز أن يكون للواجب ـ تعالى ـ ، وكلّما يجوز له ـ تعالى ـ بالامكان العامّ يجب ـ وإلاّ يلزم عدم الواجب بهذا الوجه ، وهو مناف للوجوب الذاتى الرافع لجميع انحاء العدم والبطلان عن ذاته ـ. مثلا ينظرون إلى الوجوب المنقسم إلى الوجوب بالذات وإلى الوجوب بالغير ، وكذا إلى العلم المنقسم إلى العلم التامّ المحيط بكلّ شيء من غير مدخلية تأثير الغير فيه وإلى العلم الناقص المستفاد من الغير المفقود بالنظر إلى ذات العالم ، ويحكمون بانّ الوجوب الذاتي وكذا العلم الذاتى بالقياس إلى الموجود بما هو موجود لا يوجبان النقص والعدم وهما ثابتان له ـ تعالى ـ ، بخلاف الغيري منهما ـ فانّهما معدومان مع قطع النظر عن تاثير الغير فيهما ، فلا يصلحان ان يثبتا للواجب سبحانه ـ.

وبهذا يندفع الايراد عليه بأنّه لو كان الأمر كذلك من اثبات اشرف طرفي النقيضين له ـ تعالى ـ يلزم اثبات الحسّ والحركة والذوق وغيرها له ـ تعالى ـ ، لأنّها أشرف من طرفها المقابل لها ؛

ووجه الاندفاع : انّ هذه ليست من الكمالات للموجود المطلق ، بل للموجود المقيد المخصّص بالاستعداد لنوع خاصّ من الموجود الناقص ، وغرض المحقّق عن ايراد كلام الامام ـ عليه‌السلام ، وهو قوله : « هل يسمّى عالما وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم » إلى العلماء إلى آخر ما نقل ـ : ان العقلاء مكلّفون إلى معرفته ـ تعالى ـ بالصفات الكمالية على وجه التنزيه عن النقائص والامكان وأن يثبتوا له ـ تعالى ـ مثلا العلم التامّ وكذا القدرة الكاملة الذاتية وكذا الإرادة الذاتية وغيرها من الصفات خارجة عن جنس ما نعقله نحن ، لأنّ كلّما حصل في المدرك ـ بل في عالم الامكان والتقييد ـ فهو راجع إلينا في كونه ممكنا محتاجا ، فلا يصلح أن / ١٩٣ MA / يكون له ـ تعالى ـ ، بل ينبغى ان يجعلوها من حيث انّها مدركة وعنوان للأمر اللائق بجنابه ـ تعالى ـ فما ندركه نحن له جهتان : جهة انّه مدرك لنا ، وهو بهذه الحيثية لا يليق به ـ تعالى ـ ، بل هو مثل الزبانيتين المثبتين له ـ تعالى ـ بالنسبة إلى النملة المستكملة بهما الحاكمة بنقص من فقد عنهما ؛

٣٦٩

وجهة انّه حاكية من الأمر الكمالي المجهول بالكنه ، وهو بهذا الاعتبار يجوز أن يثبت له ـ تعالى كما اثبتها في محكم كتابه في مواضع عديدة لذاته المقدّسة عن كلّ قصور ـ.

وأنت تعلم ان حاصل ما ذكره هذا القائل مقصودا للمحقق من كلام الامام ـ عليه‌السلام ـ هو : انّا نعلم انّ تلك الصفات الكمالية ثابتة له ـ تعالى ـ ، إلاّ ان ثبوتها ليس من جهتها الّتي فيها نقص وامكان ، بل من جهتها الّتي ليس فيه ذلك وهو الجهة الّتي ليست معقولة لنا وإن علمنا اجمالا انّ تلك الصفات من جهة غير معقولة لنا ثابتة له ـ تعالى ـ في الواقع.

وأنت تعلم انّ ذلك راجع إلى ما ذكرناه ، لا إلى التعطيل المنفي.

وقريب منه ما ذكره المحقّق الدواني حيث قال بعد نقل كلام الامام ـ عليه‌السلام ـ : هذا الكلام دقيق رشيق أنيق صدر عن مصدر التحقيق ومورد التدقيق ، والسرّ في ذلك انّ التكليف لمعرفة الله إنّما هو بحسب الوسع والطاقة ، فانّهم كلّفوا بأن يعرفوه بالصفات الّتي الفوها فيهم مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إليهم. ولمّا كان الانسان واجبا لغيره عالما قادرا مريدا حيّا متكلّما سميعا بصيرا كلّف بأن يعتقد أنّ تلك الصفات في حقّه ـ تعالى ـ مع سلب النقائص / ١٩٥ DB / الناشئة من انتسابها إلى الانسان بأن يعتقد انّه واجب لذاته لا لغيره عالم بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات مريد لجميع الكائنات ـ وهكذا في سائر الصفات ـ ، ولم يكلف باعتقاد صفة فيه ـ تعالى ـ لا يوجد مثاله ومناسبة بوجه ، ولو كلّف به ما امكن تعقّله بالحقيقة ، وهكذا اخذ معنى قوله ـ عليه‌السلام ـ : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (١) مع انّه ـ تعالى ـ قال : ( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (٢).

وإذا عرفت معنى عينية الصفات وعلمت جلية الحال فاعلم! : أنّ الحياة في الواجب لمّا كان عبارة عن صحّة العلم والقدرة فهي كسائر صفاته تكون عين ذاته ، بمعنى أنّ ذاته بذاته منشئا لها. وليست هي أمرا زائدا ممتازا موجودا في ذاته حتّى يلزم التركّب والتكثّر ، بل هي مفهوم اعتباري تغايرها من سائر الصفات ليس إلاّ

__________________

(١) راجع : بحار الانوار ، ج ٢ ص ٣٢.

(٢) كريمة ٩١ ، الانعام ؛ وغيرها من الآيات.

٣٧٠

بالاعتبار. ونسبتها إلى العلم والقدرة ـ أعني : صحّة الفعل والترك ـ كنسبة القدرة إلى الفعل والترك ، بمعنى انّه كما انّ صفة القدرة مثلا ـ أعني : صحّة الفعل والترك ـ منشئا لهما فكذا صفة الحياة ـ أعني : صحّة العلم والقدرة ـ منشئا لهما ، والمنشأ الّذي هو حقيقة الكلّ ليس إلاّ ذاته ـ سبحانه ـ.

وأمّا الحياة في الحيوان فقد عرفت انّها صفة تقتضي الحسّ والحركة ، وينبغى أن تكون هذه الصفة مغايرة للحسّ والحركة ولقوّة التغذية أيضا. واستدلّ الشيخ في القانون على مغايرتها لهما بأنّ العضو المفلوج حيّ وإلاّ لتعفّن وليس فيه الحسّ والحركة الارادية ؛ وعلى مغايرتها لقوّة التغذية بأنّ العضو الزائل حيّ وليس بمتغذّ.

وأورد على الأوّل : بأنّ العضو المفلوج ليس مسلوب الحسّ بالكلّية ؛

وعلى الثاني : بأنّه يجوز أن تكون قوّة التغذية في العضو الزائل ضعيفة بحيث تكون تغذيتها أقلّ من التحلّل ، فلذلك يظهر الذبول.

وقيل : لو استدلّ على الأوّل بالعضو المنحدر لكان أتمّ.

وفيه : إنّ ما أورد على العضو المفلوج قائم هنا أيضا ، فانّه يمكن أن يقال : انّ العضو المنحدر ليس مسلوب الحسّ والحركة بالكلّية ، فكلّ واحد منهما فيه غير تمام لا أنّه غير حاصل بالتمام.

وغير خفي بأنّ الإيرادين المذكورين موجّهان على طريقة البحث والنظر. والبيان الّذي أورده غياث الحكماء ـ في شرح اثبات الواجب لأبيه ـ لدفعهما ليس بتمام. إلاّ أنّه قال بعضهم : انّه يعلم وجود الحياة في العضو المفلوج بدون قوّة الحسّ والحركة بالبداهة أو الحدس. قال صاحب المقاصد : الحقّ ان مغايرة المعنى المسمّى بالحياة للقوّة الباصرة والسامعة وغيرهما من القوى الحيوانية ممّا لا يحتاج إلى بيان ، والغرض انّ الروح الحيواني هو جسم لطيف بخاري يتكوّن من لطافة الأخلاط وينبعث من التجويف الأيسر في القلب ويسري في البدن بسريان عروق نابتة من القلب يسمّى بالشرائين هي محلّ الروح ، وهذا الروح حامل لقوى الحسّ والحركة والحياة. وقد علم بالحدس انّ الحياة غير الحسّ والحركة ، لأنّ زوال الحياة مستلزم للنقص وزوال الحسّ والحركة

٣٧١

غير مستلزم له ـ كما في العضو المفلوج ـ ، فتحدس من ذلك انّ هذا الروح من شأنه أن يفيض الحياة على عضو وان لم يفض عليه الحسّ والحركة. وذلك إمّا بأن يكون من شأنه افاضة الحياة على عضو وان لم ينفذ فيه وتوقّف افاضته للحسّ والحركة بنفوذه فيه ، فالعضو المفلوج لمّا لم ينفذ فيه هذا الروح لم يوجد فيه الحسّ والحركة. إلاّ انّه لاتصاله بما نفذ فيه هذا الروح افيض عليه الحياة ، ولذا لم ينقص أو بطريق آخر كان / ١٩٣ MB / ينفذ في عضو روح ضعيف كان من شأنه افاضة الحياة دون الحسّ والحركة ؛ فتأمّل! (١).

__________________

(١) ما وجدته. وانظر : شرح المقاصد ، ج ٤ ص ١٣٨.

٣٧٢

الفصل الرابع

في اثبات إرادته ـ سبحانه ـ

٣٧٣

( الفصل الرابع )

( في اثبات إرادته ـ سبحانه ـ )

اعلم! أنّه اتّفق أهل الملّة وأرباب الحكمة على أنّه ـ سبحانه ـ مريد. وقد استدلّ الأشاعرة على وجوب كونه مريدا بأنّ تخصيص بعض الممكنات بالوقوع دون البعض في بعض الاوقات دون البعض مع استواء نسبة الذات إلى الكلّ لا بدّ أن يكون لصفة شانها التخصيص ـ لامتناع التخصيص بلا مخصّص وامتناع احتياج الواجب في فاعليته إلى امرّ منفصل ـ ؛ وتلك الصفة هي المسمّاة بالارادة.

وحاصل هذا الاستدلال أنّ ذات الواجب باعتبار القدرة لا يكفي في الايجاد والتأثير ، لأنّ الذات باعتبار القدرة يكون نسبته إلى الفعل والترك وكذا إلى الضدّين متساوية ـ لأنّ القدرة هى صحّة الفعل والترك ـ. / ١٩٦ DA / وكذا مطلق العلم يتعلّق بالطرفين وبالضدين ، فنسبته إلى الطرفين والضدّين على السواء ، فالعلم المطلق أيضا لا يمكن أن يكون مخصّصا ، فلا بدّ من أمر آخر لتخصيص أحد الطرفين وأحد الضدّين ، وذلك الامر الآخر المخصّص لأحد الطرفين هو الإرادة.

ويرد على هذا الاستدلال : إنّ الصفة الّتي هي الإرادة كما يمكن تعلّقها بأحد الضدين يمكن تعلقها بالضدّ الآخر أيضا ، فالتعلّق بأحدهما دون الآخر إمّا أن لا يحتاج إلى مخصّص ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح مع لزوم عدم الاحتياج إلى الإرادة حينئذ رأسا لكفاية القدرة حينئذ في الايجاد والتأثير نظرا إلى مساواة الإرادة لها في استواء نسبتها إلى

٣٧٤

الطرفين والضدّين ـ. فلمّا جوّز تعلّق الإرادة بأحد الطرفين والضدّين دون الآخر فليجوّز ذلك في القدرة أيضا بلا تفاوت ؛

أو يحتاج إلى مخصّص آخر ، فننقل الكلام إليه ؛ فيلزم التسلسل.

فإن قيل : ذات الإرادة كافية للترجيح ؛

قلنا : قد علم بطلان ذلك فيما سبق. مع أنّه لو صحّ أن يقال ذلك لصح أن يقال :

ذات القدرة أيضا كافية للترجيح.

وإن قيل : لا نسلّم أنّ نسبة الإرادة إلى الطرفين أو الضدّين على السواء ، لجواز أن يكون أحدهما ممتنعا فلا يتعلق به الإرادة ؛

قلنا : هذا جار في القدرة بعينه من دون تفاوت.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ مسلك الأشاعرة في اثبات الإرادة باطل ، فالمسلك الصحيح في اثباتها ـ بعد اجماع المليين والفلاسفة واطباق شرائع الأنبياء ـ كونها صفة كمال ، فيكون الفاعل بالارادة اشرف من الفاعل لا بالارادة. وكونه ـ سبحانه ـ خالقا لصاحب الإرادة فيجب أن يكون مريدا ، كما أنّ خالق العلماء يجب أن يكون عالما. قال المحقّق الطوسي في شرح الرسالة : « الإرادة في الحيوان هو شوق إلى حصول المراد أو داع يدعوا إلى تحصيله لما يتخيّل أو يتعقّل من ملائمته. ولمّا كان من دأب العقلاء أن يصفوا بارئهم بما هو أشرف طرفي النقيض وحسبوا أنّ كلّ ما يوجد بإرادة أشرف ممّا يصدر الفعل عنه من غير إرادة وصفوه بالارادة. وهي اخصّ من العلم ومرتبة فوقه ، لأنّ كلّ ما لا يعلم لا يمكن أن يراد وقد يعلم ما لا يراد » (١).

وإذا علمت ذلك فاعلم : أنّ الإرادة فينا شوق متأكّد يحصل عقيب داع هو تصوّر الشيء الملائم تصورا علميا أو ظنيا أو تخييليا موجبا لتحريك الاعضاء الآلية لأجل تحصيل ذلك الشيء.

وأمّا في الواجب ـ سبحانه ـ فالأشاعرة على أنّها صفة قديمة زائدة على الذات قائمة متغايرة للعلم والقدرة وسائر الصفات ؛

__________________

(١) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة الثانية عشرة ص ٤١.

٣٧٥

والجبائية على أنّها صفة زائدة قائمة بغير محلّ ؛

والكرامية على أنّها صفة حادثة قائمة بالذات ؛

وبعضهم على أنّها صفة سلبية بمعنى كون الفاعل غير مكره وغير ساء ؛

والكعبى على أنّ إرادته لفعله ـ تعالى ـ هو علمه به ، ولفعل غيره هو الأمر ؛

والمحقّق الطوسي وجمع من رؤساء المعتزلة على أنّها هي العلم

الخاصّ بما في وجود المخلوقات من المصالح الراجعة إليهم ـ أي : العلم بالنفع ، وهو الداعي ـ ؛

والفلاسفة علي انها هي العلم بنظام الكلّ على الوجه الاتمّ الاكمل.

ثمّ بطلان مذهب الأشاعرة ومن يقربهم من الجبائية والكرامية في غاية الظهور ؛

أمّا أوّلا : فلبطلان كون صفاته ـ سبحانه ـ زائدة على ذاته قائمة بها ـ للزوم التركّب والتكثر والنقص والافتقار ـ ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة وإن كانت قديمة عند الأشاعرة إلاّ أنّ تعلّقها حادث ، ففي تعلّقها بأحد الطرفين أو الضدّين لا بدّ له من مرجّح سوى الإرادة ـ كما عرفته مرارا ـ. والأشاعرة قالوا : لا حاجة إلى مرجّح في هذا التعلّق ـ لأنّ ترجيح الفاعل المختار بلا مرجّح جائز ، انّما المحال الترجّح بلا مرجّح ـ. وأنت قد عرفت فساد هذا القول ، فانّ الإرادة وإن كانت كافية لترجيح نفس الفعل لكن تعلّقها به لا مرجّح له ؛ ولذا إن سئل : لم اردت هذا الطرف دون الطرف الآخر لم يحر جوابا / ١٩٤ MA / ولم يستطع أن يقول : لأني أردته!. على أنّ الترجّح بلا مرجّح مستلزم للترجيح بلا مرجّح ، لأنّ الترجيح لا ينفكّ عن الترجّح ـ يقال : رجّحته فترجّح ، فانّ التفعّل مطاوع فعل ـ ؛ فاذا كان الأصل ـ أعني : الترجيح ـ بلا مرجّح كان المطاوع ـ أعني : / ١٩٦ DB / الترجّح ـ أيضا كذلك. على أنّ معنى الترجّح بلا مرجّح هو اختيار الفعل لأحد الطرفين مع تساوي نسبته إليهما ، ونحن نقول مع تساوي نسبة الطرفين إلى إرادة الفاعل إذا تعلّق إرادته بأحدهما من غير سبق إرادة اخرى بكون مرجّح لحدوث الإرادة الأولى يكون حدوث هذه الإرادة ترجّحا بلا مرجّح لا ترجيحا بلا مرجّح لأنّ الإرادة شيء من الأشياء موجود من

٣٧٦

الموجودات والفرض أنّ حدوثها وعدم حدوثها بالنسبة إلى أحد الطرفين على السواء ولا رجحان على عدم حدوثها ، ومع ذلك إنّها وجدت وحدثت من دون مرجّح من الارادات المتسلسلة إلى غير النهاية. والفاعل من حيث هو فاعل من دون انضمام مرجّح آخر لا يصحّ لأن يكون مرجّحا لحدوث هذه الإرادة ؛ فاذا حدثت مع ذلك لترجّحت وجودها على عدمها من دون رجحان ـ وهو الترجّح بلا مرجّح ـ. فالمتحقّق في هذه الصورة ليس إلاّ الترجّح بلا مرجّح حتّى يتحقّق الاستلزام ، لأنّ رجحان وجود الإرادة على عدمها ناش من قبل نفسها لا من قبل الفاعل ، فيكون ترجّحا لا ترجيحا.

وقال بعض تابعي الأشعري : إنّ هذا الاستلزام مندفع بالتخصيص.

وهذا القول يحتمل وجهين :

أحدهما : إنّه وإن لزم الترجّح بلا مرجّح في تعلّق الإرادة بأحد طرفي المقدور ـ لاستواء نسبتهما إليه ـ ، لكن هذا القسم من الترجّح ـ أي : الّذي في صورة الإرادة ـ جائز ، فانّ الترجيح المحال انّما هو الترجيح الّذي لا يكون في ضمن الترجيح بلا مرجّح بالارادة ؛ وأمّا إذا كان في ضمنه ـ كما فيما نحن فيه ـ فهو جائز. والحاصل : إنّ قولنا : إنّ الترجيح بلا مرجّح انّما يتحقّق إذا لم يكن هناك فاعل مرجّح بإرادته ، وإذا كان فاعل مرجّح بإرادته فلا يلزم ترجّح بلا مرجّح أصلا.

وأنت خبير بانّ كلا الوجهين في غاية السقوط ؛

امّا الأوّل : فلأنّ الترجيح بلا مرجّح باطل مطلقا ـ سواء كان في ضمن الترجيح بلا مرجّح أو لا ـ ، والتخصيص فيه تخصيص في القواعد العقلية ؛

وامّا الثاني : فلما عرفت من أنّ الترجيح لا ينفكّ عن الترجّح ، فاذا فرض تساوي نسبة تعلّق إرادة الفاعل إلى الفعل أو الترك حتّى كان ترجيحه بلا مرجّح لكان الترجيح المترتّب عليه أيضا بلا مرجّح وإن كان الفاعل مختارا ، لأنّ تساوي اختياره في التعلّق بالطرفين من غير تعلّق الإرادة متسلسلة لا إلى نهاية يوجب لزوم الترجّح بلا مرجّح من غير آخرية لأحدهما.

وقد ظهر بما ذكر أنّه لا ريب في بطلان مذهب الأشاعرة وما يقربه من المذاهب

٣٧٧

المذكورة ما عدا المذهبين الاخيرين ـ أعني : مذهب المحقّق الطوسي ورؤساء المعتزلة ومذهب الفلاسفة ـ ، فلنتكلّم في هذين المذهبين.

فنقول : أمّا مذهب المحقّق ـ أعني : القول بكون الإرادة عين الذات ، أعني : العلم بالمصلحة والنفع ـ فاستدلّوا عليه بأنّه لا يمكن أن يكون الإرادة أمرا آخر سوى الداعي ، إذ لو كانت أمرا آخر سواه لزم التسلسل ، وإلى هذا اشار المحقّق الطوسي في التجريد بقوله : « وليست زائدة على الداعي وإلاّ لزم التسلسل أو تعدّد القدماء » (١).

ثمّ قيل : ان المحقّق الطوسي ومن تبعه في كون الإرادة هو الداعي لمّا ذهبوا إلى أنّ الداعي هو عين الذات فحاصل الدليل : أنّ الإرادة ـ الّتي هي أمر لا يترجّح أحد متعلّقى القدرة على الآخر إلاّ به ـ ليست زائدة على الذات ، وإلاّ لزم التسلسل في الإرادة ـ كما التزمه بعض مشايخ المعتزلة ـ ، أو تعدّد القدماء ـ كما التزمه بعض المتكلّمين ـ ، وكلاهما محالان. وحينئذ يندفع ما أورد على هذا الدليل المذكور : بأنّ لزوم التسلسل أو تعدّد القدماء لازم على أيّ حال إذا كانت الإرادة زائدة على الذات ـ سواء كانت نفس الداعي أو أمرا آخر / ١٩٧ DA / زائدا عليه ـ. والحاصل : إنّ الإرادة لو كانت زائدة على الذات يلزم أحد الامرين من تعدّد القدماء أو التسلسل ـ سواء كانت الإرادة زائدة على الداعي أو لا ـ ، فلا يثبت بهذا المدّعى ـ وهو عينية الإرادة للداعى ـ ، إذ لنا أن نسلّم عينية الإرادة للذات وعدم عينيتها للداعى. وحينئذ لا يلزم شيء من المحذورين المذكورين ، إذ بعد عينيتها للذات لا مجال ليتصوّر لزوم التسلسل أو تعدّد القدماء وإن كانت غير الداعي.

ووجه الاندفاع : إنّ الداعي هو عين الذات عند من استدلّ بهذا الدليل ـ أعني :

المحقّق وامثاله ـ ، فمقصودهم من قولهم : إنّ الإرادة غير زائدة على الداعي أنّها غير زائدة على الذات أيضا ، بل هي عين الذات وإلاّ لزم أحد الامرين المذكورين من التسلسل أو تعدّد القدماء.

وردّ الدفع المذكور بأنّه على هذا لا يكون القدرة أيضا زائدة / ١٩٤ MB / على الداعي ، فانّ الصفات كلّها عين الذات عند المحقّق وامثاله ، فلا وجه لحكمهم بانّ الإرادة

__________________

(١) راجع : المسألة الرابعة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢٢٣.

٣٧٨

ليست زائدة على الداعي دون القدرة وباقي الصفات المذكورة. والحاصل : إنّ الكلام في الصفات المتغائرة بالاعتبار ، وهو لا ينافي عينية الكلّ للذات ـ تعالى شأنه ـ. ولا يلزم أن يكون البحث عن الصفات واثباتها ونفيها على مذهب العينية لغوا محضا ، فلا بدّ للمستدلّ من اثبات أنّ الإرادة ليست مغايرة للداعى بالاعتبار أيضا وليست اعتبارا آخر للذات سوى الداعي.

فحاصل الايراد المذكور على الدليل المذكور : إنّ ما ذكر من التسلسل أو تعدّد القدماء يلزم على زيادة الإرادة على الذات ، فيدلّ على عينيتها للذات دفعا للمفسدة ، ولا يلزم منه أن يكون عين الداعي كما لا يلزم من عينية الصفات للذات أن يكون بعضها عين بعض حتّى لا يتعدّد الصفات بالاعتبار أيضا. والحاصل إنّ عينية الداعي للذات بحسب الواقع والخارج لو كان منشئا للحكم بأنّ الإرادة عين الداعي كذلك يوجب الحكم بانّها عين القدرة والتكلّم والحياة وغيرها كذلك ، لأنّ جميعها عين الذات في الخارج وإن كانت متغايرة ومغايرة للذات بالاعتبار ، فالتخصيص تحكّم!.

وإن قيل : المراد إنّ الداعي عين الذات بحسب الاعتبار أيضا بمعنى أنّه لا تغاير بينهما ولو بحسب الاعتبار ، والإرادة أيضا عين الداعي كذلك ـ أي : لا تغاير بينهما ، لا في الخارج ولا في الاعتبار ـ.

قلنا : هذا بديهى البطلان! ، لأنّ التغاير الاعتباري بين الذات والداعي وبين الإرادة والداعي ممّا لا يمكن أن ينكره عاقل. على أنّه لو صحّ هذا القول لصحّ اجرائه في باقي الصفات بالنسبة إلى الذات وبنسبة بعضها إلى بعض أيضا ، فالتخصيص تحكّم باطل!.

وأجيب عن هذا الردّ : بأنّ الداعي كالارادة عين الذات عند المحقّق ، فمراده من قوله : إنّ الإرادة عين الداعي : أنّها عين الذات وحينئذ يتمّ الدليل ، لأنّ المورد معترف بانّ الدليل تمام على تقدير اجرائه على عينية الإرادة للذات. للداعى ايماء إلى أنّ علمه ـ تعالى ـ بصلاح نظام العالم وبمنافع الغير وترتيب الخير ـ المسمّى بالداعي ـ هو نفس الإرادة المرجّحة لأحد طرفي المقدور ، وهذا ممّا لا يحتاج إلى دليل. وما ذكر ليس دليلا

٣٧٩

لذلك ، بل هو دليل لعينية الإرادة للذات. وحينئذ لا يرد على المحقّق ومن تابعه إنّ عينية الداعي للذات لو كان موجبا لعينية الإرادة له يلزم عينية جميع الصفات الحقيقية بعضها للبعض ـ كعينية القدرة للارادة وعينية السمع للكلام بمعنى التكلّم ، الّذي هو أيضا عين ذاته وإن كان الكلام بمعنى المؤلّف من الحروف والاصوات زائدا على ذاته تعالى ـ. وخلاصة هذا الجواب : إنّ مراد المحقّق وغيره ممّن استدلّ بهذا الدليل على بيان عينية الإرادة للذات لا للداعي حتّى يرد أنّ الفساد اللازم من هذا الدليل ـ أعني : التسلسل وتعدّد القدماء ـ يلزم على تقدير كون الإرادة زائدة على الذات وإن كانت عينا للداعي ، وإن وقع ذلك بأنّ الداعي عند المحقّقين عين الذات ، فالمقصود إنّ الإرادة عين الذات أيضا.

وردّ عليه حينئذ أنّ جميع الصفات كذلك ، فتخصيص هذا الحكم بالارادة تحكّم!. وأمّا إذا كان المراد بيان مجرّد عينية الإرادة للذات دون الداعي فلا يرد شيء ممّا ذكر ، غاية ما في الباب إنّه عبّر عن الذات بالداعي للنكتة المذكورة.

وأنت تعلم أنّ هذا الجواب ليس / ١٩٧ DB / بشيء ، لأنّ لبيان عينية الصفات للذات ـ سواء كانت إرادة أو غيرها ـ مبحثا على حدة ؛ وقد اشار المحقّق أيضا بعد ذلك إلى عينية جميع الصفات ، فتخصيص عينية الإرادة حينئذ هنا بالذكر لا وجه له. على أنّ المحقّق وغيره ممّن استدلّ بهذا الدليل مذهبهم أنّ الإرادة عين الداعي ، فلا بدّ لهم من اقامة برهان على ذلك ، فلو لم يجعل هذا الاستدلال برهانا على ذلك لنفي مذهبهم هذا يكون مجرّد دعوى من دون حجّة لاثباته.

وما اشار إليه المجيب المذكور من : « أنّ عينية الإرادة لعلمه ـ تعالى ـ بصلاح نظام الخير لا يحتاج إلى دليل لظهوره » في غاية الوهن والضعف! ، لانّه إن كان مراده من العينية هو العينية الشاملة للعينية بحسب الاعتبار والمفهوم أيضا فبطلانه لا يحتاج إلى بيان ، لأنّا نعلم بديهة أنّ الإرادة مغايرة بحسب الاعتبار للعلم بالاصلح ؛ وإن كان مراده من العينية هو العينية بحسب الخارج دون الاعتبار فجميع صفات الواجب عين ذاته بهذا المعنى وبعضها عين البعض الآخر كذلك ، فاذا لم يحتج عينية الإرادة منها للداعي لم يحتجّ عينية الإرادة وغيرها من الصفات للذات أيضا إلى دليل. وممّا يدلّ على أنّ حكم المحقّق

٣٨٠