جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

ونختاره ، وإن كان هذا الوجه أيضا صحيحا في نفسه. بل الحقّ انّ الوجهين متحقّقان في الواقع ونفس الأمر وكلّ منهما يصلح لأن يصحّح به العلم الحضوري.

ثمّ هذا الوجه ممّا يدلّ على حقّيته الاخبار الكثيرة الواردة عن ائمّتنا الراشدين ؛ كقول علي ـ صلوات الله عليه ـ : لم يسبق له حال حالا فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا (١).

وكقوله ـ عليه‌السلام ـ : علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين ، وعلمه بما في السموات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى (٢).

وكقول الباقر ـ عليه‌السلام ـ : كان الله ولا شيء غيره ولم يزل عالما بما كوّن ، فعلمه بها قبل كونه كعلمه بها بعد كونه (٣).

وكقوله ـ عليه‌السلام ـ : ما كان خلوا من الملك قبل انشائه ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه (٤).

وكقول أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : لم يزل الله ـ جلّ وعزّ ـ ربنا والعلم ذاته ولا معلوم والسمع ذاته ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور (٥).

وكقول الكاظم ـ عليه‌السلام ـ : لم يزل الله ـ تعالى ـ عالما بالأشياء قبل أن يخلق الاشياء كعلمه بالاشياء بعد ما خلق الأشياء (٦).

وكقول الرضا ـ عليه‌السلام ـ : له معنى الربوبية إذ لا مربوب وحقيقة الالهية إذ لا مألوه ومعنى العالم ولا معلوم ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع على المسموع / ١٦٠ MB / ؛ ليس منذ خلق استحقّ معنى الخالق ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى

__________________

(١) راجع : نهج البلاغة ، الخطبة ٦٥ ص ٩٦.

(٢) راجع : نهج البلاغة ، الخطبة ١٦٣ ص ٢٣٣.

(٣) راجع : التوحيد ص ١٤٥.

(٤) راجع : نفس المصدر ، ص ١٧٣.

(٥) راجع : نفس المصدر ، ص ١٣٩.

(٦) راجع : نفس المصدر ، ص ١٤٥.

٢٢١

البارئية ، كيف ولا تغيّبه « مذ » ولا تدنيه « قد » ولا تحجبه « لعلّ » ولا توقّته « متى » ولا تشمله « حين » ولا تقاربه « مع » (١).

منها ـ وهو الّذي ذكرنا آنفا انّه المختار الاصوب من سابقه ـ ، وتقريره : انّه قد ظهر ممّا سبق / ١٥٩ DB / انّ الواجب ـ سبحانه ـ بمنزلة مجمل الأشياء بمعنى انّه لمّا كان علّة للكلّ ومقتضيا تامّا له وكان الأشياء بأسرها لوازم ذاته ورشحات وجوده فكان الجميع منطو فيه ، وإذا كان الأشياء بجميعها مندمجة منطوية في ذاته بالمعنى المذكور فيكون هو بمنزلة مجمل الأشياء ، وحينئذ إذا علم ذاته علم الأشياء جميعا لا اجمالا ـ كما هو مذهب القائلين بالعلم الاجمالي ـ ، بل تفصيلا ـ أي : بعلمها بخصوصياتها اللازمة والعارضة واحكامها الكلّية والجزئية ـ ، وتكون عنده ممتازة بجميع تعيّناتها وخصوصياتها واحكامها ، فانّ كون الكلّ لوازم وجوده ورشحات فيضه وجوده يصلح أن يكون مصحّحا لانكشافه لديه وظهوره بين يديه ، فانّ ذلك كما يصلح أن يكون مصحّحا للانكشاف الاجمالي يصلح أن يكون مصحّحا للانكشاف التفصيلي من دون تفاوت أصلا ، فأيّ حاجة مع ذلك إلى القول بالعلم الاجمالي مع استلزامه للمفاسد الكثيرة المتقدّمة؟! ؛ وكيف لا يصلح معلولية الكلّ وانطوائه في ذاته ـ سبحانه ـ مصحّحا للعلم به تفصيلا مع أنّ حضور العلّة أقوى في باب الانكشاف من حضور المعلوم؟ ؛ ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٢). فحضور الواجب ـ جلّ وعزّ ـ عند ذاته أقوى في انكشاف الأشياء عنده من حضور الأشياء عنده. فالعلم الحضوري هو حضور عين المعلوم عند العالم أو حضور ما هو أقوى من حضور المعلوم ، والعلم الحضوري بالنسبة إلى الواجب ـ تعالى ـ انّما هو بالاعتبار الثاني ـ أي : حضور ما هو أقوى من حضور المعلوم ، أعني : حضور ذاته المقدّسة ـ ؛ فمناط العلم بجميع الأشياء ليس سوى ذاته المقدّسة البسيطة من جميع الجهات. فذاته ـ تعالى ـ صورة علمية بجميع المجعولات ولجميعها شهود علمي ووجود جمعي وجداني عقلي في ذاته ـ سبحانه ـ ، وحضور ذاته بذاته عند ذاته هو حضور جميع الأشياء ؛ فالكلّ يصدر عنه منكشفا عنده. وعلمه بالاشياء بعد كونها ، كعلمه بها قبل كونها ولا تفاوت في ذلك

__________________

(١) راجع : نفس المصدر ، ص ٣٨.

(٢) كريمة ١٤ ، الملك.

٢٢٢

أصلا ، لانّ مناط العلم إذا كان ذاته بذاته بلا مدخلية أمر آخر أصلا فلا يكون اختلاف في انكشاف الأشياء في حالتي الوجود والعدم ، ولا يكون العلم ببعضها متقدّما على العلم ببعض آخر. فالعلم بالعقل الأوّل مثلا ليس مقدّما على العلم بالعقل الثاني ، لانّ جميع كمالاته ـ تعالى ـ يجب أن يكون في مرتبة واحدة هى مرتبة الذات ، وإلاّ يلزم أن يكون ـ جلّ وعزّ ـ فاقدا لبعض الكمالات في مرتبة من المراتب ، وهو محال. نعم! ، يجوز أن يكون بعض المعلومات مقدّما على بعض آخر باعتبار الوجود لا باعتبار المعلومية ، وإلى هذا أشار بعض الأعلام حيث قال : لمّا كان الواجب ـ تعالى ـ علّة لجميع ما عدا ذاته ومفيدا للوجود كله فيكون علّة مقتضية لجميع الموجودات ، ولمّا كان عالما بذاته أتمّ العلوم فيجب أن يعلم انّ ذاته علّة للكلّ ومفيدا لوجود الكلّ بوجود الكلّ وإلاّ لم يعلم ذاته أتمّ العلوم ولم يعلم ذاته من جميع الوجوه ؛ ولزم من هذا أن يعلم جميع الموجودات من العلم بذاته. كيف ولو لم يعلم الواجب ـ تعالى ـ الأشياء إلى أن يوجد يلزم أن لا يعلم الاشياء من ذاته ، وإذا لم يعلم الأشياء من ذاته علما تامّا غاب عنه بعض وجوه العلم بذاته ـ وهو انّه من شأنه أن يفيض جميع الأشياء الممكنة ـ.

وممّا يؤيّد انّ حضور ذاته ـ تعالى ـ عند ذاته هو بعينه حضور الأشياء بل أقوى من حضور الأشياء هو أنّ نسبة الأشياء الى جنابه كنسبة الظلّ إلى ذي الظلّ ، وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية ؛ فالواجب بمنزلة الأصل والأشياء بمنزلة العكس ، ولا ريب في أنّ الأصل أتمّ في شبهة العكس من العكس نفسه في ذلك ، كما يظهر من نسبة الأمر الخارجي إلى ما في المرات منه. وإذا حصل العلم من العكس بشبيه يحصل / ١٦١ MA / من الأصل بطريق أولى ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ قوله : « نسبة الأشياء إلى جنابه كنسبة الظلّ ـ .. الى اخر كلامه ـ » خارج عن القواعد العقلية ولا يطابق طريقة البحث والنظر ، وليس لنا في اثبات المطلوب حاجة إليه ولا لنا طريق إلى ادراكه ، إلاّ أن يحمل كلامه على ما يرجع إلى ما ذكرناه من أنّ مراده من كون الأشياء أظلالا وعكوسا : انّها من لوازمه / ١٦٠ DA / ـ تعالى ـ المترشّحة عنه الفائضة منه. وقد ظهر ممّا ذكرناه انّ مناط علمه بذاته هو حضور

٢٢٣

ذاته لذاته المجرّدة من جميع الجهات ، ومناط علمه بمعلولاته هو حضور علّتها عند ذاته المجرّدة البسيطة. ثمّ لما كان علّيته ـ تعالى ـ للأشياء ثابتة له في مرتبة ذاته فيكون استهلاك الأشياء واندراجها في شعاع ذاته واحاطته بها ـ إحاطة معنوية ـ ثابتا له أيضا في مرتبة ذاته ، لانّه معنى المعلولية بعينه ؛ وحينئذ يكون شهوداتها العلمية وظهوراتها الانكشافية أيضا ثابتة له في مرتبة ذاته. وهذا الظهور والانكشاف لكونه اضافة اشراقية لا يوجب تكثرا في ذاته ، وهو ـ أي : انكشاف الاشياء واشراقها عند ذاته ـ عين اشراق ذاته لذاته أو لازمه ، نظرا إلى أنّ ذاته الحقّة كما هو علّة (١) لذوات الأشياء ووجوداتها العينية فكذا اشراقه لذاته علّة لاشراق الأشياء وانكشافها لديه ، وعلى التقديرين لا يلزم تكثّر وتعدّد في ذاته ، لانّ الاشراق والانكشاف ولو كان بالنسبة إلى غير المتناهي من الأشياء أمر واحد من جميع الجهات بسيط من كلّ الحيثيات ولا يوجب تركّبا ولا تكثّرا لأنّه ممّا يزداد بازدياد التجرّد ، فزيادته من حيث الشدّة أو من حيث زيادة المتعلّق يوجب زيادة الوحدة والبساطة.

ثمّ هذا الانكشاف وإن كان تفصيليا يعلم به الأشياء بتفاصيلها (٢) وخصوصياتها إلاّ أنّه لمّا كان أمرا بسيطا وحدانيا علّة ومنشأ لصدور الأشياء المتكثّرة منه ـ تعالى ـ فيمكن أن يكون اطلاق العلم الاجمالي عليه في كلام بعض الأكابر من الحكماء ـ وتصريحهم بأنّ نسبة هذا العلم إلى الممكنات الّتي هى صور علمية مفصّلة للواجب كنسبة الاجمال إلى التفصيل ـ مسامحة لم يكن قصدهم منه إلاّ التمثيل والتشبيه ، بأن يكون مرادهم انّ هذا الانكشاف شأنه العلم الاجمالي في كونه بسيطا وحدانيا غير متكثّر وفي كونه مبدأ للتكثر. وكذا الحال فيما يقال : انّ نسبة هذا العلم إلى الممكنات وعلومها الّتي هي علوم تفصيلية للواجب كنسبة الاكسير إلى الذهب أو كنسبة حروف الهجاء إلى المركّبات أو كنسبة النوى إلى النخلة الباسقة أو كنسبة الوحدة إلى العدد أو البحر إلى الموج وغير ذلك ، فانّ جميع ذلك تمثيلات وتشبيهات لو كانت مقرّبة من وجه لكانت مبعّدة من وجه آخر.

__________________

(١) الاصل : عليته.

(٢) الاصل : معا فيها.

٢٢٤

وممّا يدلّ على ما ذكرناه انّ العلاّمة الخفري مع قوله بالعلم الاجمالي ـ كما نقلنا كلامه ـ قال في آخر كلامه : وخلاصة ما حصل من الأبحاث المذكورة انّ علم واجب الوجود الاجمالي الّذي هو عين الذات يعلم به جميع خصوصيات الجزئيات وأحكامها كما يعلم به جميع الصور الكلّية ، ولا دخل للزمان فيه ولا يعتبر فيه أصلا. وأمّا العلم التفصيلي الّذي بعده فهو عين الموجودات عند المحقّق الطوسي ، ويعبّر عنه عند البعض بتعلّق العلم القديم وعند البعض بالرؤية العينية. وهو انّما يكون باعتبار الزمان وفيه تغيّر ما بحيث لا يوجب نقصا ، فانّ ذلك التغيّر ليس في العلم بالذات ، بل إنّما يكون في العلوم من حيث هي معلومات ، فالتغيّر بالحقيقة وبالذات انّما هو في المعلومات ؛ انتهى.

وهذا الكلام كما ترى صريح في أنّ العلم الّذي يوصف بالاجمالي يعلم به الاشياء مفصّلة وإنّ علم الواجب ـ تعالى ـ منحصر بهذا العلم وهو غير متغيّر أصلا ، وما هو متغيّر ليس بعلم. والعلم الّذي يوصف بالتفصيلي هو المعلوم التفصيلي ولذا يكون حادثا متغيّرا وليس علما للواجب ـ تعالى ـ. وعلى هذا لا يكون ما هو علمه حقيقة وما هو مناط علمه على قسمين عنده ـ كما ظهر ذلك من كلامه السابق ـ إلاّ أنّ كثيرا من كلماته الأخر أيضا يدلّ على ذلك ـ أي : على انّ للواجب علمين ـ ، فلعلّ كلامه لا يخلو عن مسامحة ؛ هذا وأورد على هذا الوجه منه ما أورد على العلم الاجمالي ووعدناك بانّا نجيب عنه هناك ؛ وهو : انّه كيف يكون لشيء واحد بسيط غاية الوحدة والبساطة صورا علمية مختلفة متكثّرة؟ ، وكيف يكون انكشافه انكشافا لأشياء متكثّرة متباينة الحقائق؟ ، وحديث الانطواء والاندراج ليس المراد منه إلاّ مجرّد المعلولية واللازمية ، فكيف يتميز الاشياء بمجرّد هذا الانكشاف وانّها لم توجد ماهياتها بعد؟ ، وهل هذا إلاّ تمايز المعدومات الصرفة؟!.

والجواب / ١٦٠ DB / ـ على ما سبق ـ : انّه كما انّ حضور الشيء عند المجرّد القائم بالذات مصحّح لانكشافه عنده فكذا حضور علّته عنده مصحّح لذلك ، / ١٦١ MB / كيف لا وهو أقوى في باب الانكشاف من حضور المعلوم بنفسه. وكما أنّ الصورة العلمية المخصوصة بشيء غير ذلك الشيء كذلك المقتضي لخصوصية شيء غير ذلك الشيء ، لانّ

٢٢٥

المقتضي باقتضائه غير ذات المقتضي وصفاته بحيث لا يشاركه غيره ، وكما انّ الصورة الّتي بها يتميّز الشيء إذا حصل عند المدرك كان علما به كذلك المقتضي الّذي به يتميّز الشيء إذا حصل عند المدرك كان علما ظاهرا به. فاذا كان المقتضى لاشياء كثيرة متباينة الحقائق أمرا واحدا لتميز باقتضائه كلّ واحد منها ، فذاته ـ تعالى ـ لمّا كان علّة مقتضية لجميع الأشياء إمّا بواسطة أو بدونها وهو عالم بذاته علما تامّا والعلم التامّ بالعلّة بجميع وجوهها مستلزم للعلم بالمعلول كذلك فجميع الأشياء الممكنة المعلولة له ـ تعالى ـ يتعيّن بهذا الاقتضاء ، ولا يغيب عنها. ويتميّز باقتضائه كلّ ذرة من ذرات الوجود ولا يغيب شيء منها عن الشهود العلمي ، فالاشياء في مرتبة ذاته ـ سبحانه ـ وإن كانت معدومات صرفة إلاّ انّه لمّا كانت معلولة لذاته ـ تعالى ـ لازمة لوجوده ـ سبحانه ـ فهذه المعلولية واللازمية صارت منشأ لامتيازها وانكشافها بخصوصياتها ، ولا ينحصر مصحّح الانكشاف والامتيار العلمي بالوجود الخارجي والامتياز العيني ، فما ليس معلولا ولازما له ولا يقتضيه ذاته ـ كالممتنعات الصرفة ـ فلا نمنع عدم تعلّق العلم والانكشاف به ، لانّه ليس بشيء ( وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (١). وأمّا ما هو معلول له ومقتضى لذاته سواء وجد في وقت أو لم يوجد لعلّه راجع إلى نظام الخير ، فيتعلّق به الانكشاف ـ لما ذكر ـ.

فما قيل : انّه كيف يكون ذاته مقتضية للمعدومات والممتنعات وكيف تكون حاضرة متعيّنة مع أنّ التعيّن والحضور لا يمكن بدون الوجود ؛

ففيه ـ كما عرفت ـ : انّ التعين بدون الوجود جائز لمصحّح الاقتضاء والعلّية. نعم! ، لا يتحقّق التعين في الممتنعات لعدم تحقّق مصحّح الاقتضاء ، وأمّا المعدومات فان كانت داخلة في المعلولات والمقتضيات فيصحّ بعينها للمصحّح المذكور ؛ وان لم يوجد فظاهر ، وإلاّ فتكون داخلة تحت الممتنعات.

ثمّ انّه أورد على الجواب المذكور : بأنّ العلّة لمّا كانت مباينة للمعلول مغايرة له في الوجود فلا يكون حضورها حضوره ، وما لم يحضر الشيء عند المجرّد لا يكون مشعورا به بمجرّد كون ذلك المجرّد مبدأ امتيازه ؛ على أنّ قياس العلّة إلى الصورة وازالة الاستبعاد

__________________

(١) كريمة ٩٧ ، المائدة ؛ ....

٢٢٦

بذلك مستبعد جدّا ، إذ الصورة عين ماهية المعلول ـ على ما هو التحقيق ـ أو شبح ومثال له ـ على المذهب المرجوح ـ ، وليست العلّة حقيقة المعلول ولا مثالا له محاكيا عنه ، فقياسها على الصورة قياس فقهي مع ظهور الفارق ؛ انتهى.

وجوابه : إنّ العلّة وان كانت مباينة للمعلول في الوجود إلاّ أنّ ذلك لا يستلزم المغايرة في الانشكاف والشهود ، سيّما بمعنى الاستلزام بأن لا يستلزم انكشاف العلّة انكشاف المعلول ، مع انّه قد تقرّر وثبت أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، فانّ هذه المقدّمة غير مقيّدة بوجود المعلول في الخارج ، بل هي مطلقة ؛ فيكون المراد منها انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها ومقتضاها سواء وجد أم لا ؛ على أنّ الاستلزام ثابت بينهما في الوجود العيني أيضا. فانّ الوجود العيني للعلّة مستلزم للوجود العينى للمعلول وسرّ الاستلزام بينهما في الوجود والشهود هو حصول الربط بينهما واقتضائه العلّة للمعلول. وهذا الربط والاقتضاء وكون المعلول من سنخ العلّة ولازمها صارت منشأ لاستلزام حضورها الانكشافي لحضوره الانكشافي ، ولاستلزام وجودها لوجوده ، وهو واضح.

وقد ظهر ممّا تقرّر وتبيّن انّ الواجب ـ سبحانه ـ عالم بذاته وبجميع الأشياء ـ كلّية كانت أو جزئية ، مجرّدة كانت أو مادّية ، متغيرة كانت أو غير متغيرة ، متشكلة كانت أو غير متشكلة ـ بعلم حضوري تفصيلي غير متغير وغير زماني. وقد ثبت وتحقّق جميع ذلك بالبراهين القاطعة من الأبحاث السابقة.

ثمّ انّه خالف في هذا التفصيل جماعة ، وهم فرق :

منهم : من قال : انّه ـ تعالى ـ لا يعلم ذاته ؛

ومنهم : من قال : انّه ـ تعالى ـ لا يعلم غيره مع كونه عالما بذاته ؛

ومنهم : من قال : انّه ـ تعالى ـ لا يعلم الجزئيات المتغيّرة والمتشكّلة ؛

ومنهم : من قال : انّه ـ تعالى ـ لا يعلم الحوادث قبل وقوعها.

فلا بدّ لنا من نقل حججهم وردّها حتّى لا تبقى لأحد شبهة في هذه المسألة الّتي هي تمام الحكمة الحقّة الالهية وأعظم / ١٦١ DA / الأصول الملية والاسلامية.

فنقول :

٢٢٧

وأمّا الفرقة الأولى ـ وهم الذين قالوا : انّه تعالى لا يعلم نفسه ـ فشبهتهم على ذلك : انّ العلم نسبة والنسبة لا تكون إلاّ بين شيئين متغايرين هما طرفاها بالضرورة ، ونسبة الشيء الى نفسه محال ـ إذ لا تغاير هناك ـ.

وأجاب عنه بعضهم بمنع كون العلم نسبة محضة ، بل هو صفة حقيقية ذات نسبة الى المعلوم ، ونسبة الصفة إلى الذات ممكنة.

فان / ١٦٢ MA / قيل : تلك الصفة تقتضي نسبة بين العالم والمعلوم ، فلا يجوز أن يكونا متّحدين ؛

قلنا : هي نسبة تقتضي نسبة بينها وبين المعلوم ونسبة أخرى بينها وبين العالم ، وهما ممكنتان ؛ وأمّا النسبة بين العالم والمعلوم فهي بعينها النسبة بين الصفة وبين المعلوم اعتبرت بالعرض فيما بين العالم والمعلوم.

وفي هذا الجواب نظر ؛

أمّا أوّلا : فلانّه على هذا الجواب تكون صفة العلم زائدة على ذاته ، وهو باطل ؛ فانّ جميع صفاته ـ تعالى ـ عين ذاته ـ سبحانه ـ سيّما في علمه ـ تعالى ـ بذاته ، فانّه عين ذاته بلا ريب من غير امكان المغايرة.

وأمّا ثانيا : فلانّ كون الواجب عالما بذاته حين قيام صفة العلم بذاته ـ تعالى ـ ليس إلاّ باعتبار مجموع الذات والصفة ، لبداهة مدخلية كلّ منهما حينئذ في علم الواجب بنفسه ، فيكون هذا المجموع عالما ومعلوما أيضا ـ لوجوب علم الواجب بذاته ـ وبالصفة القائمة بذاته فيجب المغايرة بين العالم والمعلوم مع انّهما متحدان بالذات ، وهو المجموع.

وأمّا ثالثا : فلأن ما ذكر من اقتضاء الصفة الشيئين إن كان المراد انّه متحقّق في صورة اتحاد العالم والمعلوم وانّ النسبتين ممكنتان في هذه الصورة فهو باطل قطعا ، لانّ أحد الطرفين في النسبتين المذكورتين هي صفة العلم ـ على تقدير تحقّق النسبتين ـ والطرف الآخر في أوّلهما المعلوم وفي أخراهما العالم ، وإذا اتّحدا ـ أي : العالم والمعلوم ـ فكيف تحصل النسبتان؟ ، لانّ مناط تغير النسبتين هو تغاير الطرفين ولو في الجملة ؛ ولو قيل بكفاية التغاير الاعتباري فهو مناط الجواب ـ على ما نذكره بعد ـ ، فيلغو باقي الكلام!.

٢٢٨

وإن كان المراد به انّه متحقّق في صورة تغاير العالم والمعلوم وانّ النسبتين ممكنتان في هذه الصورة فلا ينفع فيما نحن فيه ، لانّ الكلام في صورة اتحاد العالم والمعلوم كما في علمه ـ تعالى ـ بذاته.

وامّا رابعا : فلانّ ما ذكر من أنّ النسبة بين العالم والمعلوم هي بعينها النسبة بين الصفة والمعلوم اعتبرت بالعرض بين العالم والمعلوم ؛

يرد عليه : انّ اعتبار النسبة ـ سواء كان بالذات أو بالعرض ـ يقتضي تغاير الطرفين في الجملة ، فيستلزم تغاير العالم والمعلوم البتة ، فلا يتمّ هذا الكلام أصلا إلاّ بالتمسك بحديث كفاية التغاير الاعتباري ؛ فيلغو باقى الكلام!.

وحينئذ فالحقّ في الجواب أن يقال : أنّه لا ريب في أنّ العلم ـ وهو الاضافة الاشراقية ـ نسبة بين العالم والمعلوم ولكن التغاير الاعتباري كافّ لتحقّق هذه النسبة ، والدليل على ذلك هو علم النفس الناطقة بذاتها.

قيل : وإلى هذا الجواب عن الشبهة المذكورة اشار المحقّق الطوسي في التجريد بقوله : « والتغاير اعتباري » (١) ، أي (٢) إنّ ذات الباري باعتبار صلاحيتها للمعلومية في الجملة مغايرة لها باعتبار صلاحيتها للعالمية في الجملة ، وهذا القدر من التغاير يكفي لتحقّق النسبة.

وقال بعض المشاهير : انّ المراد من هذه العبارة : إنّ التغاير بين العلم والمعلوم والعالم في علم الأوّل لذاته اعتباري وكذا التغاير بين العلم والمعلومات في علمه ـ تعالى ـ للمعلومات بالذات الّتي هي الموجودات العينية والصور الإدراكية المعلومة بالحضور ، لا المعلومات بالتبع كما في علم الواجب بذي الصورة بسبب حصول الصورة في الجوهر الأوّل مثلا ، فانّ التغاير في هذه الصورة بين العلم والمعلوم ذاتي وليس بمجرّد الاعتبار ، فهذا الكلام جواب عن كلّ من السؤالين اللذين أحدهما : إنّ العالم ما حضر عنده المعلوم فوجب المغايرة بينهما ، فلا يصح الحكم بأنّ الأوّل ـ تعالى ـ عالم بذاته ؛

__________________

(١) راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢٢١.

(٢) الاصل : ـ أي.

٢٢٩

والجواب : انّ التغاير الاعتباري كافّ في ذلك ، فانّ معنى الحضور عدم الغيبة وذلك لا يقتضي التغاير الذاتي ؛

وثانيهما : انّ العلم الحقيقي أمر يكون سببا لانكشاف المعلوم ، فوجب تحقّق المغايرة بينهما ، فلا يصحّ الحكم بأنّ العلم عين المعلوم كما / ١٦١ DB / حكم به المحقّقون في علم الأوّل ـ تعالى ـ بذاته وبالمعلومات الّتي هي معلومة بالذات ؛

والجواب : إنّ التغاير الاعتباري كافّ في ذلك ، فانّ العلم بالصورة العقلية عينها ، فالصورة العقلية الّتي هي معلومة بالذات هي عين العلم بها ، فهي من حيث هي منكشفة معلومة ومن حيث هي منكشفة بذاتها علم.

وأيضا : منهم من نفى عنه ـ تعالى ـ العلم بالعلم لاستلزام النسبة ـ ضرورة مغايرة العلم للمعلوم ـ ، فاشار إلى جوابه أيضا بقوله : « والتغاير اعتباري ».

وأمّا تقرير السؤال بأنّ العلم نسبة والنسبة تقتضي تغاير الطرفين ؛ وتقرير الجواب : بأنّ العلم ليس مجرّد نسبة بل صفة حقيقية ذات اضافة ، أو : بأنّ التغاير الاعتباري يكفي لتحقق النسبة ـ كما ذكره شارح التجريد (١) ـ فلا تناسب ما ذهب إليه المحقّق من أنّ العلم والعالم والمعلوم واحد في العلم الأوّل ـ تعالى ـ بذاته ـ كما صرح به في شرح الرسالة ـ ؛ انتهى بادنى تفاوت.

وغير خفى انّ الجواب بكون العلم صفة ذات اضافة لا ريب في عدم مناسبته لما ذهب إليه المحقّق.

وأمّا الجواب بتسليم كونه مجرّد اضافة اشراقية والقول بكفاية التغاير / ١٦٢ MB / الاعتباري فلا ينافي القول باتحاد العالم والعلم والمعلوم ، لانّ هذه الاضافة ليست زائدة على الذات ، بل هى عينها ان بنى تصحيح عينية الصفات على أنّ الذات مبدئها ونائب منابها. نعم! ؛ ان بني تصحيحها على أنّ الذات فرد منها وليس سواها اضافة أصلا ، فالأمر كما ذكره ؛ فالكلام حينئذ في أنّ مذهب المحقّق في تصحيح النسبة ما ذا؟!. وعلى أيّ تقدير لا ريب في صحّة تقرير السؤال والجواب على ما ذكره هذا القائل. نعم! ؛ ما ذكره من

__________________

(١) راجع : الشرح الجديد على التجريد ، ص ٣١٢.

٢٣٠

كون المعلومات بالذات ـ أعني : الموجودات العينية المعلومة بالحضور والصور الادراكية ـ علوما حقيقية نظرا إلى أنّها سبب لانكشاف المعلوم والعلم الحقيقي ما يكون سببا للانكشاف ـ كما تقدّم ويأتي أيضا ـ ، فهو مبني على ما ذهب إليه هذا القائل من كون المناط في العلم التفصيلي للواجب بالنسبة إلى الأشياء العينية هو نفس وجوداتها وحضوراتها ؛ وقد عرفت أنّ الحقّ انّ المناط في علمه بالاشياء ليس إلاّ مجرّد ذاته المقدّسة.

وأمّا الفرقة الثانية ـ وهم الذين قالوا : انّه تعالى لا يعلم غيره مع كونه عالما بنفسه ـ ، فشبهتهم في ذلك : انّ العلم يستدعي صورا مغايرة للمعلومات الخارجية متساوية لها مرتسمة في العالم ، ولا خفاء في أنّ صور الأشياء المختلفة مختلفة ، فيلزم بحسب كثرة المعلومات كثرة الصور في الذات الأحدي من كلّ وجه.

والجواب عنه عند القائلين بالعلم الحضوري : انّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء ليس بارتسام صورها فيه ، بل بحضورها عنده ، وهو أقوى من العلم بارتسام صورها ضرورة انّ انكشاف الشيء على آخر لأجل حضورها بنفسه عنده أقوى من انكشافه عليه لأجل حضور مثاله عنده ؛ وعند القائلين بالعلم الحصولي انّ معقولاته صور متباينة متقرّرة في ذاته ـ تعالى ـ وذلك لا ينافي وحدته الذاتية.

وقد عرفت انّ الشيخ لقوله بالعلم الحصولي أجاب عن هذه الشبهة بهذا الجواب في الاشارات نظرا إلى أنّ ارتسام الصور في ذاته لا يوجب تكثّر الجهات فيه عنده حتّى يلزم التركيب المنافي لبساطته ووحدته. والشارح المحقّق ردّ عليه بأنّ ذلك مخالف لقواعدهم من أنّ العلم لا يستدعي صورا مغايرة للمعلومات الخارجية بقوله : « العاقل كما لا يحتاج في ادراك ذاته إلى صورة » ـ ... إلى آخر ما نقلناه سابقا مع توضيح وتنقيح ـ. وقد عرفت انّ حاصله : انّ الانسان قد يدرك ذاته وهو ليس بصورة مغايرة وكذا ادراكه للصور الّتي يعقل بها الأشياء ليس بصور مغايرة. وليس محلّية الانسان للصورة شرطا للتعقّل ، بل هو شرط لحصول تلك الصورة وهذا الحصول شرط للتعقّل ، فالمناط في تعقّل الشيء هو حصوله للمدرك بأيّ نحو كان ، فلو حصلت الصورة بوجه آخر غير الحلول حصل التعقّل ولا ريب في أنّ حصول المعلول لعلّته في معنى الحصولية أشدّ من حصول

٢٣١

الشيء لقابله ـ أعني : الصورة لمحلّها ـ ، فاذن المعلولات للفاعل العاقل لذاته حاصلة له من غير أن تحلّ فيه ، فيكون عاقلا لها من غير أن يكون حالّة فيه. وإلى هذا المطلب أشار في التجريد بقوله : « ولا يستدعي العلم صورا مغايرة للمعلومات / ١٦٢ DA / عنده ، لانّ نسبة الحصول إليه أشدّ من نسبة الصور المعقولة لنا » (١).

ولمّا كان بيان عدم استدعاء العلم صورا مغايرة سهل المأخذ ممكن الدرك بأدنى توجّه لم يلتفت إليه في التجريد. ودفع اشتراط التعقّل بالمحلية بقوله : « لانّ نسبة الحصول إليه أشدّ ـ ... الى آخره ـ ». فانّ حصول المعلول للعلّة إذا كان في باب الحصول اتمّ من حصول المقبول لقابله ومنشأ العلم ليس إلاّ حصول الشيء للعاقل فلا يجب أن يكون محلاّ له.

وإنّما توجّه لدفع هذا الاشتراط لانّ القول به هو منشأ للحكم المردود عنده ـ أعني : كون علمه تعالى بالاشياء بطريق الارتسام وتقرير صور المعقولات في ذاته تعالى ـ.

ثمّ انّه لا يخفى انّ عبارة التجريد ـ أعنى : « ولا يستدعي العلم ـ ... الى آخره ـ » ـ كما يمكن أن تكون ردّا على من نفى علمه ـ تعالى ـ بالغير مع كونه عالما بذاته يمكن أيضا ان يكون ردّا على من التزم انّ علم الواجب بالغير يستدعي صورا مغايرة للمعلومات الخارجية ـ أعني : القائلين بالعلم الحصولي ، كالشيخ وغيره ـ. بل قال بعض المشاهير : انّ حمله على ردّ من ذهب إلى أنّ علمه بالمعلولات بطريق الحصول وارتسام صورها في ذاته ـ كما ذهب إليه صاحب الاشارات ـ أنسب من حمله على ردّ من نفى علمه بالغير بعد تسليمه بانّه عالم بذاته كما ـ فعله الشارح الجديد ـ ، لانّ المحقّق في شرح الاشارات خالف صاحبه في هذا الأمر وقال : انّ علمه بالاشياء بنفس ذواتها من غير ارتسام صورها فيه ، فهذا الحمل أنسب بالنظر إلى ما اختاره في شرح الاشارات.

ثمّ أشدية نسبة الحصول إلى الفاعل من نسبة الصور المعقولة لنا يحتمل معنيين :

/ ١٦٣ MA / أحدهما : انّ حصول مجموع المعلولات الّتي منها الصور الإدراكية لفاعلها العاقل لذاته المستقل في الفاعلية أشدّ تأثيرا في الانكشاف من حصول الصور الادراكية

__________________

(١) راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢٢١.

٢٣٢

لعلّتها القابلية الّتي ليس علّيتها إلاّ بمشاركة غيره من المبادي العالية المفيضة للصور ؛

وثانيهما : انّ حصول المعلولات للفاعل المستقلّ بالاقتضاء أشدّ وأولى في كونه حصولا ـ لا في الانكشاف ـ من حصول الشيء لقابله ، وإذا كان في كونه حصولا أولى نقول : شرط الادراك ليس إلاّ وجود الشيء وحصوله للمجرّد القائم بالذات ، وذلك الحصول ـ الّذي هو الوجود الرابطي ـ امّا يكون ارتباطه بالمجرّد القائم بالذات بـ « اللام » ـ كحضور شيء عند هذا المجرّد ، سواء كان الشيء الحاضر هو ذات هذا المجرّد القائم بالذات أو لا ، ويكون ارتباطه به بـ « من » ـ كصدور شيء منه بأن يكون علّة مفيدة لوجوده ـ ، أو يكون ارتباطه به بـ « في » ـ كارتسام الصور الكلّية العقلية في النفس ، وارتسام الصور الخيالية والحسّية في قواها ـ ، أو يكون بـ « عند » ـ كالصور الخيالية والحسّية المرتسمة في القوى ، فانّ تلك الصور مع القوى حاضرة عند النفس ـ ، وشرط الادراك انّما هو الحصول للمدرك أو منه أو فيه أو الحضور عنده ولا ينحصر شرطه بحصوله فيه. والظاهر عدم الفرق بين الحصول له والحضور عنده حقيقة ـ كما لا يخفى ـ.

وعلى ما ذكر فالفرق بين المعنيين : انّ الأشدّية على المعنى الأوّل يكون وصفا للحصول بحال متعلّقه ـ أي : هذا الحصول تأثيره في الانكشاف أشدّ من تأثير ذلك ، وهذا لا يقتضي كون نفس هذا الحصول أشدّ في كونه حصولا لغيره من ذلك ، إذ ربما يكون الشيء أضعف من شيء من جهة مع أنّ تأثيره في تحصيل أمر أشدّ من تأثير ذلك القويّ في تحصيل ذلك الأمر لمناسبة خاصّة ـ ؛ وعلى المعنى الثاني تكون الأشدّية وصفا للحصول نفسه.

ثمّ الدليل على المعنى الأوّل ـ أعني : كون حصول المعلول للفاعل أشدّ تأثيرا في الانكشاف من حصول الصور لمحلّها ـ هو أنّ المعلول الحاصل لعلّته يكون حاضرا عندها بذاته وبصورته ، والأشياء الّتي ترتسم صورها في النفس انّما تكون حاضرة عندها بصورها فقط ، ولا ريب في أنّ الحضور بالذات وبالصورة أتمّ في الانكشاف من الحضور بالصورة فقط.

وأمّا الدليل على المعنى الثاني ـ أعني : كون حصول المعلول للفاعل أولى في كونه

٢٣٣

حصولا من حصول الشيء لقابله ـ فهو انّ حصول الأشياء المعلولة للفاعل بالاقتضاء والوجوب ، وحصول الصور المعقولة لقابلها بالامكان ، والوجوب أشدّ من الامكان. ولمّا كان الحصول للقابل علما أو مستلزما له فيكون الحصول للفاعل علما أو مستلزما له بالطريق الاولى ، إذ عرفت انّ مدار العلم على الحصول ، فكلّما كان أشدّ كان أولى بأن يكون علما ، / ١٦٢ DB / وقد علم أنّ الحصول بالوجوب أشدّ من الامكان.

وأورد عليه : بأنّ لزوم كون الحصول للفاعل مستلزما للعلم من كون الحصول للفاعل مستلزما له ممنوع ، لانّ كون الشيء عالما بالشيء يقتضي وجود ذلك للعالم في الشهود العلمي ، ووجود المعلول في الخارج وإن كان لازما لوجود العلّة فهو لا يرتبط بالعلّة بحسب هذا النحو من الوجود ، ولا نسلّم انّ هذا الارتباط مصحّح للعلم ؛ إذ العلم بالشيء يقتضي نسبة مخصوصة ، فلا يجدي تحقق نسبة أخرى وان كانت أوكد من تلك النسبة. بل لقائل أن يقول : انّ هذا كما يقال : انّ نسبة السواد إلى قابله بالامكان وإلى فاعله بالوجوب ، والنسبة الاولى منشأ الاتصاف بالسواد ، فلا بدّ أن تكون الثانية منشأ الاتصاف به بطريق أولى ، وهذا ممّا لا يقول به عاقل!.

والجواب منه ـ كما قرّره بعض المشاهير الأعلام ـ : انّه قد مرّ انّ ما يقتضي العلم بالشيء انّما هو الحصول للمجرّد لا من حيث هو حصول ، بل من حيث هو منشأ الحضور عنده ، وليس لخصوص الوجود العيني والظلّي مدخل في ذلك الاقتضاء. ولا خفاء في أنّ صدور المعلولات عن العالم بذاته الفاعل بلا اشتراك الغير يقتضي الحصول والحضور اقتضاء أتمّ وأعلى من اقتضاء قبول القابل للعالم بذاته للصور الإدراكية لها ومن اقتضاء تعلّق النفس المجرّدة بالقوى الحسّية المصورة بالصور الإدراكية الحسّية لهما. والحاصل : انّ منشأ العلم ليس إلاّ الحصول للمجرّد والحضور عنده ، واقتضاء نسبة الفاعلية لهما أتمّ من اقتضاء نسبة القابلية وتعلّق المدبّرية لهما.

وأمّا منشأ اتصاف الشيء بأمثال السواد فانّما هو القيام بالموصوف ، لا مطلق الحصول سواء ارتبط بـ « في » أو بـ « اللام » أو بـ « من » ؛ بخلاف منشأ العالمية ، فانّه ليس الحصول المخصوص بالحلول في المجرّد ، بل هو شامل له وللحصول له وللحصول عنده. و

٢٣٤

الحاصل : انّ اتصاف الشيء بالسواد وصدق الأسود عليه لا يحصل / ١٦٣ MB / بمحض الوجود الرابطي ـ سواء كان الارتباط بـ « في » أو بـ « اللام » أو بـ « من » أو بـ « عند » ـ ، بل لا بدّ فيه من ارتباط خاصّ هو الارتباط بـ « في » بالقياس إلى محلّ مادّي لا غير.

وهذا لا يتصوّر إلاّ في قابل السواد لا في فاعله المجرّد ؛ بخلاف العلم ، فانّ منشأه هو الارتباط بحصول المعلوم للذات المجرّدة القائمة بذاتها أيّ حصول كان. ولا ريب في أنّ الارتباط الحاصل من حصول المعلول للعلّة أشدّ من سائر الارتباطات ، فيكون حصول العلم منه أتمّ وآكد.

ثمّ اعلم! ، انّه على ما اخترناه ليس الحصول بالفعل للمعلول في الخارج شرطا للانكشاف ، بل الربط الحاصل بينه وبين العلّة وكونه بحيث من شأنه أن يحصل منها كافّ لانكشافه عندها في مرتبة ذاتها ، لما عرفت من أنّ المناط في الانكشاف إمّا حضور المعلوم بنفسه عند المدرك ، أو حضور ما هو أقوى منه في باب الانكشاف ـ أعني : حضور علّته ـ ، ومناط انكشاف الأشياء عنده ـ تعالى ـ هو الثاني ـ أعني : ذاته بذاته من حيث انّه علّة ومقتض لها ـ. ولمّا كان الاقتضاء ثابتا له في مرتبة ذاته فيكون الانكشاف ثابتا له أيضا في هذه المرتبة ، ولا يتوقّف على سبق صورة خارجية أو عقلية كما لا يتوقّف ايجاده للأشياء وابداعه إيّاها على سبق مادة خارجية ، فانّ الذات إذا كانت بحيث تصدر عنه الأشياء من غير مادّة نظرا إلى اقتضائه التامّ لها واندراجها فيه ، فيكون بحيث ينكشف له الأشياء أيضا لذلك ؛ كما لا يخفى.

ثمّ اعلم! ؛ انّ للعلم ثلاثة معان :

أحدها : المعنى الانتزاعى الاضافي المصدري الّذي اشتقّ منه « علم » و « يعلم » و « عالم » ، وهو الاضافة الاشراقية ؛

وثانيها : ما ينكشف به الشيء ، وهو المعبّر عنه عندهم « بالعلم الحقيقي » ؛

وثالثها : ما يقتدر به على استحضار المنكشفات بالذات.

وإذا علمت ذلك فنقول : على ما اخترناه لا ريب في أنّ العلم بالمعنى الثالث لا يجوز

٢٣٥

تحقّقه في الواجب ، لانّه بمعنى الملكة الّتي يقتدر بها على استحضار الأشياء. نعم! ، لمّا كان العلم بهذا المعنى هو العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني ـ كما مرّ ـ فيكون ثابتا له ـ تعالى ـ عند القائل به.

وأمّا الأوّلان فموجودان فيه ـ تعالى ـ ، وكلاهما عين ذاته ـ سبحانه ـ ؛

وأمّا الثاني فلأنّ ذاته بذاته هو الّذي ينكشف به الأشياء من غير توقّف على شيء آخر من الصور أو نفس وجودات الأشياء ـ كما قرّرناه ـ. فالعلم بهذا المعنى هو عين ذاته المقدّسة من دون تغاير أصلا ، فيتّحد العلم والعالم والمعلوم ؛

وأمّا الأوّل ـ وهو الاضافة الاشراقية ـ فتحققها له ـ تعالى ـ ظاهر ، لما ذكرنا مرارا من وجوب وجود / ١٦٣ DA / الانكشاف له ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته. وأمّا كونها عين ذاته فلأنّ مرادنا من عينية الصفات الانتزاعية الاضافية أن يكون منشأها ومبدأ انتزاعها مجرّد الذات ، ولا ريب في أنّ مبدأ انكشاف الأشياء ومنشأها ليس إلاّ ذاته بذاته من دون مدخلية شيء آخر من صورة أو عين خارجية ، فيتّحد العلم والعالم بهذا المعنى أيضا على النحو المذكور.

وبما ذكر يندفع سؤال مشهور ممّا يورد في هذا المقام ، وهو : انّ صيغة العالم مشتقّ من العلم ، فوجب أن يكون العلم قائما بالعالم ، فلا يصحّ أن يكون عين العالم.

ووجه اندفاعه : انّ صيغة العالم انّما يشتقّ من العلم الانتزاعي المصدري وعينيته للذات انّما بمعنى كون الذات وحدها منشأ لانتزاعه ومبدأ له ، وقيام المعنى الانتزاعي بالشيء معناه أن ينتزع منه ، ومعلوم انّ القيام والعينية بهذا المعنى غير متنافيان ، فيمكن اجتماعهما. وأمّا العلم الحقيقي الّذي هو عين العالم بالذات فلا يشتقّ منه شيء ، وإن جعل صفة العالم مأخوذة منه كان اشتقاقه جعليا ، وهو ما لا يقوم مبدأ الاشتقاق بذات المشتقّ بل يكون المشتقّ بمعنى ما ينسب إليه المبدأ ـ سواء كان عين المبدأ القائم بنفسه ، أو ارتبط المبدأ به (١) ـ ؛ فالعالم بمعنى ما ينسب إليه العلم الحقيقي ـ سواء كان عين العلم القائم بنفسه أو ارتبط به ـ. نظير ذلك ما قيل في صفة الموجود المأخوذ من الوجود الحقيقي.

__________________

(١) الاصل : المبدئية.

٢٣٦

والحاصل : انّ المشتقّ الجعلي هاهنا ـ أعني : العالم المأخوذ من العلم الحقيقي ـ امّا أن يكون عين العلم ـ كما في اطلاق العالم بهذا المعنى على الشيء باعتبار علمه بذاته ـ ، كاطلاق العالم على الواجب ـ سبحانه ـ باعتبار علمه بذاته ، فانّ العلم الحقيقي والعالم حينئذ متحدان بالذات ولا يكون عين العلم ، بل يكون العلم مرتبطا به ، كما في اطلاق العالم على الشيء باعتبار قيام العلم ـ لا بالمعنى المصدري ـ بذاته أو بشيء من قواها ، كاطلاق العالم على النفس باعتبار قيام الصورة العلمية بذاتها ، أو باعتبار ارتسامها في شيء من قواها. ومن هذا القبيل اطلاق العالم على الواجب ـ سبحانه ـ باعتبار علمه ـ تعالى ـ بالأشياء الموجودة الحاضرة عنده ـ تعالى ـ عند من يجعل مصحّح الانكشاف ومنشأه نفس وجودات الأشياء ، فانّ العلم الحقيقي عنده حينئذ هو اشياء العينية وهي ليست عين العالم بل مرتبط به وكذا / ١٦٤ MA / الحالّ في علمه ـ سبحانه ـ بالغير باعتبار قيام الصور في موجود آخر.

ثمّ جعل العالم باعتبار قيام الصور بذاته جعليا مع أنّ المبدأ حينئذ قائم بالمشتقّ مبني على أنّ (١) المشتقّ الجعلي هو أن لا يقوم بذاته مبدأ الاشتقاق المصدري ـ سواء لم يقم به مبدأ الاشتقاق أصلا أو قام به مبدأ اشتقاق لم يكن مصدريا ـ ، فاطلاق العالم على الشيء باعتبار قيام الصورة العلمية به أو باعتبار كونه صاحب الملكة الراسخة الّتي يقتدر بها على استحضار العلوم المفصّلة اشتقاقه جعلي أيضا. وكون اشتقاقه واقعيا حقيقيا غير جعلي انّما ينحصر بصورة كون العلم ـ بالمعنى المصدري الانتزاعي ـ قائما به.

ثمّ جميع ما ذكر إنّما هو على ما اخترناه ، وامّا على ما ظهر من كلام الشيخ الاشراق وذهب إليه العلاّمة الطوسي من كون الحصول بالفعل للأشياء شرطا لانكشافها عنده ، وكون المناط في معقولية الأشياء هو نفس وجوداتها ، فلا يكون ذات الواجب هو العلم بالمعنى الثاني ـ أعني : العلم الحقيقي ـ ، بل العلم الحقيقي حينئذ هو ذات الأشياء العينية ؛ ولذا قيل : انّ العلم الحقيقي مفسّر عندهم بالحاضر بالذات عند المدرك أو غير الغائب عنه ، أو غير مخفيّ عنه. وعلى القول بالعلم الحصولي لمّا كان مناط الانكشاف وما ينكشف به

__________________

(١) الاصل : السبب.

٢٣٧

الشيء هو الصورة فيكون العلم الحقيقي هو الصورة الحاصلة الّتي هى معلومة بالذات ، فعلى القول بالعلم الحضوري ـ على نحو ما ذكروه ـ يكون العلم الحقيقي الّذي هو الحاضر بالذات هو الموجود العيني الّذي هو المعلوم بالذات ؛ وعلى القول بالحصولي يكون العلم الحقيقي الذي هو الحاضر بالذات هو الصورة الحاصلة الّتي هي المعلومة بالذات ، والأمر العيني معلوم بالعرض ؛ ولذا قيل : العلم بهذا المعنى هو الصورة الحاصلة عند المدرك ، بل الشيء الحاضر عنده ، أو غير الغائب عنه.

وهو بهذا المعنى قد يكون جوهرا ـ ان كان المعلوم جوهرا ـ ؛ وقد يكون مندرجا في مقولة الكيف أو في أيّة مقولة كانت بحسب اندراج المعلوم فيها ـ على اختلاف القولين في تعاريف المقولات ـ ؛ وقد لا يكون مندرجا في مقولة أصلا ، كعلم المبدأ ـ تعالى ـ بذاته ، فانّه عين ذاته ، فلا يندرج في مقولة / ١٦٣ DB / أصلا. وذلك لأنّ الجوهر ماهية إذا وجدت كانت لا في موضوع ، ولمّا كانت ذات واجب الوجود عين الوجود القائم بالذات لا ماهية يعرض لها الوجود لا يكون مندرجا تحت مقولة. وبالجملة على مذهب الشيخ الالهي والمحقّق الطوسي يتّحد العلم والمعلوم لا العلم والعالم ، فيكون علم الواجب بذاته ـ عين ذاته ـ لكون المعلوم نفس ذاته وعلمه بمعلولاته عين معلولاته. وقد صرّح بذلك المحقّق في شرح الاشارات حيث قال : « قد علمت انّ الأوّل ـ تعالى ـ عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلاّ في اعتبار المعتبرين ـ على ما مرّ ـ ، وحكمت بأنّ عقله لذاته علّة لعقله لمعلوله الأوّل. فاذا حكمت بكون العلّتين ـ أعني : ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير فاحكم بكون المعلولين أيضا ـ أعني : المعلول الأوّل وعقل الأوّل تعالى له ـ شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير. وكما حكمت بكون التغاير في العلّتين اعتباريا محضا فاحكم بكونه في المعلولين كذلك ، فانّ وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل ـ تعالى ـ إيّاه من غير احتياج إلى صورة مستأنفة ـ جلّ ذات الأوّل تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ.

ثمّ لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها لحصول صور فيها ولا موجود إلاّ وهو معلول للأوّل الواجب وكان جميع صور الموجودات الكلّية والجزئية ـ على ما

٢٣٨

عليه الوجود ـ حاصلة فيها كان الأوّل الواجب تعقل تلك الجواهر مع تلك الصور ، لا بصور غيرها ، بل بأعيان تلك الجواهر والصور وكذلك الوجود على ما هو عليه. فاذن لا يعزب عنه مثقال ذرّة من غير لزوم محال من المحالات المذكورة. فهذا أصل إن حقّقته وبسطته انكشف لك كيفية احاطته ـ تعالى ـ بجميع الأشياء الكلّية والجزئية ـ إنشاء الله تعالى ـ ؛ و( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) (١) ، (٢) ؛ انتهى.

وهذه العبارة وان نقلناها سابقا إلاّ أنّا نقلناها هاهنا أيضا لتوقّف بيان ما نحن بصدده عليه.

فنقول : يرد على ما ذكره ـ رحمه‌الله ـ : انّ هذا ـ كما مرّ ـ يقتضي عدم تحقّق الانكشاف له ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته مع كونه من الصفات الكمالية ، بل يلزم على هذا أن لا يكون علم عين ذات الواجب أصلا ، لأنّ العلم بالمعنى الثاني ليس إلاّ عين المعلولات ـ على ما ذكره ـ ، ومعلوم انّ ذات الواجب ليس عين معلولاته. وأمّا العلم بالمعنى الأوّل وهو الاضافة فليس عنّا لشيء من المدرك والمدرك. نعم! ، على ما ذكرناه من أنّ المراد من عينية الصفات الاضافية الانتزاعية لشيء هو كون ذات هذا الشيء بذاته من دون مدخلية شيء آخر مبدأ ومصحّحا لها ومنشأ لانتزاعها يكون العلم بالمعنى الاضافي المصدري ـ على ما ذكروه ـ عين المعلوم ، لا عين العالم ، لعدم كون ذاته ـ تعالى ـ منشأ للانكشاف حينئذ ؛ بل المبدأ والمصحّح عندهم هو / ١٤٦ MB / نفس وجودات الأشياء. نعم! ، إن قالوا بالعلم الاجمالي على الاحتمال الثاني يكون ذاته ـ تعالى ـ عين العلم بالمعنى الثالث ـ اعني : ما يقتدر به على استحضار المنكشفات بالذات ـ ، وقد عرفت انّ كلام المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم يدلّ على ذلك ، إلاّ أنّك قد عرفت ما يرد على هذا القول.

وبما ذكرناه ظهر انّ قوله ـ رحمه‌الله ـ : « فاذن وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل إيّاه » ليس على ما ينبغي ، لانّ مناط تعقّل الأشياء إذا كان ذاته بذاته فلا يكون

__________________

(١) كريمة ٥٤ ، المائدة.

(٢) راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ج ٣ ص ٣٠٦.

٢٣٩

وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل ـ تعالى ـ إيّاه ، بل يكون ذاته بذاته هو نفس تعقّله للمعلول الأوّل إذا حمل التعقّل على المعنى الأوّل الاضافي وحمل التعقّل على المعقول حتّى يكون المراد أنّ وجود المعلول الأوّل هو نفس المعلول له ـ تعالى ـ من دون أن تحلّ صورة منه فيه توجيه بما لا يرضى الخصم ، لأنّ مذهبه ـ رحمه‌الله ـ انّ ما ينكشف به الأشياء هو نفس تلك الأشياء ويلزمه كون وجود المعلول نفس تعقل الواجب ايّاه. وممّا يرد عليه ـ رحمه‌الله ـ ؛ انّ قوله : « فاذن لا يعزب عنه مثقال ذرّة » وقوله : « انكشف لك كيفية احاطته بالأشياء الكلّية والجزئية » يدلّ على أنّ الواجب ـ سبحانه ـ عالم بالجزئيات لارتسام صورها في الجواهر العقلية ـ لتصريحه بأنّ علمه بالأشياء الّتي غير الجواهر العقلية انّما هو بارتسام صورها في تلك الجواهر ـ ، فيلزم كون صور الجزئيات ـ سواء كانت مجرّدة أو مادّية ، متشكّلة أو غير متشكّلة ـ مرتسمة في تلك الجواهر ، وهو خلاف ما تقرّر عند الحكماء من امتناع حصول صورة المتشكّل إلاّ في آلة جزئية متجزّئة جسمانية ؛ فلا بدّ له إمّا القول بالاكتفاء بالعلم الاجمالي ؛ أو مخالفته للمشهور والتزام حصول صور المتشكّلات في الجواهر العقلية ، وإرادة ما يتناول النفوس أيضا من الجواهر العقلية.

ثمّ لمّا كان مذهب شيخ الاشراق ـ على ما / ١٤٦ DA / عرفت ـ هو أنّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء بأسرها إنّما هو بحضور ذواتها ، ومذهب المحقّق إنّ العلم بالصادر الأوّل انّما هو بحضور ذاته وبما عداه من المعلولات البعيدة إنّما هو بارتسام صورها فيه ، فيرد على الأوّل ـ كما عرفته مرارا ـ عدم تحقّق علمه بشيء في مرتبة ذاته ؛ وعلى الثاني يرد ذلك مع لزوم افتقار الواجب في العلم بالمعلولات البعيدة الى الصادر الأوّل والى الصور المرتسمة فيه ؛ وأيضا لا يكون صدور الصادر الأوّل عنه بالاختيار لعدم كونه مسبوقا بالعلم حينئذ ومسبوقيته بالعلم الاجمالى بمعنى تمكّنه من العلم به بعد ايجاده لا يفيد ، لأنّ التمكّن غير الانكشاف بالفعل الّذي يجب تحقّقه في الصدور بالاختيار.

ثمّ الظاهر من كلام المحقّق في شرح رسالة العلم التزام عدم كون العلم سببا للمعلوم وعدم توقّف الصدور بالقدرة والاختيار على مسبوقيته بالعلم ، حيث قال في

٢٤٠