جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

مسئلة أن العلم هل يصلح ان يكون مؤثّرا كالقدرة أم لا : « الايجاد هو اصدار وجود الشيء عن علّته ، والعلم ـ كما سبق بيانه ـ هو حضور الشيء عنده ، وإذا كان الشيء قد صدر وجوده عن الشيء فقد حضر عنده ، فيكون باعتبار صدوره مقدورا له وباعتبار الحضور عنده معلوما له ، والجهة الّتي باعتبارها صدر يسمّى بالقدرة والّتي باعتبارها حضر يسمّى بالعلم. والاعتباران عقليان مضافان إلى شيء واحد من جهتين ». ثمّ قال : « وفرق بين القدرة وبين الايجاد والتأثير ، فانّ القدرة لا يقال إلاّ عند كون المؤثّر بحيث يصحّ منه التأثير ، والايجاد والتأثير يعمّ ذلك ويشمل كون الموجد والمؤثّر بحيث يجب عنه الايجاد والتأثير. فاذا لوحظ الايجاد من غير اعتبار العلم والإرادة فالأولى أن يوصف بالقدرة ، فانّ الايجاد عندنا يصحّ وعند اعتبار العلم والإرادة يجب » (١) ؛ انتهى.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ يدلّ على أنّ العلم لا يجب أن يكون سابقا على الايجاد ؛ وقد عرفت فساد ذلك.

وبما ذكرناه يظهر ضعف ما ذكره العلاّمة الخفري في توجيه كلام المحقّق حيث قال ما توضيحه : انّه من السؤالات المشهورة انّ التحقيق الّذي هو مختار المحقّق الطوسي يقتضي أن يكون الصادر الأوّل غير مسبوق بالعلم ، فيلزم أن لا يكون صدوره عنه بالاختيار ـ لأنّ الصدور الاختياري متوقّف على تقدّم القصد المستلزم للعلم ـ ؛

فيحتاج في دفع هذا الفساد أن يقال : هو ـ أي : الصادر الأوّل ـ من حيث هو علم متقدّم عليه وسبب له من حيث هو معلول في الخارج وفيه تكلّف ، بل هو محال! ، لاستلزامه كون الشيء علّة لنفسه. والتغاير الاعتباري لا يكفى في ذلك. مع أنّ هذا القول لدفع هذا الفساد أولى ممّا يقال في دفعه من : أنّ وجود الصادر الأوّل في الخارج وإن كان عين العلم بالذات لكنّه يغايره بالاعتبار ، فهو من حيث انّه علم متقدّم عليه وسبب له من حيث كونه وجودا في الخارج. ووجه الأولوية انّ حيثية المعلولية مغايرة لحيثية المعلومية مغايرة ظاهرة ، فالقول بتقدّم إحدى الحيثيتين على الأخرى ـ كما هو

__________________

(١) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص ٤١.

٢٤١

مبنى القول الأوّل ـ يكون له وجه. وأمّا حيثية الوجود في الخارج فعلى تحقيق المحقّق عين حيثية المعلومية ، وليس بينهما مغايرة أصلا. فالقول بتقدّم / ١٦٥ MA / إحداهما على الأخرى ـ كما هو مبنى القول الثاني ـ لا يكون له وجه ». ثمّ قال : « واندفاعه بأن يقال : الصادر الأوّل إنّما كان مسبوقا بالعلم الاجمالي المذكور الّذي هو علم بجميع المعلولات » ؛ انتهى.

وعلى هذا التوجيه فيكون المراد من العلم الّذي صرّح المحقّق في شرح الاشارات بانّه عين الصادر الأوّل والتغاير بينهما اعتباري كالتغاير بين ذات العلّة والعلم بنفسها هو العلم التفصيلى الّذي هو مع الايجاد دون العلم المتقدّم على الايجاد ، إذ العلم المتقدّم هو الاجمالي. وأنت قد عرفت فساد القول بالعلم الاجمالى ، سيّما الاجمالي على الاحتمال الثاني الّذي قال به الخفري ونسبه الى المحقّق أيضا.

ثمّ قال : « والتحقيق أن يقال : إنّ العلم الّذي هو عين ذاته علم تفصيلي بالنسبة إلى الصادر الأوّل واجمالي بالنسبة إلى الجميع ؛ أمّا الأوّل فلأنّ نسبة العالم بذاته المقتضى لخصوصية الشيء إلى الشيء الّذي يتميّز به كنسبة الصور الإدراكية المخصوصة للشيء الّذي يتميّز بها إليه ؛ وأمّا الثاني فلما مرّ. قال الشيخ في الشفا : واعلم! ، انّ المعنى المعقول قد يؤخذ من الشيء الموجود وقد تكون الصورة المعقولة غير مأخوذة عن الموجود ، بل بالعكس ؛ كما انّا نعقل صورة / ١٦٤ DB / بنائية بجزء منها ثمّ تكون تلك الصورة المعقولة محرّكة لأعضائنا إلى أن يوجد ، فلا يكون وجدت فعقلناها ولكن عقلناها فوجدت ، ونسبة الكلّ إلى العقل الأوّل الواجب الوجود ـ كنسبة البنّاء إلى الصور البنائية ـ سواء ؛ هذا. فاعلم ذلك فانّ الغائب في ظنّ الشاهد الحاضر » ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره هنا من أنّ نسبة العالم بذاته المقتضي لخصوصية الشيء إلى الشيء الّذي يتميّز به كنسبة الصور الإدراكية إلى ذوات الصور العينية الّتي يتميّز بها رجوع إلى الحقّ الصراح الّذي نحن قرّرناه واخترناه ؛ الاّ أنّ ذلك ـ كما علمت ـ لا تخصيص له بالصادر الأوّل ، فانّ الواجب ـ تعالى ـ عالم بذاته ومفيض لخصوصيات جميع الأشياء ، فنسبته إلى الأشياء بأسرها كنسبة الصور الادراكية للأشياء

٢٤٢

الّتي يتميّز بها إلى تلك الأشياء ، بل نسبة الواجب إلى الأشياء أشدّ في باب التميّز والانكشاف من نسبة الصور إلى ذوات الصور لما عرفت من أنّ حضور العلّة أقوى في انكشاف المعلول من حضور نفس المعلول فيه ، فضلا عن صورته. فعلم الواجب بذاته مستلزم للعلم بجميع معلولاته مفصّلة ، ولا تفاوت بالنسبة إلى معلوم دون معلوم. نعم! ، التفاوت انّما هو في المعلومات بأن يكون بعض منها سببا لبعض آخر ، وليس بالتفاوت فيما بينها بحسب الانكشاف. فما ذكره من أنّ علمه بذاته الّذي هو عين ذاته علم تفصيلي بالنسبة إلى الصادر الأوّل صحيح ، وأمّا ما ذكره من أنّه علم اجمالي بالنسبة إلى الجميع غير صحيح ـ لما عرفت من فساده ـ. وأيّ فرق في ذلك بين الصادر الأوّل وبين غيره مع اشتراك المصحّح؟!.

فان قيل : المصحّح هو الاقتضاء التامّ والعلّية المستقلّة وما هو إلاّ الاقتضاء بلا واسطة ، فلمّا كان الواجب علّة للصادر الأوّل بلا واسطة فكان العلم بذاته علما تفصيليا بالنسبة إليه بخلاف سائر المعلولات ، فانها لتوقّفها على غيره ـ سبحانه ـ لا يكون الواجب مقتضيا لها بلا واسطة ، فلا يتحقّق الاقتضاء التامّ الّذي هو مناط الانكشاف بالنسبة إليها ؛

قلنا : لا ريب في أنّ الواجب ـ تعالى ـ علّة مستقلّة ومفيض تامّ لجميع الأشياء ، وتخلّل الوسائط في بعضها لنقصان ذاته وجوهره لا ينافي تمامية الاقتضاء. مع أنّ مجرّد الاقتضاء مصحّح للانكشاف كما انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ولو توقّف المعلول على غير علّته من الشروط والآلات.

ثمّ من الأفاضل من قال في هذا المقام : « انّ كون ذاته ـ تعالى ـ علما تفصيليا بالصادر الأوّل ليس بمعقول أصلا ، لانّ المراد بالعلم التفصيلي هو العلم الحقيقي المفسّر بالحاضر بالذات ، أمّا ذات الشيء الخارجى إن كان العلم حضوريا أو صورة مطابقة له إن كان حصوليا وذاته ـ تعالى ـ لا يمكن أن يكون عين ذات الصادر الأوّل وصورة مطابقة له فكيف يكون علما تفصيليا به؟. نعم! ؛ ذاته ـ تعالى ـ علم بالصادر الأوّل وبجميع الموجودات بالمعنى الثالث من المعاني المذكورة ـ وهو ما يقتدر به على استحضار

٢٤٣

المنكشفات بالذات ـ ، لكنّه هو معنى العلم الاجمالي ولا اختصاص له بالصادر الأوّل. وقياس ذاته ـ تعالى ـ المقتضية لخصوصية الصادر الأوّل إلى الصورة العلمية المتميّزة للشيء المعلوم بها باطل ، لانّ ذاته ـ تعالى ـ مقتضية للتميّز بمعنى أنه موجد للتميّز ومفيد له ، لا بمعنى انّه ما به التميّز. وفرق بين مفيد الخصوصية وما به الخصوصية. والصورة العلمية متميّزة للشيء بمعنى ما به التميز لا بمعنى مفيد التميّز ، فانّ مفيد التميّز والتشخّص ليس إلاّ موجده وخالقه. ولو كان لما ذكره في المعلول الأوّل وجه صحيح لأمكن اجراء مثله في جميع الموجودات / ١٦٥ MB / بأن يقال : ذاته ـ تعالى ـ مع العقل الأوّل علم تفصيلي بالعقل الثاني ـ لما ذكره بعينه ـ ، وهو ـ سبحانه ـ معهما علم تفصيلي بالعقل الثالث ، وهكذا إلى جميع الموجودات. وتوهّم جماعة من الطلبة ممّا ذكره الخفري في المعلول الأوّل بعينه انّ ذاته ـ تعالى ـ علم تفصيلي بجميع الموجودات لكونه ـ تعالى ـ بذاته مقتضيا لكلّ موجود من الموجودات الكلّية والجزئية ، ولخصوصيته وتميّزه ، وكان نسبة ذاته ـ تعالى ـ إلى كلّ موجود نسبة الصورة العقلية للشيء إليه ؛ وزعموا انّ هذا معنى كون العلم ـ الّذي هو من جملة صفاته تعالى ـ عين ذاته. وأنت بما ذكرنا في المعلول الأوّل خبير بأنّ أيّ شناعة في هذا » ؛ انتهى.

وأنت خبير بضعف ما ذكره هذا الفاضل ؛

امّا أوّلا : فلأنّ من يقول إنّ / ١٦٥ DA / ذات الواجب ـ تعالى ـ علم تفصيلي حقيقي بالأشياء يفسّر العلم الحقيقي بالحاضر بالذات ، ولكن الحاضر بالذات عنده أعمّ من ذات الشيء الخارجي ومن علّته المقتضية ـ لأنّ حقيقة العلم الحقيقي هو ما ينكشف به الشيء ـ ، وإذا كان ذاته ـ سبحانه ـ لكونه مقتضيا للأشياء ممّا يكشف به الأشياء فيكون علما حقيقيا بالنسبة إلى الأشياء ، وإذا كان ذاته بذاته علما حقيقيا بالأشياء يكون مستلزما للعلم بمعنى الاضافة الاشراقية بالنسبة إليها أيضا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره من انّ الواجب مفيد التميّز والصورة ما به التميّز ففيه : إنّ هذا ممنوع ، إلاّ انّ العلم بمفيد التميّز يستلزم العلم بالتميز لأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ؛ وهو ظاهر. وبذلك يظهر انّ ما ذكره الخفري ـ رحمه‌الله ـ في المعلول الأوّل

٢٤٤

يجري في جميع الموجودات ولا تخصيص له في المعلول الأوّل ـ كما ذكره هذا الفاضل ـ أيضا. واجرائه في الجميع لا مفسدة فيه ، بل هو الصحيح المطابق للقواعد العقلية والملية ؛ فما توهّمه بعض الطلبة حقّ ولا شناعة فيه!.

ثمّ نقل العلاّمة الخفري كلام الشيخ متّصلا بما ذكره في توجيه كلام المحقّق إنّما هو لاستشهاد انّه لا بدّ من العلم المتقدّم البتّة ، وإنّ القوم قالوا به ؛ فلا بدّ حينئذ من القول به على وجه يكون صحيحا. ولا يصحّ بوجه إلاّ بأن يكون تفصيليا بالنسبة إلى الصادر الأوّل وإجماليا بالنسبة إلى غيره. ويمكن أن يكون النقل لمجرّد استشهاد انّ العلم الاجمالي ممّا قال به الشيخ أيضا ، لأنّه صريح بأنّ نسبة الكلّ إلى العقل الأوّل الواجب الوجود كنسبة البناء إلى الصور البنائية ، ولا ريب في أنّ الصورة البنائية صورة واحدة بسيطة. فيكون علما إجماليا بالبناء الخارجي. فكما انّ البناء في وجوده الخارجي صادر عن تلك الصورة الواحدة المرتسمة في البناء كذلك يصدر من الواجب كلّ شيء فالواجب ـ تعالى ـ مبدأ تفصيلات الممكنات ، فهو بذاته مع وحدته مبدأ لتلك التفصيلات ، فعلمه بذاته علم اجمالي بالنسبة إليها بأسرها كالعلم البسيط بالنسبة إلى العلوم المفصّلة مع كونه في غاية التجرّد ونهاية البراءة من القوّة.

وقيل إنّ غرض العلاّمة من نقل كلام الشيخ الاستشهاد على كلا الأمرين ـ أعني : كون علمه تعالى بالصادر الأوّل تفصيليا وبما عداه إجماليا ـ ؛

أمّا الأوّل : فلأنّ المعنى المعقول إذا لم يؤخذ من الموجود الخارجي وكان من مخترعات النفس العاقلة إيّاه لم يكن اختصاصه وتميّزه بمطابقته للموجود الخارجي ، بل بمحض اقتضاء النفس العاقلة ايّاه ، وكان بما اقتضته النفس بخصوصه علما تفصيليا به سابقا عليه ؛ فكذا الحال في المعلول الأوّل بالنسبة إلى الواجب ؛

وامّا الثاني : فلأنّ نسبة الكلّ إليه إذا كانت كنسبة البناء إلى الصورة البنائية فكما أنّ الصورة البنائية علم تفصيلي بالبناء وعلم اجمالي بجميع جزئيات ما في البناء كذلك ذاته ـ تعالى ـ علم تفصيلي بالمعلول الأوّل وعلم اجمالي بجميع ما ارتسم صورته فيه من حقائق الموجودات ؛ انتهى.

٢٤٥

والحقّ ـ كما افاده بعض المحقّقين ـ : إنّ مراد الشيخ ليس شيئا ممّا ذكر ، بل مراده إنّ عقله ـ تعالى ـ للأشياء بالعلم الحضوري التفصيلي بسبب وجود الأشياء ، يعنى إنّ علمه فعلي بمعنى انّه يعقل أوّلا نظام الخير في الأشياء فيوجدها على طبقه في الخارج. ويدلّ على ذلك ما قاله متّصلا بالقول المذكور تعليلا له : « فانّه يعقل ذاته وما توجبه ذاته ـ تعالى ـ ويعلم من ذاته كيفية كون الخير في الكلّ ، فتتبع صورته المعقولة صورة الموجودات على النظام المعقول » (١).

ولو أراد أحد الاستشهاد من كلام الشيخ للعلم الاجمالي فينبغى أن يستشهد بما ذكره قبل قوله المذكور بقوله : « فهو كذلك يعقل الأشياء دفعة واحدة من غير أن يتكثّر بها في جوهره أو تتصوّر في حقيقة ذاته بصورها ، بل تفيض عنه صورها معقولة. وهو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة عن عقليته ، لأنّه يعقل ذاته وانّه مبدأ كلّ شيء ، فيعقل من ذاته كلّ شيء » (٢) ؛ / ١٦٦ MA / انتهى. فلأنّ قوله : « فهو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة » صريح في كون ذاته علما إجماليا بالكلّ.

ثمّ قوله : « فإنّ الغائب المطلوب في طي الشاهد الحاضر » معناه : انّه يعلم من الصور البنائية بالنسبة إلى البناء ما هو المطلوب من علم واجب الوجود بالنسبة إلى الكلّ الّذي هو الغائب.

ثمّ المطلوب إمّا مجرّد التقدّم ، أو الإجمال بالنسبة إلى الكلّ ، أو التفصيل بالنسبة إلى البعض والإجمال بالنسبة إلى بعض آخر ، أو الفعلية ـ كما احتمله بعض الأفاضل حيث قال : معناه إنّ هذا ليس من باب قياس الغائب على الشاهد ، / ١٦٥ DB / بل الغائب في طي الشاهد ومن جملته ، لأنّه كما انّ الصورة البنائية الّتي في ذهن البنّاء سبب لوجود البناء وعلم فعلي له كذلك علم الغائب وهو الواجب جل شانه بمعلولاته علم فعليّ وسبب بالقياس إلى المعلولات ، وليس انفعاليا. غاية ما في الباب يكون علم الحاضر وهو البنا علما حصوليا وعلم الغائب وهو الواجب جلّ شانه ليس حصوليا ، لكن علم الغائب والحاضر لا تفاوت بينهما في كونهما فعليين ـ.

__________________

(١) راجع : الشفا / الإلهيات ، ص ٣٦٣.

(٢) راجع : نفس التعليقة السالفة.

٢٤٦

ثمّ قال العلاّمة الخفري متّصلا بما نقلنا عنه : وبذلك التحقيق ـ أعني : كون العلم الّذي عين ذاته تعالى تفصيليا بالنسبة إلى الصادر الأوّل ـ يندفع سؤالات مشهورة :

أحدها : إنّ العلم الاجمالي الّذي نسبته إلى جميع المعلولات على السواء لا يصحّ أن يكون منشأ لصدور خصوص الصادر الأوّل.

ووجه الاندفاع : إنّ العلم الّذي يقتضي الصدور إنّما هو العلم التفصيلي وهو إنّما يتحقّق بالنسبة إلى الصادر الأوّل فقط.

وأنت خبير بما في هذا الجواب!.

والصحيح في دفع هذا السؤال أن يقال : انّ العلم الاجمالي عند القائلين بتقدّمه ليس منشأ للصدور وعلّته ، وكذا العلم التفصيلي عند من قال بتقدّمه ؛ بل المنشأ لصحّة الصدور ليس إلاّ القدرة. وما يقال : « إنّ العلم الفعلي سبب للايجاد » مبني على لابدّيته في القدرة الّتي هي علّة الايجاد.

ثمّ اقتضاء القدرة لخصوصية المعلول الأوّل إنّما هو بمناسبة ذاته ـ تعالى ـ له بخصوصه ، ثمّ مناسبة ذاته مع المعلول الأوّل للمعلول الثاني وهكذا على الترتيب.

على انّا لو سلّمنا إنّ العلم المقدّم سواء كان حصوليا أو حضوريا أو إجماليا أو تفصيليا علّة للصدور فوجه خصوصية الاقتضاء هو ما ذكر ، ولا مدخلية بما ذكره العلاّمة الخفري ؛ فانّه لا ريب في انّ اعتبار العلم الاجمالي ليس لتصحيح الصدور ، بل لبيان إنّ كماله إنّما هو بذاته لا بأمر زائد.

ثمّ قال : وثانيهما انّه كيف يصحّ أن يكون أمر واحد علما بالأمور الغير المتناهية!؟.

واندفاعه بأن يقال : إنّ ذلك حاضر في العلم الاجمالي ، وقد عرفت إنّ ذلك جائز في العلم التفصيلى أيضا بمعنى إنّ ذاته ـ تعالى ـ ما ينكشف به الأشياء انكشافا تفصيليا ، فهو عين العلم الحقيقي وملزوم للعلم الاضافي بالأشياء على التفصيل على وجه لا يلزم تكثّر في بساطته الحقّة ووحدته الصرفة ـ على ما علمت مفصّلا ـ.

ثمّ قال : وثالثها إنّ القوم قد صرّحوا بأنّ العلم الفعلي هو ايجاد المنكشف بذاته ، وكلام المحقّق الطوسي يدلّ على أنّ الموجود المنكشف بذاته هو العلم ـ لما صرّح بأنّ العلم

٢٤٧

لا يجب أن يكون سابقا على الايجاد ـ ، فيكون الموجودات الخارجية عين العلم ويكون انكشافها معها. ويتحد العلم والمعلوم حينئذ ، فلا تكون الموجودات منكشفة قبل الوجود ، فلا يكون ايجادها ايجاد المنكشف بذاته ، فلا يكون العلم ايجاد المنكشف بذاته عنده ، بل الموجود المنكشف بذاته.

ووجه اندفاعه ظاهر ؛ وهو : انّ مراد المحقّق انّ العلم التفصيلي هو الوجود المنكشف والعلم الفعلي ـ الّذي صرّح القوم بتقدّمه وعبّروا عنه بايجاد المنكشف بذاته ـ هو العلم الاجمالي ؛ فلا منافاة.

وقيل : وجه الاندفاع انّ ما صرّح به القوم في معنى العلم هو معنى العلم المصدري ، ومراد المحقّق هو العلم الحقيقي ؛ فلا منافاة.

وقيل : وجه الاندفاع انّ مراد القوم من ايجاد الموجودات في تعريف العلم هو الموجودات الموجدة ، كما وقع في عباراتهم من أنّ المراد من حصول القدرة في تعريف العلم هو الصورة الحاصلة.

وعلى ما اخترناه وقرّرناه لا يخفى جلية الحال في هذا السؤال وهذه الاجوبة.

الفرقة الثالثة ـ وهم الّذين قالوا انّه تعالى لا يعلم الجزئيات المتشكّلة والمتغيّرة ـ. فاحتجوا على الأوّل ـ أعني : عدم علمه بالجزئيات المتشكّلة ـ : بأنّ ادراكها انّما يكون بآلات جسمانية والباري ـ تعالى ـ منزّه عنها ؛ وعلى الثّاني ـ أعني : عدم علمه بالجزئيات المتغيّرة ـ : بأنّه إذا علم مثلا انّ زيدا في الدار في الآن ثمّ خرج عنها فامّا أن يبقى ذلك العلم / ١٦٦ MB / بحاله أو يزول ذلك العلم ويعلم انّه ليس في الدار ؛ والأوّل يوجب الجهل ، والثاني يوجب التغير في ذاته من صفة إلى أخرى ، وكلاهما نقص يجب تنزيهه ـ تعالى ـ عنه.

قيل : هذا الدليل يتناول الجزئيات المتغيّرة سواء كانت مادّية ـ أي : حالّة في المادّة ـ أو غير مادّية ـ أي : غير حالّة فيها وإن كان لها نوع تعلّق بها ، كالنفس الناطقة وعلومها ـ ، وسواء / ١٦٦ DA / كانت موجودات عينية أو صورا ادراكية محسوسة أو معقولة ، لا جراء الدليل المذكور في كلّ منها. بل هذا الدليل يجري في المتغيّرات سواء

٢٤٨

كانت جزئية أو صورا ادراكية كلّية ، فلا يخصّ بالجزئيات.

وأورد عليه : بأنّ مناط اجراء الدليل هو كون الشيء موضوعا للتغير والجزئيات الغير المادية ـ كالنفوس الناطقة والصور المعقولة من حيث هي معقولة ـ وكذا الكلّيات ليست موضوعة للتغير ، لما اشتهر بينهم من أنّ غير المادّيات لا يكون إلاّ ثابتا محضا والمتغيّرات لا تكون إلاّ المادّيات.

واجيب عنه : بأنّه لا ريب في أنّ الصور الحالّة الكلّية في النفس لا تكون مادّية ، لأنّ الصور المادية لا تحلّ في المجرد ـ كما هو المقرّر المشهور عندهم ـ ، بل هي إنّما تحلّ في قوى النفس الّتي هي أيضا مادّية. ولكن الصور الكلّية الحالّة في النفس لها اعتباران : أحدهما : من حيث انّها حالّة في النفس ، وبهذا الاعتبار تكون جزئية ؛

وثانيهما : أن توجد من حيث هي هي من غير اعتبار حلولها في النفس. وهي بهذا الاعتبار تكون كلّية وكلّيتها ليست إلاّ بهذا الاعتبار.

وإذا عرفت ذلك فنقول : انّ الصور الكلّية الحالّة في النفس إذا اخذت بالاعتبار الأوّل تكون جزئية غير مادّية ، وهو ظاهر ؛ وتكون متغيرة أيضا ، لأنّ حصولها متجدّد للنفس ، لانّ النفس قد تذهل عنها أو تزول تلك الصورة عنها كما في صورة نسيانها متجدّدا غير مادّي يكون متغيّرا ، والدليل المذكور كما يجري في المادّيات الجزئية المتغيّرة يجري في الجزئيات الغير المادّية المتغيّرة أيضا ؛ بيان ذلك : إنّ قبل حصول الصورة المعقولة للنفس كان الواجب ـ تعالى ـ عالما بأنّه ليس تلك الصورة الحاصلة لها ، فبعد حصولها لا يخلو : إمّا أن يزول ذلك العلم ، أم لا ؛ والأوّل يوجب التغير ، والثاني يوجب الجهل ؛ وكلاهما محال.

وبما ذكر يظهر انّ ذات النفس أيضا متغيرة ، إذ حصولها للبدن وتعلّقها به متجدّد فيجري فيها الدليل المذكور بعين ما ذكر ، فثبت انّ الجزئيات الغير المادّية ـ كالنفوس والصور المعقولة والصور الكلّية أيضا ـ متغيرة. فمرادهم من غير المادّيات فيما اشتهر بينهم من « انّ غير المادّيات لا يكون إلاّ ثابتا محضا » هو المجرد ذاتا وفعلا ـ أعني : العقول وصفاتها ـ. وأمّا النفوس فلمّا كانت لها تعلّق بالمادّة فيكون لها ولصفاتها شوب مادية ،

٢٤٩

فتكون متغيرة. بل الحقّ انّ الدليل المذكور يجري في صفات القول أيضا ـ بناء على حدوث العالم ـ ؛ بل يجري في كلّ حادث سواء كان مادّيا أو مجردا ذاتا أو صفة ، لانّ موضوع التغير هو كون الشيء حادثا وإن لم يكن ماديا أصلا ، وتقرير الاجزاء كما أوضحناه ؛ انتهى.

والتحقيق انّ موضوع التغيّر هو كلّ ما يكون زمانيا يقع تحت الزمان ، وأمّا المتعالي عن الزمان ـ كالمجرّد الصرف ـ فلا يكون متغيرا ، ومجرّد الحدوث بعد العدم وإن استلزم نوع تغيّر إلاّ انّه ليس تغيرا مطلوبا هنا ؛ كما لا يخفى.

وإذ ثبت ذلك فنرجع إلى ما يتعلّق بالدليل المذكور ، فنقول : قال العلاّمة الخفري معترضا على الدليل المذكور : انّ زوال ذلك العلم ـ أي : العلم بأنّ زيدا كان في الدار الآن ـ إمّا بأن يعلم مثلا انّ زيدا ليس في الدار في الآن المقدّم ـ اي : الآن الّذي كان فيه زيد في الدار ـ ، أو بأن يعلم انّه ليس في الدار في شيء من الأزمنة لا بأن يعلم انّه ليس في الدار على الاطلاق ، لكن المطلقة لا تنافي الوقتية ؛ ولا بأن يعلم انّه ليس في الدار في الآن الّذي ليس فيه في الدار ، فانه لا ينافي كونه في الدار في الآن السابق الّذي كان فيه في الدار. وعلى هذا يلتزم أن لا يكون بقاء ذلك العلم الأوّل موجبا للجهل ، فانّ العلم في آن خروج زيد في الدار بكونه في الدار في الآن السابق الّذي كان فيه مطابق للواقع ولا يوجب جهلا ، وإذا لم يكن بقاء العلم بكون زيد في الدار في الآن السابق الّذي كان فيه في الآن الثاني ـ أعني : آن الخروج ـ موجبا للجهل فلا يلزم تحقّق زوال ذلك العلم في الواجب ـ تعالى ـ حتّى يلزم التغيّر في ذاته. فالدليل المذكور لا ينفى العلم بالمتغيرات عن الواجب ـ تعالى ـ لان ذلك العلم ـ أي : العلم بالخروج على الاطلاق أو في الآن الثاني ـ لا يستلزم الزوال المذكور ـ أي : الزوال الّذي هو بالحقيقة زوال للعلم بكون زيد في الدار في الآن المقدّم ـ ، وهو ما ذكرناه بقولنا : « بأن يعلم مثلا إنّ زيدا ليس في الدار في الآن المقدم أو في شيء من الازمنة ». وكذلك العلم لا يستلزم عدم البقاء المذكور / ١٦٧ MA / ـ أي : عدم بقاء انّه في الدار في الآن السابق ـ ، وحينئذ لنا أن نختار في الجواب المذكور أوّل شقّي الترديد ـ أعني : بقاء العلم السابق ـ ولا يلزم منه الجهل ، / ١٦٦ DB / لانّ العلم

٢٥٠

ليس إلاّ معلومية أمر على وجه يطابق الواقع ، والمعلوم هو كون زيد في آن قبل هذا في الدار ، والامر كذلك في الواقع. ولا يلزم أيضا تغيّر العلم ، بل اللازم تغيّر المعلوم فقط.

والحاصل انّ نقيض الشيء رفعه ورفع العلم بأنّ زيدا كان في الآن الفلاني في الدار يتصوّر من وجهين :

أحدهما : أن يزول العلم بكون زيد في الدار في ذلك الآن الفلاني الّذي كان العلم أوّلا تعلّق بكونه في الدار في ذلك الآن ؛

وثانيهما : أن يعتقد انّ زيدا لم يكن في الدار في شيء من الأزمنة والآنات ، ففي تلك الصورتين يلزم زوال العلم الأوّل ورفعه. وأمّا إذا اعتقد انّ زيدا كان في الآن الفلاني في الدار وفي آن آخر بعد ذلك الآن أو قبله لم يكن في الدار لم يلزم تناقض ولم يلزم رفع العلم بكون زيد في الدار في الآن الفلاني ، فيمكن ارجاع العلمين ـ أي : العلم بكون زيد في الدار والعلم بأنّه لم يكن في الدار ـ إلى تغاير الآنين ؛ فبقاء العلم الأوّل بحاله عند حصول العلم الآخر لا يكون موجبا للجهل. وبذلك يظهر انّ الدليل المذكور لا ينتهض حجّة للزوم التغيّر في ذاته ـ تعالى ـ إذا علم الجزئيات المتغيّرة.

ثمّ قال الخفري : « ويمكن حمل الدليل المشهور المذكور على هذا التقرير بصرفه عن الظاهر ».

وغير خفي بأنّ بناء الدليل المشهور المذكور أوّلا إنّما على توهّم وقوع التجدّد في اجزاء الزمان بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أيضا كما هو بالنسبة إلينا ـ على ما زعمه الجمهور ـ. ولا ريب حينئذ في لزوم التغير بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أيضا ، فانّ توضيح الدليل المذكور حينئذ : انّه لا شكّ في أنّ زيدا إذا كان في الدار في الآن كان في الدار في وقت معيّن ونحن نحكم في ذلك الوقت المعيّن الّذي هو الآن بالنسبة إلينا بأنّ زيدا في الدار في الآن ، فإذا انقضى ذلك الوقت وخرج زيد عن الدار وتجدّد علينا وقت آخر هو الآن بالنسبة إلينا فنحن نحكم في ذلك الوقت الآخر ـ الّذي هو الآن حينئذ بالنسبة إلينا ـ بأنّ زيدا ليس في الدار في الآن ، ولو حكمنا بأنّ في الدار الآن كان ذلك باطلا. وحينئذ فقد زال عنّا الحكم الأوّل ـ أعني : انّه في الدار الآن ـ وحصل الحكم الثاني ـ أعني : انّه ليس في الدار الآن ـ.

٢٥١

وتغاير الآنين لا يمنع زوال الحكم الأوّل بالثاني ، كما لا يخفى. فالحكم الأوّل ـ أعني : كون زيد في الدار في الآن ـ زائل عنا البتّة. وبقاء العلم بأنّه كان في الدار في الآن الزائل لا يفيد ، لأنّ هذا العلم ليس العلم الأوّل بل هو علم متجدّد ، فانّ العلم بأنّ زيدا كان في الدار في الآن الّذي انقضى علم آخر تجدّد لنا بعد العلم بأنّه كان في الدار في الآن ، والحكم بأنّه كان في الدار في الآن الّذي انقضى حكم آخر غير الحكم بأنّه في الدار الآن. والسبب في ذلك هو وقوعنا في الآن أوّلا ثمّ بعد انقضائه وقوعنا في الآن الآخر ثانيا ـ لكوننا زمانيّين ـ. فلو كان الواجب أيضا مثلنا في ذلك الوقت ـ كما زعمه الجمهور ـ كان ذلك الزوال ـ أعني : زوال الحكم الأوّل ـ في حقّه ـ تعالى ـ أيضا لازما ، فلا ينفع في ذلك كونه عالما بأنّ زيدا في الوقت السابق كان في الدار ، فانّ ذلك كما عرفت ـ حكم آخر غير الحكم الزائل ، فالتغيّر لازم البتّة!.

وإذا عرفت ذلك فنقول : لا ريب في انّ تقرير العلاّمة الخفري منطبق على هذا التقرير ، لأنّه أيضا مبنيّ على توهّم التجدد في أجزاء الزمان بالنسبة إليه ـ تعالى ـ. ويظهر ذلك الانطباق بأن يمثّل للجزئي الغير الحاضر في آن في تقرير الخفري (١) بكون زيد في خارج الدار وللجزئى الحاضر في ذلك الآن بكون زيد في الدار ، ويجعل « البعدية » المستفادة من قوله : « ثمّ حضر عندنا ذلك الجزئى الأوّل بعد حضور الجزء الثاني » على البعدية الزمانية. وحينئذ يؤول حاصل تقرير الخفري إلى التقرير الّذي أوردناه توضيحا للدليل المشهور المذكور أوّلا. وحينئذ فحمل الدليل المشهور على تقرير الخفري لا يحتاج إلى صرفه عن الظاهر / ١٦٧ MB / ـ كما ذكره ـ.

وممّا يوضح ما ذكره ما ذكره بعض الأعلام حيث قال : / ١٦٧ DA / لا شكّ في أنّ كلاّ من الحوادث المتغيّرة له اختصاص بزمان هو ظرف وقوعه ، فإذا فرضنا أنّ اليوم الّذي هو وقت تكلّمنا هذا ظرف لوجود حادث معيّن فنقول : انّك إن تأمّلت وجدت هناك معلومين :

أحدهما : كون هذا الجزء من الزمان ظرفا لهذا الحادث ، وهو معنى حقيقي لا يتغيّر

__________________

(١) الاصل : + كيف.

٢٥٢

بمضيّ الزمان وغيره ، فانّه إذا كان وجود زيد مثلا واقعا في يوم الجمعة يصدق دائما انّ يوم الجمعة ظرف لوجود زيد. وهذا لا يمكن تغيره وزواله في الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، بل في غيره أيضا لو كان عالما بالسابق واللاحق إلاّ بالنسيان وشبهه ، والشبهة لا تتمّ في ثبوت مثل هذا التغيّر وهو الّذي ذكره الخفري ونفاه ؛

والثاني : كون هذا الجزء من الزمان هو الحاضر الآن عندنا مع هذا الحادث المخصوص دون الّذي قبله وبعده. ولا شك في تغيّر هذا المعنى والعلم به في حقّنا ، إذ بعد يوم الجمعة الّتي فرضنا انّه وقت وجود الحادث لا يصدق انّ الحاضر عندنا الآن هو الحادث المذكور مع يوم الجمعة ، إذ الحاضر الآن هو يوم السبت مثلا مع ما فيه. وكذا الحال قبل يوم الجمعة ، إذ لا يصدق فيه انّ الحاضر عندنا الآن هو الحادث المذكور مع يوم الجمعة ، إذ الحاضر الآن فيه هو يوم الخميس مثلا مع ما فيه. ولا ريب في أنّ الغرض في الدليل المشهور المذكور أوّلا هو اثبات التغيّر في المعنى الثاني في حقّه ـ تعالى ـ لا المعنى الأوّل. ولا يخفى توجيهه بمثل ما ذكرنا في حقّنا بأن يقال : إذا حضر يوم الجمعة مع دخول زيد الدار فيه مثلا عنده ـ تعالى ـ يحصل له ـ تعالى ـ أيضا العلم بالمعلومين المذكورين ـ كما عرفت ـ ، وإذا مضت يوم الجمعة وصارت يوم السبت فلا كلام في أنّ المعنى الأوّل لا يتغيّر بالنسبة إليه ـ تعالى ـ. وامّا المعنى الثاني ـ وهو : انّ الآن الحاضر هو يوم الجمعة الّتي دخل فيه زيد الدار ـ إن كان العلم به باقيا لزم الجهل ـ لأنّ الآن الحاضر هو يوم السبت مع ما فيه دون يوم الجمعة ـ ، وان تغيّر بمعنى أن يتجدّد له العلم بأنّ الآن هو يوم السبت بعد ما علم بأنّ الآن هو يوم الجمعة لزم التغيّر في علمه ـ سبحانه ـ ؛ ولا ريب في أنّ غرض المستدلّ بالدليل المذكور هو اثبات التغيّر في هذا المعنى حيث قال : « إذا علم مثلا انّ زيدا في الدار في الآن » ؛ فانّ غرضه من قوله : « في الآن » هو الاشعار بالمعنى الثاني ، ولذا لم يقل : « إذا علم أنّ زيدا في الدار يوم الجمعة » ، فانّه يوهم إلى المعنى الأوّل.

ثمّ لا ريب في أنّ بناء التقرير المجمل الّذي ذكره العلاّمة الخفري على اثبات التغيّر في المعنى الثاني ، فما ذكره من أنّه يمكن حمل الدليل المذكور عليه بصرفه عن الظاهر محلّ نظر ، لأنّه هو الظاهر من الدليل المشهور ، دون اثبات التغيّر في المعنى الأوّل كما حمل

٢٥٣

الخفري عليه أوّلا واعترض عليه ـ كما نقلناه ـ ؛ هذا.

ثمّ انّ المحقّق الدوانى قد قرّر الشبهة بوجه آخر ، وحاصله : انّ علمه ـ تعالى ـ بمعلولاته عين ذاته ، ولا ريب في انّه ـ تعالى ـ عالم بمعلولاته المتغيّرة ـ من حيث هي متغيّرة لانها بهذه الحيثية معلولة له تعالى ـ ، فإذا علم المتغير من حيث تغيره بأن يتقدّم منه شيء بعد أن كان أو عكس ذلك فان لم يتغيّر العلم به حصل تغيره ولزم الجهل ـ لعدم مطابقته للواقع ـ ، وان تغيّر لزم التغيّر في ذاته ـ لأنّ العلم عين الذات ـ.

ولا ريب في أنّ هذا التقرير أيضا راجع إلى ما ذكر ، يعنى بنائه على اثبات التغيّر في المعنى الثاني ، إذ التغيّر إنّما يقع بالذات في اجزاء الزمان وبواسطتها في الزمانيات. فإذا علم بسلامة زيد في يوم السبت مثلا ثمّ علم في يوم الأحد بانعدام عضو منه فلا ريب في أنّ علمه بسلامة زيد في يوم السبت ـ لا كون هذا اليوم ظرفا لسلامته ـ لم يتغيّر بمضيّ يوم السبت ومجيء يوم الأحد مع ما حدث فيه من انعدام عضو من زيد ، لعدم وقوع التغيّر في ظرفية يوم السبت للسلامة ، بل التغيّر بعد مجيء يوم الأحد مع ما حدث فيه إنّما حصل في كون الآن الحاضر عنده هو يوم السبت وكون الحاصل في الآن الحاضر هو سلامة زيد ، لأنّ الآن الحاضر بعد مضيّ يوم السبت هو يوم الأحد وكون الحاصل في الآن حينئذ هو انعدام عضو من زيد ، فحصل التغيّر في علمه أيضا بهذا المعنى ـ أعني : في كون الآن الحاضر هو يوم السبت وكون الحاضر / ١٦٨ MA / فيه هو سلامة زيد ـ. وقد ظهر ممّا ذكر انّ مناط الشبهة على جميع التقريرات إنّما هو لزوم التغيّر في علمه ـ سبحانه ـ لاجل تعلّقه باجزاء الزمان المتغيرة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ بالحالية / ١٧٦ DB / والمضيّ والاستقبال ، ولأجل تعلّقه بما يقع فيها من الحوادث المتغيّرة وجوداتها واعدامها وسائر أحوالها أيضا لو فرض الاحوال الثلاثة لها نظرا إلى وقوعها في اجزاء الزمان.

ثمّ قد أجيب عن هذه الشبهة بوجوه ثلاثة :

أوّلها : منع لزوم التغيّر فيه ـ تعالى ـ ، لأنّ التغيّر ـ على ما علم ـ إنّما هو في الاضافات لأنّ العلم اضافة محضة أو صفة حقيقية ذات اضافة ؛ فعلى الأوّل يتغيّر نفس العلم ؛ وعلى الثاني يتغيّر اضافاته فقط وعلى التقديرين لا يلزم تغيّر في صفة موجودة

٢٥٤

، بل في مفهوم اعتباري ، وهو جائز. وعلى هذا فالجواب عن شبهة عدم علمه بالجزئيات المتشكلة : انّ ادراك المتشكّل إنّما يحتاج إلى آلة جسمانية إذا كان الادراك بحصول الصورة ، وأمّا إذا كان اضافة محضة أو صفة حقيقية ذات اضافة بدون الصورة فلا حاجة إلى آلة جسمانية أصلا.

وأنت خبير بانّه على ما اخترناه وان كان الجواب عن شبهة عدم علمه ـ سبحانه ـ بالجزئيات المتشكّلة صحيحا لأنّ ذاته ـ تعالى ـ بذاته إذا كان منشأ للانكشاف وكان الانكشاف بالحضور دون ارتسام الصور لم يكن حاجة إلى آلة جسمانية أصلا ؛ نعم ما ذكر في الجواب المذكور من أنّ العلم صفة حقيقية ذات اضافة ممّا يناسب مذهب الاشاعرة القائلين بزيادة الصفات ؛ فبطلانه ظاهر.

وأمّا الجواب المذكور عن شبهة لزوم التغيّر في علمه ـ سبحانه ـ ، فهو غير تامّ ؛ لأنّ العلم بمعنى الاضافة الاشراقية وان كان ثابتا له ـ تعالى ـ عندنا ووقوع التغيّر في الاضافة لا يوجب التغيّر في الذات أو في صفة حقيقية لها ، إلاّ أنّ تغيّر اجزاء الزمان وما يقع فيها من الحوادث بتجدّد حضوراتها وبالحالية والمضيّ والاستقبال يستلزم تجدّد نسب الأزمان واجزاء الزمان بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ويوجب تغيّر نسب الحوادث في الحالات الثلاث بالقياس إليه ـ تعالى ـ ، مع أنّه ـ تعالى ـ مجرّد متعال عن الزمان والزمانيات ونسبته إلى جميع الأوقات والأزمان متساوية كما انّ نسبته إلى جميع الأمكنة والأحياز كذلك.

وقد ظهر مما ذكر انّ ما ذكره المحقّق الطوسي في التجريد في الجواب عن الشبهة المذكورة بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن » (١) ليس بتامّ.

وقال العلاّمة الخفري : المناسب في الجواب عن هذه الشبهة على التحقيق الّذي هو مختار المحقّق أن يقال : انّ العلم عندنا نفس المعلوم ، فالتغير فيه ليس إلاّ التغيّر في المعلومات ولا يلزم منه التغيّر في ذات العالم ، بل إنّما يلزم منه التغيّر في الحضور الّذي هو لازم للعلم نظرا إلى أنّ العلم لمّا كان عين المعلوم كان العلم حقيقة هو الأمر الحاضر و

__________________

(١) راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢٢٢.

٢٥٥

الحضور لازم للحاضر ، فالحضور لازم للعلم وهو الأمر الاضافي. والتغيّر فيه جائز بالنسبة إلى واجب الوجود ـ تعالى ـ كتغيّر الايجادات ، فانّ كلّ ايجاد من ايجادات الحوادث إنّما كان في وقت ومع كلّ ايجاد انكشاف حضوري مقارن له ؛ وإلى هذا اشار المحقّق الطوسي بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن ».

وغير خفي بأنّ مبنى كلامه على كون العلم الحقيقي هو نفس المعلوم ـ على ما ظهر من كلام المحقّق أيضا ـ ، وقد عرفت ما فيه ؛ وعلى انّ التغيّر في الحضور الّذي هو الانكشاف لا بأس به ، وقد عرفت انّ التغيّر فيه وإن لم يستلزم التغيّر في ذاته ـ تعالى ـ إلاّ أنّه يستلزم تجدّد نسب الأوقات بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ؛ وهو ليس بصحيح.

وأورد عليه : بأنّ كون العلم نفس المعلوم يقتضي كون العلم زائدا على الذات ، مع انّ مذهب المحقّق الطوسي انّ العلم عين الذات.

فان قيل : العلم الّذي هو عين الذات عنده هو العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني ـ كما تقدّم ـ ، والّذي نفس المعلوم هو العلم التفصيلي لا العلم الاجمالي ؛

قلت : محال ؛ فما ذكره الخفري في الجواب عن الشبهة المذكورة إنّما يكون جوابا على تقدير كون المراد من العلم الّذي هو مذكور في الشبهة العلم التفصيلي لا العلم الاجمالي الّذي هو عين الذات. ولو اريد منه العلم الاجمالي لم يكن هذا الجواب مطابقا ، بل الجواب حينئذ أن يقال : انّ العلم الاجمالي أمّا على الاحتمال الأوّل فهو معقول واحد بسيط لا تكثّر فيه أصلا ، وليس علما بتفاصيل الأشياء وخصوصياتها حتّى يلزم من تغيرها تغيره ؛ وأمّا على الاحتمال الثاني ـ أعني : كون مجرّد / ١٦٨ MB / ذاته تعالى مناطا ومصحّحا للانكشاف وتمكّنه على ايجاد الأشياء منكشفة عنده ـ فهو عين ذاته ـ تعالى ـ ولا تغير ولا تكثر فيه أصلا ، وإنّما المتغير والمتكثّر هو المعلومات. والاضافة العارضة له / ١٦٨ DA / ـ تعالى ـ بالنسبة إلى كلّ معلوم معلوم وتغير المعلومات والاضافات لا يستلزم تغيّر العلم الّذي هو عين ذات الواجب ؛ وإلى هذا اشار المحقّق

٢٥٦

بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن » (١).

ولا يخفى عليك انّ العلم الاجمالي على الاحتمال الأوّل وإن لم يكن فيه تغيّر ـ نظرا إلى عدم تعلّقه بخصوصيات الأشياء وتفاصيلها ـ إلاّ أنّك قد عرفت بطلان القول به. والعلم الاجمالي على الاحتمال الثاني وإن كان عين الذات وليس فيه تغيّر ، إلا انّه لا بدّ معه من القول بثبوت العلم بمعنى الاضافة الاشراقية ، ومع تسليم ثبوت التغيّر فيها يلزم ما ذكرناه سابقا من لزوم تجدّد نسب الأوقات والأزمان بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ؛ هذا.

وأورد بعض الأفاضل على التقرير المناسب الّذي أورده الخفري بأنّ هذا لا يدفع الشبهة على التقريرات المذكورة ، إذ بدّل لزوم التغيّر في العلم فيها بلزوم التغيّر في الحكم ؛ على انّه لا حاجة إلى هذا التبديل ، لأنّ المراد بالعلم هو الحكم. وعدم دفع الشبهة حينئذ لما عرفت من انّ تغيّر الحكم لازم بسبب وقوع الحاكم تحت الأزمنة. وكون العلم حضوريا لا ينفع في ذلك.

وأيضا نقول : إذا كان شيء من الأشياء منكشفا بذاته عنده ـ تعالى ـ في زمان معيّن بسبب حضور ذاته في ذلك الزمان فإذا انقضى ذلك الزمان يزول لا محالة ذلك الانكشاف ، لأنّ الحضور إنّما كان بسببه وقد زال سواء بقى صورته في المدرك أم لا ، إذ الانكشاف الحضوري أمر وراء العلم الصوري كما انّ المبصر إذا غاب عن بصرنا يزول عنّا الحالة الّتي نسمّيها الابصار ، ولا يكفى في ذلك بقاء صورته في خيالنا. ولا شبهة في انّ الانكشاف المذكور وكذا الابصار حالتان وجوديتان يستلزم زوالهما زوال حالة وجودية عن المبصر وعن المنكشف لديه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره أوّلا من أنّ تغيّر الحكم لازم بسبب وقوع الحاكم تحت الازمنة ممنوع ـ كما عرفت مرارا ـ ؛ إلاّ أنّ غرض الخفري وغيره ممّن أجاب عن هذه الشبهة انّ العلم الّذي يلزم فيه التغيّر ـ سواء كان بمعنى الحكم أم لا ـ هو أمر اضافي والتغير فيه جائز بالنسبة إلى الواجب ـ سبحانه ـ ، فكان اللازم أن يدفع هذا الجواب على ما ذكرناه من أنّ التغيّر في الأمر الاضافي وإن كان جائزا إلاّ انّه غير جائز ـ

__________________

(١) راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢٢٢.

٢٥٧

لاستلزامه تغيّر نسب الحوادث والاوقات بالنسبة إليه تعالى ـ.

وامّا ما ذكره ثانيا من زوال الانكشاف بانقضاء الزمان الّذي كان المعلوم حاضرا فيه دون ما بعده من الزمان ـ لأنّه لا ريب في زوال الحضور بعد مضى الزمان وانعدام ما فيه ـ ، ففيه : إنّ هذا شبهة على علمه بالمعدومات وقد تقدّم الجواب عنه ، والكلام هنا في لزوم التغيّر في علمه ـ سواء كان العلم حصوليا أو حضوريا ، وسواء كان المعلوم معدوما أو موجودا ـ ، فالشبهة الموردة هنا إنّما هو شبهة تغيّر علمه ـ تعالى ـ ، فما ذكره المورد المذكور ثانيا من تحقّق زوال الانكشاف على القول بالعلم الحضوري لبداهة زوال الحضور بعد مضيّ الزمان وانعدام ما فيه مبني على توهّم تركيب الشبهتين.

نعم! ، الحقّ انّ الجواب الصحيح عن هذه الشبهة ـ أعني : شبهة تغيّر علمه تعالى ـ هو الجواب المذكور عن كيفية علمه بالمعدومات ـ كما يأتى مفصلا ـ ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : اللائق في الجواب عن الشبهة المذكورة أن يقال : انّ علمه ـ تعالى ـ لمّا كان حضوريا غير زائد على الذات فيعلم كون زيد في الدار في الزمان أو الآن ، ولا يزول هذا العلم بخروج زيد عن الدار بعد الزمان أو الآن الّذي كان فيها ، بل يبقى هذا العلم ويعلم أيضا كون زيد خارجا عنها بعد زمان كونه في الدار من غير لزوم محذور ؛ وتغاير المعلولين بالذات لا يستدعي تغاير العلم إلاّ بالاعتبار والاضافة ، وهو غير مستحيل. وإليه اشار العلاّمة الطوسي بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن » ؛ انتهى.

وفيه : انّ القول ببقاء العلم بكون زيد في الدار في زمان مع العلم بخروجه عنها في زمان آخر ان اريد منه إنّ العلم بظرفية الزمان الأوّل لدخول زيد في الدار باق مع العلم بظرفية الزمان الثاني لخروجه عنها ، فهذا مسلم ، إلاّ أنّا لا نقول انّ التغيّر وقع في ظرفية الزمان الأوّل لدخول زيد في الدار ، بل التغيّر ـ على ما تقدّم ـ إنّما هو في كون الزمان الأوّل مع دخول زيد في الدار الحادث فيه حاضرا في الآن ؛ وإن أريد منه / ١٦٨ DB / انّ العلم بأنّ الزمان الأوّل مع ما حصل فيه ـ أعني : دخول زيد في الدار ـ حاضر في الآن باق مع العلم بأنّ الزمان الثاني مع ما حدث فيه ـ أعني : خروج زيد عنها ـ حاضر

٢٥٨

في الآن ، فهو ممنوع ، ووجهه ظاهر مما تقدّم ؛ وإذا لم يجتمع هذان العلمان فيلزم التغيّر في علمه ـ تعالى ـ. نعم! ؛ القول ببقاء هذين العلمين معا إنما يمكن تصحيحه بأحد الوجهين الآتيين اللّذين أحدهما مردود عند التحقيق ـ وهو التزام القول بالعلم الحصولي حتّى تكون / ١٦٩ MA / صورة كون زيد في الدار وصورة كونه خارجا عنها مرتسمتين ، إمّا في ذاته تعالى وإمّا في المدارك العالية على اختلاف بين القائلين بالعلم الصوري كما عرفت ـ ، وثانيهما مقبول عندنا ـ وهو القول بحضور جميع الحوادث دفعة واحدة بلا استمرار وتجدّد عنده تعالى ـ. وبدون التزام أحد هذين الوجهين لا يمكن تصحيح القول ببقاء العلمين معا. والفاضل المذكور قد أنكر كلا القولين معا ، أمّا الأوّل فكما صرّح به في هذا الكلام ، وأمّا الثاني فكما صرّح به عند ردّه على المحقّق الدواني في قوله بحضور أجزاء الزمان مع ما فيها عنده ـ تعالى ـ حيث قال : « هذا طور وراء طور العقل ووجوه البحث فيه ظاهرة ، وفيه التزام قدم كلّ حادث » ؛ وحينئذ فكيف يمكن له القول ببقاء العلمين معا!؟.

وثانيها (١) ـ أي : ثانى الوجوه لدفع الشبهة المذكورة ـ هو : انّ علمه ـ تعالى ـ إنّما هو بحصول الصور لا بانكشاف الذات ، فلا يكون حكمه واقعا في آن من الآنات بأن يكون الآن ظرفا للحكم ولا علمه متعلّقا بالحوادث الزمانية من حيث وقوع كلّ منها في زمان خاصّ ووقت معيّن حتّى يلزم التغيّر بتغيّر المعلوم ، بل إنّما يعلم الكلّ من حيث اسبابها الكلّية. كما في علم المنجّم بالخسوف الجزئي المعيّن إذا كان حاصلا من قواعد علم النجوم وطريق ضبط الحركات لا من جهة الإحساس ، فانّه لا يتغيّر بحسب تجدّد أزمنة القبل والبعد والمقارنة.

وهذا الوجه عندنا باطل ، لما عرفت من بطلان القول بالعلم الحصولي ؛ وقد صرّح جماعة بأنّه يلزم على هذا القول عدم علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات من حيث انّها جزئيات ، بل يكون علمه ـ تعالى ـ حينئذ على سبيل الكلّية. وقد نسب ذلك إلى الشيخ وغيره من القائلين بالعلم الصوري ، وربما كفّرهم جماعة لذلك ؛ وسيجيء تحقيق ذلك في محلّه.

__________________

(١) الاصل : ثالثها.

٢٥٩

وثالثها ـ وهو الحقّ المختار ـ : انّ علمه ـ تعالى ـ ليس زمانيا ، فانّه ـ تعالى ـ لتعاليه عن الزمان واحاطته به يكون جميع أجزاء الزمان عنده متساوية ولا يكون بالنسبة إليه قبل وبعد ومقارنة وكان ويكون ؛ قال بعض الفضلاء : قال الحكماء : علمه ـ تعالى ـ ليس زمانيا ـ أي : واقعا في الزمان ـ كعلم أحدنا بالحوادث المختصّة بأزمنة معيّنة ، فانّه واقع في زمان مخصوص ، فما حدث منها في ذلك الزمان كان واقعا في الحال وما حدث قبله أو بعده كان واقعا في الماضي أو المستقبل. وامّا علمه ـ تعالى ـ فلا اختصاص له بزمان أصلا ، فلا يكون ثمّة حال ولا ماض ولا مستقبل ، فانّ هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختصّ بجزء منه ـ إذ الحال معناه زمان حكمي هذا والماضي زمان قبل زمان حكمي هذا والمستقبل زمان بعد زمان حكمي هذا ـ ، فمن كان علمه ازليا محيطا بالزمان غير محتاج في وجوده إليه وغير مختصّ بجزء معيّن من أجزائه لا يتصوّر في حقّه حال ولا ماض ولا مستقبل ، فالله ـ سبحانه ـ عالم عندهم بجميع الحوادث الجزئية وأزمنتها الواقعة هي فيها. لا من حيث أنّ بعضها واقع الآن وبعضها في الماضى وبعضها في المستقبل ، بل يعلمها علما شاملا متعاليا منزّها عن الدخول تحت الازمنة ثابتا أبد الدهر.

وتوضيحه : انه ـ تعالى ـ كما لم يكن مكانيا فكان نسبته إلى جميع الامكنة على السواء ـ فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط ـ ، كذلك لمّا لم يكن هو وصفاته الحقيقية زمانيا لم يتصف الزمان مقيسا إليه بالمضيّ والاستقبال والحضور ، بل كان نسبته إلى جميع الأزمنة على سواء ، فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كلّ في وقته ، وليس في علمه كان وكائن وسيكون ، بل هي حاضرة عنده في أوقاتها. فهو عالم بخصوصيات الجزئيات وأحكامها ، لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب / ١٦٩ DA / أوصافها الثلاثة ـ إذ لا تحقّق لها بالنسبة إليه تعالى ـ. ومثل هذا العلم يكون ثابتا مستمرّا لا يتغيّر أصلا كالعلم بالكلّيات.

قال بعض الفضلاء : وهذا معنى قولهم : انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات على وجه كلّي لا ما توهّمه بعضهم من أنّ علمه محيط بطبائع الجزئيات وأحكامها دون خصوصياتها وما يتعلّق بها من الأحوال ، كيف وما ذهبوا إليه من أنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول

٢٦٠