جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل الثاني

في علمه ـ تعالى ـ

١

وفيه بحثان :

البحث الأوّل

في إثبات كونه عالما بذاته

وبكلّ ما عداه من الموجودات

وانكشاف الجميع عنده

ويدلّ عليه وجوه :

منها : ما أورده بعض المحقّقين ، وهو : انّ الموجود بمحض ما هو موجود يمكن أن يتّصف بالعلم ، ولا يمتنع عليه اتصافه به إلاّ أن يمنعه مانع زائد على نفس معنى الموجود ، ولا ريب انّ واجب الوجود حقيقته محض الوجود وصرف الموجود ولا يتصوّر مدخلية شيء غير نفس الوجود في حقيقته ؛ فاتصافه ـ تعالى ـ بالعلم ممكن. وكلّ ما هو ممكن له يجب أن يكون ثابتا له بالفعل ـ كما مر مفصّلا ـ ، فيكون متّصفا بالعلم بالفعل ؛ وهو المطلوب.

وبتقرير آخر : العلم كمال مطلق / ١٠٥ DA / للموجود من حيث هو موجود ، وكلّ ما هو كذلك فهو لا يمتنع على الواجب لذاته ، وكلّ كمال لا يمتنع على الواجب فهو

٢

حاصل له بالفعل ـ إذ هو كامل باعتبار ذاته ـ.

وتقييد الكمال « بالمطلق » لخروج ما كان كمالا للموجود من حيث تقييده بشيء آخر ـ كالحركة ، فانّه كمال للموجود من حيث كونه جسما ـ ؛ ولخروج ما يكون كمالا في بعض الأزمان دون بعض ـ كالاحكام الشرعية ـ.

وهذا الدليل ـ كما ترى ـ يدلّ على علمه بذاته وبجميع ما عداه من الموجودات. ووجه الدلالة ظاهر.

ومنها : ما ذكره المتكلّمون وأورده بعض الحكماء أيضا ؛ وهو : انّه ـ سبحانه ـ فعل أفعالا متقنة محكمة ـ أي : خالية عن وجوه النقصان والخلل ـ مشتملة على غرائب المصالح والحكم ، وكلّ من كان كذلك فهو عالم ؛

أمّا الكبرى فظاهر بديهية ، وينبه عليها انّ من رأى خطوطا مليحة أو سمع الفاظا فصيحة ينبئ عن معان دقيقة واغراض صحيحة علم قطعا انّ فاعلها عالم ؛

وامّا الصغرى فلما ثبت انّه ـ تعالى ـ خالق جميع العالم من الافلاك والعناصر بما فيها من الجواهر والاعراض وانواع المعادن والنبات وأصناف الحيوانات على سياق وانتظام تحيّرت فيه ثواقب الأفهام وعلى اتقان واحكام تاهت فيه صوائب الاوهام من اشتماله على عجائب الحكم والمصالح وغرائب الفوائد والمنافع ووضع كلّ شيء في موضع يليق به واعطاء كلّ شيء ما يصلح بحاله بحيث تكلّ عن دركها العقول والافهام ولا يفي بتفاصيلها الدفاتر والاقلام ـ على ما يشهد به علم الهيئة وعلم التشريح وعلم الآثار العلوية والسفلية وعلم الحيوان والنبات ـ ، كما لا يخفى على من اتقن بصره في حقائق بواطن الأشياء وحدق نظره في دقائق مقارّ الأرض ومجارى السماء. وكلّ من يرى صنعة مشتملة على أشياء مختلفة موافق كلّ شيء لما يجب له موضوع كلّ واحد موضعه ـ ولو كان ذلك شيئا يسيرا ، كصورة حيوان منقوشة على ساحة ـ فانّه يعلم ضرورة من غير تأمّل وتوقّف انّ ذلك لم يصدر الاّ عن حي عالم ، فمثل هذا العالم الوسيع والكرسى الرفيع والسماء ذات ابراج والأرض ذات فجاج والشمس المضيئة المنيرة والقمر وتشكّلاته الهلالية والبدرية والأنجم الزاهرة من الثوابت والسيار واختلاف

٣

/ ١١٠ MB / الليل والنهار وجري الأودية والأنهار والجبال الراسيات والفلك الجاريات والرياح المرسلات والسحب المعصرات وأصناف البسائط والمركّبات وأنواع المعادن والنباتات وضروب الدواب والحيوانات وما دبّر في خلق شخص واحد ـ فضلا عمّا لا يخفى من غيره من ظواهر أعضائه وبواطن أحشائه وحواسّه الظاهرة والباطنة وقواه الخارجة والدّاخلة ـ كيف يمكن أن يصدر إلاّ عن عالم حكيم ؛ وإلى ذلك أشير في قوله ـ سبحانه ـ : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ... وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١). وجميع ذلك انّما هو في عالم الحسّ والشهادة ، وهو بالنسبة إلى عالم الغيب ـ أعني : عالم المجرّدات النفسية والعقلية الّتي أدركت بنور العقل والكشف كحلقة في فلاة. وهذا الدليل يدلّ أوّلا على علمه ـ تعالى ـ بالأفعال ثمّ بواسطته يدلّ على علمه ـ تعالى ـ بذاته ، لانّ كلّ من علم شيئا يعلم انّه هو الّذي يعلمه ، والعالم بالقضية يجب أن يعلم الموضوع ، والموضوع ذاته ؛ فيجب ان يعلم بذاته. وهذا ممّا وافقه الحكماء وصرّح به الشيخان ـ : الفارابي وابن سينا ـ وادّعاه المحقّق الدوانى في شرح العقائد.

وأورد عليه بعض الفضلاء : بأنّا كثيرا ما نعلم شيئا ونغفل عن كوننا عالمين به ، ولعلّه لهذا عدل بعض المحقّقين عن دعوى ذلك إلى دعوى امكانه واثبت المطلوب بتحقّق الامكان حيث قال : إذا علم أفعاله علم ذاته ، إذ من يعلم افعاله يمكنه ان يعلم انّه أفعاله ومن امكان ذلك العلم يلزم تحقّق امكان العلم بذاته ومن امكان تحقّق العلم بذاته يلزم تحقّق العلم بذاته ـ إذ علم الشيء بذاته لا يمكنه الاّ بحضور ذاته ـ ، ومن يمكنه أن يحضر ذاته عند ذاته فقد حضر ذاته عند ذاته ، إذ لو لم يحضر لا يمكن أن يحضر ـ كما لا يخفى على المتفطّن ـ / ١٠٥ DB /. وعلى هذا فيمكن أن يجعل الدليل المذكور مع هذه العلاوة ابتداء دليلا واحدا على علمه بذاته وبما سواه بان يقال : انّه ـ تعالى ـ فاعل للأفعال المحكمة المتقنة ، وكلّ فاعل كذلك لا ينفكّ عن العلم بأفعاله ، ومن

__________________

(١) كريمة ١٦٤ ، البقرة.

٤

يعلم أفعاله يعلم ذاته ، إذ من يعلم افعاله يمكن ان يعلم انّه يعلم افعاله ـ ... إلى آخره ـ. انتهى كلام بعض المحقّقين.

وقال الفاضل المذكور : لا يخفى ما فيه!.

ولعلّ ما فيه هو : انّ علم الشيء بذاته الّذي هو عبارة عن حضور ذاته لا يتحقّق بدون التفاته إلى الذات ، وبدون ذلك لا يتحقّق حضور الذات للذات. والتفات الشيء إلى ذاته ليس لازما ، فيمكن أن يكون الالتفات ممكنا ولم يتحقّق بالفعل ، فامكان الحضور لا يستلزم الحضور بالفعل. فهذا الايراد منه قريب من ايراده السابق ـ أعني : ما ذكره من : انّا كثيرا ما نعلم شيئا ونغفل عن كوننا عالمين به ـ.

وأنت تعلم انّ عدم الالتفات إلى الذات مع كونه ممكنا والغفلة مع العلم بكون أفعاله أفعالا له فينا لا يمكن أن يكون دائميا ، لانّ الغفلة عن الشيء انّما يتحقق إذا كان هذا الشيء موجودا في خزانة القوّة المدركة ولكنها لا يلتفت إليه ؛ ولذا استدلوا بالفرق بين « الذهول » و « النسيان » في المعقولات على تحقّق الخزانة للنفس ، وبالفرق بينهما في الصور الجزئية على تحقّق الخزانة للحسّ المشترك ـ وهو « الخيال » ـ ، وبالفرق بينهما في المعاني الجزئية على تحقّق الخزانة للواهمة ـ وهي « الحافظة » ـ. ولا ريب انّ الشيء إذا كان موجودا في الخزانة لا يمكن أن ينعدم الالتفات إليه بالكلّية ، بل إذا حصل عائق ينعدم الالتفات فيحصل الغفلة وإذا زال العائق فيحصل التذكّر ، ولو لم يحصل التذكّر أصلا لم يكن موجودا في الخزانة وكان نسيانا.

وإذا عرفت ذلك فنقول : الغفلة وعدم الالتفات انّما يتحقّقان في حقّ غافل كان لتعقّله خزانة ، ومن لم يكن لتعقّله خزانة ولا يحتاج في التعقّل إلى شيء سوى ذاته لا يتحقّق في حقّه الغفلة وعدم الالتفات ؛ فالواجب ـ تعالى ـ لمّا كان متعقّلا لأفعاله ـ كما هو الفرض ـ فامّا يعلم انّه افعاله أو لا ؛ فعلى الأوّل يثبت المطلوب ـ أي : تحقّق العلم بذاته ـ ، وعلى الثاني : فامّا ان لا يعلم انّه افعاله مطلقا ، أو يعلم ذلك في بعض الاوقات ويغفل عنه في بعض ، فعلى الثاني يلزم أن يكون لتعقّله خزانة ـ وهو باطل ، للزوم الافتقار ـ ؛ والأوّل بديهي البطلان ـ لأنّه يستحيل أن يعلم أحد أفعاله ولا يعلم قطّ انّه

٥

أفعاله ـ. بل إن كان الفاعل / ١١١MA / ممّن جاز عليه الغفلة ـ لكون علمه زائدا على ذاته ـ لتأتي عليه الغفلة في العلم بالأفعال أيضا ، كما يغفل عن كون الافعال افعالا له ؛ وإن لم يجز عليه الغفلة ـ لعدم افتقاره في التعقّل إلى أمر زائد على ذاته ـ لم يتأتّ عليه الغفلة في شيء منهما. وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأنّ الواجب لا يحتاج في تعقّله إلى أمر زائد عن ذاته ، فلا يجوز له الغفلة في شيء منهما. ولا يصحّ اثبات احد العلمين له دون الآخر في جميع الاوقات ، لأنّ ما يقتضي العلم بالأفعال يقتضي العلم بكون الأفعال افعالا له أيضا ، لانّ المقتضي للعلم بالافعال هو الذات ونسبتها إلى العلمين على السواء ؛ ولا مرجّح للاقتضاء الأوّل دون الثاني ، فالتخصيص تحكّم باطل!.

فظهر انّ غفلة الواجب ـ تعالى ـ عن ذاته وعدم التفاته إليها في بعض الاوقات باطل ، وجهله بها دائما مع علمه بافعاله أيضا باطل.

وبذلك يظهر انّ كلّ واحد من الوجه الأوّل ـ الّذي ذكرناه في استلزام علمه تعالى بالأفعال لعلمه بذاته وذكرناه أيضا انّه ممّا وافقه الفلاسفة ـ ، والوجه الثاني ـ الّذي نقلناه عن بعض المحقّقين ـ صحيح لا غبار عليه.

على انّه يمكن أن يقال في تصحيح الوجه الّذي نقلناه عن بعض المحقّقين : انّه إذا ثبت امكان العلم للواجب ـ تعالى ـ بذاته لزم فعلية علمه ـ تعالى ـ به ، لما مرّ من انّه ليس له ـ تعالى ـ كمال بالقوّة ، بل كلّما يجوز له يكون حاصلا له بالفعل ؛ إلاّ انّه يرجع إلى الدليل الأوّل.

وقال بعض الفضلاء : الأولى أن يدّعى البداهة في أنّ كلّ من علم الغير يعلم ذاته ، لا سيّما إذا كان عالما بلطائف الأفعال ؛ هذا.

واعترض على الدليل المذكور بوجهين :

أحدهما : انّه إن اريد « بانتظام الأشياء وإحكامها » : انتظامها وإتقانها من كلّ وجه بمعنى انّ هذه الآثار مترتّبة ترتيبا لا خلل فيه أصلا وملائمة للمنافع والمصالح المطلوبة منها بحيث لا يتصوّر ما هو أوفق منه وأصلح ، فظاهر انّه ليست كذلك ، بل الدنيا طافحة / ١٠٦ DA / بالشرور والآفات ويشاهد في العالم اشياء لا تدرى لها منفعة ،

٦

بل قد يعلم لها مضرّة ومنقصة ؛

وإن اريد في الجملة ومن بعض الوجوه ، فجلّ آثار المؤثّرات من غير العقلاء بل كلّها كذلك ، فانّ تبريد الماء وتسخين النار ينتفعان بهما.

وثانيهما : انّه قد تصدر عن بعض الحيوانات العجم أفعال محكمة متقنة في ترتيب مساكنها وتدبير معايشها ـ كالنمل وكثير من الوحوش والطيور ، على ما هو في الكتب مسطور وفيما بين الناس مشهور ـ مع أنّها ليست من اولى العلم.

والجواب عن الأوّل : اختيار الشق الأوّل ـ أي : كون الموجودات مرتّبا ترتيبا لا خلل فيه أصلا بحيث لا يتصوّر ما هو أصلح واوفق منه ، فانّه لا شبهة في أنّ هذا النظام المشاهد هو النظام الأصلح الأعلى ، ولا يتصوّر ما هو أكمل ولا يمكن ان يوجد ما هو اعلى منه. أمّا على طريقة المليين فلاستحالة ترجيح المرجوح ، وامّا على طريقة الفلاسفة فلأنّ ذات الواجب ـ تعالى ـ لمّا كان تامّا فوق التمام فيجب أن يكون ما يفيض ويترشّح عنه وما يقتضي صدوره أشرف وأعلى ما يتصوّر ، ولذلك أجمع الكلّ على أنّ هذا النظام الجملى أحسن النظام وأصلحه ولا يتصوّر نظام أكمل من الواقع ، ولم يخالف في ذلك أحد إلاّ الشافعي ـ على ما نقل عنه انّه قال : يجوز أن يوجد نظام يكون أعلى واكمل من النظام الواقع ـ ، وهو ليس من رجال هذا العلم ، بل هو أجنبى العلم في هذا الفن.

وما ذكر من « انّ الدنيا طافحة بالشرور ونرى اشياء نعلم لها مضرّة ومنقصة » ، ففيه : أنّها شرور قليلة تابعة لخيرات كثيرة وواقعة بالعرض وراجعة إلى الأعدام ، فلا يلزم بها خلل ونقصان في نظام الموجودات ـ على ما تقدم مفصّلا ـ ؛ هذا.

وقيل : وممّا يدلّ على كون النظام الموجود نظاما احسن « قاعدة الامكان الأشرف » ؛ وتقريرها : هو انّه إذا وجد الممكن الأخسّ يجب أن يوجد قبله الممكن الأشرف ، لأنّه إذا وجد الأخسّ ولم يوجد الأشرف قبله فلا يخلو : إمّا ان يكون الاشرف ممكن الوجود ، أم لا ؛ والثاني ليس كلامنا فيه ـ لانّ الكلام في الممكن ـ ؛ والأوّل إذا فرض صدوره عن الواجب فامّا ان يصدر عنه ـ تعالى ـ بواسطة الأخسّ ـ

٧

فيلزم أن يكون المعلول اشرف من العلّة ، وهو باطل فيما فوق الكون ، أي : في غير الممكنات الكائنة الفاسدة ، أعني : الممكنات الثابتة المستمرّة الوجود ـ ، أو يصدر عنه بلا واسطة الأخسّ ، فيلزم جواز صدور الكثرة عن الواحد ـ بناء على أنّ الفرض وجود الأخسّ بلا واسطة الأشرف ، فاذا فرض وجود الاشرف أيضا بلا واسطة شيء يلزم جواز صدور الكثرة عن الواحد الحقّ ، وهو محال ـ.

وإذا ثبت ذلك نقول : لا يمكن أن يوجد نظام فوق هذا النظام ، لأنّه / ١١١ MB / إذا جاز وجود نظام فوق هذا النظام فلا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يكون بعض الموجودات الواقعة فيه أشرف وأكمل من بعض الموجودات الّتي وقعت في هذا النظام ، وهو يوجب وجود الأخسّ قبل الأشرف ؛ فيندفع بالقاعدة المذكورة.

ثمّ انّ هذه القاعدة على ما ذكره الشيخ الإلهي في المطارحات انّما يجري فيما فوق الكون ـ أعني : الممكنات الثابتة المستمرّة الوجود الدائمة بدوام عللها الثابتة الغير المتغيّرة بالحركات الفلكية ـ ، لا فيما تحت الكون أيضا ـ أي : الممكنات المتغيّرة المتبدّلة بالحركات والاستعدادات ، كالمواليد الثلاثة (١) ـ. والسرّ في ذلك أنّ الأمور الخارجة عن سلسلة الحركات والتغيرات والاستعدادات المختلفة لا يمنعها أمر غريب عن كمالاتها الممكنة ؛ لانّ علّة كمالاتها إمّا ذات الفاعل ، أو أمر لازم له ، فيوجد تلك الكمالات فيها البتة. وبالجملة كلّ ممكن يكون امكانه الذاتي كافيا لفيضان وجوده ، ولا يحتاج في الفيضان إلى الامكان الاستعدادى بكون جميع كمالاته حاصلة له في بدو فطرته وعلل وجوده هي بعينها علل كمالاته من دون مغايرة بينهما ؛ بخلاف الحوادث اليومية ، فانّ علل وجودها على وجه خاصّ وعلل كمالاتها قد تكون مغايرة لعلل وجودها ، وكلّ واحد من وجودها وكمالاتها يتوقّف على استعدادات سوى امكانها الذاتى ، وفقدان بعض الاستعدادات بالنسبة إلى بعض تلك الحوادث ممكن. فحينئذ يجوز أن لا يوجد ما هو الأشرف بالنسبة إليها ـ لفقدان الاستعدادات الّتي هي علّة لحصول ذلك الأشرف. فقاعدة الامكان الأشرف انّما تدلّ على أنّ الموجودات الثابتة المستمرّة / ١٠٦ DB / الغير

__________________

(١) راجع : المشارع والمطارحات ، ص ٤٣٤.

٨

الكائنة والفاسدة ـ أعني : من العقل الأوّل إلى آخر العناصر ـ لا يمكن أن يوجد بدل أحدها ما هو اشرف واكمل منه ، ولا أن يوجد شيء سواها في الحقيقة يكون أشرف من بعضها ؛ بل كلّ واحد ممّا في هذه السلسلة أشرف وأكمل ما يتصوّر ويمكن ، ولا يمكن وجود غيرها يكون من تلك السلسلة ـ أي : تكون ثابتة مستمرّة دائمة بدوام عللها ـ ؛ ولا يدل على انّ حكم الحوادث اليومية أيضا كذلك.

وبذلك يندفع ما أورد على هذه القاعدة : بأنّها لو تمّت لدلّت على أن لا يكون شيء من الاشخاص ممنوعا عمّا هو أشرف بالنسبة إليه ويمكن تحقّقه فيه ، مع أنّا نرى أكثر الأشخاص ممنوعا من الكمالات الممكنة لهم الّتي حصولها فيهم اولى ؛

ووجه الاندفاع : انّ هذه الأشخاص انّما هي من الحوادث اليومية ، وتلك القاعدة لا تجرى فيها ؛

ثمّ الوجه في فقدان بعض الكمالات الممكنة لبعض الأشخاص من الحوادث عنها مع انّه لو كانت حاصلة لها كانت أحسن بحالها وصار النظام الجملى حينئذ أصلح من الواقع في نظرنا قد تقدّم مفصّلا. ونقول هنا : الحكم بأصلحية النظام مع وجود بعض الكمالات المتصوّرة لبعض الاشخاص من النظام الواقع الّذي لم توجد فيه تلك الكمالات المتصوّرة لهذا البعض ممنوع ، بل باطل ؛ والأمر بالعكس ، لانّ اصلحية النظام لا يستلزم وجود كلّ ما هو أصلح بالنسبة الى كلّ شخص من الحوادث إذا كان ممكنا له ؛ وان استلزم ذلك بالنسبة إلى الموجودات الّتي فيما فوق الكون.

بل نقول : فقدان بعض الكمالات عن بعض الحوادث هو الأصلح بحال النظام لأدائه الى الكمالات والخيرات الكثيرة. ولمّا كانت العناية الالهية متعلّقة بتدبير الكلّ من حيث هو كلّ أوّلا وبالذات وبتدبير الجزء ثانيا وبالعرض وكان الأحسن بحال الكلّ أن لا يحصل لبعض الأشخاص ما هو أحسن وأكمل بالنسبة إليه وبالنظر إلى خصوصيته ، اختار ما هو الأحسن بالكلّ وترك ما هو المخلّ به وان كان أحسن بالنظر إلى الجزء. ونظير ذلك انّ المعمار إذا طرح نقش عمارة فربما كان الأحسن بالنسبة إلى تلك العمارة أن يكون بعض اطرافه مجلسا وبعض اخر مبرزا بحيث لو غيّر هذا الوضع لاختلّ حسن

٩

مجموع العمارة وإن كان الأحسن بالنسبة إلى كلّ موضع منه أن يكون مجلسا مثلا ، وقس عليه قطع عضو من الأعضاء واخراج الدم من البدن بالفصد والحجامة اذا كان فيه صلاح مجموع البدن. وبالجملة لا ريب في أنّ الواجب الحقّ مبدأ تامّ من جميع الوجوه ، فما هو المناسب به أحسن وأكمل من غيره ، ولا شكّ في انّ النظام الواقع الصادر هو الأنسب وبالمناسبة استحقّ فيض الوجود منه ـ تعالى ـ عليه ، فيكون أعلى وأكمل ما يتصوّر ، ويكون ما وجد بغير هذا الوجه من الوجوه أبعد عن المناسبة له ، فيكون أدون وأخسّ ؛ فكلّ فرد فرض على خلاف ما عليه يكون مخلاّ بحسن النظام وإن خفي وجهه علينا.

ولعلّ تفاصيل كيفية هذا الحسن واختلاله بتغيّر حال فرد فرد عمّا هو / ١١٢ MA / عليه مع انّه يمكن أن يوجد ما هو الأحسن له في نظرنا من أسرار القدر الّذي استاثره الله بعلمه ولم يطّلع عليه أحد سواه ، أو اطّلع عليه باذنه واحد بعد واحد من طوائف الأنبياء وأعاظم الأولياء.

وما يمكن أن يتكلّم فيه ويصل إليه الأفهام قد تقدّم قبل ذلك مفصّلا.

ثمّ انّه لو اخترنا الشقّ الثاني لدلّ على المطلوب أيضا ـ وان لم يكن حقّا مطابقا للواقع ـ ، لأنّه إذا ثبت الانتظام والإحكام في الجملة لدلّ على علم الموجد ولا يضرّ معه اشتماله على نوع من الخلل والنقصان ومثله مثل صورة منقوشة في جدار إذا كانت فاقدة لبعض اعضائها ، فانّك إذا رأيتها لا تشكّ في علم مصوّرها وصدورها عن خبرة وغرض فيها ، بل تجزم بأنّ نقصان بعض اعضائها إنّما هو لغرض يعلمه مصوّرها ومصلحة يراها وان لم تكن أنت عالما به.

وما ذكر من النقص بتبريد الماء وتسخين النار ففيه : انّ هذا التأثير فيهما وفي امثالهما انّما هو بفعله ـ تعالى ـ وهو الّذي اوجده فيهما ، لانّ الممكن من حيث هو لا يجوز أن يصير منشأ لشيء ومؤثّرا في غيره ـ لكونه لا شيئا محضا وقوّة صرفة ـ ، وبالجملة لا ريب في اشتمال هذا النظام على لطائف الصنع وبدائع الترتيب وحسن الملائمة للمنافع والمطابقة على وجه الكمال. وان سلّم اشتماله بالعرض على نوع من الخلل وجور في بادى النظر أن يكون ما هو أكمل. والعلم بأنّ مثل ذلك لم يصدر الاّ عن العالم

١٠

ضروري ، سيّما مع تكثّر ما في هذا النظام من الموجودات وتكرّر ما يوجد فيه من الأفعال والآثار.

ثمّ بداهة ذلك لا ينافي مخالفة / ١٠٧ DA / بعض العقلاء ونفيهم علم الواجب ، لانّ الضروري قد يخفى على بعض العقلاء. على انّه قيل : لم ينف أحد علم الواجب ؛ وسيأتى تحقيق ذلك.

والجواب عن الثاني : انّه لو سلّم انّ الآثار والأفعال الّتي تشاهد من الحيوانات انّما تصدر منها وهي موجدها فلم لا يجوز أن يكون فيها من العلم قدر ما تهتدى الى ذلك بأن يجعلها الله ـ تعالى ـ عالما بذلك أو يلهمها حين ذلك الفعل ، كما جعلها قادرة ومتمكّنة على ذلك الفعل؟

ومنها : ما ذكره الحكماء ، وهو : انّ واجب الوجود ـ تعالى شانه ـ مجرّد غاية التجرّد والمراد « بغاية التجرّد » الثابت للواجب على المشهور : كونه غير جسم وغير جسماني ـ أي : ليس مادّة ولا مقارنا لمادّة ـ أو موضوع مقارنة الصور والاعراض ؛ وبالجملة كونه قائما بذاته غير متعلّق الهوية والوجود بشيء يقوم به أصلا. وعند المحقّقين : كونه غير محتاج إلى الارتباط بالغير ، بل كونه محض الوجود الحقيقي المنزّه عن الماهية والأعراض. والبراهين القاطعة قائمة على ثبوت التجرّد بالمعنيين في حقّه ـ سبحانه ـ ، وكلّ مجرّد ـ بكلّ واحد من المعنيين ـ عاقل ؛ وبالعكس ـ أي : كلّ عاقل مجرّد باحدى المعنيين ـ. واثبات العكس هنا غير مقصود لنا ، بل المقصود والمهمّ لنا اثبات الأصل ـ أي : كون كلّ مجرّد عاقلا ـ ليثبت به كون الواجب ـ تعالى ـ عالما. وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمات :

الاولى : انّ التعقّل عبارة عن ادراك المجرّد الموجود القائم بذاته شيئا لم يعرضه العوارض الجزئية الّتي تلحق بسبب المادّة في الوجود الخارجي من الكمّ والكيف والأين والوضع وغير ذلك من العوارض المادّية ، إمّا بعينه أو بصورته ؛ وبتقرير آخر : عبارة عن حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد الموجود القائم بذاته وانكشافه لديه ووجوده بين يديه. وهذا الحضور ـ أي : حضور الذات عند الذات ، أو حضور

١١

الصورة عندها بحصولها فيها ـ ارتباط يحصل لأجله الانكشاف ، ولولاه لم يكن معنى للانكشاف ، لانّه لا يتصوّر انكشاف شيء لآخر بدون تحقّق ربط بينهما ، ولو لا اشتراطه لكان كلّ شيء منكشفا لكلّ شيء. والربط المصحّح للانكشاف منحصر بحضور الذات أو حصول الصورة ، ولا يتصور ربط غيرهما. ومع تحقّق أحدهما لا ريب في تحقّق الانكشاف ـ كما هو ظاهر بالبداهة من علم النفس بذاتها وبالأشياء الحاصلة صورها فيه ـ.

وقد ظهر من تلك المقدّمة انّ المناط في كون الشيء عاقلا أن يكون مجرّدا قائما بذاته أي : غير حالّ في غيره ، سواء كان ذلك الغير مادّة أو موضوعا. وبدون تحقّق الشرطين لا يتحقّق العاقلية ولا يكفي أحدهما ، ولا يتّصف الصورة العقلية بالعاقلية مع كونها مجرّدة ، ولا يتّصف الجسم بها مع كونه قائما بذاته. والمناط في كون الشيء معقولا حصوله لموجود مجرّد قائم بذاته ، سواء كان ذلك الحصول بالحلول فيه أو بحضور ذاته عنده فمجرّد كون الشيء مجرّدا عن المادّة لا يوجب معقوليته ، بل يشترط مع ذلك كونه حاضرا عند العقل أو حالا فيه. فكلّ مجرّد قائم بذاته يصحّ أن يكون عاقلا ، ومن شأنه ذلك ؛ وكلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا ، ومن شأنه ذلك. إلاّ انّ ذلك لا يوجب حصول التعقّل بالفعل ، / ١١٢ MB / بل فعلية التعقّل يتوقّف على الحضور أو الحلول ، وهما يتوقّفان على الموجب والمصحّح لهما. فاذا حصل مصحّح الحضور أو الحلول حصل التعقّل بالفعل. وستعلم ما هو المصحّح لها. وقد ظهر أيضا من تلك المقدّمة انّ المانع من التعقّل إمّا مانع من العاقلية ، أو مانع من المعقولية ؛ والمانع من العاقلية هو كون الشيء غير مجرّد عن المادّة ـ سواء كان نفس المادّة أو علائقها ـ ، أو كونه قائما بغيره ويجمعها كون الشيء موجودا بغيره ، فانّه يصدق على كلّ ما ليس مجرّدا عن المادّة ـ سواء كان نفس المادّة أو متعلّقا بها من الصور والأعراض ـ انّه موجود بغيره.

أمّا الأوّل : فلأنّ المادّة من حيث هى ليست موجودة في حدّ ذاتها ، بل يتوقّف وجودها على وجود الصورة ؛

وامّا الثاني : فلأنّه يصدق على كلّ ما يقوم بغيره من الصور والأعراض الخارجية و

١٢

من الصور المعقولة انّه موجود بغيره ؛ « فالغير » يكون أعمّ من المادّة ، و « الموضوع » اعمّ من الجسم والنفس.

والمانع من المعقولية هي المادّة وعلائقها ، / ١٠٧ DB / لكن المادّة وعلائقها ليست مانعة من كون الشيء معقولا مطلقا ، بل من كون الشيء معقولا بحلوله في العاقل لا بأن يكون الشيء معقولا بحضور عينه عنده ، فانّ المعقولية قد تكون بحضور عين الشيء عند العاقل وقد تكون بحضور صورته عنده بأن تكون صورته حالّة فيه ؛ وحينئذ يجب أن تكون تلك الصورة مجرّدة عن المادّة وعلائقها. وأمّا إذا كان عين الشيء حاصلا عند العاقل ـ كحصول المعلول للعلّة ـ فلا يجب هناك التجرّد عن المادّة وعلائقها ـ كما يأتي ـ فلا يصحّ القول بكون المادّة مانعة من التعقل على اطلاقه ، ولا حصر للمانع من التعقّل مطلقا في المادّة وعلائقها.

ولا بدّ هنا من بيان اقسام العلم بل اقسام مطلق الإدراك وبيان أحكام كلّ منها لشدّة الاحتياج إليها.

فنقول : الإدراك هاهنا على ثلاثة أقسام :

الاوّل : الإدراك بالحواس الظاهرة ـ أعني : السمع والبصر واللمس والذوق والشمّ ـ أو بالحواسّ الباطنة ـ كالمتخيلة والواهمة ـ. ويسمّى المدرك بهما محسوسا كما يسمّى المدرك بالقوّة العاقلة ـ أعني : النفس بقوّتها النظرية ـ معقولا. ثمّ المدرك بالحواسّ ـ ظاهرة كانت أو باطنة ـ هو الشيء الّذي يقارنه أمور غريبة عن مهيته ، إمّا مقارنة مؤثّرة فيه كمقارنة الانسانية في الخارج للموضع والمقدار وغير ذلك ، فانّه لو فرض ارتفاع تلك الأمور ـ أعني : الوضع والمقدار عن الانسانية الخارجية ـ لانعدمت تلك الانسانية أيضا ؛ أو مقارنة غير مؤثّرة كمقارنة السواد للحركة ـ حيث لا يرتفع أحدهما بارتفاع الاخر ـ. وبالجملة فالمدرك بالقوى الظاهرة والباطنة لا ينفكّ عن مقارنة المادّة وعلائقها ، لانّ كلّ حقيقة تلحقها أمر غريب عن ذاتها ـ من الوضع والأين وغير ذلك ـ فانّما يلحقها لا لذاتها ، بل لحيثية استعدادية تلحقها ، إذ لو لحقها لذاتها لما تخلف عنها أصلا وكان جميع افراد الماهية متساوية في الاتصاف به ، وجميع

١٣

جهات القوّة والاستعداد ينتهي بالذات إلى المادّة الجسمية ـ كما حقّق في محلّه ـ. فجميع ما وجوده الادراكي في القوى الجسمانية الظاهرة ـ كالمشاعر الخمس الظاهرة ـ أو في القوى الجسمانية الباطنة ـ كالحواس الخمس الباطنة ـ مصادفة ومقارنة لعوارض غريبة وانفعالات مادّية البتة. وهذا في مدركات المشاعر الظاهرة ظاهر ، وأمّا في مدركات القوى الباطنة فلأنّ كلّ قوّة جسمانية تدرك صورة فلا ريب في أنّ تلك الصورة تحلّها بمادّتها ، إذ لو حلّت فيها مجرّدة عن المادّة لزم أن تكون تلك القوّة الّتي هي محلّها أيضا مجرّدة لا جسمانية ؛ هذا خلف!.

بيان الملازمة : انّ القوّة لو لم تكن حينئذ مجرّدة لكانت مادّية أي : مخصوصة بغواش مادّية من مقدار معيّن وأين معيّن وكيف معيّن ووضع معيّن ـ ، وكانت منقسمة أيضا : وإذا كان المحلّ مادّيا منقسما لكان الحالّ أيضا مادّيا منقسما مع انّ الفرض تجرّده ، هذا خلف! ؛ بيان الملازمة : انّ اختصاص المحلّ بالمقدار المعيّن والأين والوضع المعيّنين يوجب اختصاص الحالّ به أيضا ، وكذا انقسامه يوجب انقسامه ؛

امّا الأوّل : فلأنّ الحالّ مفتقر إلى المحلّ ، فلو كان المحلّ مفتقرا إلى المقدار والوضع والأين لكان الحالّ أيضا مفتقرا إليها ـ لانّ المحتاج إلى المحتاج إلى الشيء محتاج إلى هذا الشيء ـ مع انّه قد فرض الحالّ مجرّدا غير محتاج إلى شيء منها.

وامّا الثاني : فلأنّ الصورة المعقولة تحمل في العاقل من حيث ذات العاقل لا من حيث لحوق طبيعة اخرى ، والحلول إذا كان من حيث ذات المحلّ لا من حيث لحوق طبيعة أخرى ـ كحلول النقطة في الخطّ ، فانّ حلولها فيه ليس من حيث ذات الخطّ ؛ بل من حيث انتهائه ـ يستلزم فيه انقسام المحلّ انقسام الحالّ ، وإذا كان الحالّ منقسما فامّا ينقسم الى اجزاء متشابهة في الحقيقة / ١١٣ MA / أو إلى اجزاء متخالفة في الحقيقة ؛ وعلى الأوّل فمعلوم لزوم كون الصورة المعقولة الّتي فرضناها مجرّدة عن اللواحق المادّية ـ من المقدار والوضع ـ مادّية مقارنة لها ، لأنّها منقسمة وكلّ منقسم يلحقه التقدير والوضع ، وكلّ متقدّر ذو وضع مادّى ؛ يلزم أن تكون الصورة العقلية حينئذ مشابهة لاجزائها في تمام الماهية. ولا شكّ انّ كلّ واحد من تلك الأجزاء حاصل في التعقّل كحصول الكلّ ، وانّ

١٤

حصول الماهية يتحقّق بحصول واحد ، إذ لا معنى لتعقّل الشيء الاّ حصول مهيته في التعقّل ، ففي / ١٠٨ DA / الجزء الواحد كفاية عن الاجزاء الاخر في المعقولية. فتكون الصورة العقلية معروضة للزيادة والنقصان ، فلا تكون مجرّدة عن العوارض المادّية ؛ هذا خلف!.

وعلى الثاني ـ أي : كون الصورة منقسمة الى اجزاء متخالفة في الحقيقة ـ : فمع لزوم الخلف أيضا يلزم كونها مركّبة من اجزاء غير متناهية بالفعل ، لانّ المحلّ ـ لكونه مادّيا ـ يقبل القسمة إلى غير النهاية ، فالحالّ أيضا يقبلها إلى غير النهاية. والغرض انّ الاجزاء متخالفة في الحقيقة ، فلا بد أن تكون حاصلة في المركّب بالفعل ، وتركّب الشيء من اجزاء غير متناهية بالفعل محال.

واعترض على الأوّل : بأنّا لا نسلّم انّ اتصاف المحلّ بهذه العوارض وافتقارها إليها يقتضي اتصاف ما يحلّ فيها بها وافتقاره إليها ، فانّ اتصاف المحلّ بصفة لا يوجب اتصاف الحالّ فيه بها ؛ ألا ترى انّ الجسم يتصف بالبياض مع أنّ الحركة الحالّة فيه لا يتّصف به؟!. سلّمناه ، لكن اتصاف الصورة الحالّة في محلّ بهذه العوارض من قبل محلّها لا ينافي تجرّدها عنها بحسب ذاتها.

والجواب عنها : انّ قوام وجود الحالّ وتحقّقه انّما هو بمحلّه ، فهو مفتقر إلى المحلّ فيما يحتاج إليه المحلّ ولا ينفكّ عنه من المقادير والأوضاع ، والاّ يحتاج إليه في الحالّ أيضا ولا ينفكّ عنه ، لانّ المحتاج إلى المحتاج إلى الشيء محتاج إلى هذا الشيء. ولا يلزم من ذلك اتصاف الحال بما يتصف به المحلّ وان لم يفتقر إليه ، فانّ المدّعى انّ ما يفتقر إليه المحلّ ولا ينفك عنه يفتقر إليه الحالّ أيضا ، لا انّ ما يتصف به المحلّ بدون الافتقار ـ كاتصاف الجسم بالبياض ـ يتصف به الحالّ أيضا ؛ والفرق بينهما ظاهر. فالقياس الّذي ذكره المعترض ساقط. ثمّ احتياج الحالّ إلى ما يحتاج إليه المحلّ من اللوازم الجسمية يكفي لكونه ماديا وان حصل ذلك بواسطة المحلّ ، لانّ المجرّد لا يحتاج إلى شيء من اللوازم الجسمية بوجه.

واعترض عليه أيضا : بأنّا لا نسلّم انّ الادراك بارتسام صورة المعلوم في العالم ـ لجواز أن يكون الادراك بانكشاف الأشياء للقوى الدرّاكة من دون ارتسام صورة فيها ـ

١٥

بل يكون إمّا مجرّد انكشاف من غير أن يرتسم صورة شيء في شيء أصلا ، أو يرتسم صورة المدرك في مجرّد أو غير مجرّد ، فيلاحظها تلك القوّة من هناك كما يدرك النفس ما ينتقش من الجزئيات في آلاتها. وإذا كانت تلك القوّة الجسمانية للصورة العقلية على سبيل الحضور والملاحظة دون الارتسام ، فلا يلزم من كون تلك القوّة مادّية ومنقسمة كون تلك الصورة كذلك ؛ لانّ مشاهدة المادّي لغيره لا يوجب كون ذلك الغير مثله ، بل انّما ذلك في الارتسام.

والجواب : انّ انكشاف المجرّد لمادّي من دون ارتسام فيه أمر بديهي البطلان بيّن الفساد ، لانّ الادراك فرع المناسبة والربط بين المدرك والمدرك ، والربط إمّا بالارتسام أو بالحضور ، والارتسام مفقود بالفرض. وحضور المجرّد للمادّي لا معنى له سواء كان بوجوده في الخارج أو بوجوده في بعض المدارك وملاحظة تلك القوّة المادّية إيّاه من هناك ، لانّ حضور شيء عند مدرك وملاحظته ايّاه بذاته الموجودة في الخارج أو في محلّ آخر انّما يتوقف على ارتباط ومصحّح للحضور ، ولولاه لكان كلّ شيء عالما بكلّ شيء بالعلم الحضوري. والمصحّح لذلك إمّا كون المدرك عين المدرك ـ كما في علم النفس بذاتها ـ ، أو كونه لازما له أو متعلّقا به ـ كما في علم النفس بالصور القائمة بها وعلمها بآلاتها وقواها ـ ، أو كونه معلولا له ـ كما في علم الواجب بالأشياء عند جماعة ـ ؛ ولا يتصوّر تحقّق شيء من ذلك للمجرّد بالنسبة إلى القوّة الجسمانية حتّى يكون مصحّحا لحضوره عندها. على أنّ التأمّل يعطي اشتراط المناسبة بين المدرك والمدرك ، وأيّ مناسبة يتصوّر بين المجرّد الصرف والمادّي حتّى يكون المادّي مدركا وعاقلا له؟! ، وكيف يكون المادّي من حيث هو مادّي محلاّ للمجرّد من حيث هو مجرّد مع انّ كلّ شيء لا يتمكّن على التعدّى عن عالمه الخاصّ منها؟! فالمادّي ما لم ينفكّ عن المادّية لا يمكنه تصوّر وجود يكون على خلاف حقيقته ، وهو ظاهر من أحوال الحيوانات العجم والبله والصبيان بين / ١١٣ MB / الناس ؛ هذا.

واعترض على الثاني ـ أعني : الدليل المذكور لانقسام الحالّ بانقسام المحلّ ـ بأنّا لا نسلّم كون الادراك بطريق الارتسام حتّى يلزم من انقسام المحلّ انقسام الحالّ ، بل

١٦

يجوز أن يكون على سبيل الحضور ؛

وقد تقدّم جوابه.

وبانّا لا نسلّم انّ انقسام المحلّ يوجب انقسام الحالّ فيه ـ كما في الخط والنقطة ـ وجوابه : انّ حلول شيء في محلّه إن كان من حيث ذات المحلّ لا من حيث لحوق طبيعة أخرى لاستلزم انقسامه انقسامه ضرورة ، وما نحن فيه من هذا القبيل. وما لا يستلزم انقسامه انقسامه هو إذا كان الحلول بواسطة لحوق طبيعة أخرى ـ كحلول النقطة في الخطّ ، فانّ حلولها فيه بواسطة عروض النهاية له ـ.

وبأنّا لا نسلّم انّ كلّ مادّي منقسم ، فانّ النقطة مادّية غير منقسمة ؛ فلم لا يجوز أن تكون القوّة الجسمانية المدركة للصورة المعقولة غير منقسمة؟ ، فلا يلزم حينئذ انقسام تلك الصورة أيضا أصلا ؛

وجوابه : انّ المادّي إن كان جوهرا فلا يجوز / ١٠٨ DB / عدم انقسامه ـ لاستلزامه وجود الجزء الّذي لا يتجزّء ـ ، وان كان عرضا فانّما يتصوّر عدم انقسامه إذا كان حالاّ في أمر غير منقسم في جهتين ، ومعلوم بالضرورة انّ المشاعر الباطنية ليس كذلك ، فقد ثبت وتحقّق إنّ المدرك بالقوى الجسمانية ـ ظاهرة كانت أو باطنة ـ انّما هو شيء مادّي محفوف بالعوارض الغريبة ولا يمكن أن يكون مجرّدا صرفا. ولهذا ليس ادراكها تعقّلا ، بل احساسا ، لأنّ التعقّل ـ كما اشير إليه ـ انّما هو ادراك المجرّد للمجرّد بالكلّية عن المادّة ، ولكون مدركاتها مخلوطة بغيرها لا تكون مدركاتها كلّية صادقة على كثيرين ومنطبقة على اعداد كثيرة ، بل تكون مانعة من الشركة. وكذا لا تكون معلومة على سبيل الوضوح والجلاء ، لأنّ الظهور التامّ والجلاء الكامل والوضوح كما هو حقّه عند المدرك ، انّما يكون لما امتاز عن جميع ما سواه وليس مخلوطا بشيء ما عداه ، لأنّ الشيء يتّضح عند المدرك بقدر امتيازه وتجرّده عمّا سواه ، فما لا يمتاز عن جميع ما سواه ويكون مخلوطا بغيره ـ كما هو شأن مدركات القوى الجسمانية ـ لا ينجلى حقّ الانجلاء ولا يتّضح حقّ الاتضاح ؛ كما أنّ القوّة المدركة إذا لم تتجرّد عن المادّيات بالكلّية لا يتضح ما تدركه عندها حقّ الاتضاح. فالوضوح التامّ والانكشاف الحقيقي انّما يحصل في التعقّل لحصول التجريد التامّ

١٧

والنزع البالغ فيه.

وأمّا الادراكات الحسية فانّما يحصل فيها تجريدات ناقصة متفاوتة المراتب على حسب مراتب مدركاتها نظرا إلى أنّه لو لم يصل أثر من المحسوس إلى الحاسّ لاستوى حاله قبل الاحساس وبعده ولم يحصل بينهما مناسبة وربط حتّى يتحقّق الادراك ، فلا بدّ أن يصل أثر من المحسوس إلى الحاسّ ليتحقق الاحساس ؛ والأثر الواصل هو صورة المحسوس الّتي تتجرّد عن مادّتها ويحدث في الحاسّ ، إلاّ انّه يكون كلّ من المدرك والمدرك متعلّقا بالمادّة بعد نوع تعلّق وكون الصورة المدركة مع غشاوة ما من كمّ وكيف ووضع ومتى لا يحصل الانكشاف التامّ والانجلاء الكامل. فالبصر مثلا يأخذ الصورة عن المادّة ويجرّدها عنها ، لكن لا يجرّدها عن اللواحق من اللون والوضع وغيرهما ، بل يدركها مع هذه اللواحق ومع النسبة الواقعة بينها وبين المادّة.

وأمّا الخيال فانّه يجرّد الصورة المنزوعة عن المادّة تجرّدا أشدّ ، لكنّه لا تجرّدها عن اللواحق المادّية بالكلّية.

وأمّا الوهم فانّه وإن تعدّى قليلا عن هذه المرتبة في التجريد ـ لانّه قد يدرك امورا غير مادية في ذاتها ويأخذها عن المادّة إذا عرض لها أن يكون في مادّة ، فهذا التجريد أشدّ من التجريدين السابقين وأقرب إلى حاقّ كنه الشيء ـ الاّ انّه مع ذلك لا يجرّد الصورة عن اللواحق المادّية بالكلّية ، بل يأخذها جزئية وبالقياس إلى مادّة مخصوصة وبمشاركة من الخيال.

الثاني من أقسام الادراك : « ادراك الاشياء بالقوّة العاقلة » ـ أعني : نفس تصور تلك الأشياء لا بانفسها ـ ، وهذا هو العلم الحصولي الانطباعى. وذلك يكون بتجريد صورها عن المادّة تجريدا تامّا بحيث لا يكون فيها شوب من المادّية بوجه ، ولهذا تكون تلك الصورة كلّية يمكن حملها على الكثرة المختلفة في اللواحق الغريبة والعوارض المادّية كما هو ظاهر من ادراك الصورة الانسانية المطلقة المطابقة لأفرادها المتفاوتة في العظم والصغر المختلفة في الوضع والأين والمتى ؛ ولو لم تكن تلك الانسانية الذهنية مجرّدة عن جميع المادّيات من المقادير الخاصّة والأوضاع المعينة لما طابقت الكثيرين

١٨

المختلفين فيها.

ثمّ المعلوم بالذات في هذا القسم هو الصورة الحاصلة الموجودة في الذهن دون ذي الصورة / ١١٤ MA / الموجود في الخارج ؛ نعم! هو معلوم بالعرض ، لأنّ المنكشف أوّلا وبالذات عند العقل هو هذه الصورة ، وإنّما تنكشف ذو الصورة بواسطتها.

والعلم قد يطلق على المعلوم بالذات ـ الّذي هو الصورة الحاضرة عند المدرك ـ ؛ وقد يطلق على نفس حصول تلك الصورة عند المدرك وارتسامها فيه ، وهذا الحصول هو المعنى الاضافي الانتزاعى الّذي يشتقّ منه العلم والمعلوم وامثالها فعلى الاطلاق الأوّل يكون العلم والمعلوم متّحدين ذاتا مختلفين اعتبارا فالمعلوم في هذا القسم إن اعتبر وجوده من حيث معلوميته ومعقوليته ـ أي : من حيث هو معلوم ومعقول ـ يكون عين وجوده لعاقله وهذا هو المقصود من قولهم : « انّ وجود المعقول بعينه معقوليته ووجوده لفاعله ، ووجود المحسوس بعينه محسوسيته ووجوده للجوهر الحاسّ » ، فانّ مرادهم : انّ وجود المعقول من حيث هو معقول عين معقوليته ووجوده لعاقله. وأمّا إذا اعتبر وجوه من حيث تحقّقه في نفسه وفي الخارج فمعلوم انّه ليس عين وجوده لمدركه الّذي هو حيثية معقولية.

ثمّ لا ريب في انّا قد ندرك / ١٠٩ DA / صورة مجرّدة عن جميع المادّيات والمدرك بها لا يمكن أن يكون مادّيا ـ لما مرّ من أنّ القوى الجسمانية لا يمكن أن تدرك المجرّد الصرف ـ فيجب أن تكون فينا سوى القوى المذكورة قوّة عاقلة مجرّدة هي المدركة لتلك الصور ، وهو النفس الناطقة وبه يثبت تجرّدها ، فانّ اختلاف الادراكات وتباينها يدلّ على اختلاف المدركات وتعدّدها ، فانّا لما رأينا الادراكات الجزئية المختلفة من ادراك الصور وادراك المعاني وتركيب بعضها ببعض وحفظ بعضها دون بعض اثبتنا القوى المختلفة ـ من الخيال والوهم والمتخيّلة والحافظة ـ ؛ وكذلك لمّا رأينا فينا ادراك الصور المجرّدة عن جميع الموادّ ولا يمكن استناده إلى القوى المذكورة جزمنا بتحقّق قوّة عاقلة مجرّدة فينا.

فان قيل : المناط في الاستدلال على وجود القوى المذكورة هو حدوث الآفة والاختلال في بعض الادراكات ـ كادراك الصور أو المعاني أو التركيب أو الحفظ ـ مع

١٩

بقاء سائر الادراكات وانتظامها ، فيعلم منه أنّ مبادي هذه الادراكات متعدّدة مختلفة! وهذا الوجه لا يجري في اثبات القوّة العاقلة ـ أعني : النفس الناطقة ـ! ؛

قلنا : جريان هذا الوجه في اثبات النفس الناطقة أظهر من جريانه في اثبات القوى الجسمانية ، لأنّا نرى انّ الحيوانات العجم مع تحقّق الادراكات المتعلّقة بالقوى الظاهرة والباطنة ليس لها ادراك الكلّيات؟! ، بل كثير من الناس ـ من البله والصبيان ـ كذلك عند جماعة! ، فيظهر منه انّ ادراك الكلّيات ليس للقوى الجسمانية ، بل لقوّة أخرى لم توجد فيها. بل قد يختلّ بعض ادراكات القوى الجسمانية في بعض الناس مع بقاء ادراك الكلّيات والمجرّدات ـ كما هو ظاهر من أحوال بعض المجذوبين والمجنونين ـ.

فان قيل : يمكن أن يكون ادراك الكلّيات لبعض القوى الجسمانية من المتخيلة أو الوهم إذا قوّى لاجل كثرة الفكر والتخيّل! ؛

قلت : إن اريد بالقوّة الموجبة للتعقّل الحاصلة لبعض تلك القوى التجرّد ؛

ففيه : انّه لا معنى لتجرّد هذه القوى مع انطباعها في الاجسام ، على انّه يثبت مطلوبنا من اثبات كون ادراك الكلّيات للمجرّد ؛

وإن اريد بها شيء آخر ؛

ففيه : انّ اشتداد الجسمانيات وقوّتها إنّما يصير منشأ لزيادة الادراكات والافعال الجسمانية ، لا ادراك الكلّيات والمجرّدات ـ لما تقدّم من أنّ المادّي لا يمكن أن يدرك المجرّدات ـ.

الثالث من اقسام الادراك : « ادراك القوّة العاقلة للأشياء بأنفسها لا بتصوّر زائد على ذاتها » ، فانّ كلّ عاقل يدرك نفسه لا بصورة زائدة على ذاته. كما لا يخفى على من تأمّل في علمه بنفسه ، فانّ كلّ انسان يدرك نفسه على وجه يمتنع فيه الشركة ، ولو كان هذا الادراك بصورة زائدة حاصلة في النفس لكانت كلّية ، وإن حصلت من كلّيات كثيرة شخص حملتها بنفس واحدة ، لأنّ المركّب من الكلّيات ولو تعدّدت كثرة بحيث لا تحصى لا يخرج عن احتمال صدقها على كثيرين ، مع أنّ النفس إذا ادركت ذاتها لا تكون ذاتها المدركة صادقة على كثيرين. فعلم النفس بذاتها انّما هو بحضور ذاتها

٢٠