جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

شيء عنده ـ تعالى ـ انّما هو في وقت وجوده لا حين عدمه ، فتوجيه هذه العبارة بحيث تدلّ على حضور كلّ شيء عنده دائما توجيه لا يرضى به صاحب العبارة.

وأمّا الأمر الثاني فما ذكره هذا الفاضل فى توجيهه من انّ المراد انّ التغير انّما هو في المتجدّدات بنسبة بعضها إلى بعض لا بالقياس إلى الواجب إلاّ بالعرض فهو صحيح بنفسه مطابق لما صرّح به أهل التحقيق من أنّ التغير والتجدّد في الاضافات انّما هو بالنسبة إلى الزمانيات لا بالنسبة إلى الواجب ، إلاّ أنّ الظاهر من كلماته السابقة لهذا العلاّمة انّه يلزم تغير الاضافات بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أيضا ، وحينئذ فتوجيه كلامه بما ذكر لا يخلوا عن تكلّف ؛ وقد ذكرنا انّ قوله بذلك مخالف للتحقيق ومناف لما ذكره أساطين الفن.

وممّا يؤكّد ذلك ما قاله العلاّمة الشيرازي في شرح حكمة الاشراق بقوله : « وممّا يجب أن يعلمه ويحققه انّه ليس للحقّ الواجب اضافات مختلفة يوجب اختلاف حيثيات فيه ، بل له اضافة واحدة هي مبدأ يصحّح جميع الاضافات ـ كالرازقية والمصوّرية ونحوهما ـ. ولاسلوب فيه كذلك ، بل له سلب واحد يتبعه جميع السلوب وهو سلب الامكان ، فانّه يدخل تحته سلب الجسمية والعرضية وغيرهما كما يدخل تحت سلب الجماد من الانسان سلب الحجرية والمدرية عنه ؛ وإن كان السلوب يتكثّر على كلّ حال » (١).

والغرض انّ الاضافات والسلوب المختلفة قد تكون باعتبار حيثيات مختلفة موجودة في ذات المضاف إليه والمسلوب عنه فيحصل التكثر والتركب في ذاتهما ؛ / ١٧٩ DA / مثال الأوّل كاضافة العالمية لزيد ، فانّه لقيام صورة زائدة مع ذاته بذاته ؛ وكاضافة القادرية له ، فانّه لقيام قوّة زائدة على ذاته بذاته. ومثال الثاني كسلب الجمادية عن الانسان ، فانّه باعتبار حيثية النموّ في الانسان وسلب الشجرية عنه ، فانّه باعتبار حيثية الحساسية فيه ؛ وكسلب الفرسية عنه ، فانّه باعتبار حيثية الناطقية فيه. فمثل هذه الاضافات والسلوب يوجب التكثّر والتركّب في ذات المضاف إليه والمسلوب عنه.

__________________

(١) راجع : شرح حكمة الاشراق ، ص ٣١٣.

٣٠١

/ ١٧٨ MB / مثال الأوّل اضافة القيومية للواجب ـ تعالى ـ ، فانّه يتبعها الاضافات المختلفة من غير لزوم تكثّر في ذاته ـ تعالى ـ ، كالعالمية والقادرية والرازقية وغير ذلك ـ ؛ ومثال الثاني كسلب الامكان عنه ـ تعالى ـ ، فانّه يترتّب عليه السلوب المختلفة من غير لزوم تكثّر في ذاته ـ كسلب الجسمية والجوهرية والعرضية وسلب الافتقار إلى علّة وغير ذلك ـ. فالاضافات والسلوب في حقّه ـ تعالى ـ من قبيل الاضافات والسلوب الّتي لا توجب التكثّر ولا التغيّر في ذاته ـ تعالى ـ.

ومنها ـ أي : ومن الايرادات الموردة على الكلام المنقول المذكور من المحقّق ـ : إنّ قوله : « لا يحكم بالعدم على شيء من ذلك » غير مسلّم ، وكذا قوله : « لا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم » ، إذ قد عرفت انّ نسبته إلى اجزاء الزمان تختلف باختلاف اجزائه ، فلم لا يجوز أن يحكم بعدم ما هو معدوم في الحال مع علمه بأنّه كان في الماضي أو يكون في المستقبل؟! ، كما انّا قد نحكم بعدم شيء في الحال مع ذلك العلم وان نحكم بأنّ شيئا موجود الآن حين كونه مع هذا الآن في الوجود دون آخر ، فانّ الاشارة إلى الآن ليست حسية حتّى يقال ما هو بريء عن الحاسّة لا يصحّ أن يشير إليه.

وأمّا قوله : « لا يحكم على شيء بأنّه موجود هناك أو معدوم » ، فان اراد بلفظة « هناك » الاشارة إلى مكان قريب من مكان المجرّد المذكور فمسلّم ، لأنّه ليس له مكان فلا يكون مكان قريب من مكانه. لكنّا أيضا لا نحكم على شيء بأنّه موجود هناك مشيرا إلى مكان قريبا من مكان المجرّد المذكور ، بل نشير إلى مكان قريب من مكاننا ؛

وإن اراد الاشارة إلى مكان قريب من مكاننا فلم لا يجوز أن يحكم المجرّد مشيرا إلى هذا المكان إشارة عقلية؟! ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ قوله : « غير مسلّم » خارج عن القانون ، لأنّ المحقّق في صدد منع لزوم المحذور ـ أعني : التغير في ذاته على تقدير علمه تعالى بالجزئيات المتغيّرة ـ ، فمنعه غير موجّه.

ثمّ الجواب عن جميع ما ذكره لا يخفى عليك بعد الاحاطة بما ذكرناه ؛ لانّك قد عرفت انّ نسبة المجرّد إلى جميع أجزاء الزماني نسبة واحدة ـ لكونها معية في أصل الوجود فقط ـ

٣٠٢

، فلا يكون حكمه زمانيا متعلّقا بالآن والماضي والمستقبل ، ولا مكانيا متعلّقا بهنا وهناك وان كان عالما بجميع اجزاء الزمان والحوادث الواقعة فيها والنسب الحاصلة بينها على الوجه المطابق للواقع ـ كما ذكرناه مفصّلا ـ. والمانع في عدم تعلّق حكمه بالآن وهناك ليس منحصرا في كون الاشارة حسّية حتّى إذا جاز الاشارة العقلية ارتفع المانع رأسا ، لأنّ عدم كونه ـ تعالى ـ زمانيا ومكانيا واستواء نسبته إلى جميع اجزائهما مانع من التعلّق المذكور أيضا. وجواز اشارة المجرّد إلى هذا الزمان أو هذا المكان لا يثبت التعلّق المذكور ـ كما لا يخفى ـ.

ثمّ ما ذكره ـ من : انّه قد عرفت أنّ نسبة المجرّد إلى اجزاء الزمان يختلف باختلاف اجزائه ـ قد عرفت فساده ، وعلمت عدم اختلاف نسبته إلى أجزائه باختلاف اجزائه ؛ هذا.

وقد اجاب العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ بأنّ المراد من قوله : « لا يحكم بالعدم على شيء من ذلك » : انّه ـ تعالى ـ لا يحكم بالعدم المطلق أو بالعدم في الحال بمعنى زمان مخصوص بالمتكلّم ؛ ومن قوله : « لا يحكم على شيء » : بأنّه موجود الآن أو معدوم انّه لم يحكم على شيء بانّه موجود في آن وجوده أو معدوم فيه ؛ والمقصود انّه ـ تعالى ـ منزّه عن أن يقال انّ بعض الأزمنة ماض وبعضها مستقبل وبعضها حال بالنسبة إلى ذاته ـ تعالى ـ ووجوده.

وأمّا قول المعترض : « وامّا قوله : لا يحكم على شيء بأنّه موجود هناك ـ ... إلى آخره ـ » ، فدفعه أن يقال : المراد الشقّ الأوّل من الترديد ، ولا محذور فيه ، إذ قوله : « لكنّا أيضا لا نحكم على شيء بانّه موجود هناك ـ ... إلى آخره ـ » لا يخلّ بالمقصود ؛ انتهى. / ١٧٩ DB /

ولا يخفى انّ هذا الجواب مبني على تسليم عدم استواء جميع الأزمنة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ، وتأويل كلام المحقّق بما لا يوجبه ويبعد ارادته عن عبارته. وذلك لأنّه أوّل الحال في كلامه بزمان مخصوص بالمتكلّم بمعنى كون وجود المتكلّم مختصّا به ليس قبله ولا بعده ، فمعنى قول العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ في تأويل كلام المحقّق : « لا يحكم بالعدم المطلق أو بالعدم في الحال ـ ... إلى آخره ـ » : انّ الواجب ـ سبحانه ـ لا يحكم على عدم

٣٠٣

شيء أعمّ من أن يكون عدما واقعا في الآن بدون اختصاصه بالمتكلّم أو عدما واقعا في الآن باعتبار اختصاص المتكلّم به ، لأنّ حكمه لا يكون واقعا في آن مخصوص بالمتكلّم. فالمنفيّ في كلام المحقّق هو الحكم الواقع في الآن باعتبار اختصاص المتكلّم به بمعنى كون وجوده مختصّا به ليس قبله ولا بعده ، لأنّ وجوده ليس مختصّا بزمان دون زمان ، فيصحّ ذلك النفي عنه ؛ وليس المنفي هو الحكم الواقع في الآن مع قطع النظر عن اختصاص المتكلّم به ، فانّ ذلك جائز بالنسبة إليه ـ تعالى ـ. ومعنى قوله : « انّه يحكم على شيء بأنّه موجود في آن وجوده » : لا يحكم على شيء بأنّه موجود في آن وجوده ـ سبحانه ـ بالمعنى المذكور ـ أي : في الآن المخصوص به ـ. وعدم هذا الحكم لأنّه لا يكون وجوده مخصوصا بزمان حتّى يكون معدوما في غيره ، بل هو موجود في جميع الأزمنة. ومعنى قوله : « والمقصود انه ـ تعالى ـ منزّه عن أن يقال : انّ بعض الأزمنة ـ ... إلى آخره ـ » : انّه ـ تعالى ـ ليس بحيث يوجد بعض الأزمنة قبل وجود الواجب حتّى يكون ماضيا بالنسبة إليه بهذا المعنى ـ أي : يكون ماضيا بالنسبة إلى تمام مدّة وجوده ـ ؛ وكذا بعضها لا يوجد بعد وجود الواجب حتّى يكون مستقبلا كذلك ، وكذا لا يكون الزمان الّذي مع وجود الواجب زمانا مختصّا بوجوده بحيث لا يكون وجوده قبل ذلك الزمان ولا بعده. فتحقق الماضي / ١٧٩ MA / والمستقبل والحال بهذا المعنى للواجب باطل ، لأنّ وجوده ـ تعالى ـ لا قبل له ولا بعد له ، بل أزلي وأبدي فلا مضيّ ولا حال ولا مستقبل بهذا المعنى له وإن وجدت هذه الأوصاف الثلاثة له باعتبار تغيرات الزمان. ومقصود المحقّق نفي الثلاثة بالمعنى المذكور عن الواجب لا بالمعنى المنوط بتغير الزمان. هذا هو مراد العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ في تأويل كلام المحقّق.

وأنت تعلم انّه لا يطابق الواقع ولا كلامه ؛ لما عرفت من كونه ـ سبحانه ـ خارجا عن حيطة الزمان متعاليا عنه ، فلا يتحقّق هذه الأوصاف الثلاثة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أصلا ـ لا باعتبار المعنى المذكور ولا باعتبار تغيّرات الزمان ـ.

ثمّ ما ذكره الخفري ـ رحمه‌الله ـ أخيرا بقوله : « لكنّا أيضا لا نحكم على شيء بأنّه موجود هناك ـ ... إلى آخره ـ لا يخلّ بالمقصود » يرد عليه انّ المقصود هو انّه ليس علمه

٣٠٤

ـ تعالى ـ كعلمنا ، لا مجرد إنّ وجوده ـ تعالى ـ ليس كوجودنا. فهذا الجواب لا يفيد ، بل الجواب ما ظهر ممّا ذكرناه.

ثمّ انّه من الأفاضل من حمل قول الخفري على انّ مراده انّ حكمه ـ تعالى ـ لا يتعلّق بعدم شيء بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ ، بل يتعلّق بالعدم بالنسبة إلى الغير بمعنى انّه يحكم بعدم بعض الحوادث بالنسبة إلى بعض آخر ؛ فقال في تفسير قوله : « لا يحكم بالعدم المطلق أو بالعدم في الحال ـ ... إلى آخره ـ » اى : لا يحكم الله ـ سبحانه ـ على عدم شيء أعمّ من أن يكون بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أو بالنسبة إلى الغير بأن يكون بعض الحوادث معدوما بالقياس إلى شيء من الأمور الزمانية ، لأنّه لا يحكم على النحو الأوّل لأنّه لا يتصوّر عدم المعلول بالنسبة إليه ، بل إنّما يحكم على النحو الثاني.

ولا يخفى بعد هذا الحمل وعدم انطباق أكثر كلماته عليه ؛ فالصواب انّ مراد الخفري ـ رحمه‌الله ـ هو ما ذكرناه ـ لتصريحه به في كلماته السابقة أيضا ـ ؛ هذا.

ثمّ الظاهر من كلام المحقّق الدواني في بعض تصانيفه في تصحيح عدم التغيّر في علمه ـ سبحانه ـ بالجزئيات اختياره العلم الاجمالي وقوله بأنّه لا يلزم تغيّر في العلم الاجمالي بالجزئيات ، فبهذا العلم يعلم الجزئيات من حيث هو جزئيات مجملة من دون لزوم تغيّر فيه ؛ فانّه قال بعد نقل شبهة لزوم التغيّر في ذاته ـ تعالى ـ أو جهله ـ سبحانه ـ في علمه بالجزئيات المتغيّرة ، قلت : انّه ـ تعالى ـ يعلم المتغيّرات على وجه لا يتطرّق إليه تغيّر مع كونه مطابقا للواقع ، مثلا يعلم انّ الحادث الفلاني يوجد في الآن الفلاني أو الزمان الفلاني ويعدم في الآن أو الزمان الّذي بعده. وهكذا في سائر الحوادث ، فانّه يعلمها بعلم اجمالي هو عين ذاته على وجه لا يتطرّق إليه تبدّل ـ كما في علمنا الاجمالي بالأمور المترتّبة المتعاقبة ـ. وإنّما يلزم التغيّر فيه / ١٨٠ DA / لو كان علمه بسبب حضوره في الآن أو الزمان ، مثل أن تعلم أنّ زيدا قائم الآن وإذا قعد فلا بدّ أن يتغيّر وتعلم انّه قاعد الآن وإلاّ كنت جاهلا بحاله ، وكان استمرار علمك بقيامه جهلا مركّبا. وأمّا إذا فرضنا أن تعلم انّ زيدا في ذلك الآن أو في ذلك البعض من الزمان بصفة القيام وفي ذلك البعض الآخر بصفة القعود ولم يتعين الزمان والآن بالحضور عندك ـ بل بالأشياء

٣٠٥

المقتضية له ، وهكذا في جميع الأحوال ـ فلا يلزم منه تغيّر وتبدّل. ويمكن تمثيله للتوضيح تارة بالأحوال المترتبة المتعاقبة السابقة ، فانّ ذلك العلم لا يتغيّر مع انّه ليس فيه كذب ؛ وأخرى بأن يفرض أنّ أحدا منّا اطّلع على الأحوال المتعاقبة اللاحقة بسبب الاطّلاع على الأسباب المؤدّية إليها ، كما في المنجّم المطّلع على الأوضاع المتعاقبة المترتبة بحيث لم يكن في هذا العلم تغيّر أصلا. وهذا ممّا لا يشتبه على ذي فطنة أصلا ؛ انتهى.

وظاهر كلامه يدلّ على انّه اختار العلم الاجمالي بالاحتمال الأوّل ، وبه صحّح عدم لزوم التغير في علمه بالمتجدّدات المتغيّرات ـ كما يشعر به تمثّله بعلمنا بالأمور المترتّبة المتعاقبة ـ.

ثمّ تمثّله بعلم المنجّم المطّلع على الأوضاع ـ ... إلى آخره ـ لا يدلّ على اختياره العلم الحصولي في تصحيح عدم التغيّر في علمه ـ تعالى ـ ، لأنّ العلم بالشيء من العلم باسبابه وعلله لا يلزم أن يكون بحصول الصورة ، لما تقدّم في كلامنا من أنّ حضور العلّة من أقوى بواعث حضور المعلول وانكشافه من دون احتياج إلى حصول صورته.

ثمّ انّك لمّا عرفت بطلان القول بالعلم الاجمالي لا يخفى عليك حقيقة كلام هذا المحقّق ؛ هذا.

وبقي الكلام فيما نسب إلى الحكماء القائلين بالعلم الحصولي من نفيهم علمه ـ سبحانه ـ بالجزئيات من حيث انّها جزئيات ، ولذلك كفّرهم جماعة.

فنقول لتحقيق ذلك : انّه لا ريب في انّ العلم الحصولي علم كلّي يعلم به الأشياء على سبيل الكلّية دون الجزئية ، ولا يعلم به الوجودات العينية للأشياء ، وهذا ظاهر ممّا تقدّم. وقد صرّح القائلون بالعلم الحصولي ـ كالشيخ وأمثاله ـ بأنّ الواجب يعلم الأشياء على سبيل الكلّية دون الجزئية ، وزعموا انّ عدم التغيّر في علمه ـ سبحانه ـ انّما يتصحّح بذلك. قال الشيخ في الشفا : لا يجوز أن يكون واجب الوجود لذاته عاقلا للمتغيرات مع تغيرها من حيث هي متغيرة عقلا زمانيا محضا ، بل على نحو آخر نبيّنه ، فانّه لا يجوز أن يكون تارة يعقل عقلا زمانيا أنّها معدومة وتارة انّها موجودة غير معدومة فتكون لكلّ واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحدة من الصورتين

٣٠٦

تبقى مع الثانية ، فيكون واجب الوجود متغيّر الذات ، ثمّ الفاسدات إن عقلت بالماهية المجرّدة وما يتبعها مما لا يتشخّص لم يعقل بما هي فاسدة وان ادركت / ١٧٩ MB / بما هي مقارنة للمادة وعوارض مادية ووقت وتشخّص لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة ، ونحن قد بيّنا في كتب أخرى انّ كلّ صورة محسوسة وكلّ صورة خيالية فانها تدرك من حيث هي محسوسة أو متخيلة بآلة متجزّئة ، وكما انّ اثبات كثير من الافاعيل للواجب الوجود نقص له كذلك اثبات كثير من التعقلات ، بل واجب الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلى ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصى ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض ؛ وهذا من العجائب الّتي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة » (١) ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ قوله : « إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّي » صريح في أنّ الواجب ـ تعالى ـ لا يعلم الجزئيات من حيث انّها جزئيات ، بل إنّما يعلمها بالصور الكلّية. وكيف يمكن أن يكون مذهب الشيخ غير ذلك مع انّه قائل بالعلم الحصولي والعلم الحصولي لا يكون إلاّ بالصور الكلّية المجردة؟!. وحينئذ فقوله : « ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي ـ ... إلى آخره ـ » اشارة إلى انّه عالم بجميع الجزئيات ولا يخرج شيء شخصي عن علمه إلاّ انّ علمه بها بوجه كلّي ، فانّه إذا علم كلّ جزئي بوجه كلّي يصدق أن لا يخرج شيء عن علمه. ولا ريب في أنّ القول بعدم علمه بالجزئيات بوجه جزئي نقص في حقّه ـ تعالى ـ ، والداعي لهذا النفي ليس إلاّ لزوم التغيّر في حقّه ، فانّ الشيخ وأمثاله زعموا انّه ـ تعالى ـ إذا علم الجزئيات من حيث أنّها جزئيات لزم التغيّر في علمه ، لأنّه تعقل حينئذ وجودها / ١٨٠ DB / تارة وعدمها أخرى ويكون لكلّ واحد من تعقّل وجودها وتعقّل عدمها صورة عقلية على حدة لا يجتمعان معا في الوجود ، فيكون علمه حينئذ متغيّرا. فيجب أن يكون علمه بها بالصور الكلّية المجرّدة حتّى لا يتصور فيه تارة وتارة ويمكن بقاء الصورتين معا ، فلا يلزم حينئذ تغيّر في علمه.

__________________

(١) راجع : الشفا / الالهيات ، ص ٣٥٩. وبين العبارة المنقولة في المتن وما في المصدر اختلاف بيّن.

٣٠٧

وفيه : انّ لزوم التغيّر والتحقّق تارة وتارة وعدم بقاء إحدى الصورتين إذا كان علمه بالجزئيات المتغيّرة الزمانية بحضورها وفرض علمه بها بالحضور زمانيا ، فلأنّه يلزم حينئذ التغيّر في العلم ولا يمكن بقاء الصورتين ـ أي : المعلومين بحضور الذات معا ـ إذا كانا في الزمانين ، إذ لا حضور لاجزاء الزمان معا بحسب الزمان. وأمّا إذا كان علمه بها حضوريا متعاليا على الزمان بريئا عن الوقوع فيه ـ كما اخترناه ـ فنقول حينئذ : لا يلزم التغيّر في علمه ولا تحقّق تارة وتارة ، بل يعقل مرّة واحدة انّها موجودة في ذلك الوقت ومعدومة في غير ذلك الوقت ، ولا يغيب عنه واحدة من الصورتين أصلا ـ كما قرّرناه وبيّناه غير مرّة ـ.

ثمّ انّه يرد على قوله : « وان ادركت بما هي مقارنة للمادة ... إلى قوله : بآلة متجزّئة » بأنّ مقارنة المادّة وعوارضها إنّما يمنع من التعقّل إذا كان الادراك بحلول صورة الشيء في المدرك وإذا كان بحضور ذاته له ـ كما في حضور المعلول عند العلّة ـ ، فلا يمنع منه أصلا ، فالجزئيات المادّية لمّا لم تكن مدركة لنا إلاّ بحصول صور زائدة فينا ولم يكن حصولها في أنفسنا المجرّدة بل يجب أن يكون في قوانا المادّية المتجزئة ، فلذلك لم يكن ادراكنا لها تعقّلا ، بل احساسا وتخيلا. ولكونها حاضرة بذواتها عند جاعلها الحقّ ـ لكونها معلولات له ـ فلا حاجة في إدراكه لها إلى حصول صورها فيه ـ تعالى عن ذلك ـ ، فيكون ادراكه ـ تعالى ـ لها عقلا. ولا حاجة هناك إلى آلة متجزئة ، فالجزئيات المادّية بما هي جزئية ومادّية شخصية وممتنعة الفرض بين كثيرين معلومة له ـ تعالى ـ من غير نقص وحاجة إلى آلة متجزئة. فظهر انّ ما ذكروه لنفي علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات المتغيّرة من حيث هي جزئيات إنّما ينفي علمه بها على تقدير كون علمه ـ تعالى ـ حصوليا ، وكذا على تقدير كونه حضوريا ـ زمانيا ـ كما مرّ ـ. وأمّا على تقدير كونه حضوريا وبريئا عن الوقوع في الزمان ـ كما هو الحقّ ـ فلا يتغيّر أصلا. قال العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ بعد نقل ما نقلناه من كلام الشيخ : « أقول : يعلم من كلامه المذكور انّ الموجودات الكائنة الفاسدة لا تنكشف عند واجب الوجود إلاّ بالصور الكلّية الموجودة قبل ايجادها ، ولا تنكشف عنده ـ تعالى ـ باعتبار وجودها العيني الّتي هي متغيرة باعتباره ، ونفي هذا

٣٠٨

الانكشاف كفر صريح إنّما نشأ من غطاء على البصيرة ؛ ولهذا حكم الغزالي وغيره بكفر القائل بذلك النفي ، فانّ واجب الوجود ـ تعالى ـ مبدأ لجميع الموجودات الكائنة والفاسدة ـ سواء كانت كلّية أو جزئية ـ ، فيصدر عنه ـ تعالى ـ منكشفة إذ لا مانع عن الانكشاف أصلا ، فانّ واجب الوجود يعلم بذاته كلّ موجود عيني وكلّ صورة حسية كائن أو عقلية بذاتها حين كونهما موجودين ، ولا يحتاج في ادراكه ـ تعالى ـ إلى الآلة. والعجب ـ كلّ العجب! ـ انّ هذا القائل صرّح بأنّ واجب الوجود مبدأ لكلّ وجود وبأن لا يعزب عنه شيء شخصيّ ومع ذلك حكم بأنّ المحسوس الموجود في الخارج غير حاضر عنده ـ تعالى ـ باعتبار الوجود العيني ـ تعالى من ذلك علوّا كبيرا ـ ، بل لا يعزب عنه شيء من الجزئيات / ١٨٠ MA / والكلّيات أصلا ـ لا باعتبار الوجود العيني ولا باعتبار الوجود الظلّي ـ. قال الله ـ تعالى ـ : ( وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (١). فانّ قوله ـ تعالى ـ : « ما يعزب عن ربّك » اشارة إلى عدم الخفاء لذرّة من الذرّات باعتبار الوجود العيني ؛ وقوله ـ تعالى ـ : « ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين » اشارة إلى الحضور باعتبار الوجود العلمي المقدّم على الايجاد العينى ، فانّ جميع المتغيّرات المحسوسات بذواتها واجب الوجود في أوقات كونها موجودة في الأعيان ، والتغير في حضورها إنّما يكون تغيرا في النسبة والاضافة لا في الذات ؛ ولا محذور فيه ـ كما اشار إليه المحقّق الطوسي بقوله : « وتغيّر الاضافات / ١٨١ DA / ممكن » ـ ؛ انتهى.

أقول : ما ذكره من : « انّه يعلم من كلام الشيخ انّ الموجودات الكائنة الفاسدة لا تنكشف عنده ـ تعالى ـ إلاّ بالصور الكلّية » حق لا ريب فيه ؛ وكذا ما ذكره من « انّه يظهر من كلامه من أنّها لا تنكشف عنده ـ سبحانه ـ باعتبار وجودها العيني » ، لأنّ الجزئيات إذا كانت مدركة بالصور الكلّية المجرّدة ـ كما هو عند الشيخ وغيره من القائلين بالعلم الحصولي للواجب تعالى ـ ، يلزم عدم انكشافها عنده ـ تعالى ـ على النحو المتغير المتجدّد بحسب وجوداتها الخارجية. بل الظاهر من مذهب القائلين بارتسام

__________________

(١) كريمة ٦١ ، يونس.

٣٠٩

الصورة في ذاته ـ تعالى ـ انّ الموجودات مطلقا ـ سواء الكائنات الفاسدات أو المبدعات الباقيات ـ بما هي موجودات عينية ليس معلومة له إلاّ بالعرض ، والمعلوم بالذات منها انّما هو صورها الحاصلة في ذاته ـ تعالى ـ.

وأمّا ما ذكره من انّ ذلك كفر ، فيعلم حقيقة الحال فيه.

وأمّا ما ذكره من : « أنّ واجب الوجود يعلم كلّ موجود عيني وكلّ صورة حسّية وعقلية حين كونهما موجودين » ، فمبني على ما اختاره من أنّ معلومية الأشياء للواجب بالعلم الاشراقي الحضوري إنّما هو عين وجودها ، وقبل ايجادها لا تكون معلومة إلاّ بالعلم الاجمالي بالاحتمال الثاني ، بمعنى أنّ ذات الواجب بحيث يصدر تلك الأشياء عنه منكشفة.

وقد عرفت ضعف هذا المذهب وحقيقة ما اخترناه من كونها منكشفة عنده دائما.

وأمّا ما ذكره لثبوت التناقض في كلام الشيخ بقوله : « والعجب ـ كلّ العجب! ـ انّ هذا القائل ـ ... إلى آخره ـ » ، ففيه : انّ مبدئية الواجب لكلّ وجود والقول بعدم عزوب شيء شخصي عنه لا يستلزمان خصوص العلم الحضوري ولا ينافيان نفي هذا النحو الخاصّ من العلم ، بل انّما يستلزمان علما مطلقا وينافيان نفي العلم رأسا ، واين ذلك من نفي الحضور باعتبار الوجود العيني؟! ـ كما صرّح به ـ. والحاصل : انّ كونه ـ تعالى ـ مبدأ لكلّ وجود وعدم خروج شيء من علمه بنحو خاصّ ـ أعني : بنحو كلّي ـ لا يوجبان كون جميع الأشياء حاضرة عنده ـ تعالى ـ بوجوداتها العينية ، فالتناقض غير لازم من كلام الشيخ وإن كان القول بكون علمه كلّيا وعدم الأشياء معلومة عنده بوجوداتها العينية باطلا.

وامّا ما ذكره من : « انّ قوله ـ سبحانه ـ ولا اصغر ولا اكبر إلاّ في كتاب مبين اشارة بحضورها باعتبار الوجود العلمي المقدّم على الايجاد ـ ... إلى آخره ـ » اشارة إلى أنّ المراد بالكتاب المبين ذوات المبادي العالية بقيامها بذواتها لا بصور الموجودات.

وأنت خبير بأنّه على ما اخترناه أيضا يمكن أن يكون الكتاب المبين عبارة عن ذلك ـ أعني : ذوات المبادي العالية باعتبار انتقاشها بصور الموجودات ـ ، فانّه على ما

٣١٠

اخترناه كما يكون ذوات الأشياء بوجوداتها العينية منكشفة عنده ـ تعالى ـ أزلا وأبدا كذلك يكون صورها المرتسمة في أي محلّ كان منكشفة عنده دائما.

وقيل : يمكن أن يكون « الكتاب المبين » على هذا المذهب ـ أي : على المذهب المختار ـ عبارة عن لوح الوجود باعتبار حضوره مع ما فيه دفعة واحدة ومرّة غير مستمرّة عنده ـ تعالى ـ ، ويعبّر عنه باللوح المحفوظ أيضا. وحينئذ يكون علمه الّذي به يرسم تلك النقوش في ذلك الكتاب ولوح العقل الأوّل ارادته ـ تعالى ـ المتعلّقة بافاضة الوجودات والخيرات على الدوام ؛ ويمكن أن يكون « اللوح المحفوظ » عبارة عمّا ذكرنا ؛ و « الكتاب المبين » عبارة من طومار الزمان وصفحة المادّة الكلّية باعتبار انتقاشها بصور ما في الكون تدريجا كلّ في وقته. وحينئذ يكون « القلم » باعتبار اللوح المحفوظ ما ذكرنا ، وباعتبار الكتاب المبين مجموع العقول.

وأمّا القضاء والقدر فالأوّل عبارة عن الكتاب المبين بالمعنى الأوّل ـ أعني : اللوح المحفوظ ـ ، والثاني عبارة عن الكتاب المبين بالمعنى الثاني ، فالقضاء لا يقبل التغيّر والقدر يقبله.

وأمّا ما ذكره من : « أنّ التغيّر في حضورها إنّما يكون تغيرا في النسبة والاضافة ـ ... إلى آخره ـ » ، ففيه : ما عرفت من أنّ التغير في حضورها إنّما هو فيما بينها ولبعضها بالنسبة إلى بعض لا بالنسبة إليه ـ تعالى ـ فان جميعها / ١٨٠ MB / حاضرة عنده ـ تعالى ـ دفعة واحدة ، ولو كان ذلك التغيّر في الحضور بالنسبة إليه ـ تعالى ـ لزم التغيّر فيه / ١٨١ DB / البتة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ.

وإذا عرفت ما ذكرناه تعلم انّه لا ريب في أنّ كلام الشيخ ـ ككلام غيره من القائلين بالعلم الحصولي ـ صريح في أنّ علمه ـ سبحانه ـ بالجزئيات إنّما هو بالصور الكلّية وانّه ـ تعالى ـ لا يعلم الجزئيات بوجه الجزئية. ولو لم يعترفوا به لكان ذلك مخالفا لمذهبهم من العلم الحصولي ، لكونه لازما له.

وبذلك يعلم ضعف قول بعض الأفاضل حيث أورد على العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ بأنّ كلام الشيخ لا يدلّ على ذلك ، ولا يلزم نفي علمه بالجزئيات من حيث أنّها

٣١١

جزئيات كونه عالما بوجه كلّى ؛ فقال : « اعلم! ، انّ قول الشيخ صريح في نفي العلم الزمانى المتجدّد لا نفي العلم مطلقا ، لأنّه قيّد العلم المنفي بالزماني المحض حيث قال : « عقلا زمانيا محضا ». وقوله : « على نحو آخر » صريح أيضا في أنّ الواجب ـ تعالى ـ له علم بالمتغيرات لكن لا بوجه يكون ذلك العلم متغيرا متجدّدا زمانيا ؛ لأنّه لم ينحصر العلم بالمتغيرات بكون ذلك العلم متغيرا متجددا زمانيا ، بل يتصوّر أن يكون العلم بالمتغيرات بوجه لا يكون متغيرا متجدّدا زمانيا. وبالجملة كلام الشيخ يأبى ـ كلّ الإباء ـ عن حمله على نفي العلم بالمتغيرات راسا ، وكون المعلوم من المتغيّرات إنّما هو الطبيعة الكلّية وعدم كون الأشياء المتغيّرة المشتملة على الطبيعة معلومة بالذات ، بل كون المعلوم بالذات هو الطبيعة. وكأنّ من حمل كلام الشيخ على هذا قصر نظره في قوله : « إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّي » ، واغترّه لفظ « الكلّي » ولم ينظر إلى ما وقع بعد تلك العبارة بلا فاصلة ، وهو قوله : « ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض ».

ثمّ قسم العلم بالأشخاص الجسمانية من حيث أنّها اشخاص جسمانية إلى قسمين :

أحدهما : العلم الاحساسي الانفعالي المستفاد من وجود المعلوم الحاصل بآلة متجزّئة ؛

وثانيهما : العلم الحاصل من جهة الاحاطة بجميع العلل والأسباب المسلسلة المنتهية إلى الاشخاص الجسمانية من حيث هي أشخاص جسمانية ، وهذا يعبر عنه بالعقل التامّ وبالعلم بالجزئي على الوجه الكلّي إمّا لأنّه كتعقّل الطبائع الكلّية في الثبات أو لأنّه ـ تعالى ـ يعلم بهذا العلم بالجزئيات بالكلّية.

ثمّ قال : « وغرض الشيخ من الكلام المذكور ليس إلاّ نفي القسم الأوّل عنه ـ تعالى ـ واثبات القسم الثاني له ـ سبحانه ، ـ فانّ قوله : « بل واجب الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّي » ليس مراده إلاّ أنّ الجزئيات المتغيّرة يعلمها الواجب علما تعقّليا فعليا ويعلم جميعها معا لا بقياس وفكر وبنقل من معلوم إلى معلوم ، بل يعلم جميعها علما تامّا محيطا بالكلّ. وهذا العلم ـ كما اشير إليه ـ يعبر عنه بالعقل التامّ الغير الزماني. وينادي على ذلك بأعلى الصوت قوله : « ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي ولا يعزب عنه

٣١٢

مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض ». ونعم ما قال الشيخ : « وهذا من العجائب الّتي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة ».

وجميع ما ذكرناه يستفاد من كلماته في التعليقات حيث قال في موضع منه : تعقّل الأوّل ـ تعالى ـ عقل بسيط لذاته وللوازم عنها وللموجودات كلّها ـ حاصلها وممكنها ، أبديها وكائنها وفاسدها وكلّيها وجزئيها ـ إلى اقصى الوجود معا لا بقياس وفكر وتنقّل في المعقولات ، فانّه تعقّلها ـ كلّها ـ معا على الترتيب السببي والمسببي. وقال في موضع آخر منه : الأوّل يعرف الشخص وأحواله الشخصية ووقته الشخصي ومكانه الشخصي من أسبابه ولوازمه الموجدة له المؤدّية إليه. وهو يعرف كلّ ذلك من ذاته ، إذ ذاته سبب الأسباب ، فلا يخفى عليه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرّة. فما نسب إلى الشيخ من أنّه قائل بأنّ علمه بالأشياء بالصور الكلّية وانّ الأشياء غير منكشفة له ـ تعالى ـ بوجودها العيني ونفي هذا الانكشاف كفر صريح ، اشتباه ناش من عدم فهم كلام الشيخ! ، فانّه لا ريب في أنّ نفي هذا الانكشاف كفر صريح في الشريعة ، بل كفر صريح في مذاق العقل وشريعة البرهان أيضا ؛ إلاّ انّ كلام الشيخ في براءة عمّا نسبوا إليه » ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ القسم الثاني ـ الّذي حمل كلام الشيخ عليه ـ هو احد الوجهين اللّذين اخترناهما في تصحيح علمه بالمعدومات وعدم التغيّر في علمه ، وهو انّه ـ تعالى ـ لكونه عالما بذاته وكون ذاته علّة لجميع الأشياء ـ لكون الأشياء منكشفة عنده تعالى حين وجودها وحين عدمها ، لأنّ حضور العلّة في باب انكشاف المعلول أقوى من حضور المعلول بذاته ـ فيكون الأشياء المعلومة له / ١٨٢ DA / ـ تعالى ـ بأسرها معلومة له منكشفة عنده ، وتكون الجزئيات معلومة له بوجه جزئي.

وأنت خبير بأنّ حمل كلام الشيخ على ذلك مجرّد تعسّف لا يقبله طبع قويم وذهن مستقيم! ؛ كيف والشيخ قائل بالعلم الحصولي وهذا القسم الّذي حمل هذا الفاضل كلام الشيخ عليه ليس إلاّ علما حضوريا ـ كما عرفت سابقا ـ ، فكيف يمكن أن يكون مذهب الشيخ ذلك؟!.

وهذا الفاضل هو الّذي اعتقد انّ الشيخ قائل بالعلم الحضوري ، وقد عرفت فساد

٣١٣

هذا الاعتقاد.

ثمّ لا يخفى على أحد بأنّ عبارات الشيخ في كلامه المنقول هنا صريحة في كون علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات علما صوريا كلّيا ، وقد صرّح بأنّ علمه بها بوجه كلّي. وهذا الفاضل لم يأت في تصحيح ما ادّعاه إلاّ بالاستبعاد والطعن على أجلة الاذكياء الّذين حملوا كلام الشيخ على ما هو صريح فيه.

* * *

بقي الكلام في أنّ ما ذهب إليه الشيخ وأضرابه من الحصوليين من كون علمه بالجزئيات كلّيا وعدم علمه بها بوجه جزئي هل هو موجب للكفر أم لا؟ ، وهل يجوز تكفيرهم حينئذ أم لا؟.

فنقول : أوّل من حكم بكفر هؤلاء الحكماء القائلين بكونه ـ تعالى ـ عالما بالجزئيات بوجه كلّي دون جزئي وعدم انكشافها عنده ـ تعالى ـ بوجوداتها العينية الغزالي ، فانّه قال في تهافت الفلاسفة : « انّه يلزم على الحكماء بناء على القول بعدم علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات على الوجه الجزئية المتغيّرة أنّ زيدا مثلا لو أطاع الله أو عصاه لم يكن الله عالما بما يتجدّد من احواله ، لأنّه لا يعرف زيدا بعينه / ١٨١ MA / بأنّه شخص وأفعاله حادثة بعد أن لم يكن ، وإذا لم يعرف زيدا لم يعرف أفعاله وأحواله ، بل لا يعرف كفره واسلامه! ، بل إنّما يعرف انسانا واسلاما مطلقا كلّيا لا مخصوصا بالأشخاص. ويلزم على هذا أن لا يعرف محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأن لا يعرف انّه أرسله بعينه بالنبوّة وانّه تحدّى بها وكذلك في كلّ نبي معيّن ، والله ـ تعالى ـ إنّما يعلم من الناس من يتحدّى بالنبوّة وإنّ صفة أولئك المتحدّين بها كذا ؛ وأمّا النبيّ بشخصه فلا يعرف بأحواله وصفاته ، فيلزم استبطال الشريعة بالكلّية » (١) ؛ انتهى.

وقد عرفت انّ العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ أيضا وافق الغزالي في التكفير.

ثمّ انّ جماعة كثيرة من المتأخّرين تشمّروا لدفع التكفير عنهم ، فقال بعضهم : انّه

__________________

(١) راجع : تهافت الفلاسفة ، المسألة ١٣ ، ص ٢٣١.

٣١٤

لا ريب في أنّ ما نقل عن الحكماء ونسب إليهم يفضي إلى أن لا يكون له ـ تعالى ـ علم ببعض الأشياء ؛ ولكن مع ذلك لا يجوز تكفيرهم ، لأنّهم مع هذا اعترفوا بأنّه ـ تعالى ـ عالم بالكلّيات والجزئيات بحيث لا يعزب عن علمه ـ تعالى ـ مثقال ذرّة في الأرضين والسموات ، وما هو من ضروريات الدين ليس إلاّ انّه عالم بجميع الأشياء قاطبة ، لا انّ علمه ـ تعالى ـ على وجه كلّي أو جزئي. ولهذا لا يكفّر من اعترف بعلمه ـ تعالى ـ من المتكلّمين ويقول : انّ العلم قديم والتعلّق حادث ؛ أو يقول : انّ علمه ـ تعالى ـ اضافة مستدعية لأن يكون لها طرفان ولا يمكن أن يوجد أحد طرفيها في الأزل ، مع انّ قولهم هذا ملزوم لأن لا يكون الواجب ـ تعالى ـ عالما بالحوادث قبل وجودها ، لأنّ العلم ما لم يتعلّق بشيء لا يصير ذلك الشيء معلوما. وبالجملة إذا كان العلم اضافة مستدعية لوجود طرفيها ولم يكن في الأزل أحد الطرفين لم يكن العلم متحقّقا في الأزل ، فقولهم هذا يفضي إلى نفي العلم ومع ذلك لم يكفّرهم أحد! ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ أوّل هذا الجواب لدلالته على تسليم عدم علمه ببعض الأشياء ينافي ما بعده من التصريح بأنّه لا يخرج عن علمه مثقال ذرّة في الأرضين والسموات ، فان بني الأمر على ما يدلّ عليه أوّله ـ من خروج بعض الأشياء عن علمه ـ فلا ريب في كونه كفرا وزندقة ، وإن بنى الأمر على ما بعده فيرجع إلى التوجيهات الآتية ؛ وتعلم حقيقة الحال فيها.

ثمّ ما نقل عن بعض المتكلّمين تأييدا لعدم التكفير يمكن للمكفّرين أن يقولوا : انّ هذا البعض من المتكلّمين إن علموا فساد قولهم ـ وهو افضائه إلى نفي العلم عن الواجب قبل ايجاد الأشياء ـ ومع ذلك قالوا به فيجوز تكفيرهم أيضا ؛ وإن لم يعلموا ذلك فهو أمر آخر. وعلى هذا فيمكن أن يقال من قبل الحصوليين أيضا بأنّهم إن لم يعلموا انّ القول بعلمه بالجزئيات على وجه كمّي يفضي إلى نفي علمه ببعض الأشياء ؛ فلا يجوز تكفيرهم ، وإلاّ فيجوز.

ثمّ انّ أكثر المتأخّرين الدافعين التكفير عن الحكماء الحصوليين جزموا بأنّه لا يلزم على قولهم عدم معلومية بعض الأشياء له ـ تعالى ـ ، فالتكفير لا يتوجّه عليهم ؛ لأنّه إنّما

٣١٥

يتّجه تكفيرهم في ذلك لو قالوا انّ بعض الأمور ليس معلوما له ـ تعالى ، كما زعمه المكفّرون ـ / ١٨٢ DB / وليس كذلك.

ثمّ قال بعضهم في ذبّ التكفير : انّه على ما ذهب إليه الحكماء وإن لم يعلم الواجب الجزئيات الجسمانية ـ كما نعلمها بحواسّنا ـ إلاّ انّه يعلم كلّ واحد منها على وجه لا ينطبق في الخارج إلاّ عليه دون ما عداه ، وبهذا القدر يحصل التمييز بين الأشخاص. وكذا يعلم أحوال كلّ شخص وأفعاله على وجه يتميز كلاّ منها عن الآخر ويعلم أوقاتها المعينة ، إلاّ انّه لما لم يكن بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ماض وحال ومستقبل لم يعلم انّ بعضها واقع في الآن وبعضها في الماضي وبعضها في المستقبل ـ لتعاليه عن الدخول تحت الأزمنة باعتبار ذاته وصفاته ـ ، بل يعلم كلاّ من الأشخاص وأفعالها بحيث يتميز كلاّ منها عن الآخر ؛ وهذا كاف في اجراء احكام الشريعة ؛ انتهى.

وقال بعض آخر : لا يخفى انّ كلام الشيخ في الشفا وغيره ـ من النجات وسائر كتبه ـ ناد على أنّ الشيخ غير ملتزم بخروج شيء من الجزئيات عن علمه ـ تعالى ـ ، بل يقول : انّ الله ـ تعالى ـ يعلم كلّ شيء بصورة كلّية بل بالعلم الكلّي وإن كان المعلوم جزئيا مادّيا ، وأورد كلام الله ـ تعالى ـ سندا لعقيدته ـ وهو قوله سبحانه : « ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض » ـ. وذكر بعده كونه من العجائب لأنّه عجب أن يكون العلم مجرّدا ومع هذا يكون مطابقا للمعلوم الجزئي المادّي المتغير. ولكن هذا العجب وغيره من الأمور الّتي لا يجوز في غيره ـ تعالى ـ يجوز في حقّه ـ تعالى ـ ، كما أنّ ادراك المسموع والمبصر في الغير لا يتصوّر بدون آلة السمع والبصر وفي حقّه ـ تعالى ـ يتصوّر بارجاعهما إلى العلم ، فكذلك يجوز هذا الأمر العجب المذكور في حقّه ـ تعالى ـ. فالشيخ غير معترف بخروج شيء من علمه ـ تعالى ـ.

فان قيل : يلزم عليه خروج بعض الأشياء عن علمه ـ بناء على ما ذهبوا إليه ـ ؛

قلنا : دعوى الالزام مع عدم اعترافه به وحكمه بكونه عجيبا والأمر بتحصيل لطف القريحة في دركه لا يلزم الكفر على الشيخ ـ سواء تمّ كلامه في هذا الباب أو لا يتمّ ـ. وينبغي أن يعلم انّه كما انّ عند من يقول انّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء يكون بحضورها

٣١٦

بنحو وجودها على ما هي عليه ـ ومن جملتها الجزئيات المتغيّرة وهي حاضرة قبل وجودها على وجه الإجمال ، أي : بالعلم المقدّم / ١٨١ MB / على الايجاد ، أعني : بالعلم الّذي هو نفس ذاته تعالى ـ لا على وجه التفصيل ، وعدم انكشافها بوجه التفصيل قبلها لا يكون نقصا للواجب تعالى لعدم كمالية علم التفصيلي له تعالى ، فكذا عند من يقول بحصول عدم ارتسام الجزئيات في ذاته ـ تعالى ـ على وجه التغيّر والتجدّد المستلزم للآلة المتجزّئة مع ارتسامها على وجه أعلى وأشرف ـ أي : الوجه التجرّدي ـ لا يوجب نقصا البتّة ، فالتكفير عليه غير صواب.

فلو قلت : سبب التكفير على القائلين بالحصول ـ ومنهم الشيخ ـ هو انّه يلزم خروج الجزئيات على نحوها المتغير من تأثيره ـ تعالى ـ ، والقول به يوجب تعدّد الواجب. بيان اللزوم : إنّه إذا كانت تلك الصور وسائط وشرائط لوجوداتها وهي لا تعين ولا تخصّص تلك الجزئيات فلا يصدر من الواجب ، فيجب انتهائها إلى واجب آخر ؛ وهو كفر صريح.

قلت : كون تلك الصورة مجرّدة لا يمنع أن تكون واسطة لايجاد الأمور الجزئية المادّية وإلاّ يلزم عدم وصول الوجود من المجرّد إليها قطّ ، والواقع خلافه لصدور المادّي ـ كالفلك ـ من العقل المجرّد فما هو وجه التخصيص هاهنا فهو وجهه هناك. وإذا علمت هذا فيجوز أن تكون تلك الصور الّتي هي مفاتيح الغيب عندهم وسائط نزول الوجود من الله ـ تعالى ـ إلى هذه الجزئيات المتغيّرة المتجدّدة ؛ ومع هذا ليست كمالا له ـ تعالى ـ ، بل الكمال هو منشأ تلك الصور وهو كون الواجب بحيث يصدر عنه تلك الصور منكشفة من غير صورة أخرى ، وبواسطتها تصدر عنه الأشياء العينية.

هذا نهاية التوجيه من قبل القائلين بالعلم الحصولي.

ولكن المستبان بالبرهان ـ على ما سبق ـ : انّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء يجب أن يكون بالحضور ـ أي : بحضور ذاته لذاته ـ الّذي هو منشئا لكلّ حضور. بل هو حضور كلّ شيء ، لأنّا نجد انّ العلم بكل شيء ـ سواء وجد أم لم يوجد ـ يكون كمالا للموجود بما هو موجود ، وكلّ ما هو كمال للموجود بما هو موجود يجب أن يكون ثابتا لله ـ تعالى ـ

٣١٧

بحيثية ذاته الكاملة ، فعلمه بكلّ شيء عين ذاته ، فهو في مرتبة ذاته يكون محلاّ لحضور كلّ شيء. وهذا هو علمه بالحقيقة لا الأمور المفصّلة الخارجة عن ذاته ، لأنّها ليست كمالا له ـ تعالى ـ ؛ وعلمه من الصفات الكمالية ، فيجب كون علمه ـ تعالى ـ غير خارج عنه بحسب الحقيقة / ١٨٣ DA /. وإن قيل لهذه علوم تفصيلية يتعين أن يراد بها أمورا مفصّلة ومظاهر لما هو علم بالحقيقة ـ أعني : ذاته المقدّسة من كلّ نقصان ـ ؛ انتهى.

وقال بعض آخر : انّه لا فرق في تعلّق علمه ـ تعالى ـ بين الكلّي والجزئي في أنّ كلاّ منها إنّما هو بصورة كلّية تحتمل عند العقل الكثرة ، إلاّ انّ في الأوّل كما انّه يحتمل الكثرة عند العقل يصدق على الكثرة في الخارج أيضا ، وفي الثاني يحتمل الكثرة في العقل ولا يصدق على الكثرة في الخارج ، بل هذا المحتمل للكثرة عند العقل منحصر في الخارج في فرد ، فلا يعزب عن علمه شيء من الأشياء في نفس الأمر. وحاصله : انّه يعلم زيدا مثلا بعنوان كونه ماهية انسانية محفوفة بمجموع عوارض كلّ واحد من تلك العوارض معلومة بماهية كلّية ، والصورة المعقولة من مجموع تلك العوارض وإن كانت كلّية إلاّ أنّها في نفس الأمر منحصرة في شخص هو زيد بعينه. لأنّ ضمّ كلّي إلى كلّي وإن لم يفد الشخصية لكن قد يفيد الانحصار في شخص ، وكذا يعلم عمروا بعنوان كونه ماهية انسانية محفوفة بمجموع عوارض أخرى كلّ واحد منها كلّي والمجموع من حيث هو مجموع كلّي أيضا ، إلاّ انّه منحصر في الواقع في شخص ، وهذا المجموع وإن امكن كونه مشاركا لذلك المجموع في كثير من العوارض إلاّ أنّ هذا المجموع من حيث هو مجموع غير ذلك المجموع. من حيث هو مجموع وقس على ذلك كلّ جزئي من جزئيات الجواهر والأعراض ؛ وإلى ذلك أشار الشيخ بقوله : « ومع ذلك ـ أي : مع كون علمه بالجزئي على نحو كلّي ، أي : بحسب امكان فرض العقل ـ لا يعزب عنه شيء شخصي ـ أي : بحسب نفس الأمر والواقع ـ.

والحقّ انّ هذا النحو من العلم بالجزئيات أمر ممكن بحيث لا يفوت منه ـ تعالى ـ جزئي من الجزئيات ومثقال ذرّة في الأرض والسموات ، ولا نقص فيه بحسب الكمية ـ كما زعمه الجمهور وشنعوا عليهم به ـ ، إلاّ أنّه لكونه علما صوريا حصوليا لا انكشافيا

٣١٨

حضوريا فيه نقص عظيم من حيث الكيفية ؛ انتهى.

وغير خفي بأنّ مآل جميع هذه التوجيهات إلى شيء واحد ، وهو انّ العلم الحصولي وإن كان نقصا بحسب الكيفية ـ نظرا إلى أنّ الحضوري أقوى ، لايجابه انكشاف الأشياء بوجوداتها العينية ؛ بخلاف الحصولي ، لأنّه لا يعلم به إلاّ صور الأشياء ـ إلاّ انّه لا يوجب التكفير ، لأنّه لا نقص فيه بحسب الكمية ، لأنّه لا يخرج عنه شيء من الأشياء ويعلم به جميع الأشياء كلّياتها وجزئياتها ؛ ولا أنّ نحو المعلومية فيه ـ أعني : في الحصولي ـ أنقص من نحو المعلومية من الحضوري الانكشافي. واعتقاد انّ علمه ـ تعالى ـ بوجه أنقص لا يوجب التكفير ، لأنّ ما هو من ضروريات الدين أنّ الواجب يعلم جميع الأشياء ، لا أنّ علمه على نحو أقوى. وإلى ذلك اشار بعض الموجّهين حيث قال : « إنّما يلزم الكفر لو لزم غروب شيء من الأشياء عنه ـ تعالى ـ في نفس الأمر ، وقد علمت انّه لا يلزم ذلك. وما هو من ضروريات الدين ـ الّذي يلزم من انكاره كفر ـ / ١٩٨٢ MA / هو كونه ـ تعالى ـ عالما بجميع الأشياء ؛ وأمّا خصوص كيفية نحو من انحاء العلم فلم يشتبه على أحد عدم كونه من ضروريات الدين. وظاهر انّ النزاع في كون العلم حضوريا أو حصوليا نزاع في كيفية العلم لا في أصله ، فالغزالي وأمثاله لمّا توهّموا من ظاهر كلامهم انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات على النحو الكلّي وانّه ـ تعالى ـ لا يعلم الجزئيات من حيث هي متغيرة وانّهم قائلون بكونه ـ تعالى ـ عالما بطبائع الجزئيات ومفهوماتها الكلّية لا لشيء من ذواتها حملهم ذلك على تكفير هؤلاء ، وذلك افتراء عليهم وتوهّم من كلامهم. وأمّا من لم يتوهّم ذلك من كلامهم فلا ينبغي له تكفيرهم بمجرّد انكار نحو من أنحاء العلم وكيفية من كيفياته ، وان صحّ تخطئتهم ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره هؤلاء الأعلام من عدم خروج شيء من علمه لم يأتوا فيه ببيان يظهر منه حقيقة الحال ، ولم يتعرّضوا لدفع ما ذكره المكفّرون لخروج بعض الأشياء عن علمه. فلا بدّ من ذكر ما أورده المكفّرون لخروج بعض الأشياء عن علمه ، ثمّ نقل ما قيل في دفعه ؛ ثمّ تحقيق ما هو الحقّ.

فنقول : انّ من ادّعى انّه يلزم على القول بالعلم الحصولي خروج بعض الأشياء

٣١٩

عن علمه احتجّ بأنّ تصوّر الماهيّة إنّما يمنع فرض الشركة بواسطة أمر مخصوص منضمّ إليه ـ وهو المسمّى « بالتشخّص » ـ ، ولمّا لم يدرك ذلك الأمر المخصّص كان المدرك كلّيا. وإذا ادرك وقيد الماهية النوعية صار المدرك جزئيا ، فعلمه ـ تعالى ـ بالجزئيات على الوجه الكلّي مبني على عدم علمه بالمخصّص. ويؤكّد ذلك أنّ الحكماء يمنعون حصول صور الجزئيات المادّية للمجردات ، فيلزم على قولهم نفي علمه ـ تعالى ـ بالأشخاص المادّية. قال المحقّق الدواني فيما أضاف على الحواشي القديمة في مبحث / ١٨٣ DB / التشخّص بعد تقرير مذهب الجماعة القائلين بزيادة التشخّص على الماهية في الخارج : ثمّ انّ هذا الامر ـ يعنى : الأمر الّذي يسمّونه تشخّصا ـ في الماديات يكون مادّيا لا محالة ، فيلزم أن لا يحصل العلم بها للمبادي العالية. وهذا هو منشأ التشنيع على الحكماء ، لانّهم ينفون علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات ؛ انتهى.

وغرضه انّ منشأ لزوم علمه ـ تعالى ـ بالشخص انّما هو مادّيته ، اذ لو لم يكن مادّيا لم يلزم على الحكماء عدم عمله ـ تعالى ـ به وإن لم يكن له ماهية كلّية ، لانّه يجوز ادراك المجرد للمجرد من حيث هو جزئي ، والاحساس انّما هو بطريق ادراك الجزئيات المادية. فاذا فرض أنّ هذا الشخص المشخّص ـ بزعم المتأخّرين مجرّد لا يلزم عدم علمه ـ تعالى ـ به على زعم الحكماء. فقولهم : انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات على الوجه الكلّي لئلاّ يلزم الاحساس المختصّ عندهم بالجزئيات المادّية ، فلذلك قال الدواني : « إنّ هذا الأمر يكون مادّيا » حتّى يلزم على الحكماء عدم علمه ـ تعالى ـ به.

ثمّ انه قد اجاب عن الاحتجاج المذكور بعض من متعصبى الفلاسفة ـ كالمحقّق الدواني وصدر المحقّقين ـ : بأنّ تحقيق مذهبهم انّ مناط الكلّية والجزئية بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك ، فهم يثبتون علمه ـ تعالى ـ بجميع الأمور الممكنة الموجودة بحيث لا يشذّ عنه شيء عن الأشياء ولا يعزب عن علمه ـ تعالى ـ مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء. ولكن علمه ـ تعالى ـ بها بوجه كلّي لا يمنع الشركة ، فكلّ ما ندركه نحن بطريق الاحساس كالتخيل فهو مدرك له بطريق التعقّل. مثلا إذا علّمت لمخاطبك ما علمته بالحسّ وقلت مثلا قطرة ماء متقدّرة بالمقدار الكذائي في

٣٢٠