جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

لا بصورة زائدة عليها ، فتجريد الصورة وتعقّلها إنّما / ١١٤ MB / هو في العلم الحصولي الانطباعي دون الحضوري كيف ولو كان من شرط كلّ ادراك أن يكون بتجريد الصورة من العين الخارجي لزم التسلسل في الصور.

بيان ذلك : انّ من أدرك صورة ذهنية لا ريب في انّ تلك الصورة معلومة له بالحضور الاشراقي ، أي : معلومية تلك الصورة إنّما هي بعين تلك الصورة لا بصورة أخرى والاّ لتوقّفت تلك الصورة الأخرى أيضا إلى صورة ثالثة ... وهكذا ، فيلزم التسلسل في الصور ؛ ومع ذلك يلزم أن تجتمع صور متساوية في الماهية مختلفة بالعدد في محلّ واحد ؛ وهو محال.

وممّا يدل على ثبوت العلم الحضوري الغير المحتاج إلى صورة أخرى غير حضور ذات المدرك لنا : انّا نتألّم بتفرّق اتصال وقع في عضو من أعضائنا ونشعر به وليس ذلك بأنّ تفرّق الاتصال تحصل له صورة أخرى في ذلك العضو أو في غيره ، بل المدرك نفس تفرّق الاتصال والألم المحسوس بذاته لا بصورة تحصل منه ، فيظهر منه انّ من الأشياء المدركة ما يكفي في ادراكها مجرّد حضور ذاتها للنفس أو لأمر له تعلّق حضوري خاصّ بالنفس.

ثمّ كما انّ علم النفس بذاتها وبالصورة القائمة بها ـ سواء كانت صورا لأشياء الخارجية حاصلة للنفس بالتجريد أو صورا خلقية قائمة بها من الشجاعة والسخاوة والمحبّة وغيرها ـ انّما هو بحضور ذات النفس وذوات تلك الصور لا بحضور صورة أخرى زائدة عليها ، كذلك قد يدرك غير ذاتها وغير تلك الصور أيضا لا بحصول صورة ذهنية زائدة ، كما تدرك النفس المجرّدة بدنه الخاصّ الّذي تحرّكه وتصرف فيه وقوّته المفكّرة الّتي يستخدمها في تركيب الصور والمعاني الجزئية وتفصيلها وفي / ١٠٩ DB / ترتيب الحدود الوسطى ، وبتلك الاستخدام نجرّد الكلّيات وننزعها من الجزئيات ونأخذ النتائج من المقدّمات. وبانضمام ذلك الاستخدام إلى ما يدركه بنفسها من دون الاستخدام ندرك الأشياء جميعا ، وكذلك ندرك قوّتها الخيالية والوهمية الشخصيين بذاتهما لا بصورة زائدة منتزعة عنهما. وكذا ندرك مدركات تلك القوى والأشياء الحالّة

٢١

فيها بالحضور والمشاهدة بدون صور زائدة ، ولو كان ادراك النفس لتلك الأمور بصور مأخوذة عنها لأدركتها على الوجه الكلّي ، لما مرّ من أنّ كلّ صورة تجرّدها النفس وتحصل فيها فهي كلّية وان تحصّلت من كليّات كثيرة ؛ وحينئذ لم تكن مانعة من الشركة. وهو خلاف الواقع ، لانّ نفس تعقّل كلّ واحد من تلك الأمور مانع عن الشركة.

قيل : وممّا يدلّ على ثبوت العلم الحضوري : انّ النفس في مبدأ فطرتها خالية عن العلوم الانتقاشية كلّها ، ولا ريب في أنّ حصول كلّ علم انطباعي يتوقّف على استعمال الآلات ، واستعمال الآلات يتوقّف على العلم بالآلات ، فلو كان ذلك العلم ـ أي : العلم بالآلات ـ بالارتسام لزم توقّفه على استعمال الآلات المتوقّف على العلم بالآلات ، وهكذا يعود الكلام ؛ فامّا أن يدور أو يتسلسل ، وهو باطل. فأوّل علوم النفس هو علمها بذاتها ، ثمّ علمها بقوى البدن والآلات الّتي هي الحواسّ الباطنة والظاهرة ـ وهذان العلمان من العلوم الحضورية ـ ، ثمّ بعد هذين العلمين ينبعث عن ذات النفس لذاتها استعمال الآلات بدون تصوّر هذا الفعل الّذي هو استعمال الآلات والتصديق بفائدته ، فانّ هذا الاستعمال ليس فعلا اختياريا بمعنى كونه حاصلا بالقصد والرويّة وان كانت النفس عالمة به مريدة له ، لأنّ إرادة ذلك الفعل إنّما تنبعث عن ذاتها لا من رويتها. فذاتها بذاتها موجبة لاستعمال الآلات لا بإرادة اختيارية زائدة عليها قائمة بها ، بل لمّا كانت ذاتها في آن وجودها عالمة بذاتها وعاشقة لها ولفعلها ـ عشقا ناشئا عن الذات لذاتها ـ اضطرّت إلى استعمال الآلات الّتي لا قدرة لها بدونه.

وبذلك يندفع ما قيل : انّ استعمال الآلات من الحواسّ الظاهرة والباطنة فعل اختياري وصدور كلّ فعل اختياري مسبوق بالتصوّر والتصديق بفائدة ما ، فوجب أن تحصل قبل استعمال الآلات صور تصورية وتصديقية ، وذلك لانّ نسبتي صدور استعمال الآلات وعدمه ليستا متساويتين ليلزم الاحتياج إلى المرجّح من تصوّر الفعل والتصديق بالفائدة قبل الاستعمال ، بل المرجّح والمقتضي ذات النفس ، فينبعث الاستعمال عن الشوق الذاتي الّذي هو عين ذاتها الدرّاكة الفعّالة ، فلا يكون مسبوقا بتصوّر ذلك

٢٢

الفعل ؛ بل صدور ذلك الجزئي عن النفس هو بعينه تصوّرها له بلا صورة / ١١٥ MA / مستأنفة أخرى ـ كما أدّى إليه ذوق أهل الاشراق ـ ؛ انتهى.

وما ذكره من أنّ استعمال النفس لقواها وآلاتها لا يتوقّف على قصد زائد ـ بل هو ناش عن ذاتها وارادتها له عبارة عن كونه معشوقا محبوبا ، لأنّ كلّ شيء يحبّ فعله من حيث انّه فعله ـ قريب ممّا ذكره الحكماء في إرادة الواجب من أنّ ارادته لفعل ليس بقصد زائد وليس فعلها وتركها متساويين عنده حتّى يحتاج إلى مرجّح ، بل ذاته يقتضي فعلها. وكونه مرادا له : انّه محبوب عنده مرضي لديه ، لانّ كلّ فعل ناش عن الذات معشوق عند الذات.

ثمّ إن قيل : إن كان الاستعمال ناشئا عن ذات النفس وعن شوقها الذاتي فما الباعث لاختلاف الاستعمالات في النفوس قلّة وكثرة وشدّة وضعفا؟ ، ووقوع بعضها في محلّه وبعضها في غير محلّه؟ ، وكون بعضها موجبا للنجاة وبعضها باعثا للهلاك؟ ـ وغير ذلك ـ ؛

قلنا : الباعث في ذلك اختلاف النفوس واختلافهما في الأفعال ، وكون كلّ منها عاشقة لفعلها المخصوص بها اللازم لها.

فان قيل : لا ريب في أنّ علم النفس بالصور الحاصلة لها القائمة بها علم حضوري لا يتوقّف على صورة زائدة وإلاّ لزم التسلسل ، وأمّا علمها بغير تلك الصور من الأشياء الخارجية ـ سواء كان ذاتها أو ما يتعلّق بها من القوى أو الآلات أو غيرهما ـ لا بدّ أن يكون بالصور الزائدة ولا يمكن أن يكون على سبيل الحضور ، فكلّ ما يصير معلوما للنفس من الأشياء الخارجة انّما ينكشف بتجريد صورته وقيامها بالنفس ، وأمّا نفس تلك الصورة فهي حاضرة عند / ١١٠ DA / النفس ملاحظة ايّاها ، فالربط والمناسبة اللازمتان في تحقّق الانكشاف بين النفس وبين تلك الصور هو قيامها بها ، وبين النفس وبين ذي الصورة هو قيام صورته بها. وبالجملة علم النفس في الأمور الخارجية والأشياء العينية ولو كانت ذاتها أو قواها وآلاتها لا يمكن أن يكون بالحضور ، بل لا بدّ أن يكون بتجريد صورها وحصول تلك الصور للنفس. وحينئذ كلّ شيء يكون

٢٣

معلوما للنفس فانّما يكون معلوما على وجه كلّي ، لانّ العلم الانطباعي الارتسامي الحاصل للمجرّد لا يكون إلاّ كلّيا.

وممّا يؤكّد ذلك انّ مبلغ علم كلّ نفس بذاتها هو أنّها تعلم أنها حقيقة مجرّدة متّصفة بكذا وكذا ، وهذا لا يكون الاّ كلّيا وان انضمّ إليه الف مخصّص من الكلّيات ، وكذا مبلغ علمه بخياله وواهمته وتخيّله وبدنه الخاصّ به ، فانّ المعلوم له من كلّ واحد منها انّ له قوّة أو بدنا من شأنه كذا وكذا ؛ وبالجملة انّ علم كلّ نفس بكلّ واحد من ذاتها وقواها وآلاتها إنّما هو على الوجه الكلّي ـ أي : يعلم أنّ واحدا منها متّصفا بصفة كذا وكذا من الصفات الكلّية ـ ، ولا ريب في كونه علما انطباعيا يتجرّد فيه الصور عن الأشياء الخارجية وتحصل للنفس. وعلم كلّ نفس مجرّدة لنفس أخرى وقواها وآلاتها أيضا من هذا القبيل. وإذا علم المذكورات على وجه جزئي بأن يعلم من حيث عروض المادّيات ـ من الوضع الخاصّ والأين الخاصّ لها ـ فالعالم بذلك انّما هو بعض القوى الجسمانية دون النفس الناطقة ، ولا نسلم انّ المدرك لها حينئذ هو النفس. وحينئذ فمن أين يعلم انّ المدرك لهذه المذكورات هو النفس بالعلم الحضوري على وجه جزئي بأن يلاحظها ملاحظة حضورية من حيث كونها جزئية بسبب الارتباط الحاصل بين النفس وبينها ، أعني : كون المعلوم الحاضر نفس العالم ـ كما في علم النفس بذاتها ـ أو كون المعلوم متعلّقا بالعالم تعلّقا خاصّا ـ كما في علمها بقواها وآلاتها ـ ؛

قلنا : لا ريب في أنّ المراد من علم النفس بذاتها هو انكشاف ذاتها عندها وظهورها بين يديها وتعقّلها بأنّها هي ، وهذا لا يتوقّف على صورة زائدة أصلا وعلمها بأنّ حقيقتها كذا وكذا. وبالجملة تحديد ذاتها وتعريفها بالصفات الذاتية أو العرضية لا مدخلية له بما هو المقصود من العلم الحضوري الحاصل للنفس بذاتها ، لأنّه لا شبهة في أنّ علمها بأنّ حقيقتها كذا وكذا من العلوم الانطباعية لأنّه من العلوم التصورية أو التصديقية وكلاهما من اقسام العلم الحصولي ، وما نحن فيه ـ أي : حضور الذات للذات ـ غير هذين القسمين.

وممّا يظهر المطلوب انّ كلّ ما يقوم بذاته غير متعلّق الهوية والوجود بشيء آخر

٢٤

فهو موجود لذاته حاضر عند ذاته غير غائب ولا منفكّ ذاته عن ذاته ، وقد مرّ أنّ التعقّل هو حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد الموجود القائم بذاته وانكشافه لديه ووجوده بين يديه ، ولا ريب في أنّ النفس مجرّدة قائمة / ١١٥ MB / بذاتها ، فذاتها حاضرة لذاتها والتعقّل ليس إلاّ هذا. وأمّا علمها بنفس أخرى فلا بدّ أن يكون على سبيل الارتسام وتجريد صورة منها ، فيكون علما حصوليا ولا يمكن أن يكون حضوريا ، لعدم حضور هذه النفس للأخرى بذاتها لها ؛ ولا لأمر له تعلّق حضوري خاصّ بها ، ولذا تشير كلّ نفس إلى ذاتها بـ « أنا » وإلى ما عداها بـ « هو » ، لكونه زائدا عليها ، فعلم النفس بذاتها ليس سوى ذاتها وبما عداها بصورة زائدة عليها.

وأمّا علمها بقواها وآلاتها فالوجه في كونه حضوريا : انّ تلك القوى والآلات متعلّقة بالنفس تعلّقا خاصّا ليس مثله متحقّقا بينها وبين القوى والآلات الّتي لنفس اخرى ، فهذا التعلّق نوع ارتباط ومناسبة صار منشأ لحضورها عندها وانكشافها لديها ووجودها بين يديها ، فتدرك النفس أنّها قواها وآلاتها ويلاحظها بذواتها وان امكنها تعقّلها على وجه كلّي أيضا حتى يكون علما انطباعيا بأن يتصوّر حقيقة كلّ واحد منها بانّه كذا وكذا وشأنه كذا وكذا.

ثمّ انّ انكشاف المادّي بخصوصياته المعينة من الوضع والمقدار وغيرهما بالحضور لوجود علاقته ليس فيه بأس ـ لعدم لزوم كون المجرّد محلاّ للمادّي بلواحقه الغريبة ـ ، لأنّ انكشاف المادّي من حيث انّه مادّي وملاحظته الحضورية لا يوجب ارتسام هذا المادّي بلواحقه الغريبة في المجرّد حتّى يلزم كونه محلاّ لها ، بل الحاصل في المجرّد انّما هو مجرّد / ١١٠ DB / انكشاف لهذا المادّي بلواحقه على وجه يمنع الشركة ، لأنّ الانكشاف والملاحظة انّما هو على سبيل الجزئية ، ولذا لا يبقى فيه ابهام ، بخلاف ما لو ارتسم صورته فيه ، فانّه لو ارتسم المادّي بلواحقه الغريبة في المجرّد لزم كون المجرّد محلاّ لمادّي من حيث هو مادّي ، ولزم أيضا كون المدرك غير متّضح ؛ بل مبهما ، لانّ المدرك حينئذ ليس هو الذات الموجودة في الخارج حتّى إذا انكشف لا يبقى فيه الابهام ، بل المدرك هو الصورة والفرض انّها مخلوطة بغيرها من اللواحق ، وكلّ ما هو مخلوط بغيره لا يكون معلوما ما دام

٢٥

كونه مخلوطا بغيره ، فانّ الصورة إذا جرّدت تكون واحدة ممتازة وإذا كانت مخلوطة بالوضع الخاصّ والمقدار الخاصّ لا تكون ممتازة عن غيرها بالكلّية ، فلا تكون معلومة على سبيل الوضوح والانجلاء.

والحاصل : انّ المطلوب ادراكه وانكشافه في العلم الحضوري هو الموجود الخارجي ـ أي : الحقيقة الخارجية مع لوازمها الخاصّة ولواحقها المعينة ـ ، ولا ريب في انكشاف تلك الحقيقة الخارجية بلوازمها ولواحقها بالعلم الحضوري من دون التباس بغيرها واختلاط بما عداها ، فيكون المدرك حينئذ متّضحا حقّ الاتضاح.

وامّا المدرك بالعلم الحصولي فانّما هو الصورة دون الموجود الخارجي ، فكلّما تكون تلك الصورة المدركة أشدّ امتيازا عن غيرها يصدق انّ العلم بالصورة من حيث هي أوضح وأجلى ، وكلّما كانت أكثر اختلاطا بما سواها يصدق أنّ الخفاء فيها أكثر ؛ فالمادّي إذا علم بالعلم الحضوري أو الحصولي بالتجريد التامّ والنزع المحكم يكون معلوما متّضحا ، وإذا علم بالحصولي من دون التجريد التامّ ـ أي : لم تكن صورته المدركة مجرّدة ، بل كانت مع غشاوة ما من المادّة وعلائقها ـ لا تكون متضحة حقّ الاتضاح. فقد ظهر ووضح انّ العلم الحضوري لا يحتاج إلى صورة زائدة ذهنية ، بل الاحتياج إليها حيث يكون المدرك غير حاضر عند المدرك أصلا. وعدم حضوره إمّا لعدم وجوده في الخارج أصلا ـ كالمعدومات والممتنعات ـ ، أو لعدم وجوده عند المدرك وان كان موجودا في الخارج ـ كالاشياء الخارجة عن ذات المدرك غير متعلّقة به أصلا ـ ، فانّ كلّ واحد من الموجودات ليس متعلّقا وحاصلا لكلّ واحد وإلاّ لكان كلّ من له صلاحية العالمية عالما بالفعل بكلّ من له صلاحية المعلومية ، وليس كذلك. فلا بدّ في تحقّق العالمية والمعلومية بين شيئين مع صلاحيتهما لهما من علاقة ذاتية بينهما بحسب الوجود. فكلّ شيئين لهما صلاحية العالمية والمعلومية إذا تحقق بينهما علاقة ذاتية وارتباط وجودي يكون أحدهما عالما بالآخر ، لانّ تلك العلاقة مستلزمة لحصول إحداهما للآخر وانكشافه لديه. وهي قد يقع بين ذات العالم والموجود الخارجي ـ أي : ذات المعلوم ـ بحسب وجوده الخارجى كما في العلم الحضوري باقسامه ، فانّ الارتباط

٢٦

الموجب للانكشاف في هذا العلم إمّا ايجاد المدرك والمدرك ومعلوم انّه لا علاقة مصحّحة للارتباط أشدّ من هذا ؛ أو كون المدرك من حيث وجوده في الخارج لازما للمدرك ؛ / ١١٦ MA / أو مربوطا به لتحقّق نوع علاقة بينهما ـ ككونه آلة له ـ.

وقد تكون العلاقة بين ذات العالم وصورة الشيء المعلوم ـ كما في العلم الحصولي المحقّق ، لحصول صورة الشيء في ذات العالم ، أو في بعض قواه حصولا ذهنيا ـ ، والمدرك بالحقيقة هو نفس الصورة الحاضرة لا الموجود الخارجى الخارج عن التصوّر ، واطلاق المعلوم عليه انّما هو بقصد ثان ـ كما تقدّم ـ فالعلاقة الوجودية المستلزمة للعلم في الحقيقة إنّما هي بين العالم والصورة لا غير ، بخلاف المعلوم من حيث وجوده ـ أعني : بالعلم الحضوري ـ ، لانّ المعلوم بالذات فيه هو نفس ذات الشيء العينى لتحقّق العلاقة الوجودية بين هذه الذات الخارجية وبين العالم ؛ هذا.

وقيل : العلم الحضوري هو اتمّ صنفي العلم ، ومن ذهب إلى انّ العلم بالغير منحصر في الارتسام فقد أخطاء. نعم! ، الادراك على وجه يكون المدرك كلّيا مشتركا بين كثيرين ينحصر في الصورة الذهنية ، وهي المنقسمة إلى التصور والتصديق ؛ وهي الّتي تكون كاسبة ومكتسبة. فاذا تحقّقت العلاقة الوجودية المستلزمة للعالمية أو المعلومية بين ذات مستقلّة الوجود مجرّدة وصورة مرتسمة فيها فتحقّقها بين ذات مستقلّة الوجود وبين الصورة الّتي معلولة لها وصادرة عنها أولى واحرى ، لأنّ نسبة القابل الى المقبول بالامكان ونسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب ، فالعلاقة المتحقّقة بين العلّة ومعلولاتها الخارجية أوكد من العلاقة بين ذات الشيء والصورة المرتسمة فيها ـ كما حقّقه المحقّق الطوسي ـ. / ١١١ DA /

واعتراض المحقّق الدواني عليه في شرح العقائد لا يخلو عن تعسّف!.

المقدّمة الثانية : انّ كلّ ما يقوم غير متعلّق الهوية والوجود بشيء آخر ـ أي : كلّ مجرّد قائم بذاته ـ فهو موجود لذاته حاضر ذاته عند ذاته لا يغيب ذاته عن ذاته أصلا ، فيكون ذاته عالمة بذاته ومعلومة لذاته ومنكشفة عند ذاته ،

أمّا معلومية ذاته لذاته مع كون ذاته حاضرة لذاته فظاهر ممّا مرّ ، لأنّ التعقّل ـ كما

٢٧

مرّ في المقدّمة الاولى ـ عبارة عن حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد الموجود القائم بذاته ، فاذا كانت الذات بعينها حاضرة عند الذات تكون الذات عاقلة للذات عالمة بها بالعلم الحضوري ؛

أمّا كون كلّ مجرّد قائم بذاته حاضرا عند ذاته غير غائب عنها فبديهي لا يقبل التشكيك ، لأنّ الشيء لا ينفكّ عن نفسه.

قيل : إن اريد بالحضور ما هو المساوق للادراك أو الانكشاف وأمثالها ، فنمنع كون كلّ مجرّد قائم بذاته حاضرا بهذا المعنى عند ذاته ؛

وإن كان المراد منه ما هو الظاهر المتعارف ـ أي : غير المنفكّ وغير المتبادر وغير الغائب ـ ، فلا ريب انّ كلّ مجرّد قائم بذاته حاضر بهذا المعنى عند ذاته ؛ إلاّ أنّ الحضور بهذا المعنى لا يستلزم الانكشاف ، فانّ كلّ شيء حاضر بهذا المعنى عند ذاته ، سواء كان قائما بذاته أو لا ، وسواء كان مجرّدا أم لا مع فقد الانشكاف.

فان قيل : الأشياء على أربعة اقسام :

الأوّل : ما ليس مجرّدا ولا قائما بنفسه ـ كالاعراض الجسمانية ـ ؛

الثاني : ما هو مجرّد غير قائم بذاته ـ كالصورة المعقولة للمجرّدات ـ ؛

والثالث : ما هو قائم بذاته غير مجرّد ـ كالجسم ـ ؛

والرابع : ما هو مجرّد قائم بذاته ـ كالواجب والعقول والنفس ـ. ولا ريب في أنّ الاقسام الثلاثة الاولى عالمة بذواتها ؛ بل التعقّل للذات مخصوص بالقسم الرابع ، فانّا ذكرنا في حدّ التعقّل انّه حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد القائم بالذات ، فالمراد بالحضور هو المعنى المتعارف. الاّ أنّ استلزامه للانكشاف إنّما إذا حصل الشيء عند مجرّد قائم بذاته لا عند غيره ؛

قلنا : انّ استلزام حضور الشيء بهذا المعنى عند المجرّد القائم بذاته لانكشافه لديه لا بدّ له من دليل ، وبأيّ برهان نحن نعتقد ونقطع بانّ المناط في جواز العاقلية هو التجرّد والقيام بالذات والمناط في وقوعها هو تحقّق حضور شيء بالمعنى المذكور عند من حصل له التجرّد والقيام بالذات؟! ، ولم لا يجوز أن يكون التعقّل مشروطا بأمر آخر؟! ،

٢٨

ولم لا يمكن أن يكون الادراك موقوفا على خاصية مجهولة الكنه وقوّة غير معلومة لنا ـ كالخاصيات والقوى المودعة في المشاعر الظاهرة والباطنة ـ ، فاذا وجدت هذه الخاصية والقوّة وجد الادراك والتعقّل ـ سواء كانت في المجرّد أو غير المجرّد ـ؟!.

وأجيب عن الايراد المذكور : بأنّ المانع من التعقّل والانكشاف انّما هو المادّة وعلائقها ، فالشيء الّذي كان مجرّدا نورانيا يكون عالما بذاته لظهور ذاته لذاته ، لانّ الانكشاف هو ضدّ الخفاء والخفاء على الشيء امّا بسب ضعف نوريته وقلّة وجوده ونقص جوهره ـ كالهيولى الجسمية ـ أو بسبب ما يكثفه من الأغشية واللبوسات ـ كالأشخاص الجسمية ـ ؛ والمجرّد ليس كذلك ، / ١١٦ MB / فيلزم أن لا يخفى ذاته عن ذاته. قال بهمنيار في التحصيل : ولمّا كان وجود المحسوس والمعقول في ذاته وجوده لمدركه وكان وجوده لمدركه نفس محسوسيته ومعقوليته لم يصحّ أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته. ومدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده ادراكه لذاته ، وكلّ ما وجوده لذاته ، فهو مدرك ذاته ، إذ ليس وجوده إلاّ كونه مدركا ؛ فالأمور الّتي تدرك ذواتها لا يصحّ أن تكون مقارنة لمادّة وإلاّ لكان وجودها لغيرها. وأمّا الأمور المجرّدة عن المادّة فانّها يجب أن تدرك ذواتها ، وإلاّ لكان وجودها لغيرها ، فكلّ ما هو محجوب عن ذاته فلمقارنة المادّة هو غير مدرك ذاته. ويشهد بهذا انّ القوى الحسّية ـ كالبصر واللمس والذوق ـ لا تدرك ذواتها ، لكونها موجودا بمحالها الّتي هى تلك الاعضاء لا لذاتها (١) ؛ انتهى.

وهذا المضمون الّذي ذكره بهمنيار قد ذكره غيره أيضا من الحكماء. ولا بدّ لنا أن نوضح المراد منه أوّلا ثمّ نشير إلى انّه هل هو حقّ أم لا. فنقول :

الوجود امّا وجود في نفسه ـ كوجود الجسم ـ ويسمّى « وجودا محموليا » ، أو وجود لغيره ـ كوجود البياض للجسم ، ووجود الشاعرية لأوميرس ـ ، ويسمى هذا الوجود « وجودا رابطيا » ، كقولنا : الجسم كائن أبيض. وأوميرس موجود شاعر. فانّ لفظي « كائن » و « موجود » إنّما هو لمجرّد الحمل والرابطة والمطلوب من ادخالهما بين

__________________

(١) راجع : التحصيل ، ص ٤٩٣. والسطر الأخير ـ أي : من قوله : لكونها موجودا ... إلى قوله : لا لذاتها ـ لا يوجد في المطبوع من التحصيل.

٢٩

الموضوع والمحمول إنّما هو لاثبات / ١١١ DB / المحمول للموضوع وحمله عليه.

ثمّ الوجود في نفسه قد يكون عين وجوده لغيره ـ كوجود البياض ، فانّ البياض موجود في نفسه وموجود للجسم ، لكن وجوده في نفسه عين وجوده للجسم ـ ، وقد يكون غير وجوده لغيره ـ كوجود المال لزيد ، فانّ للمال وجودا لنفسه ووجودا لزيد ووجوده لنفسه غير وجوده لزيد ، ولذا قد يزول وجوده لزيد مع بقاء وجوده لنفسه ـ.

ثمّ الشيء قد يكون باعتبار ذاته موجودا لنفسه غير قائم بغيره ويكون باعتبار وصف زائد على ذاته موجودا لغيره قائما به ؛ وذلك كالكاتب مثلا ، فانّه باعتبار ذاته ـ أعني : الشخص الانساني ـ قائم بذاته غير موجود لغيره ، وباعتبار وصف الكاتبية موجود لغيره وهو ما يصير موضوعا له ـ كزيد مثلا في قولنا : زيد كاتب ـ. وهذا الوجود الرابطي الحاصل باعتبار الوصف راجع في الحقيقة إلى وجود ذلك الوصف.

ثمّ لا ريب في انّ المعقولية والمحسوسية ـ وأمثال ذلك ـ أوصاف زائدة على ذوات الأشياء ، فاذا تعقّلنا الأرض والسماء وأبصرنا السقف والجدار فلا ريب في أنّ ذات الارض أو السماء ليست عين المعقولية ، وذات السقف والجدار ليست عين المحسوسية ، بل هما من الأوصاف الزائدة على ذوات تلك الأشياء وقد عرضتا لها باعتبارها ؛ وهو في الاحساس اعتبار كون صورها حاصلة للجوهر الحاسّ ، وفي التعقّل اعتبار كون صورها المجرّدة حاصلة للعاقل ـ كما في العلم الحصولي ـ أو اعتبار كون ذواتها حاضرة عنده ـ كما في العلم الحضوري ـ ؛ فالمسمّاة مثلا بأحد هذين الاعتبارين موجود للعاقل. واذا كان اطلاق المعقولية على السماء بأحد هذين الاعتبارين ـ أعني : اعتبار كون صورته حاصلة للعاقل ، أو اعتبار كون ذاته حاضرة عنده وكان ذلك معنى وجوده للعاقل ـ فوجود السماء باعتبار كونه معقولا هو عين وجوده لعاقله من حيث انّه عاقل وان لم يكن وجوده في ذاته عين وجوده لشيء آخر. وبالجملة لا ريب في انّ لكلّ معقول وجودا في نفسه ووجودا للعاقل ، والبديهة حاكمة بأنّ وجوده في نفسه وفي الواقع ليس عين وجوده لعاقله ، بل وجوده باعتبار كونه معقولا هو عين وجوده لعاقله من حيث انّه عاقل. وقس على المعقول المحسوس في هذا الحكم.

٣٠

وإذا عرفت ذلك فنقول : قول بهمنيار : « انّه لمّا كان وجود المحسوس والمعقول في ذاته وجوده لمدركه ـ ... إلى آخره ـ » ، يحتمل في بادي النظر وجهين :

أحدهما ـ وهو الأظهر ـ : أن يكون المراد انّ الوجود في ذاته ـ أي : في نفسه ـ للمحسوس من حيث هو محسوس ، وللمعقول من حيث هو معقول ـ أي : المحسوسية والمعقولية هو الوجود للمدرك ـ ؛ وقوله : « وكان وجوده لمدركه » اشارة إلى عكس ذلك ـ أي : الوجود للمدرك أيضا هو المحسوسية والمعقولية ـ ، فيكون المراد من المقدّمتين بيان اتحاد المحسوسية والمعقولية مع الوجود للمدرك وصحّة حمل كلّ واحد على الآخر كلّيا. وجريان هذا الدعوى في كلّ واحد من العلم الحضوري والعلم الحصولي ظاهر ، امّا جريانها في العلم الحصولي فلأنّ / ١١٧ MA / وجود المعقول من حيث هو معقول ـ أعنى : وجود الصورة الحاصلة في نفسها ـ هو عين وجودها لمدركها ؛ وأمّا جريانها في العلم الحضوري فلأنّ وجود المعقول بالعلم الحضوري من حيث هو معقول ـ أي : من حيث انّه منكشف وحاضر عند العاقل ـ هو بعينه وجوده لمدركه.

وثانيهما : ان يكون المراد انّ وجود المحسوس والمعقول في ذاته ـ أي : وجوده في نفسه ـ عين وجوده لمدركه ـ أي : عين الوجود الرابطي ، كما ادّعى الشيخ في الاعراض : انّ وجودها في نفسها عين وجودها الرابطي ـ. فيكون المراد انّ وجود المحسوس والمعلوم بالعلم الحصولي والحضوري عين وجوده لمدركه. أمّا في العلم الحصولي فلأنّ المعلوم بالذات فيه هو الصورة ـ كما استقرّ عليه رأي الشيخين من أنّ المحسوس والمعقول بالذات انّما هو الصورة لا ذو الصورة ، ولا ريب في أنّ وجود الصورة في نفسها عين وجودها لمدركها ؛ ـ وأمّا في العلم الحضوري فلانّ الشيء إذا كان بنفس ذاته حاضرا عند المدرك فيكون المدرك للمدرك هو الشيء الخارجى الموجود لنفسه ، فيتحد الموجود للمدرك والموجود في نفسه ، فيكون وجوده في نفسه هو عين وجوده للمدرك. وعلى هذا الوجه يكون قوله : « وكان وجوده لمدركه » اشارة إلى دعوى آخر هي اتحاد الوجود للمدرك مع المحسوسية والمعقولية ليلزم من المقدّمتين أن / ١١٢ DA / يكون الوجود في نفسه للمحسوس والمعقول هو عين المحسوسية والمعقولية.

٣١

ثمّ لمّا كان غرض بهمنيار من ذكر هاتين المقدّمتين ـ بأيّ معنى أخذناهما ـ بيان أنّ التعقّل لا يمكن أن يكون للمادّي بل انّما هو للمجرّد ، فلذا رتّب عليهما أوّلا عدم كون المادّي مدركا لذاته ، فقال : « لم يصح أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته ، أي : لمّا كان وجود المحسوس من حيث هو محسوس ووجود المعقول من حيث هو معقول أو وجودهما في أنفسهما عين وجودهما لمدركهما لم يصحّ أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته ». والمراد « بما وجوده لغيره » كلّ ما يكون في الوجود محتاجا إلى الغير وثابتا له ـ وهو المقارن للمادّة ـ ، أو ما يكون حالاّ في غيره وان كان مجرّدا ـ كالصورة العقلية الكلّية ـ. أمّا على الوجه الأوّل فلانّه لو كان مدركا لذاته كان ذاته مدركة معقولة له بمعنى معقوليته ومدركيته ـ أعني : كونه موجودا من حيث هو معقول كون وجوده لمدركه أي لذاته ـ مع انّه فرض وجوده لغيره ـ أعني : الموضوع أو المحلّ ـ. والحاصل : انّه لما فرض انّ وجود المحسوس والمعقول في ذاته هو وجوده لمدركه يجب أن يكون المدرك شيئا يكون وجوده لنفسه حتّى يكون وجود المعقول له ، إذ لولاه لزم أن لا يكون وجود ذلك المعقول لذلك المدرك ، بل لمحلّه ، فلا يكون وجود المحسوس والمعقول في ذاتهما وجودهما لمدركهما ؛ وهو خلاف الفرض. وأمّا على الوجه الثاني فلأنّه لو كان مدركا لذاته لكان وجوده في نفسه عين وجوده لمدركه ـ أي : لذاته ـ مع أنّ وجوده لغيره.

ثمّ قال : « ومدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده ادراكه لذاته » ؛ والسرّ في ذلك على الوجه الأوّل انّ ادراكه لذاته ـ أي : اعتبار وجوده من حيث هو معقول ـ يؤول إلى وجوده لمدركه ـ أي : لذاته ـ ، فيكون نفس وجوده لذاته عبارة عن ادراكه لذاته ؛

وعلى الوجه الثاني فلانّه إذا كان وجوده في نفسه عين وجوده لمدركه فيكون نفس وجوده هو مدركيته لذاته ، فيكون نفس وجوده هو ادراكه لذاته أيضا ، لانّ مآل مدركيته لذاته وادراكه لذاته واحد.

ثمّ قال : « وكلّما وجوده لذاته فهو مدرك ذاته » ؛ إذ ليس وجوده إلاّ كونه مدركا ـ بصيغة المفعول ـ. وذلك لانّ معنى المدركية والمعقولية هو كون الشيء موجودا بصورته أو بذاته لموجود قائم بذاته ، وكلّ ما وجوده لذاته يكون ذاته موجودة لذاتها القائمة

٣٢

بذاتها فعلى الوجه الأوّل نقول : انّ وجوده من حيث انّه معقول ليس الاّ كونه مدركا ، فاذا كان موجودا من حيث انّه معقول لذاته كان مدركيته ومعقوليته أيضا لذاته ، فموجوديته من حيث انّه معقول لذاته هو مدركيته ومعقوليته لذاته ؛ وعلى الوجه الثاني نقول : انّ وجوده في نفسه ليس إلاّ كونه مدركا ، فاذا كان وجوده لذاته كان مدركا لذاته. ويحتمل ان يكون مدركا ـ بصيغة الفاعل ـ ، فيكون المراد انّه ليس وجوده الاّ كونه عاقلا ، وذلك لانّ معنى المدركية والعاقلية هو كون الشيء موجودا قائما بذاته حاضرا لديه شيء وغير غائب عنه ، وكلّ ما وجوده لذاته فهو موجود قائم بذاته حاضر عنده ذاته وغير غائبة عنه ، فوجوده لذاته من حيث انّه معقول على التوجيه الأوّل ووجوده في نفسه على التوجيه الثاني عين ادراكه لذاته ـ أي : عين مدركيته وعاقليته ـ.

ثمّ صرّح بانّ الأمور المدركة لذاتها لا يجوز أن تكون مقارنة للمادّة وإلاّ لكان وجودها لغيرها ، وذلك لانّه قد / ١١٧ MB / ثبت انّ ما وجوده لغيره لا يكون وجوده لذاته ، فمعلوم انّ ما يدرك ذاته يكون وجوده لذاته.

ثمّ قال : والأمور المجرّدة يجب انّ تدرك ذاتها ، إذ لو لم تدرك ذواتها كان وجودها لغيرها. وذلك لانّ المجرّد موجود بذاته ، وقد ثبت انّ ما وجوده لذاته فهو مدرك ذاته ، فما لم يكن مدركا لذاته لم يكن وجوده لذاته. بل كان وجوده لغيره.

ثمّ صرّح بانّ كلّ ما هو محجوب عن ذاته فلمقارنة المادّة واستشهد لذلك بانّ القوى الجسمية لا تدرك ذواتها ، لكونها موجودة لمحالّها الّتي هي تلك الاعضاء ، لا لذواتها.

هذا هو التوضيح التامّ وغاية التوجيه للكلام المنقول عن بهمنيار.

وأنت تعلم انّ حمله على الوجه الثاني في غاية الفساد! ، لانّ حاصله دعوى الاتحاد بين الوجود في نفسه والوجود الرابطي ، وهو باطل. وكيف يكون الوجود في نفسه المتحقّق في الخارج والواقع عين الوجود الحاصل للعاقل ، فانّ الظاهر انّ اطلاق الوجود على المعنيين انّما هو بالاشتراك اللفظى ، ولو سلم ذلك في العلم الحصولي / ١١٢ DB / ـ نظرا إلى ان المعقول بالذات فيه هو الصورة دون ذي الصورة ووجودها في نفسها هو عين وجودها لمدركها ـ فلا نسلّم ذلك في العلم الحضوري ، لانّ دعوى انّ وجود

٣٣

الشيء الخارجي القائم بذاته او بغيره في الخارج عين الوجود المنكشف المنجلى للعاقل مكابرة ، فانّ الأوّل وجود أصلي خارجي والثاني وجود ظلّي ذهني.

ولو حمل الكلام على الاستلزام بأن يقال : الوجود في نفسه لكلّ محسوس ومعقول يلزمه الوجود لمدركه ، فان اريد « بالوجود لمدركه » القيام به أو عدم القيام بغيره ، فممنوع ؛ وان اريد به ما يتناول عدم الغيبة عنه ، فممنوع ؛ لكن على هذا لم لا يجوز أن يكون شيء قائما بغيره ومع هذا لا يكون غائبا عن ذاته؟ ـ أي : يكون مدركا لذاته ـ.

وأيضا يرد عليه : انّه لو تنزّلنا وسلّمنا انّ كلّ ما هو محسوس ومعقول لشيء فوجوده في نفسه هو وجوده لمدركه فمن أين يلزم منه أن يكون كلّ ما هو وجوده لذاته مدركا لذاته؟ ، بل يكون اثباته مصادرة على المطلوب!.

وان قيل : كلّما هو وجوده لذاته فذاته حاضرة عند ذاته ، والادراك ليس إلاّ حضور الشيء عند المدرك ، فما وجوده لذاته يكون مدركا لذاته ؛

قلنا : حضور ما هو وجوده لذاته عند ذاته بمعنى عدم الغيبة ممنوع ، ولكنّه لا يوجب الادراك وانما الانكشاف ، وبمعنى الانكشاف ممنوع. وأيضا ما ذكره من انّ وجوده لمدركه نفس محسوسية ومعقولية غير ممنوع ، لجواز أن يشترط في المحسوسية والمعقولية شيء آخر غير الوجود للمدرك ، لأنّ العقل لا ينقبض من أن يكون شيء موجودا لشيء آخر ولا يكون معقولا له. وحينئذ فلا يلزم أن يكون في مدرك ذاته نفس وجوده ادراكه لذاته ، ولا أن يكون كلّ ما وجوده لذاته مدركا لذاته والحاصل : انّه إن أريد أنّ المحسوسية والمعقولية حقيقتهما مجرّد الوجود للغير بأيّ نحو كان ، وكذا عكسه ـ أي مجرّد الوجود للغير بأيّ نحو كان وأيّ وجود كان ـ نفس المحسوسية والمعقولية ، فلا نسلّم ذلك ؛ بل الظاهر خلافه! ؛

وان اريد انّ المحسوسية والمعقولية يصدق عليهما انّهما الوجودان للغير وانّ نوعين من الوجود للغير هما المحسوسية والمعقولية ، فلا يثبت به انّ ما قام بغيره بايّ نحو كان يكون معلوما للغير ، وما قام بنفسه يكون معقولا لنفسه ، إذ يمكن منع انّ هذا من هذا النوع ؛

وإن أريد أنّ الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك نفس المعقولية والمحسوسية وكذا

٣٤

العكس فممنوع ؛ الاّ انّه لا ينفع في شيء ، إذ اثبات انّ ما هو قائم بذاته عالم بذاته بهذه المقدّمة مصادرة ، إذ قبل اثبات انّه عالم كيف يسلّم انّه مدرك؟.

وبهذا يظهر اختلال ما في كلامه ممّا فرّعه على المقدّمات الّتي ابطلناها. فظهر انّ حمل كلامه المنقول على الوجه الثاني ـ أعني : دعوى الاتحاد بين الوجود في نفسه والوجود الرابطي ـ أمر بيّن الوهن ظاهر الفساد. ولذا أكثر من صرّح من المتأخّرين بهذا الكلام ذكره على الوجه الاوّل ـ أعني : كون وجود المعقول من حيث هو معقول وكون وجود المحسوس من حيث هو محسوس عين وجودهما للعاقل وللجوهر الحاسّ وعين المعقولية والمحسوسية ـ.

قال بعض الأعاظم : لمّا ثبت انّ المعقول من حيث هو معقول وجوده في نفسه وجوده للعاقل ومعقوليته شيء واحد بلا اختلاف وكذا المحسوس من حيث هو محسوس وجوده في نفسه ووجوده للجوهر الحاسّ ومحسوسيته شيء واحد من غير تفاوت فما وجوده لغيره لا يكون معقولا لذاته ـ كالصورة الجمادية ـ ولا محسوسا لذاته ـ كالبصر واللمس وسائر المدارك الحسّية ـ ، / ١١٨ MA / ولذا لا يحسّ بذواتها. ولو فرضنا المعقول قائما بذاته كان وجوده لذاته نفس معقوليته لها وصار عقلا وعاقلا ومعقولا ، كما لو فرضنا المحسوس مجرّدا عن الموادّ كان وجوده لذاته نفس محسوسيته لها ، فصار حسّا وحاسّا ومحسوسا ـ كما صرّح به بهمنيار وغيره من الحكماء ـ ؛ انتهى.

بقى الكلام في انّ الحمل على الوجه الأوّل أيضا لا ينفع في شيء أصلا ولا يثبت به المطلوب مطلقا. بيان ذلك : انّ المراد من الوجه الأوّل هو انّ الوجود في نفسه للمحسوس من حيث هو محسوس وللمعقول من حيث هو معقول ـ أي : المحسوسية والمعقولية ـ هو الوجود للمدرك ، وهذا كان مطلوبا في الوجه الثاني أيضا ، لانّا قد ذكرنا في تحرير الوجه الثاني انّ المقدّمة الثانية في كلام بهمنيار ـ أعني : قوله : وكان وجوده لمدركه نفس محسوسيته ومعقوليته ـ اشارة إلى دعوى أخرى هي اتحاد الوجود للمدرك مع المحسوسية والمعقولية ، وحينئذ / ١١٢ DA / فما اوردناه على هذه المقدّمة الثانية يرد على الوجه الأوّل.

٣٥

ولو شئت أن نعيده ببيان أوضح مع زيادة بعض ما تركناه هناك من وجوه الاختلال ومن بيان انّه لا يثبت به شيء من المطالب والتفريعات الّتي فرّعها عليه فنقول : ان اراد انّ المحسوسية والمعقولية حقيقتهما هي الوجود للغير بأيّ نحو كان وكذا الوجود للغير بأيّ نحو كان هو المحسوسية والمعقولية فلا نسلّم ذلك ، بل الظاهر خلافه ؛

وان اراد انّ المحسوسية والمعقولية يصدق عليهما انّهما الوجود للغير وانّ بعض افراد الوجود للغير هو المحسوسية والمعقولية ؛

فان اراد بالوجود للغير هو القيام به أو عدم القيام بغيره فممنوع ، ولو سلم بأن يثبت به التفريع الأوّل ـ أعني : عدم كون ما هو وجوده لغيره مدركا لذاته ـ ، الاّ انّه لا يلزم منه صحّة التفريعين الأخيرين ـ أعني : قوله : ومدرك ذاته يجب ان يكون نفس وجوده ادراكه لذاته ، وقوله : وكلّ ما وجوده لذاته فهو مدرك لذاته ـ ، لأنّ عدم قيام المعقول بغير العاقل لا يوجب كون نفس وجود المدرك لذاته عين ادراكه لذاته ولا كون كلّ ما هو وجوده لذاته مدركا لذاته ، وهو ظاهر ؛

وإن اراد بالوجود للغير ما يتناول عدم الغيبة عنه فممنوع ، إلاّ انّه لا يتفرّع حينئذ شيئا من التفريعات الّتي فرّعها عليه ـ كما لا يخفي ـ.

وان اراد انّ المحسوسية والمعقولية هي الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك وكذا الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك عين المحسوسية والمعقولية ؛

فان اراد بالوجود للمدرك القيام به أو عدم القيام بغيره فغير مسلّم ـ كما مرّ ـ ،

وان أراد به ما يتناول عدم الغيبة عنه فممنوع ، لكن على هذا يجوز أن يكون شيء قائما بغيره ومع هذا يكون مدركا لذاته. وأيضا : لا نسلّم انّه حينئذ يلزم ان يكون وجود كلّ مدرك لذاته عين ادراكه لذاته ، إذ لعلّه يكون مشروطا بشيء آخر. وأيضا : لا نسلم حينئذ لزوم كون كلّ ما هو وجوده لذاته مدركا لذاته ، إذ الوجود لذاته على هذا ليس عين مدركيته له ، بل الوجود لذاته إذا كان ذاته مدركة يكون عين مدركيته لها والمطلوب ليس الاّ اثبات كون الذات مدركا حينئذ.

وبذلك يظهر اختلال المقدّمات الباقية المنقولة عنه لكونها متفرّعة على المقدّمات

٣٦

السابقة الّتي بينّا فسادها. على انّه أورد على قوله : « انّ الامور المدركة لذاتها لا يجوز أن تكون مقارنة للمادة بالحلول فيها حتّى يصدق كون وجودها لغيرها ؛ وأمّا اذا كان شيء مقارنا للمادّة بأن تكون المادّة جزء له ـ كالجسم ـ فلا يظهر ممّا ذكر بوجه من الوجوه عدم جواز كونه مدركا لذاته.

لا يقال : انّه لمّا كان أحد جزئيه هو الهيولى والآخر الصورة شيء منهما لا يصلح لان يكون عاقلا لذاته فالمجموع أيضا لا يصلح لذلك ؛

لأنّا نقول : عدم ثبوت حكم لكلّ واحد (١) واحد من الاجزاء لا يستلزم عدم ثبوته للمجموع من حيث هو مجموع.

فان قيل : ادراك الجسم لذاته انّما يكون بادراك اجزائه ، والمفروض انّه لا يمكن ان يكون له ادراك جزئه الّذي هو الصورة ، لانّها حالّة في الهيولى ؛

قلنا : حلول الصورة في الهيولى لا يصير مانعا من صيرورتها معقولة لغيرها ، إذ يمكن تعقلها باعتبار حضورها بنفسها أو بصورتها عنده وحينئذ تجرّد تلك الصورة لأدّى إلى الصورة. كيف ولو لم يكن ذلك لزم أن لا يكون الصورة معقولة أصلا؟ ، وهو غير معقول.

أيضا لا استبعاد في امكان حصول العلم بشيء اجمالا بدون حصول العلم باجزائه.

ثمّ على ما ذكرناه اخيرا من أنّ كون المعقولية والمحسوسية عين الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك فاذا اريد بالوجود للمدرك عدم الغيبة يظهر انّ ما ذكره بهمنيار ـ بعد ما نقلناه في الفصل الّذي عقده لبيان العقل والمعقول بقوله : « واذ علمت انّ معقولية الشيء ووجوده من حيث هو معقول واحد » ـ صحيح لا غبار عليه ، إلاّ أنّ ما ذكره بعد / ١١٨ MB / ذلك ـ بقوله : « فاذا كان وجوده لغيره كان معقولا له وإذا كان وجوده لذاته فهو معقول لذاته » ـ غير مسلّم ، لما تقدّم من انّه يجوز أن يكون الشيء موجودا لغيره ويكون عاقلا لذاته. ومن انّه يجوز ان لا يكون شيء غائبا عن ذاته ولا يكون منكشفا لذاته ـ لجواز اشتراط الانكشاف بشيء آخر ـ.

__________________

(١) الاصل : + من.

٣٧

وكذا يظهر ضعف ما ذكره بعد ذلك بقوله : « وقد عرفت انّ الموجود المجرّد عن المادّة هو غير محتجب عن ذاته ، فنفس وجوده اذا معقوليته لذاته وعقليته لذاته ، فوجوده اذا عقل ومعقول ». وبيان ذلك : / ١١٣ DB / انّك قد عرفت انّ المعقول هو المجرّد عن المادّة وعلائقها ، ثمّ ليس ينعكس الموجبة الكلّية موجبة كلّية حتّى يكون « كلّ ما يكون مجرّدا عن المادّة فهو معقول ». لكن المجرّد عن المادّة امّا يصحّ أن يعقل أو لا يصحّ ان يعقل ، ومحال أن لا يصحّ أن يعقل ، فانّ كلّ موجود يمكن أن يعقل ؛ فاذن انّما يصح ان يعقل امّا بأن لا يتغيّر فيه شيء حتّى يصير معقولا بالفعل أو بأن يتغيّر فيه شيء حتّى يصير معقولا ، كالحال في المعقولات بالقوّة الّتي تحتاج إلى مجرّد يجرّدها عن المادّة حتّى يصير معقولا. لكن هذا الحكم لا يصحّ في المجرّد بالفعل ، فانّ المجرّد بالفعل لا يحتاج إلى أن يتغير فيه شيء حتّى يصير معقولا بالفعل ، فهو اذن معقول بالفعل ، فهو عاقل لذاته ، فانّه ان لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة وقد فرضناه معقولا بالفعل ؛ هذا خلف! ؛ انتهى.

ووجه الضعف انّ ما تقدم منه لم يعلم منه انّ كلّ موجود مجرّد عن المادّة هو غير محتجب عن ذاته ، فانّ خلاصة كلامه السابق : انّ المجرّد الّذي هو قائم بذاته يكون ذاته حاضرا لذاته والعلم هو حضور الذات للذات ، فيكون المجرّد عالما بذاته والموجود الّذي يكون قائما بالغير لا يكون حاضرا عند ذاته ، بل يكون حاضرا للغير ، فيكون محتاجا عن ذاته وغير محتجب عن الغير الّذي هو قائم به وحاضر لديه وان كان مجرّدا. فلهذا لا يكون الصور المعقولة مع تجرّدها معلومة لذاتها ، بل لغيرها ـ أعني : النفس ـ فقد اشرنا إلى أنّ مجرّد الحضور بمعنى عدم الغيبة لا يستلزم العلم ـ لجواز اشتراطه بشيء آخر ـ والى انّه لم لا يجوز أن يكون القائم بالغير عالما بذاته أيضا ـ لحضور ذاته لذاته ـ وإن كان حاضرا عند غيره أيضا؟. ولو سلّم ذلك لم يكن مستلزما لكون نفس وجود هذه عين معقوليته لذاته وعاقليته لذاته حتّى يلزم منه كون وجوده عقلا وعاقلا ومعقولا ؛ وبالجملة ما دعاه إلى الحكم بكون نفس وجود المجرّد معقوليته لذاته هو كونه حضور مجرّد موجود بالفعل عند مجرّد آخر ، وما دعاه إلى الحكم بكونه عاقليته لذاته كونه كون مجرّد حضر عنده مجرّد آخر. فباعتبارين مختلفين تجتمع المعقولية والعاقلية لا باعتبار واحد ـ

٣٨

كما ظنّ ـ ، ولا ريب انّ مجرّد الحضور بمعنى عدم الغيبة لا يستلزم التعقّل ـ كما مرّ مرارا ـ.

ولو اراد بالحضور ما هو المساوق للانكشاف منعنا تحقّق الحضور ، على أنّ الوجود إذا كان عبارة عن كون المجرّد بأحد الاعتبارين لم يكن إلاّ عقلا ، فكيف يكون عاقلا ومعقولا ، بل يلزم ممّا ذكره أن يكون ذاته عاقلا ومعقولا ، لا وجوده ؛

وإن اراد بالوجود ما يعمّ الذات لم يجتمع الثلاثة في شيء واحد ، لأنّ العاقل والمعقول هو الذات والعقل هو كونها ـ أي : وجودها ـ باحدى الاعتبارين.

قيل : ويمكن أن يحمل الوجود المجرّد عن المادّة في كلامه على واجب الوجود ـ تعالى ـ لا على الموجود المجرّد عن المادّة الزائد وجوده على ذاته ، وحينئذ فكون وجوده عقلا وعاقلا ومعقولا ظاهرا لا كلفة فيه. لأنّ ذاته لمّا كان صرف الوجود فكونه ـ الّذي هو وجوده ـ عين ذاته ، فلمّا كان العقل هو كون حضور مجرّد عند مجرّد آخر أو كون مجرّد بحيث حضر عنده مجرّد آخر ووجود الواجب هو عين هذا الكون فيكون عقلا ، ولكون هذا الوجود عين ذاته يكون عاقلا ومعقولا.

ثمّ هذا على فرض تسليم كون الحضور المذكور ـ أي : حضور الذات عند الذات بمعنى عدم الغيبة ـ عين الادراك والتعقّل ؛ وقد عرفت ما فيه.

ثمّ ما ذكره بهمنيار بقوله : « ثمّ ليس ينعكس الموجبة الكلّية » غرضه انّ الحكماء ذكروا انّ كلّ معقول مجرّد بالفعل عن المادّة ، فجعلوا مجرّد المعقولية سببا للتجرّد ، ولم يحكموا بمجرّد اثبات انّ كلّ معقول مجرّد أنّ كلّ مجرّد أيضا معقول حتّى يرد عليهم حينئذ انّ الموجبة الكلّية لو كانت منعكسة إلى موجبة كلّية لكان اثبات الأصل كافيا في اثبات العكس ، لانّ العكس من لوازم الاصل واذا ثبت الملزوم ثبت اللازم ، لكن لا ينعكس الموجبة الكلّية إلى الموجبة الكلّية / ١١٩ MA / ولو حكموا بثبوت العكس بمجرّد ثبوت الأصل لورد عليهم ـ مضافا إلى ورود لزوم انعكاس الموجبة الكلية موجبة كلّية ـ لزوم حصول الاستنتاج من موجبتين كليتين في الشكل الثاني ، إذ يصير القياس حينئذ هكذا : الذات الغير المادّية القائمة بنفسها مجرّدة عن المادّة ، والمعقول من كلّ شيء بالفعل ذات مجرّدة ؛ فينتج : الذات الغير المادّية القائمة معقولة بالفعل. و/ ١١٤ DA /

٣٩

الصغرى بديهية والكبرى هو الاصل الّذي اثبته الحكماء ، والنتيجة تحصل بملاحظة صحّة العكس ، مع انّ المنطقيين مصرّحون بأنّ الموجبتين في الشكل لا ينتجان. وبالجملة لا يحكم بأنّ كلّ مجرّد عن المادّة فهو معقول لأجل انعكاس الموجبة الكلّية موجبة كلّية ، لعدم تحقّقه. والحكماء أيضا لم يحكموا بانّ كلّ مجرّد معقول بالفعل في بادي النظر من دون دليل خارجي ليلزم عليهم الاشكالان ، بل قالوا : لأنّ ما هو مجرّد عن الموادّ إمّا أن يصحّ أن يعقل أولا يصحّ أن يعقل ، ومحال أن لا يصحّ أن يعقل ـ إذ كلّ موجود يصحّ أن يعقل ـ ، فاذن صحّة معقوليته إمّا بأن لا يتغير فيه شيء حتّى يصير معقولا بالفعل ـ بمعنى انّه مع فرض عدم تغير ما فيه من المعقولية بحيث لو كان هناك عاقل لعقله بدون حاجة إلى تجريده وإن كان معقوليته بالفعل موقوفا على تحقّق عاقل ـ أو بان يتغير فيه شيء حتى يصير معقولا ـ كالحال في المعقولات بالقوّة الّتي تحتاج إلى مجرّد يجرّدها عن المادّة حتّى تصير معقولة ـ. لكن هذا الحكم ـ أي : التغير بالتجريد ـ لا يصحّ في المجرّد بالفعل ، لانّ المجرّد بالفعل حيث غشيته العوارض المادّية لا تحتاج إلى أن تغير فيه شيء حتّى تصير معقولا بالفعل ، ولا يحتاج العاقل له إلى تقشيره عنها حتّى يصيّره معقولا ويخلّص إلى حاقّ كنهه ، فهو اذن معقول بالفعل ، وإذا كان معقولا بالفعل فيكون عاقلا لذاته بالفعل ، إذ لو لم يكن عاقلا لذاته بالفعل لكان معقولا بالقوّة ، وقد فرضناه معقولا بالفعل ؛ هذا خلف!. هذا هو توضيح ما ذكره بقوله : « ثمّ ليس ينعكس الموجبة الكلّية ـ ... إلى آخره ـ ».

ويرد عليه : أمّا أوّلا : انّا لا نسلّم انّ مجرّد التجرّد وعدم العوارض المادّية كاف للمعقولية والعاقلية حتّى لا يحتاج المجرّد بالفعل إلى تغير حتّى يصير معقولا. بل لعلّهما يشترطان بشيء آخر أو يكون معنى آخر سوى المادّية مانعا عنهما ؛

وأمّا ثانيا : انّه لم يظهر ممّا ذكره هنا الاّ انّ المجرّد بالفعل مع عدم تغيره معقول ، بمعنى انّه لا مانع من معقوليته حتّى انّه لو فرض عاقل يعقله بلا حاجة إلى أن يتغيّر فيه شيء ، لانّه معقول بالفعل بمعنى انّه تحقّق أيضا عاقل بعقله ؛ وحينئذ فقوله : « فهو اذن معقول بالفعل » إن أراد به انّه معقول بالفعل لعاقل آخر غير ذاته فهو يتوقّف على فرض عاقل آخر هناك ليصير معقولا بالفعل ، مع انّه لا يتمّ التقريب حينئذ ؛

٤٠