جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

الأين الفلانى إلى غير ذلك حتّى يدرك المخاطب قطرة ماء متصفة بجميع الصفات الّتي ادركت القطرة متصفة بها في الحسّ ، فتصوّرك للقطرة المذكورة يمنع الشركة وتصوّر مخاطبك لا يمنع عنها مع انّ المتصوّر واحد. فلا تفاوت بين ادراكنا للجزئيات وادراكه ـ تعالى ـ لها ، إلاّ أنّ ادراكنا بطريق الاحساس وادراكه بطريق التعقّل. وكما أنّ كثيرا من الصفات في حقّه نقص وان كان ذلك في غيره ـ تعالى ـ كمالا ، كذلك الادراك التخيلى مثلا نقص في حقّه ـ تعالى ـ. فهم لا ينفون علمه ـ تعالى ـ بشيء من الأشياء ، بل ينفون عنه التخيل والاحساس مع اثبات ادراكه ـ تعالى ـ جميع المحسوسات والمتخيلات ، ولا يثبتون في الأشخاص المادّية ما ليس له ماهية كلية حتّى لا يمكن ادراكه بطريق التعقّل. ومن البيّن انّه لا يتعلّق بهذا القدر تكفير ، سواء تمّ دليلهم على ذلك أو لا ، وسواء طابق الواقع أو لا ؛ انتهى.

وأورد على هذا الجواب : بأنّ القول بأنّ التفاوت بين الكلّي والجزئي ليس إلاّ بنحو الادراك لا التفاوت في المدرك مخالف لما نصّ عليه الشيخ في الشفا حيث قال : وامّا طبيعة النوع وحده فما لم يلحقه أمر زائد عليه لا يجوز أن يقع فيه كثرة. ثم قال بعد ذلك : بأنّ قولنا الانسان معناه انّه حيوان ناطق وقولنا انسان شخصي هو هذه الطبيعة مأخوذة مع عرض يعرض لهذه الطبيعة عند مقارنتها للمادّة ؛ انتهى.

ولا ريب فى أنّ قوله : « واما طبيعة النوع وحدة ... إلى آخره » إلى البرهان على أنّه بين الكلّي والجزئى فرقا بحسب المعنى ، لأنّ تكثّر النوع بالأشخاص إنّما يتصوّر بعد انضمام العوارض المشخّصة إلى ذلك النوع ، وإلاّ يلزم أن يكون احد الشخصين عين الشخص الآخر. مثلا إذا لم يكن بين الانسان وبين زيد تفاوت إلاّ بنحو من الادراك فلم يكن بين زيد وعمرو تفاوت بحسب المعنى أصلا ، فيكون كلّ أمر في زيد ثابتا لعمرو أيضا ثابتا ، وهذا يوجب رفع الاثنينية ؛ وهو باطل. فلا بدّ من انضمام العوارض إلى النوع ليحصل تكثّر الاشخاص. فانكشف لذلك أنّ / ١٨٨ MB / القول بأنّ مناط الكلّية والجزئية بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك باطل.

ولو استدل عليه بأنّه إذا سئل عن الشخص بما هو لا يقع في الجواب إلاّ النوع

٣٢١

فلا يكون بين الشخص والنوع تفاوت إلاّ بنحو من الادراك ، نقول في دفعه : انّ المطلوب عن السؤال بما هو تحصيل تمام الماهية المشتركة لا الماهية المختصّة ، ولهذا وضع مطلب آخر للهويات الشخصية وهو « مطلب من » ـ كما هو مذكور في الشفا والاشارات ـ ، فكما انّ للنوع « مطلب ما » كذلك للشخص « مطلب من » ؛ هذا.

وقال العلامة الخفري ـ رحمه‌الله ـ في دفع أنّ مناط الكلّية والجزئية بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك ما توضيحه : انّ في تأويل كلام الفلاسفة على ذلك الوجه تأمّلا ، لأنّ حاصل التحقيق الّذي هو مبنى ذلك التأويل أن يكون شخص واحد بوجه والسرّ معلوما لعالمين بحيث يكون عند أحدهما جزئيا مانعا من فرض الشركة فيه / ١٨٤ DA / ـ بواسطة انّه مدرك بطريق الإحساس كالتخيل ـ وكلّيا غير مانع من فرضها فيه عند الاخر ـ بواسطة انّه مدرك بطريق التعقّل ـ. وهاهنا ثلاثة احتمالات :

أحدها : أن يكون المعلوم بالذات لذينك العالمين واحد ، يعنى يكون المعلوم الّذي يكون مدركا أوّلا وبالذات لذينك العالمين كالشيء الخارجي عند من يقول بالعلم الحضوري وكالصورة عند من يقول بالانطباع ، فانّ الصورة عنده معلومة بالذات والأمر الخارجي معلوم بالعرض وبالواسطة واحدا ولا ريب في أنّ معلومية شيء واحد بعينه أولا وبالذات لعالمين لا يكون إلاّ بالاطلاع الحضوري فيكون العلمان كلاهما حضوريين إذ في العلم الحصولي لا بدّ من أن يكون المعلوم بالذات أي الصورة الحاصلة لاحدهما غير المعلوم بالذات لآخر لامتناع حصول صورة واحدة بعينها لكل منهما بل لا بدّ من التعدد قطعا وحينئذ لا شبهة في انّ المعلوم إذا كان مانعا عن فرض الشركة فيه عند احدهما كان مانعا عنه عند الاخر أيضا ومنعه مكابرة صريحة.

وثانيها : أن يكون المعلوم بالعرض لهما واحدا ويكون المعلوم بالذات لأحدهما مانعا عن فرض الشركة فيه ، والمعلوم بالذات للآخر غير مانع عنه. وهذا إنّما يتصوّر على القول بالحصول ، فيكون العلمان كلاهما حصوليين. وهذا الاحتمال مع ما فيه لا دخل له في تصحيح التأويل المذكور. بيان الأوّل يعنى ما فيه هو انّ علم كلّ واحد

٣٢٢

منهما بصورة مطابقة فلو كانت إحداهما كلّية والأخرى جزئية لزم أن تكون الصورة الّتي هي المعلومة بالذات بالنسبة إلى معلوم شخصي جزئي ـ أعني : المعلوم بالعرض الّذي هو الامر الخارجي ـ مانعة وغير مانعة مع أنّ الأمر الخارجي محكيّ عنه والصورة حاكية وإذا كان المحكيّ عنه واحدا يجب عدم تخالف الحاكي أيضا.

وأمّا بيان الثاني ـ يعنى : عدم مدخليته للتصحيح المذكور ـ فهو انّ المقصود منه بيان انّ نفس هذا الشخص الجزئي بوجه يكون مانعا للشركة ومنكشفا عنده ـ تعالى ـ حتّى يتصحّح بذلك انّ علمه ـ تعالى ـ بنحو لا يعزب عنه شيء أصلا ولا يلزم التغيّر مع انّه على هذا يكون علمه بالصورة المتقدّمة على الايجاد الّذي لا يستلزم التغيّر بزعمهم ، فيلزم أن لا يعزب عنه الأشياء باعتبار الوجود العيني الّذي فيه التغيّر. والحاصل : انّه إذا كان كلّ من العلمين حصوليا يلزم لا محالة نفي الحضور الانكشافي عنه ـ تعالى ـ ؛ والحال انّ التكفير إنّما يتعلّق بذلك ، فيجوز كون واحدة من الصورتين جزئية والاخرى كلّية ؛ وعلى تقدير التسليم ليس تصحيح كلامهم من حيث هو متعلّق بالتكفير.

قيل : وجه عدم مدخليته للتصحيح المذكور انّ الكلام في تصحيح جواز كون أمر واحد بعينه معلوما لأحد من العالمين بالوجه الجزئي وللعالم الآخر بالوجه الكلّي ، فيجب أن يكون أمر واحد بعينه معلوما لأحد العالمين بالوجه الجزئي وللعالم الآخر بالوجه الكلّي ، فيجب أن يكون أمر واحد بعينه معلوما للعالمين. وفي صورة العلم الحصولي يكون المعلوم بالذات متعدّدا والمعلوم بالعرض واحدا ، فلم يكن المعلوم بالذات بالقياس إلى العالمين واحدا ، بل يكون المعلوم بالذات لأحدهما غير المعلوم بالذات للآخر ، لأنّ المعلوم بالذات لأحدهما هو الصورة الجزئية وللآخر هو الصورة الكلّية ؛ فلا دخل لهذا الاحتمال في تصحيح التأويل المذكور.

وثالثها : أن يكون الشخص المذكور ـ أي : الشخص الّذي يكون معلوما للعالمين ـ مع الاختلاف بحسب الكلّية والجزئية هو المعلوم بالذات لأحدهما والمعلوم بالعرض للآخر ؛ وعلى هذا الاحتمال يكون أحد العلمين حضوريا والآخر حصوليا. وذلك قسمان في بادي النظر :

٣٢٣

أحدهما : أن يكون فرض الشركة بالنسبة إلى من هو معلوم له بالذات وعدم الشركة بالنسبة إلى من هو معلوم له بالعرض حتّى يكون المعلوم بالذات مناط الكلّية والمعلوم بالعرض مناط الجزئية ؛

وثانيهما : أن يكون بالعكس من ذلك.

وفي ثانى النظر ـ أي : بعد التأمّل ـ يظهر بطلان أحد القسمين ، وهو القسم الأوّل ؛ لأنّ المعلوم بالذات هو المعلوم بالعلم الحضوري والمعلوم بالعرض هو المعلوم بالعلم الحصولي ، فإذا كان المعلومية بالذات مناط الكلّية والمعلومية بالعرض مناط الجزئية لزم أن يكون ذات الشيء المعلوم بالعلم الحضوري مناط الكلّية والصورة الحاصلة منه مناط الجزئية. وهذا باطل ، لظهور امتناع كلّية الشخص المعلوم بالعلم الحضوري من حيث هو كذلك مع جزئية الصورة الحاصلة منه ، لأنّ ذوات / ١٨٣ MA / الأشياء جزئيات والكلّيات ليست إلاّ مفهوماتها وماهياتها / ١٤ DB / الحاصلة في الاذهان. وامّا القسم الثاني فهو في حكم الاحتمال الثاني في انّه لا يصلح لتوجيه كلامهم ؛ لأنّه على هذا القسم يكون علمه ـ تعالى ـ بالصورة ، فيعزب عنه الموجودات العينية باعتبار الوجود العيني الّذي فيه التغيّر.

وقيل : القسمان المتصوّران في بادي النظر : أحدهما : كون هذا الشخص معلوما بالذات للواجب وبالعرض لنا ؛ والثاني : كونه على عكس ذلك ـ أي : كونه للواجب معلوما بالعرض ولنا معلوما بالذات ـ. وفي ثانى النظر يظهر بطلان أحد القسمين وهو القسم الثاني ، للزوم كون علمه ـ تعالى ـ بالشخص المذكور حصوليا وعلمنا به حضوريا ، وهو يستلزم كون انكشافه بالقياس إلينا أتمّ منه بالنسبة إليه ـ تعالى ـ. والقسم الأوّل مثل الاحتمال الثاني في البطلان ، لأنّه إذا كان الشخص المذكور معلوما بالذات بالقياس إلى الواجب ومعلوما بالعرض بالقياس إلى غيره لم يتحقّق حينئذ أمر واحد يكون معلوما بالذات بالقياس إلى العالمين ويكون بالقياس إلى أحدهما جزئيا وبالقياس إلى الآخر كلّيا ، بل المعلوم بالذات لأحدهما حينئذ يكون غير المعلوم بالذات للآخر ؛ هذا ما ذكره العلامة الخفري ـ رحمه‌الله ـ في هذا المقام بتوضيحه.

٣٢٤

وأورد على قوله في الاحتمال الأوّل : « ولا شبهة في أنّ هذا المعلوم ـ أي : المعلوم بالعلم الحضوري ـ إذا كان مانعا عن فرض الشركة فيه عند أحدهما كان مانعا عنه عند الآخر أيضا ـ : بأنّه يجوز تعدّد الحضور بالاعتبار ، فربما يكون للمادّي مثلا حضور عند المادي يكون بحسبه جزئيا عنده مع امتناع هذا الحضور عند المجرد ، وله حضور آخر عند المجرّد يكون بحسبه كلّيا ـ كما في الصورة ـ.

وأورد على الاحتمال الثاني الّذي ذكره : بأنّه يجوز للقائل بالانطباع أن يختار هذا الاحتمال ويقول : انّ المعلوم بالذات لواحد من العالمين صورة مجرّدة كلّية وللآخر صورة مادية تخييلية جزئية مع الاتحاد في المعلوم بالعرض ـ أعني : الجزئي المشخّص ـ.

وما قيل : من انّه في هذا الاحتمال انّ علم كلّ واحد من العالمين بصورة مطابقة والصورة المطابقة لشيء واحد جزئي لا يمكن أن يكون مانعة وغير مانعة ؛

ففيه ؛ انّ هذا الكلام إنّما يصحّ على تقدير تسليم كون الكلّية والجزئية بنحو من الادراك ؛ وعلى هذا التقدير لا وجه لهذا الكلام.

وأيضا : كون كلّ من الصورتين مطابقة لا ينافي كون إحداهما كلّية والأخرى جزئية ـ لجواز كون الشيء الواحد كلّيا وجزئيا باعتبارين ـ ، ونفي هذا ليس إلاّ مجرّد استبعاد لا يسمع في المطالب العلمية.

وما قيل في بيان عدم مدخلية هذا الاحتمال لتصحيح التأويل المذكور ؛

فأورد عليه : انّ المعلوم بالذات ـ الّذي هو الصورة المجرّدة ـ نائبة مناب الإحساس والتخيل ، فيتناول اتمّ منها بالنسبة إلى الله ـ تعالى ـ.

ولا يخفى ما في هذا الايراد ، فانّ الإحساس والتخيل يتناولان الجزئية والصورة المجردة الكلّية لا يتناولها.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ ما ذكره العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ ليس تامّا في دفع انّ التفاوت ما بين الكلّية والجزئية بنحو من الادراك ، لا التفاوت في الدرك ولم يأت بشيء يظهر منه جليلة الحال.

وقد ذكر بعد كلامه المذكور كلمات آخر لتحقيق المقام ، فلا بدّ لنا أن نوردها ونشير

٣٢٥

إلى حقيقة الحال فيها ، ثمّ نشير إلى ما هو الحقّ في المقام. فقال ـ رحمه‌الله ـ بعد كلامه المذكور : وفي الجملة لا خفاء في أنّ الممكنات المتغيّرة ـ الّتي هي معلومات بذواتها ـ والحوادث المتغيرة إن كانتا معلومتين بذاتهما للواجب الوجود بالذات لزم التغير في علمه ـ تعالى ـ المتعلّق بهما في الشهود العيني ، والفلاسفة يتحاشون عنه ؛ وإن لم يكونا معلومين له ـ تعالى ـ إلاّ بالعرض ـ أي : بالعلم المقدّم على الايجاد ـ لزم أن يعزب عنه شيء باعتبار الوجود العينى ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ ، وهذا هو الّذي يتعلّق به كفرهم ؛ انتهى

وأنت خبير بأنّه إذا لم يكن تفاوت بين الموجود العيني والمدرك الذهني إلاّ في نحو الادراك على ما هو زعم المؤوّلين لا يلزم عزوب شيء أصلا ، فالمهمّ في ردّ كلامهم إنّما هو اثبات انّ التفاوت بين الكلّية والجزئية ليس بمجرّد نحو من الادراك ، وقد عرفت انّ ما ذكره هذا العلاّمة حينئذ لاثبات ذلك ليس تامّا.

ثمّ ما ذكره من أنّ الممكنات المتغيّرة والحوادث المتغيّرة إن كانتا معلومتين بذاتيهما / ١٨٥ DA / لواجب الوجود بالذات لزم التغيّر في علمه ، قد عرفت انّه مبني على ما ذهب إليه هذا العلاّمة من أنّ مناط انكشاف الأشياء للواجب هو وجوداتها العينية ، ولذا التزم التغيير في علمه ـ سبحانه ـ ، وقال : لا فساد فيه ـ لأنّه تغيّر في الاضافات ـ ، وقد نسب ذلك إلى المحقّق الطوسي أيضا. وعلى ما اخترناه وقرّرناه من أنّ مناط علمه ـ سبحانه ـ ليس هو وجودات الأشياء بل مناط علمه بذاته وتغيّر ذاته من معلولاته هو علمه بذاته وحضور ذاته / ١٨٣ MB / عند ذاته فلا يلزم من انكشاف الأشياء بماهياتها وجزئياتها عنده ـ تعالى ، بالوجه الّذي قررناه ـ تغيّر وتبدّل في علمه ـ سبحانه ـ وإن لزم التغيّر في المعلولات.

نعم! ، لو كان علمه ـ تعالى ـ هو نفس وجودات الأشياء المعلومة المتغيّرة ـ كما اختاره هذا العلاّمة ـ لزم التغيّر في علمه ، بل لزم أن يكون علم الواجب ممكنا لا واجبا ؛ ولزم أيضا أن يكون علمه ـ تعالى ـ زائدا على ذاته ، وقد عرفت انّ ذلك باطل ، فانّ الصفات الكمالية له ـ تعالى ـ يجب أن يكون عين ذاته.

٣٢٦

ثمّ ما ذكره من أنّه إذا كانت معلومة بالعلم المتقدّم على الايجاد تكون معلومة بالعرض : غرضه إنّ الأشياء إذا كانت معلومة بالعلم الصوري المتقدّم ـ كما هو مذهب الفلاسفة ـ يلزم كون الحوادث المتغيّرة الموجودة في الخارج معلومة بالعرض ، لكون المعلوم بالذات حينئذ هو صورها الكلّية. وغير خفيّ بأنّه على ما ذكره هذا العلاّمة من أنّ مناط الانكشاف بالذات هو وجودات الأشياء ويكون الأشياء معلومة بالذات حين الوجود لا قبله يلزم أن يكون الأشياء معلومة بالعرض أيضا بالعلم المتقدّم على الايجاد وإن كان هذا العلم المتقدّم حضوريا ، لأنّه يكون علما إجماليا ـ كما صرّح به ـ ، وأمّا على ما اخترناه من انّ مناط علمه ـ تعالى ـ ليس وجودات الأشياء ـ بل هي لغو في مناطية الانكشاف ـ وانّما مناطه هو ذاته وعلمه بذاته ، فتكون الأشياء معلومة بالذات بالعلم المتقدّم الحضوري التفصيلي ، ويكون علما فعليا مقدّما ، وليس فيه تغيّر وتبدّل ولا يكون له علم انفعالي أصلا.

ثمّ قال العلاّمة : وأيضا ذلك ـ أي : عزوب شيء عن علمه ـ ينافي قولهم من أنّ انكشاف العلّة عند ذاتها مستلزم لانكشاف معلولها عندها ، فقول هذه الجماعة المؤوّلين ـ من انّه انّما يتّجه تكفيرهم في ذلك لو قالوا بأنّ بعض الأمور ليس معلوما له تعالى عن ذلك ... إلى آخره ـ إن كان في العلم المقدّم على الايجادات العينية لورد عليهم انّ كلام المتأخّرين في التكفير ليس إلاّ في العلم الّذي هو مع الايجادات ، فكون المشخّص بذاته ـ أعني : المخصّص الّذي ينضمّ إلى الماهية ليتشخّص وهو المسمّى « بالتشخص » ـ متحقّقا في الاشخاص المادّية لا يوجب خروجه عن متعلّقات هذا العلم الّذي هو عبارة عن الحضور ، بل الحاضر بذاته ؛ لما عرفت من أنّ العلم التفصيلي للواجب ليس عبارة عن نفس الحضور بل عبارة عن الحضار بذاته والحضور لازم له ، لما تقدّم من أنّ العلم التفصيلي للواجب هو الموجودات الخارجية. وإذا لم يلزم خروج هذا الشخص عن متعلّق هذا العلم ممّن اعتقد بخروجه يلزم خروج بعض الأمور عن علمه ، ولا ريب في أنّ ما صرّح الفلاسفة في علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات من امتناع تعلّق علمه بما لا ماهية له كلّية يوجب خروج هذا المشخّص عن علمه ؛ فالقول بأنّ الفلاسفة قائلون بعدم خروج شيء

٣٢٧

عن علمه التفصيلي الّذي مع الايجادات خلاف مذهبهم. نعم! ، ذلك المشخّص على تقدير تحقّقه لا يمكن أن يكون ايجاده مسبوقا بالعلم المغاير لذات العلّة على اعتقادهم. والحاصل : انّه انّما لا يخرج الجزئيات المادّية بحضورها الجزئي مع المشخّص المتشخّص بذاته عن علمه ـ تعالى ـ لو اثبت العلم الّذي هو مع ايجادات الجزئيات بأن يكون نفس وجوداتها علما ، والقائلون بالعلم الحصولي لا يثبتون هذا العلم ؛ نعم! ، يقولون بالعلم المقدّم على الايجاد وهو العلم الحصولي في الكلّي المتقدّم على ايجاد الموجودات ـ كلّية كانت أو جزئية ـ ، ويقولون : انّ ذلك المشخّص على تقدير تحقّقه لا يمكن أن يكون ايجاده مسبوقا بالعلم المغاير لذات العلّة على اعتقادهم ـ أعني : العلم الصوري الكلّي الّذي هو زائد على ذاته تعالى ـ ، لأنّ هذا العلم لكلّيته لا يتناول هذا / ١٨٥ DB / المشخّص الجزئي. وحينئذ يكون الضمير في اعتقادهم راجعا إلى القائلين بالعلم الحصولي ، ويكون المراد من العلم المغاير هو العلم الصوري الكلّي.

وقيل : يمكن أن يكون هذا الضمير راجعا إلى غيرهم ممّن اثبت العلم التفصيلي ، ويكون المراد من العلم المغاير هو العلم الصوري لا العلم التفصيلي. وحاصل كلامه حينئذ : انّه إن كان المراد انّ المتغيّرات لا يشذّ عن علمه ـ تعالى ـ بهذا العلم الجزئي المتغير الحاصل مع المعلوم المؤخّر بذاته ـ أعني : العلم الثاني التفصيلي ـ ، لا الأوّل الاجمالي ، لأنّه هو العلم الّذي لا يوجب خروج الجزئي المتغير عن كونه متعلقا به ، فالفلاسفة لا يثبتونه ولا يقولون به ـ للزوم التغيّر في ذاته ـ. نعم! ، غيرهم يثبتونه ويقولون : انّ ذلك المشخّص على تقدير وجوده لا يمكن أن يكون مسبوقا بالعلم الّذي هو غير العالم الّذي هو ذات الواجب ـ أعني : العلم الصوري الكلّي ، أو العلم التفصيلي ـ ، لأنّه عين الموجودات الخارجية ، فلو تقدّم عليها لزم تقدّم الشيء على نفسه. وعلى التقديرين لا يفيد ذلك للقائلين بأنّ مدار العلم بالشيء ـ الّذي هو غير العالم ـ ارتسام صورته ، لأنّه على القول بالعلم التفصيلي لا ارتسام ، فلا علم على القول بلزوم الارتسام ، فيلزم عليهم نفي علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات المتغيّرة من حيث أنهّا متغيرة.

وأنت خبير بأنّ كلام هذا العلاّمة هاهنا لا يخلوا عن اختلال في تأدية المرام ، لافتقاره

٣٢٨

في الدلالة على مطلوبه على الحملين إلى تقديرات ، وإن كان الحمل الثاني أبعد بكثير!.

ثمّ أكثر كلماته هاهنا أيضا مبنية على ما ذهب إليه من قوله بالعلم التفصيلي المتغاير لذاته ـ تعالى ـ وكونه عين وجودات الأشياء المتغيّرة ، وقد عرفت انّ علمه بذاته وبجميع ما يغاير ذاته ليس إلاّ عين ذاته ، وليس له تجدّد / ١٨٤ MA / وتغيّر. فما ذكره من أنّ كلام المتأخّرين في التكفير ليس إلاّ في العلم الّذي مع الايجاد ـ وهو الحضورات الزمانية الّتي لم يتحقّق قبل الايجاد ـ يرد عليه : انّ الحضورات الزمانية إذا لم يتحقّق قبل الايجاد ، وقد تحقّق بعده. فنقول : لا ريب في أنّ الحضور له والانكشاف عنده حالة وجودية وحقيقية ، فقد تجدّد بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أمر وجودي فكان قد بقى له حالة منتظرة ، وهو محال ؛ وقد عرفت انّ التغيّر والتجدّد في الاضافات بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ليس بجائز. والحاصل : انّ المتجدّد له ـ تعالى ـ لو كان علما فقد تجدّد له ـ تعالى ـ علم ، وهو محال ؛ وإن لم يكن علما لم يلزم من نفيه نفي علمه ـ تعالى ـ أصلا ، فلا يصحّ التكفير.

ثمّ قال العلاّمة المذكور بعد كلامه المذكور : وإذا تقدّم هذا ظهر حال قولهم ـ أي : قول المؤوّلين ـ ، فنسبوا إليهم انّهم ينفون علمه ـ تعالى ـ بالأشخاص المادّية ، فانّهم إن ارادوا بذلك العلم العلم المقدّم على الايجاد فلم ينسبوا إليهم نفيه ، وإن اريد به العلم الّذي هو الحضور المتجدّد الزماني صحّ القول بأنّهم نسبوا إليهم نفيه ، وبذلك يتعلّق كفرهم. وأيضا ظهر حال قولهم : « فهم يثبتون علمه ـ تعالى ـ بجميع الأمور الممكنة الموجودة ـ ... إلى آخره ـ » ، فانّه إن اريد به العلم الّذي هو الحضور الزماني ـ الّذي هو باعتبار الوجود العيني ـ فلم يخف على أحد عند التأمّل في كلامهم انّهم لم يثبتوا ، وبذلك تعلّق كفرهم ؛ انتهى.

ولا ريب في أنّ الحصوليين ينفون علمه ـ تعالى ـ بالأشخاص المادّية الجزئية من حيث هي جزئيات ، لما عرفت من أنّ العلم الحصولي الصوري ليس إلاّ كلّيا. والثابت بالبرهان والمقرّر عند أهل الملل والأديان انّ الأشياء بأسرها ـ كلّية كانت أو جزئية ، مجرّدة كانت أو مادية ـ منكشفة عنده بجميع خصوصياتها الثابتة لها من الكلّية و

٣٢٩

الجزئية وغير ذلك من صفاتها وأحوالها انكشافا دائميا مقدّسا عن شوائب التغيّر والتجدّد. وبذلك يظهر فساد ما ذهب إليه الحكماء الحصوليين من القول بالعلم الارتسامي الكلّي ؛ وكذا يظهر فساد ما ذكره هذا العلاّمة بقوله : « وان اريد به العلم الّذي هو الحضور المتجدد الزماني » ، وبقوله : « فانّه إن اريد به العلم الّذي هو الحضور الزماني الّذي هو باعتبار الوجود العينى ـ ... إلى آخره ـ » ، فانّ الحضور المتجدّد والحضور الزماني ليس علما للواجب ـ تعالى ـ ، بل الحضور المتجدّد الزماني إنّما هو المعلوم حقيقة وليس للواجب علمان / ١٨٦ DA / أحدهما زماني متغير والآخر غير زماني غير متغير ، بل علمه علم واحد مقدّس عن الزمان وعن التجدّد والحدثان ويكون ثابتا مستمرّا أزلا وأبدا فنفي علمه ـ تعالى ـ بمعنى الحضور الزماني المتجدد لا يتعلّق به كفر ، بل الاعتقاد به إنّما كاد أن يكون كفرا!.

ثمّ قال بعد هذا الكلام المنقول : وأيضا ظهر حال قولهم ـ أي : قول المؤوّلين ـ : فكلّ ما ندركه نحن بطريق الإحساس كالتخيل فهو مدرك له ـ تعالى ـ بطريق التعقّل ، فانّه إن اريد بالتعقّل ما هو اصطلاح الفلاسفة ـ على ما يعلم من كلام بهمنيار حيث قال : « المعلوم المجرّد عمّا سواه أو ما يقارنه مقارنة مؤثّرة يسمّى معقولا والمعلوم بما هو مخالط لغيره يسمّى محسوسا ـ ورد عليه : انّ الكلام ليس فيه ، لأنّ الكلام في علمه ـ سبحانه ـ بالماديات الجزئية من حيث هي ماديات متجزئة ؛

وإن اريد به ادراك المحسوس والتخيل بالحاسّة المدركة بل بحضور ذاته وصورته الحسّية والخيالية ـ كما هو حاضر عند النفوس الناطقة ـ ورد عليه : انّ هذا هو الّذي نفاه الفلاسفة ـ لكونه مستلزما للتغير ـ ، ويتعلّق بذلك النفي كفرهم ؛ انتهى.

وتوضيح كلام بهمنيار : إنّ ما يسمّى « معقولا » على قسمين :

أحدهما : المعلوم المجرّد عمّا سواه ، أي : المعلوم الّذي جرّد عن غيره ، يعنى يكون مجرّدا عمّا يلحقه من العوارض المادّية ؛ وبالجملة يكون مجردا بحتا ـ مثل العقول المفارقة ـ ؛

٣٣٠

وثانيهما : المعلوم الّذي يقارنه ما سواه لكن مقارنة غير مؤثرة ـ أي : غير موجبة للمادية ـ ، وأمّا كالنفس الناطقة فانّها وإن كانت مقارنة لما سواها إلاّ انّ مقارنتها ليست له مقارنة موجبة لمادّيتها ، فتكون مجرّدة ؛ وكالطبيعة الموجودة في الأشخاص ، فانّها مع مقارنتها بالأمور المادّية يمكن تجريدها عنها وجعلها معقولة ، فانّ هذه المقارنة لا تجعلها مادية صرفة بأن لا تبقى لها جهة مجرّدة ، وهي الطبيعة من حيث هي.

ثمّ ما ذكره هذا العلاّمة هاهنا قد ظهر حاله ممّا سبق.

ثمّ قال بعد هذا الكلام : وأيضا ظهر حال قولهم ـ أي : قول المؤوّلين ـ : « بل ينفون عنه التخيل والإحساس مع اثبات ادراكه ـ تعالى ـ لجميع المحسوسات والمتخيلات » ، فانّه إن اريد باثبات ادراك المحسوسات والمتخيلات ادراكها باعتبار الحضور العيني ، ورد عليهم إنّهم / ١٨٤ MB / لم يثبتوا ذلك ـ كما يعلم من التأمّل فيما نقل عن صاحب الشفا ، وفيما قاله في الاشارات وهو قوله : « فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا حتّى يدخل فيه الآن والماضي والمستقبل فيعرض لصفة ذاته انّ تغيّر ، بل يجب أن يكون علمه بالجزئيات على الوجه المقدّس المتعالي عن الزمان والدهر » ؛ وقوله قبل القول المذكور : « ثمّ ربما وقع ذلك الخسوف الجزئي ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بانّه وقع أو لم يقع وان كان معقولا له على النحو الأوّل ، لأنّ هذا ادراك آخر جزئي يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله » ، وهذا القول كفر صريح ـ تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا ـ. وبهذا وما نظيره ـ كالقول بقدم العالم ـ حكم الغزالي بكفر قائله ؛

وإن اريد ادراكها ـ أي : ادراك المحسوسات والمتخيلات ـ باعتبار اثبات صورتها الظلية لا باعتبار حضور ذاتيهما بحسب الوجود العينى ، ورد عليه ما ورد على اختيار الشق الأوّل ـ أعني : لزوم عدم علمه بالموجودات من حيث انها موجودات عينية ـ ، وهذا كفر. وأيضا يظهر حال قولهم : « ولا يثبتون في الأشخاص المادّية ما ليس له ماهية كلية حتّى لا يمكن ادراكه بطريق التعقّل » ، فانّ هذا الكلام ـ سواء كان مطابقا للواقع أو لا ـ لا دخل له فيما حكم الغزالى وغيره بكفر قائله ـ كما مرّ ـ ، فانّ منشأ التكفير ليس إلاّ

٣٣١

نفيهم علمه ـ سبحانه ـ بالجزئيات المتغيّرة باعتبار وجوداتها العينية ، وهو لازم من كلامهم ـ سواء أثبتوا في الأشخاص المادّية ما ليس له ماهية كلّية أم لا ـ ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ الشقّ الأوّل من كلامه هو إرادة اثبات ادراك المحسوسات والمتخيلات باعتبار الحضور العيني ، وما ورد عليهم هو انّهم لم يثبتوا ذلك ، فيلزم عليهم عدم علمه بالموجودات العينية من حيث انّها موجودات عينية ؛ وهذا هو اللازم عليهم أيضا في الشق الثاني ، فالفساد / ١٨٦ DB / الوارد على الشقّين واحد.

ثمّ ما نسب إلى الشيخ وأمثاله من الفلاسفة من نفيهم ادراكه ـ تعالى ـ للمحسوسات والمتخيلات باعتبار الوجود العيني واستشهد بذلك على ما ذكره الشيخ في الاشارات فقد ردّ عليه بعض الأفاضل وانكر دلالة عبارات الاشارات على ذلك ؛ فلا بدّ لنا من نقل تمام عبارته مع توضيح ما يحتاج إلى الايضاح ، ثمّ نقل ما ذكره بعض الأفاضل ، ثمّ الاشارة إلى ما هو الحقّ.

فنقول : قال الشيخ : « اشارة الأشياء الجزئية قد تعقل كما تعقل الكلّيات من حيث تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه بتخصيص به ، كالكسوف الجزئي فانّه قد يعقل وقوعه بسبب توافي أسبابه الجزئية واحاطة العقل بها وتعقّلها كما تعقل الكلّيات. وذلك غير الادراك الجزئى الزماني الّذي يحكم انّه وقع الآن أو قبله أو يقع بعده ، بل مثل أن تعقل أنّ كسوفا جزئيا يعرض عند حصول القمر وهو جزئي ما وقت كذا ، وهو جزئي ما في مقابلة كذا. ثمّ ربما وقع ذلك الكسوف ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع وإن كان معقولا له على النحو الأوّل ، لان هذا ادراك آخر جزئي يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله ، وذلك الأوّل يكون ثابتا لدهر كلّه وإن كان علما بجزئي » (١) ؛ انتهى.

ثمّ قال بعد فصل آخر : « تذنيب. فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا ـ ... إلى آخر ما نقله العلاّمة الخفري رحمه‌الله ـ.

وإذا عرفت تمام كلامه فنقول في إيضاح بعض الفاظه : انّ قوله : « الأشياء الكلّية

__________________

(١) راجع : شرح الطوسي على الاشارات ، ج ٣ ص ٣٠٧.

٣٣٢

قد تعقل كما تعقل الكلّيات » إشارة إلى انّها قد تدرك من حيث طبائعها المجردة عن المخصّصات والمشخّصات ، وقيد بقوله : « من حيث يجب باسبابها » ليكون الادراك لها على نحو الكلّية يقينيا غير ظنيّ ، فانّ العلم اليقيني بالأشياء ما يحصل من عللها واسبابها. وقوله : « منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه » معناه : انّ تلك الأشياء منسوبة إلى مبدأ طبيعة النوعية منحصرة في ذلك الشخص ؛ والمراد : انّ تلك الأشياء الجزئية انّما يجب بأسبابها من حيث انّ تلك الأسباب طبائع أيضا ، فكما انّ الأشياء الجزئية تعقل من حيث انّها طبائع كذلك أسبابها أيضا تعقل من حيث انّها طبائع منحصرة في ذلك الشخص. وقوله : « يتخصّص به » معناه يتخصّص تلك الأشياء الجزئية بذلك المبدأ الّذي نوعه منحصر في شخصه. وإنّما قال : « منسوبة إلى مبدأ كذلك » ولم يقل : « معلولة له » ، لأنّ الجزئى من حيث هو جزئي لا يكون معلولا لطبيعة غير جزئية ولا الطبيعة علّة له من حيث هو كذلك. كذا ذكره العلاّمة الطوسي في شرحه (١)

وقال صاحب المحاكمات : « لو كان الكلام في الجزئيات من حيث انّها طبائع فمن الجائز استنادها إلى الطبائع ، فمعلوم من ذلك انّ الكلام في الجزئيات من حيث هي جزئية. والوجه في ذلك انّه اشارة إلى أنّ العلم بالأسباب الجزئية المعينة غير لازم من العلم بالمسببات الجزئية ، بل العلم بالأسباب المطلقة كاف فيه كما انّ العلم بالكسوف الجزئي يتوقّف على العلم بكون القمر في عقدة معينة في وقت معيّن ، وكون القمر في تلك / ١٨٥ MA / العقدة في ذلك الوقت أمر كلّي وإن انحصر نوعه في شخصه » (٢) ؛ انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم! ، انّ مراد العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ انّ غرض الشيخ من هذه الكلمات بيان انّ علم الواجب ـ سبحانه ـ بالجزئيات إنّما هو بنحو كلّي مقدّس عن التغيّر ويلزمه خروج المشخّصات والوجودات العينية عن علمه ـ سبحانه ـ. وبعض من اعتقد انّ مذهب الشيخ في علم الواجب هو العلم الحضوري دون الحصولي حمل

__________________

(١) راجع : نفس التعليقة السالفة.

(٢) راجع : المحاكمات ـ المطبوع في ذيل شرح الطوسي على الاشارات ـ ، ج ٣ ص ٣١١.

٣٣٣

عبارته المفتتحة بالاشارة على بيان ما يكون لغير الواجب ـ أعني : العقول والنفوس من قسمي العلم ـ ، وعبارته المفتتحة بالتذنيب على بيان انّ علم الواجب علم غير زماني مقدّس عن التغير لكونه حاصلا من العلل والأسباب لا لكونه حصوليا كلّيا ، فقال في شرح العبارة الاولى : الغرض من هذه الاشارة بيان انّ العلم الجزئي المتغير بالقياس إلينا لا بالقياس إلى الواجب يتصوّر على قسمين :

أحدهما : العلم بالجزئي المتغير بوجه لا يكون متغيرا ، وذلك إذا عقل الجزئي بالوجه الكلّي لا بالوجه الجزئي ، مثل أن يعقل المنجّم اسباب الحوادث المعينة فيحكم انّ تلك الحوادث تقع في أزمنة معينة وانّما يعقل المنجّم نكتا باسباب / ١٨٧ DA / والحوادث بوجه كلّي منحصر في فرد ، لأنّه يجوز أن يكون بدل كلّ من تلك الأسباب والحوادث شخص آخر مثله ، فلا يعقل إلاّ بوجه كلّي منحصر في الفرد. وذلك العلم يكون ثابتا أبد الدهر كلّه ، ولا يتغيّر أصلا ؛

وثانيهما : العلم بالجزئي بالوجه الجزئي ، وهذا لا يحصل إلاّ بالمشاهدة ، ولهذا بعد ما حكم المنجّم بأنّ الحادث الكذائي يكون في الوقت الكذائي يحصل له علم آخر انفعالي حادث جزئي يتغيّر بتغير المعلوم.

ويؤيّد ما ذكرناه ـ من : أنّ مراد الشيخ بيان قسمي العلم بالنسبة إلى غير الواجب ـ ما ذكره بقوله : « واحاطة العقل بها » ، وقوله : « ونعقلها كما نعقل الكلّيات ». ووجه التأييد انّ هاتين العبارتين ظاهرهما هو بيان حال العقل والنفس في ادراك الجزئيات المتغيّرة وبيان انّ الواجب لا يعلم الجزئيات المتغيّرة إلاّ بالوجه الكلّي دون الجزئي ، وفائدة بيان حال العقل والنفس هنا في العلم بالجزئيات المتغيّرة هي أن تشير إلى انّه كما انّ العقل له علم غير متغير بالقياس إلى الجزئيات الغير المتغيّرة كذلك للواجب علم بالجزئيات المتغيّرة من حيث أنّها جزئيات كعلم العقل بها من حيث عدم التغيّر ، لا مطلقا ـ أي : لا من حيث الكلّية أيضا ـ ، فانّ العقل لا يعلم الجزئيات المتغيّرة بوجه جزئي إلاّ بالآلات الجسمانية ، بخلاف الواجب ـ تعالى ـ فانه يعلم الجزئيات المتغيّرة من حيث انها جزئيات متغيرة ، لا بالآلات الجسمانية ، بل من جهة الاحاطة بجميع العلل و

٣٣٤

الأسباب ـ على ما عرفت سابقا ـ. فقول الشيخ : « ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع » ليس معناه : انّ الواجب ليس له احاطة بأنّه وقع أو لم يقع حتّى يلزم الكفر العقلي والشرعي معا ، بل المراد من « العاقل الأوّل » هو العاقل الّذي يعلم الجزئيات المتغيّرة بوجه كلّي لا بوجه جزئي ، وذلك العاقل هو « العقل » أو « النفس ». فالعاقل الأوّل في عبارة الشيخ عبارة عن العقل أو النفس المدركين للجزئيات المتغيّرة بوجه كلّي لا بوجه جزئي ، لا انّه عبارة عن الواجب ـ تعالى ـ أو عن الأعمّ عنه ـ تعالى ـ وعن العقل والنفس حتّى يتّجه التكفير.

ثمّ قال في شرح العبارة الثانية المفتتحة بالتذنيب : مقصود الشيخ انّ الواجب ـ تعالى ـ لمّا كان محيطا بجميع العلل والأسباب المسلسلة المنتهية إلى الجزئيات المتغيّرة بشخصيتها يكون كلّ واحد من الجزئيات المتغيّرة معلوما له ـ تعالى ـ بالوجه الجزئي ، لكن على الوجه المقدّس العالي عن الزمان والدهر ، لأنّ العلم الّذي يكون زمانيا يكون علما انفعاليا وعلم الواجب ـ سبحانه ـ لا يكون إلاّ فعليا ، فالزمان فيه معلول له ـ تعالى ـ ومعلوم له ـ تعالى ـ ، فعلم الواجب منزّه عن أن يكون زمانيا. فليس في علمه كان وكائن ويكون ، بل علمه بالأشياء بعد تكوّنها كعلمه بها قبل تكوّنها ؛ ولا يدخل كان وكائن ويكون إلاّ في علوم الممكنات.

وبالجملة ادراك الجزئيات المتغيّرة بالوجه الجزئي يتصوّر من وجهين :

أحدهما : من طرق الحواسّ ـ كما هو بالنظر إلينا ـ ؛

وثانيهما : من جهة الاحاطة بجميع الأسباب والعلل المتسلسلة المنتهية إلى تلك الجزئيات. والواجب ـ تعالى ـ محيط بالكلّ لان الكلّ معلول له ، فيعلم الجزئيات المتغيّرة على الوجه الجزئي من جهة الاحاطة بجميع الأسباب. وهذا القسم من العلوم يكون أتمّ العلوم وأكملها ، ويكون متعاليا عن الزمان والدهر.

وليس مقصوده انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات المتغيّرة بالوجه الكلّي الّذي لا يتغيّر ولا يعلمها بالوجه الجزئي المتغير ، والاّ يلزم التغيّر في علمه ـ على (١) ما يتوهّم من ظاهر

__________________

(١) الاصل : ـ على.

٣٣٥

كلامه ـ ؛ انتهى.

وقد عرفت انّ حمل كلام الشيخ على ذلك في غاية التعسّف! ، وخلاف ما ثبت وتقرّر من قوله بالعلم الحصولي الكلّي ، وعباراته في جميع كتبه صريحة في قوله بالعلم الحصولي الكلّي ولا يوجد في كلامه ما يمكن حمله على العلم الحضوري بنحو ما ذكره هذا الفاضل.

ولا ريب في أنّ مراد الشيخ من العبارة الاولى بيان انّ العلم المطلق بالجزئيات ـ أعم من علم الواجب أو غيره ـ على قسمين :

أحدهما : كلّي غير متغير ؛

وثانيهما : جزئي متغير ، ولذا فرّع عليه في العبارة الثانية ـ بفاء التفريع ـ بأنّ علم الواجب بالجزئيات من القسم الأوّل ـ أي : الكلّي الغير المتغير ـ. ولو كان مراده من العبارة الاولى بيان / ١٨٥ MB / علم غير الواجب لم يكن لتفريع العبارة الثانية عليها معنى ، فالشيخ لمّا حكم في العبارة الاولى بأنّ العاقل للجزئي على النحو الكلّي ربما وقع الجزئي / ١٨٧ DB / ولم تكن عنده احاطة بانّه وقع أو لم يقع وحكم في العبارة الثانية بأنّ علم الواجب بالجزئيات يجب أن لا يكون على الوجه الجزئي المتغيّر بل يجب أن يكون على الوجه المقدّس العالى عن الزمان والدهر ـ يعنى يكون على الوجه الكلّي الغير المتغيّر ـ فيحصل من مجموع هذين الحكمين : انّه يجوز أن يقع جزئي ولم يكن عند العاقل الأوّل ـ أعني : الواجب ـ احاطة بأنّه وقع أو لم يقع.

ثمّ إنّ بعضا آخر من الأفاضل قال : انّه لا ريب في أنّ غرض الشيخ بيان كلّية علم الواجب بالجزئيات ، وليس غرضه من مجموع هاتين العبارتين إلاّ تقسيم مطلق العلم إلى قسمين : كلّي غير متغيّر ، وجزئي متغير ، وجعل علم الواجب بالجزئيات من الأوّل. إلاّ أنّ كون علمه بها كلّيا متعاليا عن الزمان لا يوجب عدم علمه بالمشخّصات الجزئية والوجودات العينية ، نظرا إلى أنّ مناط الكلّية والجزئية بنحو الادراك لا التفاوت في المدرك.

وحينئذ نقول : قوله : « ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع ، أي :

٣٣٦

في الآن » ليس المراد به نفي علمه بهذا الوقوع الخاصّ حتّى يلزم عزوب الجزئي عن علمه ويتوجّه الكفر ، لأنّ « الآن » ظرف للحكم لا للمحكوم عليه ، لأنّ غرض الشيخ ليس إلاّ نفي التغيّر عنه ـ تعالى ـ وعن علمه ـ سبحانه ـ ، وما يستلزم التغيّر في الحكم إنّما هو الأوّل ـ لأنّ حكمه بالوقوع أو عدمه في الآن بأن يكون الآن ظرفا للحكم يوجب كونه زمانيا ـ ؛ دون الثاني ، فانّ كون الآن ظرفا للمحكوم عليه وكونه ـ تعالى ـ عالما بأنّ هذا الآن ظرف لهذا المحكوم عليه لا يوجب تغيرا فيه ـ سبحانه ـ. فقول الخفري ـ رحمه‌الله ـ : « وهذا القول كفر صريح » ليس على ما ينبغى ، لأنّه إنّما يلزم أن يكون كفرا لو كان نفي الوقوع في الآن على أن يكون الآن ظرفا للمحكوم به ، وليس كذلك : لانهم إنّما قالوا بذلك النفي حذرا عن لزوم التغير ، وظاهر انّه لا يلزم التغير على هذا التقدير ـ أعني : تقدير كون الآن ظرف للمحكوم عليه ـ ، بل إنّما يلزم التغير على تقدير تعلّق الظرف بالحكم ، فهو المنفي.

إذا عرفت ذلك فاعلم! : انّه لا ريب في أنّ التأمّل في هاتين العبارتين يفيد أنّ مراد الشيخ منهما ليس إلاّ بيان أنّ علم الواجب الأوّل ـ سبحانه ـ بالجزئيات كلّي غير متغير مقدّس عن الزمان والدهر ، وأمّا كون هذا العلم الكلّي بحيث لا يخرج عنه شيء من المشخّصات والمخصّصات الجزئية والوجودات العينية أو لا يخرج عنه شيء منهما فلا يعلم منهما صريحا ـ كما في أكثر عبارات القائلين بالحصول ـ. نعم! ، الظاهر من قوله : « ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع » : انّه ـ سبحانه ـ لا يكون عالما بأنّ هذا الشيء الخاصّ وقع في الآن أو في الوقت الفلاني أو لم يقع ، كما فهمه العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ وكفّر قائله للزوم خروج بعض الأشياء حينئذ ـ وهو كون الحادث الفلاني موجودا في الوقت الفلاني ـ من علمه ـ تعالى ـ. وما نقلنا من القول بكون الآن أو الوقت ظرفا للحكم دون المحكوم عليه خلاف الظاهر من العبارة ، لأنّه على تقدير تعلّق الظرف بالمحكوم عليه دون الحكم يكون المراد إنّ حكم الواجب بالوقوع أو اللاوقوع ليس زمانيا متعلّقا بهذا الآن أو الوقت الخاصّ وإن كان المحكوم عليه زمانيا متعلّقا بذلك وكان الواجب عالما بذلك ؛ ولا ريب في أنّ الظاهر من قوله : « ولم يكن عند العاقل الأوّل

٣٣٧

احاطة ـ ... إلى آخره ـ » : إنّ الأوّل ـ تعالى ـ ليس عالما بوقوعه في الآن أو الوقت الفلاني وتعلّقه بهما.

وإذا احطت بما ذكرناه هنا وبما قرّرناه فيما سبق لا اظنّك شاكّا في أنّ مذهب الحصوليين إنّ علم الواجب بالجزئيات كلّي ، وكون ذلك كفرا مبني على أنّه هل يخرج عنه بعض الأمور أم لا. وقد عرفت انّه قد وقع الخلاف في ذلك بين المتأخّرين ، فجلّهم وجّهوا كلام الحصوليين وقالوا : إنّ مناط الكلّية والجزئية عندهم بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك ؛ وبعضهم قالوا : إنّ ذلك باطل ـ لظهور التفاوت بين المدرك بالادراك الكلّي والمدرك بالادراك الجزئي ـ ، ولم يأت شيء من الفريقين بما يظهر منه حقيقة الحال. فالمهمّ هنا بيان ذلك ـ أي : بيان انّ مناط الكلّية والجزئية هل بمجرّد نحو من الادراك دون التفاوت في المدرك حتّى لا يخرج شيء من الجزئيات المعلومة بالعلم الكلّي أو بالتفاوت في المدرك حتّى يخرج شيء منها ـ.

فنقول لتحقيق ذلك : لا ريب في أنّ الجزئي هو الكلّي بانضمام التشخّص ؛ فكلّ جزئي إن علم بانّه الجزئي يكون معلوما بطبيعته وشخصه ، وإن علم بالنحو الكلّي يكون معلوما بطبيعته دون شخصه ، فلا بدّ لنا من بيان انّ التشخّص هل هو أمر محقّق في الواقع خروجه / ١٨٨ DA / مستلزم لخروج أمر عن علمه ، أم لا. فلا بدّ لنا أوّلا أن نذكر انّ التشخّص ما ذا؟ ، ثمّ نشير إلى أنّ خروجه عن العلم هل هو خروج أمر محقّق عن علمه ويلزم منه الكفر ، أم لا؟.

فنقول : قد ذهب جماعة إلى أنّ التشخّص أمر موجود في الخارج زائد على الماهية ينضمّ إليها وتصير الماهية به جزئية حقيقية وشخصية ، ونسبته إلى الماهية نسبة الفصل إلى الجنس. وذلك الأمر لا ماهية له كلّية ليحتاج الى تشخّص آخر ، واشتراكه بين التشخّصات ليس إلاّ مفهوم عرضي. وذهب / ١٨٦ MA / جماعة من المحقّقين إلى أنّ التشخّص الموجود أمر اعتباري نفس أمري غير زائد في الخارج على الماهية المتشخّصة بمعنى أنّ الجاعل كما يجعل الماهية في الخارج بحيث تصير مبدئا للآثار ومصدرا للاحكام وينتزع منها العقل باعتبار تلك الحيثية مفهوم الوجود بدون أن يكون لذلك الانتزاع منشأ

٣٣٨

في الخارج سوى ذلك الجعل فكذلك يجعلها في الخارج بحيث يمتنع اشتراكها بين كثيرين فيه ، وينتزع منها العقل باعتبار هذه الحيثية التشخّص بدون أن يكون لذلك الانتزاع منشئا في الخارج سوى ذلك الجعل ؛ ولهذا ذهب بعضهم إلى أنّ الوجود والتشخّص أمر واحد بالذات متغاير بالمفهوم والاعتبار ، وعلى هذا يكون التشخّص نحو الوجود المحقّق في الخارج ، وما به التشخّص لا يكون إلاّ نفس كون الماهية مرتبطة بجاعلها الحقّ المشخّص بذاته ارتباطا خاصّا بها ، كما أنّ ما به الوجود ليس إلاّ كونها مرتبطة بجاعلها الموجود بنفس ذاته كذلك. وامّا العوارض المكتنفة بالشّخص فليس إلاّ أمارات للتشخص. وأمّا المادّة والمادّيات فليست إلاّ معدّة للماهية لقبول الارتباطات المختلفة بالجاعل الحقّ ، فالشخص ليس إلاّ الماهية المجعولة المرتبطة بجاعلها على وجه خاصّ. فالعقل إذا اعتبر الماهية من حيث هي هي بدون هذا الارتباط الخاصّ يجوّز اشتراكها بين كثيرين بأن يكون لها في الخارج انحاء ارتباطات بالجاعل ، فهي من هذه الحيثية تكون كلّية مشتركة بين كثيرين واعتبرت في الخارج مرتبطة بالجاعل بارتباط خاصّ لا يجوز ذلك الاشتراك ، فهي من هذه الحيثية تكون جزئيا حقيقيا وشخصيا ، فمناط الجزئية والكلّية هو ذلك الارتباط الخاصّ وعدمه ، فكل ماهية واقعة في الخارج ومرتبطة بالجاعل بما هي واقعة فيه ليست إلاّ جزئيا حقيقيا ممتنعا فرض اشتراكه بين كثيرين ـ سواء ادركت أو لا ـ ، ولا يكون كلّيا إلاّ إذا ادركت واعتبرت من حيث هي هي.

وإذا علمت ذلك فاعلم! : انّ جماعة من المحقّقين ـ كالمحقّق الدواني وصدر المحقّقين وأمثالهما ـ زعموا أنّ تشنيع المتأخّرين على الحكماء في نفيهم علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات على الوجه الجزئي واثبات علمه ـ تعالى ـ بها على الوجه الكلّي مبني على زعم الجماعة الاولى القائلين بزيادة التشخّص على الماهية في الخارج ، لأنّه لا شبهة في أنّ علمه إذا كان على النحو الكلّي دون الجزئي لا يخرج عنه التشخّص والتشخّص إذا كان أمرا زائدا على الماهية في الخارج فيصدق أنّ بعض الأمور الحقيقية الخارجية خارج عن علمه. قال المحقّق الدواني في مبحث التشخّص في حواشيه القديمة بعد تقرير مذهب القائلين بزيادة التشخّص : ثمّ إن ذلك الأمر ـ أعني : الأمر الّذي يسمّونه تشخّصا ـ في المادّيات يكون

٣٣٩

مادّيا لا محالة ، فيلزم أن لا يحصل العلم بها للمبادي العالية ، وهذا هو منشأ التشنيع على الحكماء بانّهم ينفون علم الواجب بالجزئيات وانّهم لا يعتقدون احاطة علمه ـ تعالى ـ بجميع المعلومات ـ تعالى عن ذلك ـ. ثمّ بيّن انّه ليس في الممكنات تشخّص لا يكون حقيقة نوعه امّا منحصرة في فرد أو منتشرة في افراد ولا يوجد ما يسمّى تشخّصا يكون بنفس حقيقته جزئيا. ثمّ قال : ثمّ ان تلك الحقائق إذا ادركت بالحواسّ كان صورها الادراكية جزئية وإذا ادركت بالعقل كان صورها كلّية ، فالاختلاف في الكلّية والجزئية لاختلاف نحو الادراك لا لاختلاف المدرك. وادراك الواجب يتعلّق بجميعها على وجه التعقّل ، فاذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. فحاصل كلام / ١٨٨ DB / الحكماء نفي التخيل والإحساس عنه ـ تعالى ـ واثبات ادراك جميع الموجودات له على نحو التعقّل الصرف المقدّس عن الشوائب والقصور ؛ انتهى.

وقال صدر المحقّقين في هذا المبحث : ليس التشخّص الجوهري مثلا إلاّ الماهية النوعية المقترنة بالكمّ والكيف والوضع وغيرها من المقولات التسعة العرضية ، ولا يدخل فيه أمر زائد على الماهية النوعية. ولذلك إذا سئل عنه « بما هو؟ » يقع النوع في الجواب ، فانّ ادراك الشخص المذكور بالحسّ كان تصوّره مانعا عن فرض الشركة وإن ادرك لا بالحسّ كان تصوّره غير مانع من فرضها ، وإن كان المدرك واحدا في الصورتين. مثلا إذا علّمت لمخاطبك ما علمته بالحسّ وقلت مثلا قطرة الماء المتقدّرة بالمقدار الكذائي في الأين الفلاني ـ إلى غير ذلك ـ حتّى يدرك المخاطب قطرة ماء متصفة بجميع الصفات الّتي ادركت القطرة متصفة بها في الحسّ فتصوّرك للقطرة المذكورة يمنع الشركة وتصوّر مخاطبك لا يمنع عنه ، مع أنّ المتصوّر واحد. فظهر أنّ منشأ المنع المذكور هو الادراك الحسّى الّذي يخصّصه بحيث يصير جزئيا ، كيف / ١٨٦ MB / لا وتصوّر الشبح البعيد إذا كان بالحسّ كان مانعا عن فرض الشركة فيه وإن كان أكثر صفاته ـ بل مهيته أيضا ـ مجهولة له حينئذ.

وإذا عرفت أنّ تصوّر معنى واحد قد يكون مانعا عن فرض الشركة فيه وقد لا يكون مانعا عن فرضها بحسب نحوي الادراك فاعلم : أنّ ما ذهب إليه الحكماء من أنّ

٣٤٠