جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

علمه ـ تعالى ـ بالجزئي على الوجه الكلّي اشارة إلى أنّ علمه ـ تعالى ـ بالجزئي على النحو الثاني ؛ ولا يلزم من ذلك أن يخرج عن علمه الشامل مفهوم الجزئي ـ كما توهّم بعض الناس وشنع على الحكماء بذلك ـ ، بل جميع المفهومات ـ جزئيا كان أو كلّيا ـ معلوم له ـ تعالى ـ بجميع الوجوه. غاية الأمر إنّ علمه بالجزئي لا يمنع عن فرض الشركة كما لا يمنع المخاطب في المثال المضروب عنه ؛ ولا محذور في ذلك ؛ انتهى.

أقول : حاصل كلام هذين المحقّقين أنّ ما يدرك بالعقل يكون كلّيا وما يدرك بالحسّ يكون جزئيا وان كان المدرك في الصورتين واحدا ، فمناط الكلّية والجزئية هو الادراك بالعقل أو الحسّ ولا يعزب عن الادراك العقلي ما يكون مدركا في الادراك الحسّى ، بل المدرك واحد وان كان أحد الادراكين غير مانع عن فرض الاشتراك والآخر مانعا عنه.

غير خفي بأنّ هذا الكلام ممّا لا يروي القليل ولا يشفي العليل!.

ويرد عليه : انّه لا يشكّ عاقل في أنّ أحد الادراكين إذا لم يكن مانعا عن فرض الشركة والآخر كان مانعا عنه يلزم البتّة أن يتحقّق في الادراك الثاني ما لا يتحقّق في الادراك الأوّل حتّى يكون ذلك مصحّحا ومنشئا لمانعية الاشتراك. ومجرّد اختلاف المدرك بكونه عقلا في الأوّل ونفسا في الثاني لا يصحّح ذلك ، لا بأن ينكر كون ادراك العقل كلّيا وادراك الحسّ جزئيا. ولكن نقول : مناط الفرق بين الكلّية والجزئية لا يمكن أن يكون بالتفاوت في المدرك ـ بالكسر ـ بأن يكون كلّما يدركه العقل كان كلّيا وكلما يدركه الحسّ كان جزئيا ، وإلاّ لم يكن للعقل أن يدرك الجزئيات مع انّه يدركها بالعلم الحضوري الانكشافي ـ كما لا يخفى ـ ، فلا بدّ أن يكون بالتفاوت في المدرك ـ بالفتح ـ. والحاصل : إنّ تحقّق المنع عن فرض الشركة في الادراك الجزئي وعدمه في الادراك الكلّي لا بدّ له من مقتض ؛ والمقتضي إمّا أن يكون من جانب المدرك ـ بالكسر ـ أو من جانب المدرك ـ بالفتح ـ ؛ والأوّل باطل ـ لما ذكر ، ولأنّ المدرك سواء كان عقلا أو غيره إذا ادرك الشيء بجميع خصوصياته ومشخّصاته وبنحو وجوده الخارجي فمع ذلك لا معنى لكونه مشتركا بين كثيرين ـ ، فيثبت الثاني ـ أعني : كون المقتضي من جانب المدرك بالفتح ـ ، و

٣٤١

ما هو إلاّ إدراك أمر فيه لا يدرك هذا الأمر في الادراك الكلّي ، وهو التشخّص الّذي به يصير الماهية جزئية.

إذا عرفت ذلك فتعلم أنّ الادراك الكلّي لا يتناول التشخّص ، بل التشخّص يخرج عنه ؛ فلا بدّ من التأمّل في أنّ خروج التشخّص هل هو مستلزم للتكفير أم لا؟.

فنقول : الحقّ انّ التشخّص ليس أمرا زائدا على الماهية في الخارج منضمّا إليها به تصير جزئية ، لأنّ كلّ ما يتصوّر من العوارض المنكشفة بالشخص وغيرها من الخصوصيات لها حقيقة كلّية ولا يوجد / ١٨٩ DA / شيء يكون بنفس مفهومه جزئيا ، بل الجزئية (١) انّما يتحقّق بحصول الشيء في الخارج. فالحقّ أنّ التشخّص إنّما هو نحو الوجود الخارجي للشيء ـ أعني : نحو الارتباط بالجاعل ـ ، فمناط الجزئية الّتي هي من عوارض المفهوم إنّما هو ادراك ذلك النحو من الارتباط الواقعى ـ أعني : الادراك المرتبط بهذا النحو الخاصّ من الارتباط ـ ، ومناط الكلّية ـ الّتي هي أيضا من عوارض المفهوم ـ إنّما هو بالادراك لا بهذا النحو ؛ فالاشياء الموجودة في الخارج بحسب انحاء وجوداتها الخارجية كلّها اشخاص. فان ادرك بالعلم الحصولي أو بالصورة الحاكية لنحو الارتباط الخارجي ـ كما في الصورة الخيالية ـ كانت جزئيات ، وإن ادركت بالصورة الغير الحاكية لنحو الارتباط ـ كأن تكون الصورة حاكية عن نفس الماهية لا عن نحو وقوعها وارتباطها بالجاعل الحقّ ـ كانت كليات ؛ فمناط الجزئية هو ادراك نحو الارتباط ـ سواء كان بالحسّ أو بغيره ـ ، ومناط الكلّية ادراك غير ذلك النحو من الارتباط.

وحينئذ نقول : لا ريب في أنّه على القول بالعلم الحصولي الكلّي يخرج عنه نحو الوجود الخارجي للأشياء وارتباطها الخاصّة بجاعلها ـ سواء كانت الأشياء ماديات أو مجردات ـ إذ الصورة العقلية الكلّية غير حاكية / ١٨٧ MA / عن نحو الوقوع الخارجي للأشياء وان كانت مجرّدة ؛ وحينئذ فلا وجه لتخصيص نفي علم الواجب والمبادي العالية على الوجه الجزئي بالماديات والحوادث الجزئية.

وما قيل : من أنّ النفي مختصّ بالماديات ـ لأنّ توهّم امتناع حكاية الصورة العقلية

__________________

(١) الاصل : + بل الجزئية.

٣٤٢

عن نحو الوجود الخارجي إنّما هو في المادّيات لا في المجرّدات ـ ؛ لا يخفى ضعفه.

وإذ ثبت انّه يخرج عن العلم الحصولي نحو الوجود الخارجي والارتباط نقول : لا ريب في أنّ من علم انّ العلم الحصولي مستلزم لذلك بأن يعلم انّ الصورة العقلية الكلّية غير حاكية عن نحو الوجود الخارجي ومع ذلك اعتقد به فيجوز تكفيره ، لأنّه اعتقد حينئذ جهله ـ سبحانه ـ بصفة واقعة ثابتة لجميع الأشياء ، لأنّ نحو الوجود الخارجي أمر محقق في نفس الأمر. وإن كان اعتباريا فليس اعتباريا محضا ، بل اعتباري نفس أمري له منشأ انتزاع في الخارج والواقع ، فخروجه عن علمه خروج أمر واقعي عن علمه. وان لم يعلم بذلك الاستلزام ـ بل توهّم انّ الصورة العقلية الكلّية حاكية عن نحو الوقوع الخارجي ـ فلا يجوز التكفير من هذه الجهة وإن صحّ التخطئة والتشنيع ، لأنّه حينئذ اعتقد ما هو الحقّ وإن أخطأ الطريق.

ثمّ نقول : لا ريب في أنّ الحكماء الحصوليين لم يتنبّهوا بالاستلزام المذكور وجزموا بأنّ الصورة العقلية حاكية عن التشخّص ومتناول له ـ سواء كان التشخّص نحو الوقوع الخارجي أو غيره ـ ، وفي عبارات الشيخ تصريحات بذلك كتصريحه بأنّه لا يعزب عنه مثقال ذرّة وتصريحه بتعقّله للموجودات كلّها ـ حاصلها وممكنها وأزليها وأبديها وكائنها وفاسدها وكلّيها وجزئيها ـ إلى اقصى الوجود ، وتصريحه بأنّه ـ سبحانه ـ يعرف الشخص وأحواله الشخصية ووقته الشخصي ومكانه الشخصي ، وأمثال تلك العبارات في كلامه كثيرة ، وحينئذ لا يصحّ التكفير وان صحّ التخطئة والتشنيع.

ثمّ على ما اخترناه فادراك نحو الوقوع الخارجي إنّما هو بالعلم الحضوري ، فانّ جميع الجزئيات يمكن أن يدرك بالنحو الجزئي بالعلم الحضوري الاشراقي والممتنع ادراكها بالوجه الجزئي إنّما هو بالعلم الحصولي الكلّي.

فما ذكره المحقّق الدوانى والسيد السند من أنّ الادراك على الوجه الجزئي إنّما هو بالاحساس ظاهر الفساد.

والمثال الّذي أورده السيد السند فالتحقيق فيه : انّ علمك به إنّما يكون جزئيا ، لادراكك نحو وقوعه في الخارج بسبب الإحساس لا لخصوصية الإحساس وعدم امكان

٣٤٣

ادراك القطرة جزئية بنحو آخر غير الإحساس ، إذ لو امكنك الاطّلاع الحضوري بها بدون الإحساس لأدركتها جزئية ، ولو أمكنك تعليمك مخاطبك بذلك النحو من الوقوع لكان ادراكه أيضا جزئيا. وحينئذ يرد على ما تمسّك به ـ من أنّ تصوّر الشبح البعيد إذا كان بالحسّ ... إلى آخره ـ : انّ الادراك الّذي هو مانع عن فرض / ١٨٩ DB / الاشتراك إنّما هو العلم بنحو وقوع الشيء في الخارج ، لا بمهيته أو باكثر صفاته ، فحيث حصل لنا العلم بوجه وقوع الشبح في الخارج ـ سواء كان بالحسّ أو بالعلم الحضوري ـ كان جزئيا مانعا عن فرض الاشتراك ، وجهلنا بالماهية وصفاته لا يقدح في كونه ممتنع الاشتراك.

وممّا قرّرناه وحقّقناه من ذهاب الفلاسفة إلى العلم الحصولي ولزوم كونه كلّيا وخروج التشخص عنه ظهر بطلان توجيهين ذكرا من قبل الفلاسفة تاويلا لقولهم بكون علم الواجب بالجزئيات على الوجه الكلّي دون الجزئي ؛

أحدهما من المحقّق الطوسي ، وهو : انّ مرادهم بالقول بأنّ واجب الوجود يعلم الجزئيات بوجه كلّي لا جزئي انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات بالكلّية ـ أي : جميعها ـ بحيث لا يعزب عنه ـ تعالى ـ شيء عنها ، لا انّه ـ تعالى ـ يعلم بعضها ويعزب عنه بعض آخر ـ كما هو شأن الممكن ـ.

وقد تقدّم ما يرد على هذا التوجيه مفصّلا ونقلنا ما أورد عليه بأنّ في تاويل / ١٨٧ MB / كلام الفلاسفة ـ سيّما المتأخّرين إليه ـ بحث من وجهين ، وبينّا وجهي البحث بما لا مزيد عليه.

وثانيهما من صاحب المحاكمات وبعض آخر ، وهو : انّ مرادهم بالقول بأنّ واجب الوجود يعلم الجزئيات بوجه كلّي لا بوجه جزئي : انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات بوجه يشابه الكلّي في أن لا يتغيّر العلم بها.

ويرد عليه ـ مضافا على ما أورد على التوجيه الأوّل ـ : شدّة بعد حمل العبارة عليه ، لأنّ الانتقال من « وجه كلّي » أو « الوجه الكلّي » إلى « وجه يشابه الكلّي » من قبيل الانتقال من اللفظ إلى المعنى لا دلالة له عليه باحدى الدلالات ، وإنّما كان الانتقال ممكنا لو كان العبارة « على الوجه الكلّي » أو « على وجه كلّي » على سبيل الاضافة دون

٣٤٤

التوصيف.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه انّ القول بالعلم الحصولي الكلّي باطل ، وكذا القول بالعلم الاجمالي والتفصيلي ؛ وانّ الحقّ المختار هو انّ علم الواجب ـ سبحانه ـ علم واحد حضوري تفصيلي فعلي غير زماني وغير متغير ومتجدّد ومقدم على ايجاد الأشياء يعلم به الأشياء ـ كلّياتها وجزئياتها ـ على الوجه الجزئي أزلا وأبدا على نهج واحد من غير تغيّر وتجدّد ، وانّ علمه المتعلّق بالأشياء اضافة اشراقية انكشافية وليس فيه تغيّر بالنسبة إلى ذاته ، ومناط هذا الانكشاف مجرّد ذاته الحقّة ، وليس هذا الانكشاف حادثا بحدوث الأشياء ـ كما زعمه الخفري ـ رحمه‌الله ـ ونسبه إلى المحقّق الطوسي ـ ، وانّ مصحّح انكشاف الأشياء وحضورها بأنفسها عنده قبل وجودها العيني مع توقّفه على الوجود الخارجي هو كونها لوازم ذاته ومقتضيات وجوده مع كونها ثابتة له ـ تعالى ـ في الأزل وإن لم يوجد فيه ـ على ما مرّ مفصلا ـ. وهو الّذي دلّ عليه قواطع البرهان ويشهد به شواهد القرآن ونطقت به الاخبار الواردة عن النبي وآله الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، كما عرفت مفصلا ؛ هذا

وامّا الفرقة الرابعة ـ وهم الّذين قالوا انّ الواجب تعالى لا يعلم الحوادث قبل وقوعها ـ ؛ فشبهتهم في ذلك : انّه لو علم الواجب الحوادث قبل وقوعها لزم أن تكون تلك الحوادث ممكنة وواجبة معا ، والتالى باطل ـ للتنافي بين الوجوب والامكان ـ.

بيان الملازمة : انّها ممكنة لكونها حادثة وواجبة لوجوب وجودها بالنظر إلى تعلّق العلم بها وعدم جواز تخلّفها عنه ـ سبحانه ـ ، فانّها لو لم تكن واجبة وأمكن أن لا توجد لانقلب علمه ـ تعالى ـ جهلا.

والظاهر ـ كما قيل ـ : انّ هذا الدليل لا اختصاص له بالحوادث ، بل لو تمّ لدلّ على أنّه ـ تعالى ـ لا يعلم الممكنات مطلقا ـ سواء كانت قديمة أو حادثة ـ. ومناط الدليل استنباط وجوب الأشياء من علمه ـ تعالى ـ لو علم ، وانّه لا يجتمع مع الامكان ، ولا دخل للحدوث في ذلك.

والجواب : بأنّ الوجوب الغيري لا ينافي الامكان الذاتي ؛ مشترك.

٣٤٥

ثمّ قد أجيب عنه بوجهين :

أوّلهما : انّ العلم تابع للمعلوم ، فلا يكون علّة له ومفيدا لوجوبه.

وأورد عليه : بأنّه لا يلزم من كون العلّة تابعا وغير علّة وغير مفيد للوجوب أن لا يكون الحادث واجبا ـ لجواز استناد وجوبه إلى أمر آخر ـ ، كيف لا وقد دلّ البيان على وجوبه؟! ، ولا بدّ له من علّة. ونفي العلّة المخصوصة لا يدلّ على نفي العلّة مطلقا.

وحاصله : انّ المستدلّ جعل علمه ـ تعالى ـ واسطة بالنسبة إلى الوجوب لا واسطة للثبوت ، فنفي كون علمه علّة لا يضرّ المستدلّ ، إذ هو لا يدّعي انّ علة وجوبه علمه / ١٩٠ DA / ـ تعالى ـ ، بل جعل علمه دليلا على وجوبه بمعنى أنّ تعلّق علمه بحدوث الحادث يدلّ على وجوبه وتحقّق علمه لهذا الوجوب من دون تعيين لهذه العلّة ، ولا يلزم من كون الشيء دليلا كونه علّة ، فنفي العلّية المخصوصة لا يضرّ المستدلّ. وبهذا اشار بقوله : « ودلّ البيان على وجوبه » ؛ فلا يتوهّم انّ كلام المورد منع على المنع ، بل مطلوبه انّ منع المجيب غير مضرّ.

ثمّ البيان الدالّ على وجوبه هو : انّه لو لم يجب وجود المعلوم على الوجه الواقع في الوجود لزم جهله ـ تعالى ـ وانقلاب علمه إلى الجهل ، فيتحقّق بهذا البيان وجوب الحادث ـ سواء كان علّته العلم أم لا ـ ، فانتفاء الخاصّ لا يوجب انتفاء العامّ.

ويمكن أن يكون البيان الدالّ هو ما تقرّر وبيّن من أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فالحوادث الموجودة قد صارت واجبة البتّة.

وقد أورد على الجواب المذكور أيضا : بأنّ العلم الّذي يكون تابعا للمعلوم هو العلم الانفعالي ، لأنّ العلم الفعلي لمّا كان سببا للمعلوم فيكون المعلوم تابعا له دون العكس ؛ وأمّا العلم الانفعالي لم يكن سببا للمعلوم / ١٨٨ MA / بل مسبّبا عنه ، فيكون تابعا له. مع أنّه قد تقرّر انّ مناط علم الواجب ـ سبحانه ـ بذاته وبجميع الأشياء ليس إلاّ ذاته بذاته ، فعلمه فعلي وليس له علم انفعالي ، فالقول بأنّ علمه ـ تعالى ـ تابع للمعلوم لا وجه له أصلا ؛ فعلمه بالأشياء ليس إلاّ علما فعليا. وعلى هذا فما قيل من أنّ العلم تابع للمعلوم يمكن أن يقال : ليس المراد بالتابعية الانفعال ، بل المراد بها ما ذكره العلاّمة الطوسي في

٣٤٦

بحث الأعراض من التجريد (١) من : أنّ المراد بالتابعية هو أصالة المعلوم في التوازن والتطابق بمعنى انّه إذا أوجد العلم من حيث انّه حكاية عن المعلوم والمعلوم محكي عنه فيكون المعلوم بهذا الاعتبار أصلا والعلم تابعا له ، لأنّ الحكاية تابعة للمحكيّ عنه. وهذا المعنى لا ينافي كون العلم سببا في نفس الامر للمعلوم ، لانّ اعتبار الحكاية غير اعتبار العلية.

ثمّ توهّم كون علمه ـ تعالى ـ فعليا منافيا للقدرة قد تعلم جوابه من المباحث السابقة.

وقد ظهر بما ذكر انّ الوجه الأوّل للجواب عن الشبهة المذكورة ليس بصحيح.

وثانيهما : انّ الوجوب الغيري لا ينافي الامكان الذاتي ، فالحوادث ممكنة لذواتها وواجبة لغيرها. وإلى هذا الجواب اشار المحقّق الطوسي في التجريد بقوله : « ويمكن اجتماع الوجوب والامكان باعتبارين » (٢). وهذا الجواب هو الصحيح ، وحاصله : انّ التالي المذكور في الشبهة غير باطل ، لجواز اجتماع الوجوب بالغير والامكان في ذاته ، إذ لا تنافي بينهما ، إنّما التنافي بين الوجوب بالذات والامكان.

ثمّ الغير ـ الّذي هو العلّة لوجوب الحوادث ـ هو العناية والعلم بالاصلح مطلقا عند من يستند (٣) جميع الموجودات إليه ـ سبحانه ـ ؛ وأمّا عند من قال : انّ افعال العباد ليست معلولة لعلم واجب الوجود ـ تعالى ـ وواجبة باقتضائه ففي تعيين علّة وجوب الحوادث تفصيل ذكره بعض المشاهير ، وهو أن يقال : الحادث إمّا فعل العبد ، أو لا ؛ ووجوب القسم الثاني إنّما نشأ من علم الواجب بالمصلحة ، ووجوب القسم الأوّل انّما نشأ من الأسباب الّتي من جملتها اختيار الفاعل ؛ فلهذا قال المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم : « فالذي ينظر إلى الأسباب الأول ويعلم انّها ليست بقدرة الفاعل ولا بإرادته يحكم بالجبر ـ وهو غير صحيح مطلقا ، لأنّ السبب القريب للفعل هو قدرته وارادته ـ ،

__________________

(١) راجع : الفصل الخامس من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص ١٥١.

(٢) المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢٢٢.

(٣) الاصل : + جميع.

٣٤٧

والّذي ينظر إلى السبب القريب ينظر بالاختيار والتفويض ـ وهو أيضا ليس بصحيح مطلقا ، لأنّ الفعل لم يحصل باسباب كلّها مقدورة ومرادة له ـ ، والحقّ ما قال بعضهم : لا جبر ولا تفويض لكنّه أمر بين أمرين » ؛ انتهى.

اعلم! : انّ المراد « بالأسباب الأول » هي الأسباب الّتي ما سوى اختيار العبد وما باختياره ، مثلا إذا أراد زيد أن يكتب فالقلم والمداد والقرطاس وما اشبهها ليست من فعل زيد وبقدرته ـ لأنّه ليس موجدا لشيء من الأجسام ـ ، بل انّما هو بفعل زيد وقدرته هو الحركات الّتي تكون لها مدخلية في وجود الكتابة ؛ فالسبب القريب هو حركات زيد والأسباب البعيدة هي ما عداها. فحاصل كلام المحقّق : إنّ من نظر إلى السبب البعيد الّذي ليس بقدرة العبد أصلا توهّم انّ العبد مضطرّ في فعله / ١٩٠ DB / وليس له دخل أصلا ، ومن نظر إلى السبب القريب توهّم انّ العبد مستقل في فعله. ثمّ حكم ببطلان هذين التوجيهين وصرّح بأنّ الحقّ ما روى عن أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ من انّه لا جبر ولا تفويض ولكنّه أمر بين أمرين. فعلى ما ذكره هذا المحقّق يكون « الجبر » عبارة عن كون فعل العبد مخلوقا لله ـ تعالى ـ بدون مدخلية العبد فيه أصلا ، و « التفويض » عبارة عن كون العبد مستقلاّ في فعله بلا مدخلية من الله فيه أصلا ، و « الأمر بين الأمرين » هو كون الفعل واقعا بقدرة العبد واختياره وكون قدرته واختياره مستندين إلى الله ـ تعالى ـ ، فيكون الأسباب البعيدة على الاضطرار والقريبة على الاختيار. فالانسان ليس بمختار مطلقا ولا بمضطرّ مطلقا. وعلى هذا فيكون مراد المحقّق في / ١٨٨ MB / التجريد من قوله : « يمكن اجتماع الوجوب والامكان باعتبارين » : انّ في غير فعل العبد من الحوادث يكون الوجوب فيه بالنظر إلى العلم بالأصلح والامكان فيه بالنظر إلى ذاته ، وفي فعل العبد فالوجوب فيه بالنظر إلى الأسباب الأول ـ ومن جملتها إرادة الله وعلمه ـ والامكان بالنظر إلى الأسباب القريبة ـ ومن جملتها إرادة العبد ـ. ويوافق ذلك ما قال بهمنيار : « فان قيل : هل لنا قدرة على الفعل أم لا؟ ، قلنا : انّ لنا قدرة على الفعل بالقياس إلى الايجاد ، وامّا بالقياس إلى الكلّ فليس لنا قدرة إلاّ على المقدور ـ أي : على ما علم واجب الوجود صدوره منا ـ ، وهو جرّ الأسباب إلى

٣٤٨

اختيارنا ايّاه ؛ انتهى.

وتوضيح كلام بهمنيار : انّ لنا قدرة بالقياس إلى كلّ واحد واحد من الآحاد الّذي هو في سلسلة الأسباب وله دخل في صدور الفعل إذا اعتبر منفردا وقطع النظر عمّا تقدّمه منها ، لأنّ من جملتها قدرتنا واختيارنا وارادتنا وهي مقدورة لنا. وأمّا بالقياس إلى الكلّ ـ أعني : مجموع سلسلة الأسباب من وجود القدرة واسبابها القريبة والبعيدة والأسباب الّتي بها ينبعث اشواقنا ـ فليس لنا قدرة إلاّ على المقدور الّذي علم الله ـ تعالى ـ انّه يصدر عنّا بالقدرة والاختيار وصدور ما علمه ـ تعالى ـ صدوره عنّا ، وهو يحصل اسباب الفعل منضمّا إلى اختيارنا له ، فيحصل عنّا الفعل فيجتمع حينئذ فيه الوجوب بالقياس إلى جميع الأسباب الّتي من جملتها قدرتنا واختيارنا ، والامكان بالنسبة إلى ذات الفعل مع قطع النظر عن اجتماع تلك الأسباب وبالنسبة إلى نفس قدرة القادر من حيث انّها قدرة من غير انضمام أمر آخر من الأمور المرجّحة لأحد طرفيها على الآخر. والحاصل : انّ قدرة العبد من جملة الأسباب ، فإذا لوحظ الفعل من حيث قدرة العبد بدون ملاحظة جميع الأسباب المتسلسلة المنتهية إلى ذلك الفعل فهو مقدور له ، وإذا لوحظ من حيث حضور جميع الأسباب المتسلسلة المنتهية إلى ذلك الفعل وجب ذلك الفعل حينئذ وليس مقدورا للعبد.

ثمّ تفصيل الكلام في هذا المقام وتحقيق الحقّ في هذا المرام قد تقدّم مع النقض والإبرام.

٣٤٩
٣٥٠

الفصل الثالث

في اثبات حياته ـ سبحانه ـ

٣٥١

( الفصل الثالث )

( في اثبات حياته ـ سبحانه ـ )

اتّفق كافّة أهل الأديان وجمهور العقلاء على أنّه ـ تعالى ـ حيّ ، وثبت من الشريعة المقدّسة اطلاق الحياة عليه ـ سبحانه ـ.

ثمّ الحياة في الحيوان عبارة عن صفة تقتضي الحسّ والحركة الارادية ، فالحياة بهذا المعنى يتمّ بادراك ـ هو الإحساس ـ وفعل ـ هو التحريك ـ منبعثين عن قوّتين مختلفتين.

ولا ريب في تنزيهه ـ سبحانه ـ عن الحياة بهذا المعنى ، فاختلف العقلاء في معنى الحياة الذي يطلق عليه ـ سبحانه ـ.

فقال جمهور المتكلّمين : انّها صفة توجب صحّة العلم والقدرة ؛

وقال الحكماء وبعض المعتزلة : انّها كونه ـ تعالى ـ بحيث يصحّ أن يعلم ويقدر.

ولا ريب في أنّ قول المتكلّمين لايجابه اثبات صفة زائدة على ذاته باطل ، فالحقّ ما ذهب إليه الحكماء. وتحقيق مذهبهم هو ما اشار إليه بهمنيار بقوله : « الحيّ هو الدراك الفعّال. وهذان الوصفان له ـ تعالى ـ بذاته ؛ ومعنى قولي : « بذاته » : إنّ وجوده ـ تعالى ـ هو كونه بحيث يصدر عنه افعال الحياة. وشرح ذلك : هو إنّ الحى هو أن يكون الشيء بحيث يصدر عنه الفعل / ١٩١ DA / والادراك ، وذلك على وجهين :

فأحد الوجهين : أن يكون وجوده حياته ؛

٣٥٢

والثاني : أن يكون حياة الشيء معنى زائدا على وجوده ، كحياة الانسان فانّه ما لم ينضمّ إلى الجسم النفس لم يوصف ذلك الجسم بأنّه حيّ ، لأنّه إن كان وجود الجسمية هو حياته لكان كلّ جسم حيّا ، وقد عرفت إنّ إنّيته ـ تعالى ـ حياته ، فانّ إنّيته هي كونه بحيث يصدر عنه افعال الحياة » (١) ؛ انتهى.

أقول : لا ريب في أنّ الحياة ما هو مبدأ ومنشأ للأفعال والآثار الصادرة عن الحيّ من العلم والقدرة والحسّ والحركة وغير ذلك. وهذا المعنى في الحيوان صفة زائدة على ذاته ، وأمّا في الواجب ـ تعالى ـ فالمبدأ ليس إلاّ ذاته ، لأنّ ذاته بذاته يعلم ويفعل ، فذاته حياته. قال بعض المشاهير : قد مرّ إنّ الوجود الحقيقي ما يكون الشيء باعتباره موجودا ، فواجب الوجود لمّا كان باعتبار ذاته موجودا كان وجوده الحقيقي عين ذاته ، وكذلك الحياة الحقيقية فانّها ما يكون الشيء باعتباره حيّا. ولمّا كان ذات الواجب باعتبار ذاته حيّا كان الحياة عين ذاته ؛ وكذا حال باقي الصفات / ١٨٩ MA / الحقيقية من العلم والإرادة وغيرهما ، فانّهما عين ذاته ـ تعالى ـ ولا تغاير بينهما إلاّ بالاعتبار ـ كما لا يخفى ـ ؛ انتهى.

وما أشار إليه من معنى عينية الصفات هو المذهب الحقّ ـ على ما تقدّم في بعض كلماتنا ـ. وهذه المسألة ـ أعني : مسئلة عينية الصفات ـ وإن لم يكن هنا موضع بيانها إلاّ أنّ هذا القائل وبعض أخرى لمّا تعرّض لبيانها هنا فلا بأس بأن نتعرّض لها نحن أيضا.

فنقول : المذاهب المعروفة في تصحيح عينية الصفات ثلاثة :

الأوّل : ما أشار إليه هذا القائل هنا ، وهو المذهب الحقّ المنصور. وبيانه : إنّ ذاته ـ تعالى ـ مصدر جميع الصفات ومحض ذاته بذاته منشأ الجميع ومناطه ومصحّحه ، بل هو فرد لكلّ واحد من الصفات قائم بذاته ، وليس له صفة زائدة على ذاته ـ كما فينا ـ ؛ فانّه ـ سبحانه ـ وان وصف بالحياة والعلم والجود والقدرة والإرادة وامثالها لكن ليس ذلك لأجل اتصافه بها من حيث انّها معان متميّزة فيه ، بل من حيث انّه ـ تعالى ـ بمحض ذاته البسيطة الواحدة الحقّة الّتي هي صرف الوجود الخالص البحت منشأ

__________________

(١) راجع : التحصيل ، ص ٥٧٩.

٣٥٣

لجميعها بحيث لا يلزم منه تركّب وتكثّر ، فهو أحدي فرد ذاتا وصفة ـ كما قال الشيخ في التعليقات : « إنّ الأوّل لا يتكثّر لأجل تكثّر صفاته ، لأنّ كلّ واحد من صفاته إذا حقّقت تكون عين الصفة الأخرى بالقياس إليه ، فتكون قدرته حياته وحياته قدرته وتكونان واحدة ، فهو حيّ من حيث هو قادر وقادر من حيث هو حيّ ، ـ وكذلك الحال في سائر صفاته » ـ (١). قال بعض العرفاء : ومشيته ـ تعالى ـ قدرته وما يدركه بصفة يدركه بجميع الصفات ، إذ لا اختلاف هناك.

ثمّ صفاته ـ تعالى ـ منها حقيقية كمالية ـ كالجود والقدرة والعلم ـ ، وهي لا تزيد على ذاته ، بل عين ذاته بمعنى انّ ذاته من حيث حقيقته مبدأ لانتزاعها عنه ومصداق لحملها عليه ، ويطابق الحكم بها عليه بلا ملاحظة أمر آخر زائد عليه قائم به أو منتزع عنه ، بل حيثية ذاته ـ تعالى ـ هي بعينها حيثية جميع صفاته الكمالية ، فليس الواجب ـ سبحانه ـ بسبب اطلاق تلك الصفات على ذاته ذا معان متميزة يسمّى بهذه الأسماء المختلفة ، بل هو ـ سبحانه ـ يستحقّ لاطلاق هذه الأسماء لا بحيثية أخرى وراء احدية ذاته.

ومنها اضافية محضة ـ كالمبدئية والمبدعية والخالقية والرازقية وأمثالها ـ. وهذه الصفات زائدة على ذاته متأخّرة عنه وعن ما اضيف بها إليه ، لأنّ الاضافات لا يمكن أن يكون عين الحقائق المتأصّلة ، فكيف يكون عين ما هو أصل الحقائق ومنبع الذوات؟!. ولا يخلّ بوحدانيته كونها زائدة عليه ، فانّ الواجب ـ تعالى ـ ليس كماله ومجده بنفس هذه الصفات الاضافية ، بل بكونه في ذاته بحيث ينشأ منه هذه الصفات. وهو إنّما هو كذلك بنفس ذاته ، فانّ كماله ليس إلاّ بذاته لا غير.

ومنها سلبية محضة ـ كالقدوسية والفردية والازلية وغيرها ـ والاتصاف بها يرجع إلى سلب الاتصاف بصفات النقص. وصفاته الحقيقية لا يتكثّر ولا يتعدّد ولا اختلاف فيها إلاّ بحسب التسمية ، بل يكون كلّها معنى واحدا وحيثية واحدة هي بعينها حيثية الذات ، فانّ ذاته بذاته ـ تعالى ـ مع كمال فردانيته يستحقّ هذه الاسماء

__________________

(١) قريب منه يوجد في التعليقات ، ص ١٨١.

٣٥٤

لا بحيثية أخرى وراء حيثية ذاته ، كما قال المعلم الثاني : وجود كلّه وجوب كلّه علم كلّه قدرة كلّه / ١٩١ DB / حياة كلّه ، لا أنّ شيئا منه أو جهة منه علم وشيئا آخر أو جهة منه قدرة ليلزم التركيب في ذاته المقتضي للاحتياج إلى الاجزاء المنافي لوجوب الوجود ، ولا أنّ شيئا فيه علم وشيئا آخر فيه قدرة ليلزم التكثّر في صفاته الحقيقية ويكون محلاّ للأعراض ممكن الاتصاف بها ، بل حيثية ذاته وهويته البسيطة الّتي لا تكثّر ولا امكان فيه أصلا هي بعينها حيثية صفاته الحقيقية. نعم! ، في التعبير عنها تغاير وترتّب بمحض اعتبار الذهن وملاحظة العقل لا بحسب الخارج. فكما انّه من حيث هو منشئا للآثار وجود كلّه كذلك من حيث هو منشئا لانكشاف الأشياء علم كلّه ومن حيث هو منشئا لصحّة الفعل والترك قدرة كلّه ومن حيث هو مبدأ لرجحان فعل القائم ـ أعني : النظام الأكمل والأصلح بحال العالم بل وجوب صدوره عنه ـ إرادة كلّه ـ وقس عليها غيرها ـ ؛ وجميعها راجعة إلى حيثية وجوده الّتي هي عين حيثية ذاته.

وأمّا صفاته الاضافية فهي أيضا لا يتكثّر معناها وان كانت زائدة على ذاته ؛ وكذا صفاته السلبية ، فانّ اضافاته إلى الأشياء وان تعدّدت اساميها واختلفت لكن كلّها يرجع إلى معنى واحد واضافة واحدة هي قيوميته الايجابية للأشياء يصحّح جميع الاضافات / ١٨٩ MB / ـ كالرازقية والخالقية والمصورية وغير ذلك ـ ، وتغايرها بتغاير الأشياء المضاف إليها. وترتّبها حسب ترتّبها ؛ كترتب مبدئيته لها ، فمبدئيته بعينها رازقيته وبالعكس ، وهما بعينهما رحمته ولطفه وبالعكس.

وصفاته الاضافية وإن كانت ذات أسام مختلفة لكنّها ليست معانى مختلفة وإلاّ لوجب اختلاف حيثيات في ذاته ـ تعالى ـ ، فيتكثّر ذاته الأحدية بها ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. والتعدّدات والتجدّدات الواقعة فيها إنّما هي بالقياس إلى الأشياء المتعلّقة بها المتعدّدة أو المتجدّدة في أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض لا بقياسها إلى بارئها القيوم ـ جلّ ذكره ـ ؛ كما قيل : « ليس عند ربّك صباح ولا مساء » ، أي : نسبة الواجب ـ تعالى ـ المتعالى عن وصمة التغيّر إلى جميع الامور المتجددة المتعاقبة نسبة واحدة ومعية قيومية غير زمانية.

٣٥٥

والحاصل : إنّ اضافته إلى الأشياء اضافة واحدة بحسب المفهوم ، وهي إمّا مترتّبة ترتيبا سببيا أو مسببيا على حسب ترتّب المعلولات الواقعة في سلسلة الايجاد المنتهية إلى الواجب ـ سبحانه ـ الّتي يقال لها « السلسلة الطولية » ، فلا يوجب تعدّدها تكثّرا في ذاته كما لا يوجب صدور معلولاته الكثيرة المترتّبة اختلافا في وحدته الحقّة. وهذا معنى قولهم : « إنّ نسبة الأوّل إلى الثاني أمّ جميع النسب » ؛ وإمّا متجدّدة حسب تجدّد الأشياء الواقعة في سلسلة الاعداد الّتي يقال لها « السلسلة العرضية » ، فلا يوجب تغيّرا في ذاته كما لا يوجب صدور الزمانيات عنه ـ تعالى ـ تحوّلا له عمّا هو عليه في ثباته وبقائه.

وأمّا صفاته السلبية فهي أيضا مع تكثّرها وتعدّدها يرجع إلى سلب واحد هو سلب الامكان عنه. ومناطه وجوب الوجود ، فوجوب الوجود له ـ تعالى ـ يوجب سلب جميع النقائص عنه ـ تعالى ـ ، لا أن يكون سلب بعضها لأجل تحقّق معنى آخر فيه ليلزم التركيب إمّا في ذاته أو في صفاته الحقيقية الكمالية كسلب العرضية والجمادية والشجرية والفرسية من الانسان ، فانّ صدق كلّ منهما لأجل تحقّق معنى واحد من المعاني المتحقّقة فيه ؛ كالجوهرية والنموّ والحياة والنطق ، بخلاف سلب الجمادية عنه المندرجة تحته سلب الحجرية والمدرية وغير ذلك ، إذ جميعها تابعة له. فلا يكون صدقها بإزاء معانى مختلفة في الانسان ، بل بإزاء معنى واحد وهو النموّ. والحاصل : إنّ ذاته بذاته منشئا لجميع صفاته الحقيقية متحقّقة له في مرتبة ذاته وصفاته الاضافية متأخرة ، إلاّ أنّ تأخّرها لا يوجب نقصا ، لأنّ الصفات الإضافية ليست كمالات حقيقية له ـ تعالى ـ.

ثمّ إنّ اتصافه ـ تعالى ـ بتلك الصفات ـ سواء كانت حقيقية أو اضافية ـ لا يوجب تكثّرا وتركّبا واختلاف جهات وحيثيات فيه ـ سبحانه ـ ، لأنّ الصفات الإضافية ـ كلّها ـ راجعة إلى اضافة واحدة مصحّحة لجميع الإضافات المختلفة وهي اضافة المبدئية والقيومية ؛ فإنّ معنى القيومية يلزمها الخالقية والرازقية والمصوّرية وغير ذلك ، وكذا السلوب ـ كلّها ـ راجعة إلى سلب واحد / ١٩٢ DA / مصحّح لجميع السلوب وهو سلب الامكان ، فانّه يلزمه سلب الجسمية والعرضية وغير ذلك من السلوب ، فكون ذاته ـ سبحانه ـ مبدأ وموجدا للأشياء يلزمه جميع الصفات الاضافية

٣٥٦

والسلبية متأخرة عن ذاته ، فلا يلزم من هذه الجهة اختلاف حيثيات وتكثّر جهات فيه ـ سبحانه ـ.

وأمّا صفاته الحقيقية وإن كانت موجودة في مرتبة ذاته ومتغايرة بحسب المفهوم إلاّ أنّها ليست معانى متميزة موجودة فيه ـ تعالى ـ حتّى يلزم التركب ، فانّ الانكشاف والحياة والقدرة وغير ذلك من الصفات الحقيقية وإن كانت أمورا نفس أمرية إلاّ أنّها ليست موجودة فيه ـ سبحانه ـ بوجودات متميزة متغايرة حتّى يلزم التركّب في ذاته.

فان قلت : لا ريب في أنّ ذات الواجب ـ تعالى ـ شيء بسيط واحد من جميع الجهات وهذه الصفات أمور متغايرة مقتضية للآثار المختلفة ، فانّ حقيقة العلم الّذي هو الانكشاف غير حقيقة القدرة بأيّ معنى أخذ ـ لأنّ القدرة ببعض معانيها هي ايجاد الأشياء في الخارج وببعض معانيها الآخر هي التمكّن من الفعل والترك ، والانكشاف هو ظهور الأشياء عنده ، ولا ريب في أنّ ايجاد حقيقة الشيء في الأعيان غير ظهوره عنده ، ولذا قد يكون شيء ظاهرا عندنا ولا نتمكّن من ايجاده ـ. وإذا كان الأمر كذلك فنقول : كيف يمكن أن يكون بسيط من جميع الجهات علّة ومنشئا لأمور متعدّدة مع أنّ المناسبة بين العلّة والمعلول لازمة؟! ، والواحد من حيث هو واحد لا يناسب الكثير من حيث هو كثير؟!.

قلت : / ١٩٠ MA / الواجب الحقّ ليس إلاّ صرف الوجود المجرّد ، ومعلوم انّ التجرّد ليس صفة يوجب التركيب والتكثّر ، بل يوجب البساطة والوحدة ؛ فالوجود الصرف ليس إلاّ واحدا حقّا. ولا ريب في أنّ هذا الواحد لكونه وجودا صرفا يلزمه القيومية الّتي هي بمعنى القيام بذاته ؛ والمقوّمية للغير ، لأنّ القيوم هو القائم بذاته المقيم لغيره. ووجه الاستلزام ظاهر ، لأنّ بحت الوجود وصرفه يجب أن يكون موجودا بذاته وموجدا لغيره ، ولولاه لما شمّ ماهية من المهيات رائحة الوجود. ولا ريب في أنّ القيومية المطلقة مع التجرّد صفة واحدة يلزمها سائر الصفات الكمالية والاضافية ، لأنّ المجرّد القائم بذاته يلزمه انكشاف الأشياء عنده والقائم بذاته يلزمه كونه قديما أزليا ، و

٣٥٧

المقوّم للأشياء يلزمه كونه قادرا ـ ببعض المعاني ـ وموجودا وجوادا ورازقا ومصوّرا ـ إلى غير ذلك من الصفات الاضافية ـ ، والمقيم للأشياء العالم بها يلزمه كونه حيا ـ لأنّ الحيّ هو الفعّال الدرّاك ، كما علمت ـ ، فاللازم لذاته ـ سبحانه ـ ليس إلاّ صفة واحدة هي القيومية المطلقة. ولزومها له ـ سبحانه ـ من حيث انّها صفة واحدة بسيطة ولها جهة وحدة لا من حيث انّها كلّية ولها جهة كثرة يندرج لأجلها جميع الصفات تحتها ، فمن حيث إنّ لزومها له ـ تعالى ـ من جهة وحدتها وبساطتها لا من جهة كثرتها ومن حيث انّ كلّ الصفات مندرجة تحتها يتحقّق ما يشترط تحقّقه بين العلّة والمعلول ـ من التكافؤ والمناسبة ـ. واشتمالها على جهة الكثرة من حيث اندراج كلّ الصفات تحتها لا يوجب رفع المناسبة بين العلّة والمعلول وصدور الكثير من الواحد لأنّ ما يرفع المناسبة بين العلّة والمعلول إنّما هو إذا كان المعلول كثيرا غير مشتمل على جهة وحدة وصدر من حيث انّه كثير من الواحد من حيث هو واحد ، وأمّا إذا كان للكثير جهة وحدة ومن هذه الجهة صدر عن الواحد أو كان صدور الكثرة في مراتب فلا منع فيه ، فانّه لو كان للكثير اشتراك في جهة واحدة يكون التعلّل بينه وبين علّته الواحدة البسيطة بهذا الاعتبار ، أو كان صدور الكثير عن الواحد في مراتب لكان الصادر عن الواحد بالحقيقة واحدا ؛ فلا يلزم ارتفاع المناسبة بين العلّة والمعلول. فقد ثبت انّ الوجود الصرف يلزمه جميع الصفات الكمالية من دون لزوم اختلاف جهات وتغاير حيثيات فيه.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه إنّ صفاته ـ تعالى ـ سواء كانت حقيقية غير ذات اضافة ـ كالحياة والأزلية ـ أو حقيقية ذات اضافة ـ كالعلم والقدرة ـ أو اضافة محضة ـ كالخالقية والمصوّرية وغيرهما ـ ليس لها مبدأ زائد في ذاته كما هو فينا ، فانّ لكلّ واحد من هذه الصفات إذا أخذ / ١٩٢ DB / بالقياس إلينا يكون له مبدأ عرضي قائم بنفوسنا ، فانّ الانكشاف الحاصل لنا يتوقّف على صورة علمية قائمة بأنفسنا والقدرة بمعنى التمكّن من الفعل والترك يتوقّف على قوّة قائمة بانفسنا ـ إلى غير ذلك ـ ؛ والمبدأ لجميع هذه الصفات ـ الّتي هي معان ومفهومات ـ بعضها متحقّق في مرتبة ذاته ـ تعالى ـ وبعضها متحقّق بعد ذاته ليس إلاّ ذاته ـ سبحانه ـ من دون افتقار إلى صورة وملكة و

٣٥٨

قوّة زائدة قائمة بذاته ـ سبحانه ـ ، واستناد علمه بمعنى الانكشاف الشهودي إلى تجرّده المقتضي لزيادة البساطة والوحدة. واستناد سائر صفاته ـ تعالى ـ إلى قيوميته المطلقة المستندة إلى ذاته وعدم كون القيومية معنى زائدا على ذاته قائما به لا يلزم تكثّر ولا اختلاف جهات وحيثيات في ذاته ، وهو معنى عينية صفاته.

ثمّ انّه على هذا المذهب ـ كما أشير إليه ـ يصدق هذه الصفات على ذاته بأن يقال : إنّ ذاته علم وإرادة وقدرة. وبيان ذلك : انّ كلّ واحد من تلك الصفات يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : المعنى الانتزاعى الاضافي المصدري الّذي يشتقّ منه الفعل ؛

وثانيها : ما يحصل به هذا المعنى الاضافي كائنا ما كان ؛

وثالثها : الملكة الّتي يقتدر بها على استحصال تلك المعاني الاضافية بالفعل.

مثلا العلم بالمعنى الأوّل هو الاضافة الاشراقية الشهودية ؛ وبالمعنى الثاني ما ينكشف به الشيء ـ وهو العلم الحقيقي ـ ؛ وبالثالث هو القوّة والملكة الّتي يقتدر بها على استحصال المنكشفات بالذات.

ولا ريب في صدق كلّ صفة بالمعنى الثاني على ذاته ـ تعالى ـ ، لأنّ ذاته بذاته هو الّذي يتحصّل به كلّ صفة / ١٩٠ MB / بالمعنى الأوّل ، فانّ ما ينكشف به الأشياء ليس إلاّ بحت ذاته وصرف وجوده ، فذاته هو العلم الحقيقي. وكذا الحال في غير العلم من الصفات.

وأمّا الصفات بالمعنى الأوّل والثالث فلا يجوز صدقها عليه ـ تعالى ـ ، لعدم كون ذاته معنى اضافيا أو ملكة يقتدر بها على استحصال شيء ، وإذا كان ذاته ممّا يصدق عليه الصفة بالمعنى الثاني حتّى يكون محلاّ لانتزاع الصفات الاضافية الاعتبارية فلا منع في أن يكون ذاته المقدّسة فردا من كلّ صفة كمالية قائما بنفسه ؛ وقد تقرّر في محلّه انّه لا يلزم في صدق المشتقّ حقيقة على شيء قيام مبدأ الاشتقاق به حقيقة ، بل لو كان مبدأ الاشتقاق ـ كالعلم مثلا ـ قائما بنفسه بحيث يترتّب عليه آثار المشتقّ كان أحقّ باسم المشتقّ ممّا قام به المبدأ ، فالله ـ سبحانه ـ عالم حقيقة لا بعلم قائم به ، قادر لا بقدرة يقوم

٣٥٩

به ، مريد لا بإرادة يعرضه ، بل هو نفس العلم والقدرة والإرادة ؛ وكذلك سائر الصفات الحقيقية.

ولو نازعنا في ذلك بعض أهل اللغة لا نبالي به ، إذ الغرض تحقيق المعاني لا تبيين الالفاظ.

وحينئذ يندفع ما أورد بأنّه يلزم على هذا كون حقيقته المقدّسة مشاركة للأعراض في ماهياتها الداخلة تحت المقولات ، أو القول بالاشتراك اللفظى ؛ لأنّ بناء هذا الايراد على كون كلّ صفة هي مبدأ ومنشئا للمعاني الاضافية قوّة عرضية زائدة قائمة بالموصوف ـ لكون صفة العلم بمعنى ما ينكشف به الشيء صورة علمية قائمة بالعالم ـ ؛ وهذا ليس بلازم ، فانّه كما انّ مفهوم الوجود المطلق معنى واحد أحد أفراده قائم بذاته هو حقيقة الواجب ـ تعالى ـ والباقي عارضة بالماهيات الممكنات ، وهو أمر اعتباري عارض للجميع كذلك يمكن أن يكون لكلّ من هذه المفهومات فرد واحد بسيط هو عين حقيقة الواجب ـ تعالى ـ غير داخلة تحت مقولة ، وسائر أفرادها اعراض داخلة تحت المقولات ولها أجناس وفصول ، وتكون المطلق من كلّ منهما اعتباريا عارضا للجميع. فكما انّ مطلق العلم بمعنى الانكشاف والظهور أمر اعتباري عارضي بالنسبة إلى الصورة الحاصلة بالعالم فكذلك بالنسبة إلى ذاته القائمة بذاته ؛ وكما أنّ الصورة والقوّة العرضية فينا منشئا ومصحّح لانتزاع هذا المطلق ـ لأجل مناسبة بينهما ـ فكذا ذاته ـ سبحانه ـ منشئا له للمناسبة ؛ وكما انّ مطلق العلم بمعنى الانكشاف أمر عرضي وانتزاعه من القوّة القائمة بالمدرك لا يصير موجبا لتركيب القوّة وتكثّرها فكذلك انتزاعها عن ذات الواجب أيضا لا يوجب تركّبه وتكثّره ؛ وكما انّ تلك القوّة فرد من العلم بمعنى انّه يصدق عليها مطلق / ١٩٣ DA / العلم ويحمل عليهما فكذلك ذاته ـ سبحانه ـ فرد من العلم بهذا المعنى ـ كالوجود المطلق ووجوده الخاصّ من دون تفاوت ـ. وبالجملة على هذا المذهب لا فرق بين ذاته ـ سبحانه ـ والصورة العلمية القائمة بالمدارك في منشئيتهما ومناطيتهما للانكشاف والظهور ، وفي كون كلّ منها فردا للعلم ومصداقا له ، فذاته بذاته منشأ لجميع الصفات الانتزاعية الّتي تكثّرها لا يوجب تركّبا وتكثّرا فيه وفرد ومصداق لجميعها ، و

٣٦٠