جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

اشار المحقّق في كتاب التجريد بقوله : « ذاته يعلم الجزئيات على وجه كلّي » (١) ، أي : يعلم جميع الجزئيات بالكلّية بحيث لا يعزب عن علمه شيء منها.

قال بعض الأفاضل في شرح ما نقلناه من المحقّق من الكلام لبيان علمه بالجزئيات من غير لزوم تغيّر فيه : اعلم! ، أنّ تعلّق شيء بالزمان يكون على وجوه :

أحدها : أن يكون تجدّد أوضاع الفلك الراسم بحركته للزمان واقعا بالنسبة إلى ذات هذا الشيء سواء كان حدوثه و/ ١٧٤ MA / وجوده مشروطا بقطعة معينة من الزمان أو لا ، وبهذا الوجه يكون جميع الأجسام والجسمانيات ما عدا الفلك الراسم زمانية ؛

وثانيها : أن يكون التجدّد الراسم للزمان واقعا في أوضاعه ، وبهذا المعنى يكون الفلك الراسم زمانيا أيضا ؛

وثالثها : أن يكون حدوثه ووجوده متعلّقا بجزء معيّن من الزمان سواء كان تجدّد اوضاع الفلك الراسم بالقياس إلى ذاته أو لا ، وبهذا الوجه تكون جميع الحوادث ـ مادّية أو مجرّدة ـ زمانية. وتعلّق الشيء بالمكان إمّا بأن يكون أوضاع الأمكنة وجهاتها واقعا بالنسبة إلى ذاته ، أو بأن يكون وجوده لا بدّ أن يقع في المكان. ولا يتصور شيء يكون وجوده وحدوثه مشروطا بمكان من الامكنة إلاّ بالعرض ، فانّ المكان من اللوازم المتأخّرة من وجود الجسم بخلاف الزمان ، فانّه علّة معدّة لوجود الحوادث. فجميع الأجسام والجسمانيات ـ حادثة أو قديمة ـ تكون مكانية بالمعنيين ؛ بخلاف جسم كرة العالم الجسماني من حيث هو مجموع ، فانّه لا يتصوّر اختلاف جهات الأمكنة والأوضاع بالنسبة إليه ، فهو مكاني بالمعنى الثاني فقط ، وليس شيء من المجرّدات حادثة أو قديمة مكانيا بشيء من المعنيين.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انّ المدرك الزماني والمكاني إنّما يكون ادراكه بالآلة الجسمانية لأنّه من حيث هو زماني ومكاني لا يمكن أن يكون إلاّ جسما ، والجسم من حيث هو جسم ليس من شأنه الادراك وإلاّ لكان كلّ جسم مدركا ، بل لا بدّ أن تكون له قوّة من شأنها الادراك وتكون تلك القوّة لا محالة قائمة به ، وهذه القوّة هو المراد بالآلة

__________________

(١) ما عثرت على هذه العبارة في متن التجريد.

٢٨١

الجسمانية. وإنّما يجب / ١٧٤ DA / أن يكون المدرك بآلة جسمانية لا يدرك إلاّ ما هو حاضر في زمانه أو مكانه ، لأنّ المدرك لمّا كان ذا وضع ومكان وجهة فكذا مدركه لا بدّ أن يكون كذلك ، والزمانيات والكائنات مختلفة في الأمكنة والجهات بحسب القرب والبعد ، والادراك عبارة عن حصول المدرك عند المدرك ، فلا يمكن أن يكون جسم من الأجسام في أيّ مكان كان وفي أيّ جهة وعلى أيّ وضع وفي أيّ زمان حاضرا لجسم آخر كذلك بدون مناسبة خاصّة وقرب مخصوص ووضع معيّن لتحقّق الحضور الّذي به يتحقّق الادراك ؛ وذلك ظاهر ؛ وأمّا المدرك إذا لم يكن زمانيا ولا مكانيا بل متعاليا عن الزمان والمكان لا يكون اختلاف الأوضاع والأمكنة والجهات والأزمنة الواقعة في الزمانيات والكائنات كائنا بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ، بل يكون كائنا فيما بينها ونسبة بعضها إلى بعض ، فلا يتصوّر لشيء عنها قرب بالنسبة إليه أو بعد ؛ فكل منها حاضر عنده غير غائب عنه بوجه من الوجوه. ولذلك كان مدركاتها دفعة واحدة ومرّة غير مستمرّة بلا تقديم وتأخير ويكون قرب بعضها إلى بعض وبعده عنه وكذا تقدّمه عليه وتأخّره عنه أيضا مدركا له ؛ انتهى.

وأنت إذا احطّت بكلام هذا المحقّق فلا أظنّك أن تشكّ في أنّ مراده من هذا الكلام هو ما اخترناه وقررناه ؛ فانّ قوله : « فانّه يكون محيطا بالكلّ عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في ايّ زمان من الأزمنة ـ ... إلى آخره ـ » صريح في أنّ هذا العلم ثابت له دائما قبل ايجاد الحوادث وبعده ولا يمكن أن يكون ذلك عنده بالصور ، لأنّه أورد هذا الكلام لتصحيح علمه ـ تعالى ـ بالأشياء الجزئية على سبيل الجزئية وردّ ما ذكره الظاهريون من الحكماء من قولهم بعلمه بالجزئيات على سبيل الكلّية لا الجزئية ولو كان العلم الصوري مصحّحا لعلمه بالجزئيات من حيث هي جزئيات فالحكماء قائلون به ، فلم يرد عليهم ايراد حتّى يحتاج إلى ذكر هذا من عند نفسه ، بل كان له أن يوجّه قولهم بذلك ولا ينسبهم إلى الظاهرية.

ولا يقال : ما ذكره توجيه لكلامهم! ، لأنّه قال أوّلا : انّهم قالوا انّه عالم بالجزئيات على الوجه الكلّي دون الجزئي ، ومع ذلك ذكروا انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ،

٢٨٢

فحصل من ذلك التدافع في كلامهم ، ثمّ أورد هذا الكلام ـ الّذي مبناه على العلم الصوري ـ لتوجيه كلامهم ، فبين انّ العلم الحصولي يستلزم حضور جميع الأشياء له ـ تعالى ـ في الشهود العلمي بحيث لا يخرج عن علمه شيء منها لا كلّيا ولا جزئيا ؛ فانّ العلم الصوري وإن لم يستلزم حضور جميع الأشياء له ـ تعالى ـ دائما في الشهود العيني إلاّ أنّه يستلزم حضور صورها وأمثلتها جميعا بحيث لا يخرج عن علمه شيء منها ، فتكون جميعها حاضرة عنده في الشهود العلمي. وبعد بيان ذلك صرّح بأنّ غرض الحكماء حينئذ من قولهم : « انّه عالم بالجزئيات على الوجه الكلّي دون الجزئي » : انّه يعلم جميع الجزئيات بالكلّية بحيث لا يعزب عن علمه شيء منها.

لأنّا نقول : سوق كلامه يدلّ على أنّ هذا الكلام ممّا لم يقل به الحكماء ، ولذا نسبهم إلى الظاهرية. / ١٧٤ MB /

وأيضا كيف يمكن أن يجعل ما ذكره توجيها لمذهب الحصوليين مع أنّ العلم الحصولي الصوري القائم بالمجرّد لا يكون إلاّ صورة كلّية مجرّدة؟! ، إذ الصورة الجزئية المادّية لا تقوم إلاّ بالآلات الجسمانية مع انّه صرّح في كلامه بأنّه عالم بالجزئيات المادّية من حيث انّها جزئيات ، فلو كان علمه بها صوريا لزم كونه جسمانيا ـ تعالى عنه علوّا كبيرا ـ ؛ فلا يصحّ ما ذكره إلاّ على القول بالعلم الحضوري ، فانّ عند من يقول بأنّ علمه ـ تعالى ـ بالحضور لا يكون ادراك الجزئيات المادّية بالآلات الحسّية بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ، فيصدق حينئذ إن ادراكها وانكشافها للواجب لا يكون بالآلات الجسمانية ، لأنّه ـ تعالى ـ يعلمها منكشفة بعين وجوداتها العينية ، لتعاليه ـ سبحانه ـ عن أن يدركها به.

قال بعض المشاهير : كلام هذا المحقّق صحيح في نفسه من أوّله إلى آخره ، وهو يوجب كونه ـ تعالى ـ عالما بالجزئيات بالكلّية ـ أي : جميعها ـ بحيث لا يعزب عنه ـ تعالى ـ شيء منها ، لا انه ـ تعالى ـ يعلم بعضها ويفوت عنه بعض آخر ـ كما هو شأن الممكن ـ. لكن في تأويل كلام الفلاسفة سيّما المتأخّرين إليه بحث من وجهين ؛ كما لا يخفى عند الرجوع إلى كلامهم.

قيل : الوجهان أوّلهما : انّ الظاهر المتبادر من كلام الحكماء سيّما المتأخّرين انّ الكلّي

٢٨٣

هذا هو بالمعنى المصطلح ، لأنّ قولهم « بوجه / ١٧٤ DB / كلّي » لا يساعده أن يحمل على الجميع ، لانّ مفاد هذا اللفظ ليس إلاّ انّ وجه معلومية الجزئيات وجه كلّي تجردي لا جزئى مادّي ، فالحمل على المعنى المذكور بعيد جدّا.

وثانيهما : انّ الحكماء لم يثبتوا العلم بالحضورات الزمانية والجزئيات الجسمانية لاستلزامه التغيّر في العلم ـ كما صرّحوا به ـ ، فكيف يصحّ هذا التوجيه من جانبهم؟!.

وقيل : أوّلهما : انّهم لا يجوّزون التغيّر في العلم التفصيلي ؛

وثانيهما : انّ الشيخ صرّح بأنّه لا يجوز أن يكون واجب الوجود لذاته عاقلا للمتغيرات مع تغيرها عقلا زمانيا محضا. وهذا الوجه المنقول من كلام الشيخ هو بعينه الوجه الثاني في القول الأوّل ، وحاصله : انّ تصريحاتهم شاهدة بأنّ علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات المتغيّرة ليس من حيث انّها متغيّرة ومتبدّلة ، وليس علمه ـ تعالى ـ متغيرا أصلا ، وهذا الحمل يقتضي خلاف ذلك.

ويمكن أن يقال : أحد الوجهين هو كون العلم الحصولي كليا البتة وكثير من كلماتهم مصرّحة بكون علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات بصور كلّية منحصرة كلّ منها في فرد ، فلا يمكن بناء عليه أن يقال بعلمه بالجزئي من حيث هو جزئي ، فانّه إذا سلّم انّ الحكماء ليسوا قائلين بالعلم الحضوري الانكشافي يلزم عليهم نفي علمه بالجزئيات من حيث هي جزئيات وبالوجودات العينية من حيث هي وجودات عينية ، وبذلك يتعلّق التكفير بهم ولا ينفعهم توجيه من قبلهم أصلا ؛

وثانيهما : ما ذكر أوّلا على القول الأوّل.

وإذ علمت أنّ كلام هذا المحقّق صريح في انّ العلم ثابتا له دائما ـ سواء كان قبل ايجاد الحوادث أو بعده ـ ثبت انّه لا يمكن أن يكون ذلك عنده بالصور لعدم انطباق كلامه على العلم الصوري ، فيجب أن يكون ذلك عنده بانكشاف ذوات الموجودات منه ـ تعالى ـ دفعة واحدة بلا قبلية ولا بعدية ، إذ لا تدريج ولا قبلية ولا بعدية لها بالنسبة إليه ـ تعالى ـ وإنّما هي فيما بينها ـ كما مرّ غير مرّة ـ.

ومعلوم انّ هذا ليس إلاّ أحد الوجهين اللذين اخترناهما ويمكن تطبيقه على كلّ

٢٨٤

منهما.

فان قيل : يمكن أن يحمل كلامه على العلم الاجمالي المقدّم على ايجاد العين حتّى يكون مراده من حضور الأشياء عنده دفعة واحدة بلا قبلية ولا بعدية هو الحضور في الشهود العلمي على سبيل الإجمال ، فيكون مذهبه انّ الأشياء الزمانية في الشهود العلمي الاجمالي تكون حاضرة دفعة من دون أن يتصف علمه بها بالتغيّر والآن والمضيّ والاستقبال ، وفي الشهود العلمى التفصيلي تكون حاضرة على ترتيب وجودها في الخارج ويتصف علمه بها حينئذ بالتغيّر والقبلية والبعدية ولا بأس به ، لأنّه تغيّر في الاضافة ـ كما اشار إليه في التجريد بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن » ـ (١).

وممّا يدلّ على ذلك ما ذكره في شرح الرسالة بعد كلامه المنقول : « وامّا العلم بالجزئيات على الوجه الجزئي المذكور ـ أي : على وجه الإحساس بالحواسّ الظاهرة والباطنة ـ فهو إنّما يصحّ لمن يدرك ادراكا حسيا بآلة جسمانية في وقت معيّن ومكان معيّن ، وكما أنّ الباري ـ تعالى ـ يقال انّه عالم بالمذوقات والمشمومات والملموسات ولا يقال انّه ذائق أو شامّ أو لامس لأنّه منزّه عن أن يكون له حواسّ جسمانية ولا يتسلّم ذلك في تنزيهه بل يؤكّده ، كذا نفي العلم بالجزئيات المشخّصة على الوجه المدرك بالآلات الجسمانية عنه ـ تعالى ـ لا يتسلّم ذلك في تنزيهه بل يؤكّده ، ولا يوجب ذلك تغيرا في ذاته الوحدانية ولا في صفاته الذاتية ، وإنّما يوجب التغيّر في معلوماته ومعلولاته والاضافات الّتي بينه وبينها فقط » (٢) ؛ انتهى.

فانّ قوله : « وإنّما يوجب التغيّر في معلوماته ومعلولاته والاضافات الّتي بينه وبينها » يدلّ على جواز التغيّر في / ١٧٥ MA / الاضافات الّتي هي الحضورات العينية عنده ، فيكون التغيّر عنده جائزا في العلم التفصيلى ـ أعني : في المعلومات المفصّلة وفي الانكشافات المتعلّقة بها ـ ، فيكون كلامه راجعا إلى ما اختاره العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ من عدم التغيّر في العلم الاجمالي بمعنى انّ ذاته مبدأ لجميع الموجودات الكائنة و

__________________

(١) راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢٢٢.

(٢) راجع : شرح رسالة مسئلة العلم ، المسألة العاشرة ، ص ٤٠.

٢٨٥

الفاسدة كلّية كانت أو جزئية ، فيصدر عنه جميعها منكشفة. وهذا المعنى لا تغيّر فيه أصلا ، إذ كون جميع المتغيرات المحسوسات حاضرة بذواتها عند واجب الوجود في أوقات كونها موجودة في الاعيان لا يقبل التغيّر ، إنّما التغيّر في العلم التفصيلي ـ أعني : المعلومات ـ أو بمعنى حضورها ، وهو تغيّر في النسبة والاضافة لا في الذات ، ولا محذور فيه. وقد ادعى هذا العلاّمة تطبيق الكلام المنقول من شرح الرسالة على ما اختاره.

قلت : حمل كلامه على / ١٧٤ DB / العلم الاجمالي المختار عند الخفري ـ رحمه‌الله ، أعنى : الاحتمال الثاني ـ باطل ؛

أمّا أوّلا : فلأنّ العلم الاجمالي بهذا المعنى إنّما هو كون الذات أزلا وأبدا بحيث لو أوجد شيئا كلّيا أو جزئيا متغيرا أو غير متغير لكان منكشفا عنده ، فلا يكون انكشاف الجميع ثابتا له دفعة أزلا وأبدا ، بل يحدث كلّ انكشاف له في زمان خاصّ. وفي مواضع من الكلام المنقول تصريح بكون انكشاف جميع الأشياء حاصلا له بالفعل دفعة دائما من دون تغيّر وتجدّد ـ مثل قوله : « فانّه يكون محيطا بالكلّ عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان ... إلى آخره ؛ أو قوله يكون عالما بأنّ كلّ شخص يوجد في أيّ مكان ... إلى آخره ـ ؛ ومع ذلك فكيف يحمل هذا على ذاك؟!. وحمل العلم على الكون المذكور ممّا لا يقبله فهم سقيم فضلا عن فهم قويم ، بل حينئذ يصير كلامه مختلّة كما لا يخفى عند التدبّر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدم التغيّر في العلم الاجمالي ـ أعني : الكون المذكور ـ أمر بديهي وحينئذ فيكون مئونة اثبات كون الزمانيات إليه نسبة واحدة لغوا ، إذ لا يتصوّر لها في الكون المذكور قبلية وبعدية وتجدّدا وتغيّرا ، وحينئذ فيكون ما ذكره أخيرا من جواز تغير الاضافات اشارة إلى جواز تغيرها من حيث انتسابها إلى الأشياء المعلومة لا من حيث انتسابها إليه ـ تعالى ـ ؛ فتأمّل.

وربما قد ظهر لك انّه لا يمكن حمل كلامه على العلم الاجمالي على الاحتمال الأوّل أيضا ، لأنّ في مواضع من كلامه دلالة صريحة على علمه بخصوصيات الأشياء وتعيّناتها. على انّه لم يعلم من كلام هذا المحقّق في مواضع من كتبه ذهابه إلى القول بالعلم

٢٨٦

الاجمالي على الاحتمال الأوّل ، وإنّما المعلوم في موضع من شرح الرسالة قوله بالعلم الاجمالي على الاحتمال الثاني ـ كما أشرنا إليه قبل ذلك ـ. وإذ بطل حمله على شيء من المذكورات من العلم الصوري والاجمالي على الاحتمالين فتعين حمله على أحد الوجهين اللّذين اخترناهما ؛ وهو المطلوب.

ثمّ لا يخفى بأنّ الكلام الّذي نقلناه من المحقّق يخالف الظاهر من كلماته في سائر المواضع ، فانّك قد عرفت انّ مذهبه في شرح الاشارات وفي شرح الرسالة انّ علمه بالمعلومات القريبة إنّما هو بحضورها عنده وبالمعلولات البعيدة بالصور المرتسمة في المعلولات القريبة ، ولا ريب في عدم تطبيق كلامه المنقول من شرح الرسالة على ذلك. قال بعض الأفاضل : كلام المحقّق في شرح الرسالة مخالف لما علم من مذهبه من أنّ كلّ شيء ممّا مضى أو حضر أو يستقبل أو يوصف بهذه الصفات على أيّ وجه كان يكون مثبّتا في جوهر عقلي يعبر عنه بالكتاب المبين ، فانّه ظاهر في أنّ مذهبه انّ علمه ـ تعالى ـ بجميع الموجودات إنّما هو بالصور الحاصلة في الجوهر العقلى ـ كما هو مختار تالس الملطي ـ ، فليس ينطبق على التحقيق الّذي ذكرت على مذهبه. ثمّ قال : وتأويل كلامه في شرح الرسالة بالعلم قبل الايجاد يوجب كون مئونة اثبات نسبة الزمانيات إليه نسبة واحدة لغوا ، لأنّه لا يتصوّر اختلاف نسبة العلم قبل الايجاد. على انّه يكون علمه قبل الايجاد بالصور وبعده بالحضور ـ لما علم من مذهبه ـ. فيلزم كون علمه قبل الايجاد على سبيل الكلّية ، فلا يكون عالما بالجزئي من حيث هو جزئي. فهذا خلاف ما بصدده من ردّ كلام الحكماء في نفيهم العلم بالجزئي من حيث هو جزئي. ثمّ قال : ولا ريب في أنّ المحقّق يقول بكون علمه ـ تعالى ـ بانكشاف ذوات الموجودات على النحو الواقع عنده ـ على ما ظهر من كلام شرح الرسالة ـ بحيث لا ينبغي أن يرتاب في ذلك ، كيف ومخالفته مع الحكماء في نفي علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات وتشنيعه عليهم في ذلك ـ لشدّة مبالغته في أن يستند جميع الأزمنة والأمكنة إليه تعالى نسبة واحدة ، فلا يلزم تغيّر في علمه من كونه عالما بالجزئيات ـ صريحة في أنّه إنّما خالفهم وشنع عليهم في قولهم بالعلم الصوري الحصولي ونفيهم العلم الانكشافي الحضوري ، وهذه مخالفة أخرى وراء المخالفة في

٢٨٧

الارتسام في ذاته. والتشنيع في / ١٧٥ MB / نفيهم العلم بالجزئي إنّما هو في النفي اللازم من العلم الحصولي ، إذ الحكماء مع قولهم بالعلم الحصولي لا ينفون علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات رأسا ، فلو لم يكن تشنيعهم / ١٧٥ DB / لأجل قولهم بالعلم الصوري بل لنفيهم العلم بالجزئيات رأسا لم يكن تشنيعه متوجّها عليهم ـ لعدم نفيهم ذلك رأسا ـ ، فاللازم حينئذ أن يؤوّل ما علم من مذهبه من أنّ علمه بالمادّيات بالصور المرتسمة في جوهر عقلي بأن يقال : مراده من الجوهر العقلي الّذي فسّر بالكتاب المبين عبارة عن شخص الانسان الكبير الّذي هو العالم الأكبر بجميع اجزائه ، فانّ مجموع العالم الأكبر من حيث المجموع ـ كما صرّح به المحقّقون ـ شخص وحداني صادر عنه ـ تعالى ـ بالابداع ، وهو من هذه الحيثية جوهر ـ وهو ظاهر ـ ، وعقلي إذ خلق ابداعا بلا مادّة. ولاشتماله على اعيان جميع الموجودات وصورها يكون كتابا ثبت فيه جميع ما صدر عن الباري ـ تعالى ـ بواسطة وبدونها من الأزل إلى الأبد ، وتعبير المحقّق عن « الكتاب المبين » قبيل الكلام المذكور « بدفتر الوجود » يؤيّد هذا الحمل كما لا يخفى ؛ انتهى.

وأنت خبير ببعد هذا التأويل ، مع انّه إذا كان المراد بالجوهر العقلي هو العالم الأكبر بجميع اجزائه وكان حينئذ مراد من قال بعلمه بالموجودات بالصور المرتسمة في الجوهر العقلى انّ علمه بالموجودات إنّما هو بحصولها في العالم الاكبر ـ أي : بصيرورتها موجودة في الخارج ـ لزم عدم علمه بالأشياء قبل الايجاد ؛ والظاهر انّ هذا المحقّق لا يقول به. على انّه قال بأنّ علمه بالمعلولات البعيدة إنّما هو بارتسام صورها في المعلولات القريبة لا في الجوهر العقلي ، ولا ريب في انّه لا يمكن تأويل المعلولات القريبة بالعالم الأكبر بجميع اجزائه ـ كما لا يخفى ـ.

ثمّ قال : والأولى أن يحمل مذهب المحقّق على التفصيل باعتبار المعلولات القريبة ـ أعني : المجرّدات وغير الزمانيات ـ والمعلولات البعيدة ـ أعني : المادّيات والزمانيات ـ ، كما يشعر به كلامه في شرح رسالة العلم ـ على ما نقلنا فيما سبق ـ من الفرق بين المعلولات القريبة والبعيدة ؛ وكما يدلّ عليه كلامه في شرح الاشارات ـ من الفرق بين المعلولات الذاتية وغير الذاتية ـ حيث قال : « فاذن المعلولات الذاتية للفاعل

٢٨٨

العاقل لذاته حاصلة له من غير أن يحلّ فيه » (١) ، فانّ المراد من المعلولات الذاتية هي المعلولات القريبة ـ أعني : المبادي العالية المجرّدة عن الموادّ ـ. فيصير حاصل مذهبه على هذا التفصيل كون علمه بالمعلولات القريبة ـ أعني : المجرّدات ـ بحضور ذواتها بأنفسها وبالزمانيات والمادّيات بحصول صورها في المعلولات القريبة مطلقا ـ أعني : قبل وجوداتها وبعدها ـ حيث لا يتصوّر هناك ـ أي : في الصور المرتسمة بين المعلولات القريبة ـ قبلية وبعدية. وحينئذ فيكون مراده من كلامه المذكور من شرح الرسالة كون جميع الأزمنة على السوية بالنسبة إليه ـ تعالى ـ في علمه بالمعلولات البعيدة ـ أعني : المادّيات والزمانيات ـ في الشهود العلمي الارتباطي أو في الوجود العيني. لكن لا بمعنى كون جميعها حاضرة عنده وكون نسبة حضوراتها العينية بالنسبة إليه ـ تعالى ـ على السوية من غير قبلية وبعدية حتّى يرجع إلى ما ذكرنا من كون الأشياء حاضرة له بوجوداتها العينية عنده في الأزل وإن لم يوجد بعد ؛ بل بمعنى انّه لا يمكن أن يحصل لشيء من الزمانيات والمكانيات نسبة حضور معه ـ تعالى ـ أصلا. ولا يمكن أن يحمل مذهبه على التفصيل باعتبار قبل الوجود وبعده بأن يكون مراده انّ علمه بالأشياء قبل أزمنة وجوداتها بالصور الزائدة على ذواتها وعند وجوداتها وبعده بنفس ذواتها ، لأنّه إذا قال بحضور الزمانيات والمادّيات عنده ـ تعالى ـ بحسب الوجود العيني بعد كونها موجودة لزمه أن لا يكون فرق بين قبل الوجود وعنده وبعده ـ بمقتضى الكلام المنقول عن شرح الرسالة ـ. فلا معنى لكون علمه ـ تعالى ـ بها قبل أزمنة وجوداتها بالصور الزائدة على ذواتها وعند وجوداتها بنفس ذواتها مع استواء نسبتها حينئذ إليه من دون قبلية وبعدية بمقتضى الكلام المذكور ، فانّ بعد تسليم حضورها مع استواء نسبة أزمنة وجوداتها إذا كانت موجودة يوجب الاعتراف بكونها كذلك قبل الوجود أيضا ـ بمقتضى الكلام المذكور ـ.

ثمّ يلزم على مذهبه ـ بناء على الحمل المذكور ـ عدم حضور المادّي بوجوده العيني عند الواجب كما ذهب إليه الحكماء من قولهم بعدم حضور المادّي عند المجرّد والزماني عند غير الزماني ، ولذا / ١٧٦ DA / قالوا بالعلم الصوري. وحينئذ فيكون الفرق بين

__________________

(١) راجع : شرح الطوسي على الاشارات ، ج ٣ ص ٣٠٥.

٢٨٩

مذهبه ومذهبهم في مجرّد انّهم قالوا بالعلم الصوري في المجرّدات والمادّيات معا وهو قال به في المادّيات فقط. وممّا يؤيد ما ذكرناه انّ مثل هذا الاضطراب الّذي في كلام المحقّق قد وقع في كلام الحكماء أيضا ، فانّ الكلام الّذي نقله بعض الفضلاء منهم في هذا المقام ـ كما ذكرناه ـ مضمونه بعينه ما ذكره المحقّق في شرح الرسالة ، وحاصله كون نسبة جميع الأزمنة بالنسبة إليه على السواء مع كونهم غير قائلين بموجبه ، فانّ موجبه كون جميع الأشياء حاضرة له ـ تعالى ـ دفعة ، فيكون عالما بذواتها لا بصور زائدة عليها ؛ مع انّهم مصرّحون بخلافه. فمرادهم من ذلك الكلام ما ذكرناه بعينه في توجيه / ١٧٦ MA / كلام المحقّق من كون جميع الأزمنة على السوية بالنسبة إليه في الشهود العلمى الارتباطى أو في الوجود العينى ، لكن بمعنى انّه لا يمكن أن يحصل لشيء من الزمانيات والمكانيات نسبة حضور معه أصلا لا بمعنى حصول الحضور مع استواء النسبة حينئذ للوجه الّذي ذكرناه من حضور الموجودات اللايزالية بوجوداتها العينية عند الواجب في الأزل لكونه محيطا بالزمان متعاليا عنه ؛ انتهى ما ذكره بعد تنقيحه وتوضيحه ـ.

وأنت خبير بفساد هذا الحمل ، لأنّ ما أورده من التحقيق في شرح الرسالة إنّما هو بعد ردّ كلام الحكماء في قولهم بالعلم الصوري الكلّي وعدم قولهم بعلمه بالجزئيات من حيث انّها جزئيات ؛ ومعلوم انّهم قالوا بكون جميع الازمنة على السوية بالنسبة إليه في الشهود العلمي ، فلو كان مراده أيضا كذلك فأيّ ردّ تحصل منه لكلامهم؟! ، وكيف يتصحّح بذلك علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات من حيث انّها جزئيات؟! ، فانّ العلم الحضوري لا يكون إلاّ كلّيا ولو تحقّق فيه استواء نسبة الزمانيات إليه ـ تعالى ـ. وحمله على استواء النسبة في عدم حصول حضور شيء من الزمانيات بالنسبة إليه ـ تعالى ـ يخالف الصريح من كثير عباراته المذكورة ، فانّه صرّح بكونه محيطا بالكلّ عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان ، وبكونه عالما بأنّ كلّ شخص في أيّ جزء من المكان يوجد ؛ ولا ريب في أنّ أمثال تلك العبارات لا يناسب الحمل المذكور. ومن احاط بكلمات هذا الفاضل في هذا المقام في تحقيق كلمات المحقّق الطوسي يجد فيها اختلالا كثيرا! ، كما انّ من احاط بكلام المحقّق في مسئلة العلم يجد فيه اختلافا! ، فانّك قد عرفت انّ ما نقلناه منه في

٢٩٠

شرح الرسالة ظاهر في ما اخترناه وهو خلاف سائر كلماته!. ومن كلماته الّتي لا تخلو عن المسامحة عند المحصّلين ما ذكره في شرح الاشارات بعد قول الشيخ : « فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا حتّى يدخل فيه الآن والماضي والمستقبل » بقوله : « واعلم! ، انّ هذه السياقة تشبه سياقة الفقهاء في تخصيص بعض الأحكام العامّة بأحكام يعارضها في الظاهر ، وذلك لانّ الحكم بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول إن لم يكن كلّيا لم يمكن أن يحكم باحاطة الواجب بالكلّ ، وان كان كلّيا وكان الجزئي المتغير من جملة معلولاته أوجب ذلك الحكم أن يكون عالما به لا محالة. فالقول بأنّه يجوز أن يكون عالما به ـ لامتناع كون الواجب موضوعا للتغير ـ تخصيص لذلك الحكم الكلّي بحكم آخر عارضه في بعض الصور ، وهذا دأب الفقهاء ومن يجري مجراهم. ولا يجوز أن يقع أمثال ذلك في المباحث المعقولة لامتناع تعارض الاحكام فيها ». ثمّ قال : « فالصواب أن يؤخذ بيان هذا المطلوب من مأخذ آخر ، وهو أن يقال : انّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ولا يوجب الاحساس ، وادراك الجزئيات المتغيّرة من حيث هي متغيرة لا يمكن إلاّ بالآلات الجسمانية ـ كالحواسّ وما يجري مجريها من التخيل والتوهّم ـ ، والمدرك بذلك الادراك يكون موضوعا للتغير لا محالة. أمّا ادراكها على الوجه الكلّي فلا يمكن أن يدرك إلاّ بالعقل ، والمدرك بهذا الادراك يمكن أن لا يكون موضوعا للتغيّر ؛ فاذن الواجب الأوّل وكلّ ما لا يكون موضوعا للتغير بل كلّ ما هو عاقل يمتنع أن يدركها من جهة ما هو عاقل على الوجه الأوّل ، ويجب أن يدركها على الوجه الثاني » (١) ؛ انتهى.

ووجه المسامحة هو انّ ما ذكره في الصواب هو عين ما ذكره الشيخ ، فانّ مراد الشيخ من قوله : « يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا ـ ... إلى آخره ـ » ليس إلاّ نفي الإحساس واثبات علمه بالجزئيات / ١٧٦ DB / على سبيل الكلّية ، وهو أيضا نفى عنه الإحساس واثبت له العلم الكلّي ؛ فمأخذ الدفع هو التدافع. وحينئذ يرد عليه ما يرد على الشيخ من أنّ الجزئيات المتغيّرة من حيث أنّها متغيرة معلولة له ـ تعالى ـ و

__________________

(١) راجع : شرح الطوسي على الاشارات ، ج ٣ ص ٣١٦.

٢٩١

المفروض انّ العلم بالجزئيات المتغيّرة من حيث انّها متغيرة منحصر في جهة الإحساس ، وهو ممتنع في حقّه ـ سبحانه ـ ؛ فيلزم أن لا يكون القول بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول كلّيا ، فلا يتمشّى حينئذ احاطة علم الواجب بجميع الأشياء.

ثمّ انّه قد أورد على حديث التعارض : بأنّه لا يتصوّر التعارض بين ما يوجبه المقدّمة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول وبين نفي علم الواجب بالجزئيات علما زمانيا متغيّرا ، فانّ العلم هناك مطلق وهناك مقيد ، فلا يظهر وجه للزوم التعارض. والحاصل : انّ المقدمة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول تفيد العلم بجميع الأشياء ـ سواء كانت كلّية أو جزئية ، متغيرة أو غير متغيرة ـ. ونفيهم العلم الزماني المتغيّر عن الواجب لا ينافي ذلك ، فانّ المنافي للعلم الزماني المتغير قابل لعلمه ـ تعالى ـ بالجزئيات الزمانية المتغيرة. إلاّ انّه يقول انّ علمه بها بحيث لا يوجب التغير في علمه ؛ إمّا لذهابه إلى أنّ علمه بها على سبيل الكلّية ـ كما ذهب إليه الشيخ وأمثاله ـ ؛ وإمّا لذهابه إلى أنّ جميع الجزئيات من حيث هي جزئيات حاضرة عنده ـ تعالى ـ باحد الوجهين اللّذين ذكرناهما. وعلى هذا فلنا منع ما ذكره المحقّق من ادراك / ١٧٦ MB / الجزئيات المتغيّرة من حيث هي متغيرة لا يمكن إلاّ بالآلات الجسمانية ، لأنّ ادراك الجزئيات المتغيّرة من حيث هي متغيرة إنّما يكون بالآلات الجسمانية بالقياس إلينا ، لا بالنظر إلى الواجب ـ لما ذكرناه من الوجهين ـ.

وإذ عرفت انّ الكلام المذكور المنقول من شرح الرسالة منطبق على ما اخترناه فهو صحيح في نفسه ولا يرد عليه شيء من الايرادات الّتي أوردها عليه بعض أفاضل المحقّقين ، ولا بدّ لنا من نقلها وردّها حتّى يظهر جلية الحال.

فمنها : انّ فيما ذكره اعترافا بأنّ بعض معلولاته ـ تعالى ، كالجزئيات المتشخّصة على وجه يدرك بالآلات الجسمانية وكالحضور والغيبة ـ غير معلوم له ـ تعالى عن ذلك ـ ، مع أنّ القاعدة المذكورة ـ أعني : استلزام العلم بالعلّة للعلم بالمعلول ـ تقتضي معلومية كلّ ما هو معلول له ، وهذا بالحقيقة تسليم الايراد ، أي : ما ذكره المحقّق من قوله : « وكذا نفى العلم بالجزئيات المتشخّصة على الوجه المدرك بالآلات الجسمانية عنه ـ تعالى ـ لا ينسلم

٢٩٢

في تنزيهه بالحقيقة » تسليم واعتراف لقول المعترض ـ وهو : انّه لو كان علمه تعالى بالجزئيات بوجه كلّى يلزم عدم علمه بها ـ.

وأجيب عنه : أنّه ليس في كلام المحقّق اعتراف بأنّ بعض معلولاته ـ تعالى ـ غير معلوم له ـ تعالى ـ ، بل مراده انّ الجزئيات المشخّصة معلومة له ـ تعالى ـ بالاطلاع الحضوري لا بالصور ولا بالآلات الجسمانية بأن يكون محتاجة إليها على نحو احتياجنا إليها. وأمّا الحضور والغيبة فهما معلومتان له ـ تعالى ـ بالنسبة إلى الممكنات بمعنى انّ الحضور والغيبة الّتي تتحقّقان لبعض الممكنات بالنسبة إلى بعض آخر فهما معلومتان له ـ تعالى ـ. وأمّا الحضور والغيبة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ بأن يكون بعض الأشياء تارة حاضرا عنده ـ تعالى ـ وتارة غائبا عنه ـ تعالى ـ فممّا لا يتصوّران في حقّه ـ تعالى ـ ، إذ المراد بالحضور هنا هو حضور أمر من شأنه الغيبة وكلّ شيء عنده حاضر دائما ولا يغيب عنه قطّ ، فلا يتحقّق الحضور بهذا المعنى في حقّه ـ تعالى ـ كما لا يتحقّق الغيبة بأيّ معنى كان في حقّه ـ سبحانه ـ قطّ.

قيل : ويمكن أن يكون المراد من الحضور المنفي في كلامه هو الحضور في مكان المتكلّم أو زمانه ـ كما يعلم من قوله : « لأنّه ليس بزماني ولا مكاني » ـ على أن يكون المراد منه أنّه ليس له ـ تعالى ـ زمان أو مكان يختصّ به حتّى يقال هو ـ تعالى ـ ليس في غيره من الأزمنة. ومعلوم انّ الحضور بهذا المعنى ـ أي : كون الشيء حاضرا في مكانه تعالى أو زمانه ـ لا يتصور في حقه ـ سبحانه ، لتعاليه عن المكان والزمان المختصّين به ـ.

وأنت خبير بأنّ هذا القول مبني على عدم استواء نسبة جميع الأزمنة إليه ـ تعالى ـ ، بل المنفيّ عنه إنّما هو الزمان المخصوص به ويمكن أن يكون زمانيا / ١٧٧ DA / بمعنى كونه موجودا في جميع الأزمنة.

وأنت تعلم انّ هذا مخالف لما جوزنا من كونه متعاليا عن المكان والزمان مطلقا وكونه خارجا منها ، فالمراد بقوله : « ليس بزماني » انّه لا تعلّق له بالزمان أصلا وجميع الأزمنة عنده ـ تعالى ـ متساوية في عدم تعلّقه بها ، وليس المراد به ـ كما ظنّ ـ انّه ليس له زمان يختصّ هو به ، بل هو موجود في جميعها ، لأنّه إذا كان متعاليا عنه محيطا به

٢٩٣

فلا معنى لكونه موجودا في جميعها. فنفي الحضور عن زمانه ـ سبحانه ـ لعدم حضور الزمان في حقّه أصلا لا لعدم زمان مختصّ له ، فلا يجوز أن يقال : ليس هو ـ تعالى ـ في غيره من الأزمنة لذلك لا لأنّه لا يكون في زمان أصلا.

والحاصل انّ المنفيّ في قول المحقّق إنّما هو ادراك الجزئيات المشخّصة على وجه يدرك بالآلات الجسمانية ـ أي : على وجه يكون به مشارا إليها « بهاهنا » و « هناك » ـ ، وهو كونها مشارا إليها بالاشارة الحسية. ومعلوم انّ نفي هذا الادراك ـ لكونه نقصا ، لتعاليه عن الزمان والمكان ـ لا يستلزم نفي المعلومية بالكلّية ، فانّ انكشافها بالاطلاع الحضوري عنده ـ تعالى ـ أتمّ وأقوى من الانكشاف الحاصل من الإحساس بالآلات الجسمانية. وكذا المنفى من الحضور في كلامه إنّما هو حضور أمر من شأنه الغيبة ، ومعلوم انّ نفي الحضور بهذا المعنى لا يوجب نفي الحضور مطلقا.

ثمّ كما انّ نفي الادراك على وجه الاشارة الحسية ونفي الحضور بالمعنى المذكور لا يستلزم نفي المعلومية بالاطّلاع الحضوري والانكشافي الاشراقي فكذلك لا يستلزم نفي معلومية الادراكات الحسية والحضور والغيبة الّتي تحصل لبعض الممكنات بالنسبة إلى بعض آخر ، فجميع ما يحصل بين الممكنات من الادراكات على وجه الاشارة الحسية وعلى وجه يكون المدركات به مشارا إليها « بهاهنا » و « هناك » ـ وكذا الحضورات والغيبات وغير ذلك من الأوضاع والأحوال الّتي يتحقّق بين الممكنات ـ معلومة له ـ تعالى ـ بالاطّلاع الشهودي.

ويمكن أن يقال : انّ المعترض توهّم انّ المنفي في قول المحقّق : « ولا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم أو موجود هناك أو معدوم » : إنّما هو الادراك الّذي يتحقّق به كون الشيء مشارا إليه بالاشارة الحسية ، وهو كون الشيء مشارا إليه بالنسبة إلى ما هو مثله في كونه زمانيا بمعنى انّ الادراكات والحضورات المكانية والزمانية الّتي تقع بين الممكنات لا تكون معلوما له ـ تعالى ـ ، لتوقّف ذلك أيضا على الآلات الجسمانية.

وحينئذ فالجواب عنه : انّ التوقّف على الآلات الجسمانية إنّما هو إذا حصل الادراك بالاحساس لا إذا حصل / ١٧٧ MA / الادراك الاحساسي بالاطلاع الحضوري ؛ والمنفي

٢٩٤

هو الأوّل دون الثاني ، إذ نفيه لا يستلزم نفيه وهو ظاهر.

ومنها : انّ ما ادّعاه من انّ المدرك لا بآلة جسمانية غير زماني ونسبة جميع الأزمنة إليه نسبة واحدة ظاهرة الفساد ، لأنّ نسبة الزمانيات إلى الزمان بالمعية في الوجود ـ سواء كانت منطبقة أو غير منطبقة ـ ، والمنطبقة هي الحركة الموجودة في الزمان على سبيل الانطباق لأنّ الزمان مقدار الحركة القطعية ، فالحركة والزمان بينهما انطباق. وغير الحركة القطعية من الأشياء الزمانية موجودة في الزمان ، لكن لا على سبيل الانطباق ، لأنّ الزمان أمر غير قارّ الذات ، فالّذي ينطبق عليها يجب أن يكون أيضا غير قارّ الذات وليس شيء من الأشياء الزمانية غير قارّ الذات سوى الحركة ، فلا يكون الموجود في الزمان على سبيل الانطباق سوى الحركة. ولو كان نسبة كلّ زماني إلى الزمان بالانطباق ولم يكف نسبة المعية في الوجود لم يكن الاجسام في زمان ولم يعرض لها التغير زمانيا ، لأنّ نسبتها إلى الزمان ليست إلاّ بالمعية في الوجود وليست منطبقة عليه.

وإذا كان معية الشيء مع الزمان في الوجود كافيا ـ لكونه زمانيا ـ نقول : لا شكّ انّ المجرّد المدرك لا بآلة جسمانية مع انّه بريء عن التغيّر يصدق عليه انّه مع الزمان في الوجود ، ولا خفاء في أنّ نسبة جميع الأزمنة إليه ليست نسبة واحدة ؛ فانّ اختلاف نسبة الشيء إلى الزمان يكون على جهتين :

أحدهما : اختلاف نسبته إليه باختلاف ذلك الشيء كالحادث اليومي ، فانّه كائن في اليوم لكونه معه في الوجود ، ومعدوم في الماضي لفقدانه فيه ؛

والثاني : اختلاف نسبته إليه ليست اختلاف الزمن ، كالفلك ، فانّه (١) / ١٧٧ DB / كائن في اليوم لكونه معه في الوجود وغير كائن في الغد ، لفقدان الغد. واختلاف نسبة المجرّد المذكور إلى اجزاء الزمان من هذا القبيل ـ أي : من قبيل نسبة الفلك إلى الزمان باعتبار اختلاف الزمان لا باعتبار اختلاف الفلك ، لأنّ الفلك قديم عندهم ـ ، فهو ـ أي : المجرّد المذكور ـ في الزمان الماضي كائن فيه لا في الحال والمستقبل لفقدانهما أيضا لا لفقدانه ، لكونه قديما. وحاصل هذا الايراد انّه لا يشترط في كون الشيء زمانيا إلاّ

__________________

(١) الاصل : + في.

٢٩٥

كونه موجودا معه ، وهذا لا يقتضي أن يكون هذا الشيء منطبقا على الزمان كانطباق الحركة وغيرها من الأمور التدريجية عليه بأن يكون كلّ جزء منه بإزاء جزء منه وإلاّ يلزم عدم كون الأجسام زمانية لعدم تدريجها بأن يكون لها أوّل ووسط وآخر ـ لما بيّن في موضعه من امتناع وقوع الحركة في مقولة الجوهر ـ. فإذا تقرّر ذلك فليس الزمان وغيره ممّا وقع فيه بالنسبة إليه ـ تعالى ـ على السواء ، لأنّ المعية في الوجود مع الزمان يمكن أن يتغيّر بتغير الزمان وما في حكمه لا بتغير الواجب وسائر المجرّدات. فالواجب مع براءته عن التغيّر يجوز أن ينسب إلى الزمان بالمعية. وحينئذ فلا خفاء في أنّ نسبة جميع الأزمنة إليه ليست نسبة واحدة ، لأنّه يجوز أن ينسب الواجب ـ تعالى ـ وغيره من المجرّدات في كلّ زمان معيّن ـ كهذا اليوم مثلا ـ إلى ذلك الزمان المعيّن بكونه معه في الوجود ؛ وظاهر انّ نسبة جميع الازمنة بالنسبة إلى هذا اليوم ليست على السواء ، فنسبتها إلى المجرّد الّذي معه أيضا ليست على السواء.

والجواب عن هذا الايراد انّه لا ريب في انّه يصدق في هذا اليوم على المجرّد إنّه موجود معه بمعنى أن يكون اليوم ظرفا للصدق ولا يصدق في هذا اليوم انّ المجرّد موجود معه على أن يكون اليوم ظرفا للمجرّد حتّى يكون معنى قولنا : « موجود معه » : انّه كائن فيه. ومعلوم انّ مجرّد الصدق على المجرّد في هذا اليوم بأنّه موجود معه على أن يكون هذا اليوم ظرفا للصدق لا للمجرد ولا بجعله زمانيا ، لأنّ حاصله انّه يصدق في هذا اليوم إنّه موجود ولا ريب في انّ الصدق على الشيء في زمان بانّه موجود لا يجعل هذا الشيء منسوبا إلى هذا الزمان ، بل ما يجعله منسوبا إلى الزمان يصدق عليه في زمان أنّه كائن فيه ؛ على أن يكون هذا الزمان ظرفا له. ولا ريب في انّه لا يصدق على المجرّد ذلك ، إذ لا تعلّق للمجرّد بهذا اليوم وبغيره من الأزمان أصلا ولا نسبة إليه سوى كونه معه في أصل الوجود ، وكما أنّه يصدق في هذا اليوم ان المجرّد موجود معه في أصل الوجود كذلك يصدق في هذا اليوم انّه موجود مع سائر الازمنة في أصل الوجود ، لأنّ نسبة جميع الأزمنة والأمكنة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ نسبة واحدة وهو غير مختصّ بشيء منها ، بل هو محيط على الجميع ولا يعزب عنه ما يوجد في أحد الأزمنة والأمكنة ، بل جميع الموجودات في

٢٩٦

الأزمنة والأمكنة ـ ذاتها وأزمنتها وأمكنتها وسائر متعلّقاتها ـ حاضرة عنده على نحو واحد من غير اختلاف ، فظهر انّ عدم كون نسبة الأزمنة إلى هذا اليوم على السواء لا يستلزم عدم كون نسبة بعضها إلى المجرّد الموجود معه أيضا على السواء ، وذلك لاختصاص وجود هذا اليوم بهذا اليوم وعدم اختصاص وجود المجرّد بهذا اليوم.

بيان ذلك : انّ نسبة الحادث اليومى إلى اليوم ليست مجرّد النسبة في أصل الوجود ، بل لها خصوصية زائدة عليها ـ وهي كون وجوده حادثا فيه ـ. ونسبة الفلك إلى اليوم أيضا ليست مجرّد المعية في أصل الوجود ولا المعية الّتي للحادث مع اليوم ـ أعني : حدوث وجوده فيه ـ ، لأنّ الفلك مقدّم على اليوم. بل إن كان الفلك هو الفلك الراسم كان نسبته مع اليوم كونه موضوعا للأوضاع / ١٧٧ MB / المخصوصة الّتي تجدّدها كان راسما لهذا اليوم المخصوص ؛ وإن كان غير الفلك الراسم كان نسبته مع اليوم كون تجدّد الاوضاع المخصوصة للفلك الراسم لهذا التجدد المخصوص بهذا اليوم واقعا بالنسبة إليه. ولا ريب في أنّ تينك النسبتين نسبتان زائدتان على المعية في أصل الوجود الّتي تكون للمجرّد بالنسبة إلى اليوم ، وكلّ واحدة عنها غير النسبة الّتي تكون لأحد الفلكين مع يوم آخر بالتقدّم والتأخّر اللذين هما من مشخّصات أجزاء الزمان ، فنسبة الفلك إلى كلّ يوم غير / ١٧٨ DA / نسبته إلى يوم آخر مغايرة بالشخص ، فلا يمكن اجتماعهما بالنسبة إليه ـ لكونهما غير قارّين ـ ، بخلاف نسبة المجرّد إلى اليوم ، فانّها مجرّد معية في أصل الوجود. فكون الفلك اليوم في اليوم ليس بمجرّد معية معه في أصل الوجود ، بل بخصوصية زائدة عليها الّتي لا يمكن أن تتحقّق في الغد ، فعدم كونه اليوم في الغد إنّما هو لفقدان المعية الّتي له مع الغد لا لفقدان نفس الغد بحسب النسبة في أصل الوجود ، فانّ الغد انّما هو مفقود في اليوم بالقياس إلى ذاته وذات اليوم لا بالقياس إلى معيته مع الفلك في أصل الوجود.

وأمّا نسبة المجرّد إلى اليوم لمّا لم يكن زائدة على المعية في أصل الوجود فكما انّه يكون اليوم في اليوم ـ يعنى يكون له معية معه في أصل الوجود ـ يكون اليوم في الغد أيضا ـ أي : يكون له معية معه في أصل الوجود ـ ، وثبوت هذا المعنى ـ أعني : معية المجرّد مع الغد في أصل الوجود ـ لاجل انّ النسبة في أصل الوجود من غير خصوصية زائدة لا يمكن أن

٢٩٧

يختلف في كونها نسبة كذلك.

والحاصل انّ القواعد العقلية والنقلية وكلمات أساطين الحكمة متفقة الدلالة على أنّ الواجب ـ تعالى شأنه ـ وغيره من المجرّدات الصرفة متعال عن الزمان ومحيط به ، وليس له ربط ونسبة إليه أصلا ، وقد تقرّر في الحكمة انّ نسبة المتغير إلى المتغير « الزمان » ونسبة الثابت إلى المتغير « الدهر » ونسبة الثابت إلى الثابت « السرمد » عند القائلين بأزلية المبدعات وقدمها ؛ وعند القائلين بحدوثها الدهري وعدم ازليتها فنسبة الثابت ـ أعني : الواجب ـ إليها أيضا « الدهر » ، وفي كلامهم تنصيصات بأنّ الشيء ما لم يكن فيه نحو من التغيّر لا يتصوّر له ربط بالزمان. مثلا الجسم بما هو موجود ليس له ربط بالزمان بل إنّما يتصوّر له ربط به باعتبار الحركة والسكون ـ الّذي هو عدم الحركة عمّا من شأنه الحركة ـ ، وبالجملة ما لم يقع الشيء في التغير لم يكن له ربط بالزمان. والثابتات الصرفة لمّا لم يتصوّر وقوعها في التغير فلا يتصوّر لها ربط بالزمان ، ولهذا قال الحكماء : انّ العقول فوق الزمان والمكان ؛

وكيف لا؟! والعقول فوق الفلك والزمان مؤخّر عن الحركة والحركة متأخّرة عن الفلك ، فيكون الزمان مؤخّرا عن العقول بمراتب ، فيكون العقول فوق الزمان متعالية عنه ، فيكون الواجب ـ تعالى ـ المتقدّم على العقول متعاليا عنه بطريق أولى ؛ وبهذا يظهر انّ كلام المعترض خارج عن قانون الحكمة ؛ هذا.

وقال العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ في الجواب عن الايراد المذكور : انّ المراد من قول المحقّق : « نسبة جميع الأزمنة والأمكنة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ نسبة واحدة مع أنّه ـ تعالى ـ غير مختصّ باحد من الازمنة والامكنة بل هو محيط على الجميع ولا يعزب عنه ـ تعالى ـ ما يوجد في أحد الأزمنة والأمكنة بل جميع الموجودات في الأزمنة والأمكنة حاضرة بذواتها عنده ـ تعالى ـ كلّ في وقته ومكانه والتغير انّما يكون في المعلومات والعلوم الّتي هي عينها وفي الحضورات الّتي هي النسبة بينه ـ تعالى ـ وبينها وليعلم انّ التغير في الحضورات إنّما هو باعتبار اختصاص كلّ حضور بزمان معيّن ومكان معيّن وان لم يكن فيها تغيّر باعتبار انها واقعة في الازمنة والامكنة كلّ في زمانه ومكانه

٢٩٨

فاعلم ذلك » ؛ انتهى ؛ اعلم : انّك قد عرفت انّ الحقّ انّه لا تغير في علمه أصلا ولا تغير في الاضافات والحضورات بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أصلا ، وجميع الأشياء أيضا حاضرة منكشفة لديه أزلا وأبدا ـ سواء وجدت أو لا ـ. وليس حضور كلّ منها عنده ـ تعالى ـ منحصرا بالحضور في وقته ؛ وحينئذ نقول : ما ذكره هذا العلاّمة من تسليم التغيّر في الحضورات والاضافات إن اراد انّه يحصل التغيّر فيها بالنسبة إليه ـ تعالى ـ فهو باطل ؛ وإن اراد انّ التغيّر فيها ليس بالذات بل بالعرض والتبعية بمعنى انّه نعلم انّ هذه الجزئيات المتجدّدة مختلفة النسب والاضافات فاختلاف نسبة الباري ـ تعالى ـ إليها ليس إلاّ بطريق وصف الشيء بحال متعلّقه فهو مسلّم مطابق لما ذكرناه.

وقوله : « حاضرة بذواتها عنده ـ تعالى ـ كلّ في وقته ومكانه » الظاهر انّه اراد بحضور كلّ في وقته أن « يكون في وقته » ظرفا للحضور ، أي : كلّ منها حاضرة في وقته ـ كما يدلّ عليه قوله بعد ذلك : « وليعلم انّ التغير في الحضورات إنّما هو باعتبار اختصاص كلّ حضور بزمان معين ومكان معيّن » وهذا ليس مذهب التحقيق ولا مراد المحقّق ، لأنّه إذا كان حضور كلّ في وقته لا دائما لم يكن لاستواء نسبة الأزمنة إليه ـ تعالى ـ معنى ، بل / ١٧٨ MA / الحقّ انّ كلاّ منها / ١٧٨ DB / في وقته حاضر عنده ـ تعالى ـ أزلا وأبدا لاستواء نسبة جميع الأزمنة إليه ـ تعالى ـ ، فالصواب أن يجعل « في وقته » ظرفا « لكلّ » وفائدته أنّ كل شيء مع كونه في وقته حاضر عنده ـ تعالى ـ دائما.

قال بعض الأفاضل في توجيه كلام الخفري ـ رحمه‌الله ـ : انّ غرضه انّ للأزمنة والأمكنة وما فيها من الحوادث ثلاث حالات :

إحداها : النسبة الّتي تغير بالقياس إليه ـ تعالى ـ ، وهي ـ أي : الأزمنة بما فيها بهذه النسبة المسمّاة « بالدهر » ـ مساوية ـ أي : لا يكون فيها تغير وتجدّد أصلا ، سواء كانت حضورات المتجدّدات والمتغيّرات باعتبار اختصاص كلّ حضور بزمان معيّن ومكان معيّن أو لا ـ ، ففي تلك النسبة لكونها دهرية متعالية عن حيطة الزمان لا تغير بوجه من الوجوه

٢٩٩

وثانيتها : النسبة الحاصلة باعتبار اختصاص كلّ واحد من المتجدّدات والمتغيّرات بزمان معيّن ومكان معيّن بالقياس إلى حضور تلك المعلومات والعلوم الّتي هى عينها بعضها الى بعض.

وثالثها : النسبة الحاصلة باعتبار وقوع تلك المتجدّدات والمتغيّرات باعتبار وقوعها في الأزمنة والأمكنة من حيث انّها واقعة في الأزمنة والأمكنة من غير وقوع كلّ في وقته الخاصّ أو مكانه الخاصّ ، وهذه النسبة أيضا ثابتة غير متغيرة ، وإلى الاولى أشار بقوله : « بل جميع الموجودات في الأمكنة والأزمنة حاضرة بذواتها عنده تعالى كلّ في وقته ومكانه ـ ؛ وإلى الثانية بقوله : « والتغير إنّما يكون في المعلومات والعلوم ... إلى آخره » ؛ وإلى الثالثة بقوله : « وإن لم يكن فيها تغير باعتبار انّها واقعة في الأزمنة والأمكنة ». وما يتراءى من التنافي بين كلام السابق ـ وهو قوله : « نسبة جميع الأزمنة والأمكنة إليه نسبة واحدة ... الى آخره » ـ وبين كلامه اللاحق ـ وهو قوله : « والتغير انّما يكون في المعلومات والعلوم الّتي عينها وفي الحضورات الّتي هى النسبة بينه تعالى وبينها » فانّ كلامه الأوّل صريح فى عدم اختلاف نسبة الأشياء بالنسبة إليه والثانى صريح في اختلاف نسبتهما إليه تعالى ـ ؛ مدفوع بأنّ اختلاف النسبة بالقياس إليه ـ تعالى ـ ليس بالذات ، بل بالعرض ، أي : يعلم هو بأنّ هذه المتجدّدات مختلفة النسبة ، فاختلاف نسبة الباري ـ تعالى ـ ليس إلاّ بطريق وصف الشيء بحال متعلّقه ، فكلامه اللاحق لا ينافي كلامه السابق ، لأنّ المراد منه عدم اختلافها بالذات ـ أي : بالقياس إلى ذاته بذاته ـ ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّه على ما ذكرناه يرد على كلام العلاّمة الخفري ـ رحمه‌الله ـ أمران :

أحدهما : انّه يظهر من كلامه انّ حضور كلّ شيء عند الواجب انّما هو في وقته ـ كما دلّ عليه قوله : « حاضرة بذواتها عنده تعالى كلّ في وقته » ـ ؛

والثانى : قوله بوقوع التغير في الحضورات والنسب بينه ـ تعالى ـ وبين الأشياء.

وهذا الفاضل لم يتعرّض لتوجيه الأمر الأوّل وتصحيحه بما ذكرناه من جعل « في وقته » ظرفا « لكلّ » وإن كان لكنا ، إلاّ أنّ الظاهر من كلماته السابقة انّ حضور كلّ

٣٠٠