جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

النظام العجيب صادر عن العلم السابق ، إلاّ أنّ العلم السابق لا يلزم أن يكون صوريا ، بل يجوز أن يكون حضوريا انكشافيا ، فكما أنّ القائلين بالعلم الحصولي يقولون : انّ تمثّل نظام الخير وارتسام صورته في ذاته ـ سبحانه ـ من لوازم ذاته ثمّ يصير هذا التمثل سببا لصدور النظام ، فنحن نقول : إنّ اصل النظام من لوازم ذاته ومن معلولاته اللازم فيضانه وترشحه عنه ، وهذه المعلولية واللازمية سبب لانكشافه عنده وظهوره لديه وإن لم يوجد بعده ، كما أنّ كون ذاته بذاته سبب لانكشاف ذاته عند ذاته ، فانّ مجرّد المعلولية كافّ للانكشاف مع قطع النظر عن الوجود العيني ، فانّ وجود الشيء في الخارج وحضوره عند المجرّد كما يكون مصحّحا للانكشاف فكذا وجود علّته وحضورها عنده يكون مصحّحا له أيضا ، بل هذا أقوى منه في باب الانكشاف. وسيجيء ـ إن شاء الله ـ لذلك زيادة بيان.

ومنها : انّه يلزم على القول بالعلم الحضوري أن لا يكون علمه ـ تعالى ـ بالأشياء فعليا ، ولا يكون صدورها عنه بالاختيار.

وأجاب عنه بعض أعاظم العرفاء : بأنّ للعلم الفعلي عندهم صورتين :

إحديها : أن يكون سببا للمعلوم بالعرض ومقدّما عليه بالتقدّم الذاتي ، كما إذا اراد البنّاء أن يبنى بيتا فتصوّر أوّلا صورته وأحدثها في ذهنه ، ثمّ اوجد البيت المطابق للصورة المحدثة في ذهنه في الخارج ؛

وثانيهما : أن يكون العالم بما هو عالم علّة بالذات للمعلوم من حيث هو معلوم ـ سواء كان أمرا ذهنيا أو عينيا ـ ، والفاعل بما هو فاعل عالما بالذات بما هو مفعول من حيث هو مفعول كذلك. فكما انّ العالم في الصورة الأولى يعلم الصورة الذهنية بنفس اختراعها وليست معلومة بصورة أخرى ـ بل نفس حصولها عنده في ذهنه نفس معلوميتها له ـ ، فكذلك العالم في الصورة الثانية يعلم العين الخارجي بايجاده وعلمه بالصورة العينية الخارجية نفس ايجاده لها. ففي الصورة الاولى العلم بالصورة حصولي فعلي والمعلوم ـ أعني : الصورة ـ معلوم بالذات والعلم بالعين الخارجى أيضا فعلي ولكن المعلوم ـ أعني : هذا العين ـ معلوم بالعرض ؛ وفي الصورة الثانية العلم بالعين الخارجى حضوري فعلي و

٢٠١

المعلوم ـ أي : هذا العين ـ معلوم بالذات أيضا ، ففي الصورة الاولى الفاعل يصدر عنه فعله عن ذاته مع علم مكتسب زائد على ذاته ، وفي الصورة الثانية يصدر الفعل عن نفس ذاته العالمة بما هو ذات عالمة. وعلى هذا فالأوّل ـ تعالى ـ أوجد المعلول الأوّل وفي حال ايجاده علمه ، لا انّه ـ تعالى ـ علمه فأوجده حتّى يلزم تكرّر التعقّلات الموجب للتسلسل في الارتسامات ـ إن كان العلم السابق ارتساميا ـ ؛ أو في الموجودات الخارجية ـ إن كان حضوريا ـ لاقتضاء العلم الحضوري وجود المعلوم في الخارج ، ولا انّه ـ تعالى ـ أوجده فعلمه حتّى يلزم أن يكون علمه انفعاليا مستفادا من المعلوم ، بل أوجده عاقلا له ، أي نفس وجوده نفس معقوليته ، فإيجاد المبدأ الاعلى له عين العلم به. وكذلك حال الثواني من المعلولات. فعلمه ـ تعالى ـ بالأشياء حضوري فعلي ولا يلزم أن يكون موجبا لأنّ اقتضاء الشيء للشيء إن كان مع شعور للشيء الأوّل بالشيء الثاني فهو إرادة وان كان بلا شعور فهو ميل طبيعي. ولا فرق بين الإرادة والميل الطبيعي الّذي هو الايجاب إلاّ بأنّ الأوّل يقارن الشعور والثاني لا يقارنه.

والحاصل : انّ مقارنة الشعور للفعل الناشئ من ذات الفاعل كافّ في كونه اراديا وبمجرّده يتحقّق الاختيار ولا يلزم السبق الذاتي للشعور على الفعل ، كما لا يلزم السبق الزمانى له عليه ـ كما يدعيه المتكلّمون ـ ؛ انتهى.

أقول : وقد تقدّم انّ للعلم الفعلي / ١٥٥ MB / تفسيرين :

احدهما : انّه ما / ١٥٤ DB / كان سببا لوجود المعلوم في الخارج ، وهذا هو الصورة الاولى. ولا يكون العلم المقارن للايجاد على هذا التفسير علما فعليا ؛

وثانيهما : ما يكون نفس الايجاد بأن يكون جهة وجود المعلوم وصدوره عن فاعله بعينها هي جهة حضوره لمدركه ، وهذا هو الصورة الثانية. وعلى هذا التفسير يكون العلم المقارن للايجاد ـ أي : الّذي يكون فيه نفس وجود المعلوم نفس معلوميته ـ علما فعليا. وعلى هذا فلا يرد اشكال من جهة عدم كون علمه فعليا ولزوم كونه انفعاليا ، نظرا إلى هذا الاصطلاح. إلاّ أنّ القول بمقارنة علمه ـ تعالى ـ للايجاد وكون نفس وجود المعلوم نفس معقوليته باطل لما أشير إليه من لزوم عدم كونه ـ تعالى ـ عالما في مرتبته و

٢٠٢

لزوم جهله ـ سبحانه ـ بكلّ ممكن قبل ايجاده ، وهو كفر وزندقة.

وأيضا : نحن نعلم بديهة إنّ المعقولية الّتي هو الانكشاف مغاير للوجود الخارجي ـ كما أشير إليه سابقا ـ.

وعلى ما اخترناه من استلزام فعله ـ تعالى ـ بذاته لعلمه بالاشياء قبل وجودها الخارجي علما حضوريا تفصيليا ـ نظرا إلى أنّ ذاته بمنزلة المحل للأشياء لكون جميعها لوازم ذاته ومعلولاته الفائضة المترشّحة عنه فيضانا ذاتيا ، وجواز كون المعلولية والانطواء في العلّة مصحّحا للانكشاف وإن لم يتحقّق الوجود العيني بعد ـ نقول في الجواب عن ايراد لزوم عدم كون علمه ـ تعالى ـ فعليا : لا ريب في أنّ هذا الانكشاف لوجوب تقدّمه على وجود الأشياء في الخارج وامتناع صدورها عن فاعله الحقّ بدون سبق الانكشاف يكون هذا الانكشاف سببا لوجودها ، فيكون هذا الانكشاف علما فعليا بالتفسير الأوّل ، ولكون جهة هذا الانكشاف الاشراقي هو بعينه جهة وجود المنكشف ـ أعني : لزوم الأشياء المعلولة لجاعلها وانطوائها في ذاته ، لأنّ كونها لازمة له مترشّحة عنه ـ هو بعينه كونها منكشفة عنده ظاهرة لديه ، فيكون علما فعليا على التفسير الثاني. وهذا أيضا بناء على ما قالوا من أنّ الصور المعقولة جهة معقوليتها هي بعينها جهة صدورها عن فاعلها ووجودها له ، وعلى ما سبق منّا من أنّ وجود الصور المعقولة مغاير لمعقوليتها ـ لأنّ انكشافها لمحلّها غير وجودها فيه ، لكون هذا الوجود وجودا خارجيا نظرا إلى كون المحلّ موجودا في الخارج والوجود الخارجي للشيء غير انكشافه عند آخر ـ يكون انكشاف الأشياء للواجب قبل وجودها مغايرا للزومها ومعلوليتها له ، وإن ثبت الاستلزام بينهما ، كما هو ثابت بين وجود الصور المعقولة للشيء ومعقوليتها له. والظاهر انّ قولهم باتّحاد الجهتين أعمّ من الاستلزام ، وحينئذ فلا اشكال.

وبالجملة : على ما اخترناه يكون علمه فعليا على التفسيرين.

ثمّ القول بالعلم الحصولي وإن كانت نفس الصور المعقولة علما فعليا بالنسبة إلى الأعيان الخارجية ولكن تلك الصور أمور زائدة على ذاته معلولة له ـ تعالى ـ ، فصدورها عنه ـ تعالى ـ يتوقّف على العلم. فان قيل انّ معقوليتها نفس صدورها وايجادها حتّى كان

٢٠٣

علما فعليا بالتفسير الثّاني لزم ما ذكره من عدم علمه ـ تعالى ـ بتلك الصور في مرتبة ذاته ـ تعالى ـ ؛ وإن لم يكن معقوليتها نفس ايجادها بل كانت معقولة بصور معقولة أخرى لزم التسلسل في الصور المعقولة ؛ وأمّا على ما اخترناه فيكون العلم السابق على الأشياء علما حضوريا فعليا ولكونه مجرّد اضافة اشراقية يكون عين ذاته ـ تعالى ـ ، ولا يكون شيئا زائدا على ذاته معلولا له ـ تعالى ـ حتّى يتوقّف على العلم السابق.

ثمّ مع كون العلم سابقا لا مجال لتوهّم نفي الاختيار ، لأنّه إذا كان الفعل مسبوقا بالعلم فلا ينافي ثبوت الاختيار بأيّ معنى كان ؛ وأمّا مع مقارنته له وعدم تقدّمه عليه مطلقا فلا يعقل تحقّق الاختيار. وما ذكره بعض العرفاء من أنّه لا يلزم في الاختيار السبق (١) الذاتي ولا الزماني للشعور والعلم على الفعل فلا يخفى ضعفه.

ومنها : انّه لو كان علم الواجب بجميع الأشياء حضوريا لكانت المادّيات من الاشخاص الجسمانية والصور الجرمانية حاضرة بالحضور الانكشافي عنده ـ سبحانه ـ ، وهذا ليس بجائز ؛ لوجهين :

أحدهما : انّ المادّي مع مادّيته واختلاطه بالغواشي المادّية وتخصيصه بموضع معين وحدّ خاصّ واختصاصه بزمان وجوه كيف يكون حاضرا عند المجرّد المتقدّس عن العوارض / ١٥٥ DA / المذكورة؟! ؛ وقد صرّح الشيخ الرئيس في الشفا بعدم جواز ذلك.

وثانيهما : انّ مدار المعقولية والعاقلية / ١٥٦ MA / عندهم على التجريد عن المادّة ـ ولذا قالوا : العلم حضور مجرّد عند مجرّد قائم بالذات ـ ، وحينئذ كيف يجوز أن يصير الاشخاص الجسمانية معقولة بأنفسها لا بالصور المنتزعة عن موادّها؟!.

والجواب : انّه كما يجوز أن يكون المادّي معلولا للمجرّد فكذا يجوز أن يكون حاضرا عنده منكشفا لديه بالإضافة الاشراقية نظرا إلى تحقّق ربط خاصّ وعلاقة وجودية بينهما ، فانّ ذلك لا يستلزم اجتماعهما في مكان أو وضع ؛ وإنّما يتحقّق ذلك إذا كان كلّ من المدرك والمدرك أو المؤثّر والمتأثّر مادّيا مكانيا. على أنّ مادّية المادّي وكونه مكانيا وزمانيا ذات وضع انّما هو بالنظر إلى مادّي آخر لا بالنظر إلى المجرّد ؛ وإلى هذا

__________________

(١) الاصل : الشيء.

٢٠٤

أشار بعضهم حيث قال : إنّ الشيء المادّي والزماني بالنسبة إلى المادي غير مادّي ولا زماني ؛ يعنى به : انّ أثر المادّة وأثر الزمان ـ من المكان والوضع والعينية والخفاء ـ يرتفع منه بالنسبة إلى المجرّد.

ثمّ كون مدار العاقلية والمعقولية على تجريد الصورة انّما هو بالنسبة إلى الأشياء الّتي لم يتحقّق للعاقل بالنسبة إليها علاقة وجودية وتسلّط قهري وعدم الحجاب ، فاذا تحقّق ذلك يكفي للعاقلية مجرّد الاضافة الشهودية الاشراقية. وإلى ما ذكرناه مجملا أشار إليه بعض المحقّقين مفصّلا حيث قال : فان قلت : ما تقول في المعلولات البعيدة من الأمور المادّية والجزئيات الكائنة الفاسدة؟ ، وكيف يمكن حضوره عنده ـ تعالى ـ مع كونها مادّية ومختصّة بأزمنة وجوداتها وكونه ـ تعالى ـ مجرّدا ازليا أبديا؟ ؛

قلت : أمّا المادّية فقد عرفت انّ التجرّد عن المادّة ليس شرطا لمطلق التعقّل ، بل انّما هو شرط للتعقّل الارتسامي والحضوري ، ولا امتناع في حضور المادّي عند المجرّد كما أن لا امتناع في كونه معلولا له والعلّة واجبة الحصول مع المعلول. إلاّ انّه ليس المراد هو الحصول المكاني الوضعي ، بل المراد الحصول له بنفس الذات ـ كحصول المعلول عند العلّة ـ. وأمّا في الأمور الكائنة الفاسدة والزمانية ، فنقول : نسبة كافّة الزمانيات إليه ـ تعالى ـ نسبة واحدة كنسبة قاطبة الامكانيات ، وليس له ـ تعالى ـ بالنسبة إلى شيء من الزمانيات قبلية ذاتية ولا بعدية ولا مقارنة لعدم اختصاصه ـ تعالى ـ بشيء من الأزمنة ، بل وجوده محيط بكلّية الزمان ، كما ليس له بالنسبة إلى شيء من المكانيات فوقية ولا تحتية ولا مفارقة مكانية لعدم اختصاص وجوده ـ تعالى ـ بشيء من الأمكنة ، بل هو محيط بكلّية المكان. فالامتداد الزماني بطوله بالنسبة إليه ـ تعالى ـ كان واحدا كما أنّ الامتداد المكاني بفسحته بالنسبة إليه كنقطة واحدة. ولا يتوهّم انّ فيما ذكرناه التزام عدم كلّ حادث ، فانّا لا نقول : انّ كلّ حادث فهو في الازل موجود حاضر عنده ـ تعالى ـ ، بل نقول : إنّ الحادث في وقت وجوده حاضر لديه منكشف عنده مع كونه ـ تعالى ـ في الازل. وهذا الّذي ذكرت وإن كان منقولا من الحكماء إلاّ انّهم قالوا : كذلك في الشهود العلمي الّذي هو بحسب الارتسام في ذاته ، أو في شيء آخر ـ على اختلاف المذهبين ـ لا بحسب

٢٠٥

الوجود العينى ، وأنا أقول : انّه كذلك بحسب الوجود العيني. ولو تفطّنوا لذلك لاستراحوا من تجشّم التكلّفات في تصحيح علمه ـ تعالى ـ بالاشياء. والدليل على أنّهم لم يتفطّنوا لذلك انّ المحقّق الطوسي مع كونه معلّقا على هذا الكلام من الحكماء وتشديد المبالغة في تقريره (١) وتصحيحه في شرح رسالة العلم ، جعل ادراكه ـ تعالى ـ لمعلولاته البعيدة من المادّيات والمعدومات الّتي من شأنها أن يوجد في وقت بارتسام صورها في معلولاته القريبة ؛ وهذا أوّل دليل على أنّ المقرّر لهذا المطلب انّما قرّره باعتبار الشهود العلمي الارتسامى ، لا بحسب الوجود العيني. وممّا يدلّ على عدم تفطّنهم أيضا لما ذكر قول الشيخ في الشفا حيث قال ما حاصله : ولا تظنّ أنّ الاضافة العقلية إلى الاشياء حين وجودها ، بل يلزم هذا الاضافة إليها وهي بحال معقولة ، ولو كانت من حيث وجودها في الاعيان لكان انّما يعقل ما يوجد / ١٥٦ MB / في كلّ وقت ولا يعقل المعدوم منها في الاعيان إلى أن يوجد.

ومنها : انّه لو كان جميع الأشياء حاضرا عند الواجب لزم تناهى عدد الموجودات ، و/ ١٥٥ DB / اللازم باطل من جانب الأزل عند الحكيم ـ لا من جانب الأبد عند الكلّ ، لخلود الجنّة والنار وأهلهما عند قاطبة المليين ـ. بيان الملازمة : انّ الاوضاع الفلكية وحركاتها بجميعها وأجزاء الزمان بأسرها مترتبة متحقّقة في الوجود بالنظر الى الواجب وان لم تكن مجتمعة إذا قيس بعضها إلى بعض ، فانّ الامتدادات والأوضاع الآتية من جانب الأبد وإن كان ما يحصل منها في الوجود متناهيا إلاّ انّها لمّا كانت بحيث لا تقف إلى حدّ ومن شأنها الذهاب إلى غير النهاية فالواجب ـ تعالى ـ محيط بجميع ما حصل في الوجود وما من شأنه أن يحصل في الوجود إلى غير النهاية ـ لاستواء نسبة الماضى والمستقبل إليه سبحانه ـ ، فتكون الجميع حاضرة عنده ـ سبحانه ـ ؛ فيجري فيها براهين ابطال التسلسل لترتّبها واجتماعها في الوجود حينئذ ، فيلزم التناهي.

والجواب : انّ ترتّب الحوادث إنّما هو في ظرف الزمان ، لانّ حصول الترتّب إنّما هو لأجل العدد وهو انّما يكون في الزمان ، فما هو متعال عن الزمان والزمانيات ـ كالواجب

__________________

(١) الاصل : وتشديد المبالغة وتقريره.

٢٠٦

تعالى ـ لا يتصوّر عدد ولا ترتيب بالنسبة إليه. فالحوادث الغير المتناهية في الطرف الّذي مترتّب فيه ـ أعني : الزمان ـ غير مجتمعة فيه ، وفي الطرف الّذي مجتمعة فيه ـ أعني : في علم الواجب تعالى ـ غير مترتبة فيه ، فلا يلزم التناهي. والحاصل : انّ احاطة الواجب بغير المتناهي لا ضير فيه ولا يجري فيه ادلّة ابطال غير المتناهي.

ومنها : الاشكال المشهور الّذي استصعبوه ، وهو عمدة الاشكالات الموردة على العلم الحضوري. وهو : انّ حضور الأشياء عند الواجب قبل وجودها لا معنى له ـ لأنّه لا يتصوّر حضور المعدومات واحداثها حين عدمها في الخارج ، لأنّه لا حقائق لها ثابتة حتّى يمكن انكشافها وحضورها عنده تعالى قبل أزمنة وجودها ـ ، مع انّه على القول بالعلم الحضوري يجب أن يكون الواجب ـ تعالى ـ عالما بها في الأزل. والاشكال يصير أصعب في علمه الحضوري بالممتنعات ، لانّه لا يمكن القول بحضورها عنده ـ تعالى ـ مع امتناع وجودها في الخارج.

وقد أجيب عن هذا الاشكال بوجوه :

أوّلها : ما ظهر من كلام شيخ الاشراق ، وهو : انّ مناط علمه ـ تعالى ـ بالأشياء نفس حضور تلك الأشياء المباينة وجودها عن وجوده ، بمعنى انّ معقوليتها نفس وجودها ، فما لم يتحقّق وجوداتها العينية لم يتعلّق بها العلم ولم يكن منكشفة عند الأوّل ـ تعالى ـ. وإلى هذا يشير كلام بعض الأفاضل حيث قال : إنّ علمه ـ تعالى ـ عين ذاته بمعنى انّه بذاته مبدأ للانكشاف التامّ بالنسبة إلى ما يصحّ أن يكون معلوما ، والمصحّح للمعلومية هو الشيئية في ظرف ما ، فما لم تتحقّق الشيئية لم تتحقّق المعلومية ولا يكون علم بمعنى الانكشاف ولا معلوم ، فالمعدومات الخارجية والحوادث قبل حدوثها إن كان لها ثبوت في المدارك كان ذلك الثبوت مصحّحا للمعلومية كافيا في تعلّق علمه ـ تعالى ـ بها ، وإن لم يكن لها ثبوت فيها بل كانت معدومات مطلقة وليسيات صرفة ، فلا يمكن تعلّق العلم بها. ولا يلزم من ذلك نقص في حقّه ـ تعالى ـ ، لانّ المعدوم المطلق من حيث انّه معدوم مطلق لا يصحّ للمعلومية ، بل انّما النقص في المعدوم ـ كما قالوا في القدرة بالنسبة إلى الممتنع ـ. ثمّ إذا وجدت الحوادث في الخارج يتعلّق بها علمه ـ تعالى ـ ، فعلمه الّذي هو

٢٠٧

مبدأ الانكشاف وعين ذاته أزلي وتعلّقاته حادثة.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب يجعل الاشكال أصعب!.

أمّا أوّلا فلانّه لو كان مناط علمه ـ تعالى ـ بالأشياء نفس وجوداتها وظهوراتها ولم يكن له علم كمالي بشيء قبل وجوده بل كانت ذوات الأشياء العينية صورا علمية له وعالميته اضافية اشراقية شهودية لزم أن يكون الواجب الحقّ جاهلا بالاشياء في مرتبة ذاته. لانّ وجود الممكنات واضافة الأوّل ـ تعالى ـ إليها بعد مرتبة / ١٥٧ MA / ذاته والتزام عدم عالميته بشيء غير ذاته في مرتبة ذاته نقص عظيم وكفر بالله الكريم ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّه يلزم أن لا يكون صدور الأشياء عنه ـ تعالى ـ بالاختيار ، لما تقرّر عندهم من أنّ الفاعل بالاختيار يتوقّف فعله على انكشاف المعلول عنده حتّى يمكن تعلّق التأثير به.

فان قيل : انّ صور الحوادث قبل حدوثها يمكن أن تكون حاصلة في بعض المدارك ، فيتعلّق علمه الازلي بها قبل الايجاد بحسب ذلك الثبوت ؛

قلت : هذا مع استلزامه / ١٥٦ DA / لبعض المفاسد ـ كما أشير إليه ـ لا يدفع الاشكال عن علمه ـ تعالى ـ بالمعلول الأوّل ، فانّه لا يتقدّمه مدرك حتّى يحصل صورته فيه.

وأيضا : يشكل الأمر في تعلّق علم تلك المدارك بالحوادث ، فانّه إذا كان تعلّق العلم بالمعدوم الصرف محالا لزم أن يكون تعلّق علم تلك المدارك بالحوادث مسبوقا بنحو ثبوت لها ؛ فذلك الثبوت إمّا أن يكون في تلك المدارك أيضا ، فننقل الكلام إلى ذلك الثبوت ونقول لكونه علما يتوقّف على ثبوت آخر ... وهكذا ، فيلزم التسلسل في الثبوتات المترتّبة ؛ وإمّا أن يكون في مدرك آخر غير تلك المدارك ، فاذا نقلنا الكلام إليه يلزم التسلسل في الثبوتات وفي المدرك أيضا.

ثمّ الجواب عن لزوم نفي الاختيار ـ بأنّ مقارنة العلم للفعل كافية لكونه اختياريا ولا يلزم تقدّمه عليه ـ لا يخفى ضعفه!.

وقال بعضهم : انّ ذات العلم ـ يعنى الواجب سبحانه ـ لمّا كان تامّا فهو يكفي لايجاد المعلول من غير احتياج إلى تعقّل المعلول قبل الايجاد ـ كما في الفاعل بالاختيار منّا ـ ، بل

٢٠٨

ما يترتّب على تصوّر المعلول على الوجه الجزئي قبل الايجاد يترتّب على أصل علمه ـ تعالى ـ الّذي هو عين ذاته ـ تعالى ـ ، فذات العلم هاهنا مقدّم على الايجاد دون تعقّله.

ولا يخفى ضعف هذا الكلام أيضا! ، لانّه لو سلّم إنّ ذات العلم الّذي هو الواجب من دون انكشاف المعلول عنده يكفي في ايجاد المعلول فمن أين يندفع حديث لزوم جهله ـ تعالى ـ بالمعلول في مرتبة ذاته ولزوم نفى اختياره ـ تعالى ـ بالنسبة الى ما يصدر عنه ـ تعالى ـ؟! ؛ ومن البديهيات العقلية انّ عدم علمه ـ تعالى ـ بالمعلول في مرتبة ذاته وصيرورته عالما به إذا وجد نقص في حقه ـ تعالى ـ. على أنّه مستلزم للتجدّد والتغيّر في صفة العلم لحدوث الانكشاف بعد ما لم يكن ، بل في ذاته ـ لكون العلم من الصفات الحقيقية الّتي هي عين الذات ـ.

فان قيل : العلم بمعنى الانكشاف اضافة عقلية ولزوم التجدّد فيه لا يوجب التجدّد في العلم الّذي هو عين الذات ـ أعني : كون الذات بحيث لو وجد شيء منكشفا عنده ـ ، والتجدّد والتغيّر في مجرّد الاضافة العارضة بعد وجود المعلوم لا منع فيه ؛

قلنا : لو سلّم انّ تجدّد الحضور والانكشاف وإن لم يوجب التجدّد في حقيقة العلم الّذي هو عين الواجب إلاّ انّه يوجب تجدّد نسب الأوقات واجزاء الزمان بالنسبة إلى الواجب الحقّ مع انّه ـ سبحانه ـ مجرّد منزّه عن الزمان والزمانيات ، ونسبته إلى جميع الأوقات والأزمنة واحدة كما أنّ نسبته إلى جميع الأحياز والأمكنة متساوية.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم قد أتى بكلام طويل لبيان أنّ عدم تقدّم الاضافة الاشراقية على وجودات الأشياء ومقارنتها معها وعدم كون الأشياء منكشفة لديه في مرتبة ذاته لا يوجب أيضا نقض في حقّه ؛ فقال : انّ الواجب ـ تعالى ـ لمّا كان مجرّدا عن المادّة والقوّة غاية التجرّد فيكون عقلا وعاقلا ومعقولا ، ولمّا كانت الممكنات بأسرها مستندة إليه ـ تعالى ـ بحيث لا يقدح صدور هذه الكثرة عنه في وحدته الحقّة فذاته علّة تامّة لجميعها ونسبته إلى جميعها ـ سواء كانت مفارقات أو مادّيات ـ نسبة واحدة ايجابية عقلية ، وليست فيه جهة امكانية ، فلكلّ شيء وإن كان من الحوادث الزمانية نسبة وجودية إلى ذاته ـ تعالى ـ ، وامكانه انّما هو بالنسبة إلى نفسه وإلى قابل ذاته. وبالجملة ففاعليته و

٢٠٩

قيوميته لا تكون في شيء من المراتب بحسب القوّة وكذا علمه بشيء من الأمور الّتي يمكن وقوعها ليس ظنّا ، بل أشدّ العلوم ظهورا واشرافا ، لانّ اسباب وجود الممكن يرتقى إليه وهو يعرف الممكن بأسبابه الّتي بها يجب وجوده. وفي كلامهم تنبيهات على ذلك ، قال الشيخ في التعليقات : « الأشياء كلّها عند الاوائل واجبات (١) ليس هناك امكان البتة ، فاذا كان شيء لم يكن في وقت فانّما يكون من جهة القابل لا من جهة الفاعل ، فانّه كلّما حدث استعداد من المادّة حدثت فيها صورة من هناك ـ إذ ليس هناك منع وبخل ـ ، فالاشياء كلّها هناك واجبات / ١٥٧ MB / لا تحدث وقتا ويمتنع وقتا ولا يكون هناك كما يكون عندنا ».

وإذ عرفت ذلك عرفت أيضا انّ الواجب ـ تعالى ـ يعلم ذاته بذاته ويعلم ذوات المجعولات العينية بذواتها وبنفس وجوداتها ، وانّ اضافته القيومية إلى الأشياء هى بعينها اضافته الاشراقية النورية ـ على ما هو مذهب شيخ الاشراق ـ ؛ / ١٥٦ DB / فاعلم انّه كما انّ كماله ـ تعالى ـ في ايجاده للاشياء هو كونه من تمامية الوجود وفرط التحصّل على نحو يفيض عنه جميع الموجودات وليس كماله فيه بانتساب الموجودات إليه وافاضته لها ـ أي : هذا المعنى السلبى ، إذ هي في مرتبة متأخّرة عن مرتبة وجوده وكماله ـ بل الغاية والكمال في الافاضة منه والايجاد هي نفس ذاته المقدّسة وليس شيء سوى ذاته كماله ـ سبحانه ، لانّه غني عما سواه ـ ، فكذلك كماله في علمه بالأشياء ليس بنفس حضور الأشياء أو صورها عنده حتّى يكون بحيث لو لم تكن ذواتها العينية أو صورها العلمية أو انكشافها الشهودية في مرتبة ذاته بل تكون في مرتبة متأخّرة عن ذاته ـ كما هي في الواقع ـ لزم كونه فاقدا لكمال في مرتبة ذاته واجدا له في مرتبة متأخّرة عنها ويلزم منه استكماله بغيره بعد نقصه في حدّ ذاته ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ ؛ بل كماله في العلم أن يكون ذاته بذاته منشأ لانكشاف الأشياء بذواتها وكان في العاقلية إلى غاية يستتبع له انكشاف ذاته بذاته على ذاته انكشاف ذوات الاشياء بذواتها على ذاته ، بناء على انّ معلولاته من حيث أنّها معلولاته معقولاته وبالعكس بلا تفاوت بالذات أو

__________________

(١) الاصل : ـ واجبات.

٢١٠

بالاعتبار ؛ وانّما التفاوت في مجرّد اللفظ. فاذا كان معقولية ذاته مبدأ لمعقولية سائر الأشياء وانكشافها لديه ـ كما أنّ وجوده مبدأ لوجودها مرتبطة به منتسبة إليه على الترتيب السببي والمسببي وكان ترتّبها الوجودي الصدوري هو بعينه ترتّبها العقلي الشهودي ـ كان ذاته ـ تعالى ـ علما بجميع الموجودات وكان ذاته أولى بان يسمّى علما بالموجودات العينية من الصور الحاصلة عنها في الأذهان ، لانّ معلوميتها بالصور معلومية بالعرض ـ كما سبق ـ ، ومعلوميتها بسبب معلومية ذاته بذاته الّذي هو مبدأ لوجودها على نعت الانكشاف والظهور لديه ومنشأ لصدورها على وصف الحضور والمنقول بين يديه معلومية بالذات. ولا شكّ في أنّ ما يعلم به الشيء بالذات أولى بأن يسمّى علما بذلك الشيء ممّا يعلم به ذلك الشيء بالعرض ففي علمه بالكلّ كثرة حاصلة بعد الذات والكلّ بكثرته منكشف له بوحدته ، وبذاته يعلم جميع الموجودات لا بغيره ، فذاته علم بجميع الأشياء ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ حاصل كلامه انّ العلم بمعنى انكشاف الأشياء بالفعل ليس كمالا له ـ تعالى ـ حتّى يجب تحقّقه في مرتبة ذاته ، فلا مانع من تحقّقه بعد ذاته ـ أعني : عند وجودات الأشياء ـ ، والعلم الّذي هو كمال له ـ تعالى ـ هو كون ذاته في مرتبة ذاته بحيث ينكشف له المعلومات من غير افتقار إلى شيء آخر بمعنى انّه متمكّن من ايجادها منكشفة عنده ظاهرا لديه ، فكما أنّ ذاته وعلمه بذاته علّة لعلمه بها بل كما انّ ذاته عين علمه بذاته فكذا وجودات الأشياء عين علمه ـ تعالى ـ بها. وعلى هذا فكما يجب تأخّر وجودات الأشياء عن وجوده ـ سبحانه ـ فكذا يجب تأخّر علمه بها عن ذاته ؛ هذا كلامه.

ويرد عليه : انّ انكشاف الأشياء عنده ـ تعالى ـ كمال مطلق للموجود بما هو موجود ، فعدم تحقّقها في مرتبة ذاته نقص في حقّه ـ كما مرّ ـ.

وأيضا : يلزم تجدّد الانكشاف وتغيّره ، وهو وان لم يوجب التجدّد والتغير في الذات ـ لكونه صفة اضافية ـ إلاّ انّه ـ كما تقدّم ـ يوجب تجدّد نسب الأوقات والازمان إلى الله ـ سبحانه ـ مع كونه مجرّدا مقدّسا عن الأوقات متعاليا عن الزمان والزمانيات.

وأيضا : قد تقدّم انّ حقيقة الانكشاف مغاير للوجود الخارجي ، فلا معنى للحكم

٢١١

بأنّ التعقّل عين الوجود الخارجي. وبذلك يظهر ضعف ما قال بعد ذلك : انّ عدم كون الوجودات العينية للأشياء وصورها العلمية / ١٥٨ MA / وظهوراتها الخارجية له ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته ووجوده وعدم كونها داخلة في قوام ذاته لا بأس به بل لا يصحّ غير ذلك. لانّ كل ما هو معقول له فهو معلول له سوى نفس ذاته المقدّسة ، والمعلول كيف يساوي العلّة في مرتبة الوجود أو يتقدّم عليها؟!. وكما انّه لا يلزم من ايجاده ـ تعالى ـ للأشياء كون وجودها في مرتبة ذاته بل اللازم كونه بحيث يتبع وجوده وايجاده وجود الأشياء وصدورها عنه ، فكذلك لا يلزم من عاقليته لها كون صورها العقلية وانكشافاتها في مرتبة ذاته ، بل اللازم في مرتبة ذاته كونه بحيث يلزمه اضافة العالمية وهو / ١٥٧ DA / متحقّق ، لانّ ذاته في مرتبة ذاته بحيث ينكشف له المعلومات ويظهر له ما يصحّ أن يكون معلوما.

ووجه الضعف ما علمت من الفرق بين الايجاد والانكشاف ، فانّ الأوّل ليس كمالا مطلقا للموجود بخلاف الثاني ؛ والايجاد لا يمكن تحقّقه بدون الوجود الخارجي بخلاف الانكشاف ، وليس هو شيئا زائدا عن ذاته داخلا فيه حتّى يلزم أن يكون غيره ـ سبحانه ـ داخلا في قوام ذاته ، بل هو صفة اضافية لازمة للتجرّد مؤكّد له ولا يوجب كونه في مرتبة ذاته تركّبا ولا تكثّرا.

ثمّ غير خفي بأنّ ما ذكره هذا المحقّق من العلم الكمالي هو بعينه العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني من دون تفاوت أصلا ، وما ذكره من الاضافة الّتي هي بعد الذات هو العلم التفصيلي ، فكلامه راجع إلى ما ذكره العلامة الخفري ـ رحمه‌الله ـ بعينه ، فيرد عليه ما أوردناه عليه. وقد تفطّن هو بذلك حيث قال بعد كلامه المذكور : وإذا حقّق الأمر على ما ذكرنا فلا بأس بأن يسمّى ذاته ـ تعالى ـ علما إجماليا بجميع الموجودات على ما يوجد من كلامهم من انّه ـ تعالى ـ يعلم الأشياء بعلم واحد اجمالي قياسا على العلم الاجمالي ، والعقل البسيط المذكور في كتاب النفس ـ أي : الّذي يكون مبدأ للمعقولات المفصّلة النفسانية الكثيرة بعد محافظة تقدّسه تعالى عن شوب القوّة ومراعات الفرق بينهما من وجوه الملابسة ـ انّما هي باعتبار كون العقل البسيط والعلم الاجمالي مبدأ للمعقولات

٢١٢

الكثيرة التفصيلية مع عدم ايجاده بها ، ـ كما ظنّه فرفوريوس ـ ، إلاّ أنّ العقل البسيط الّذي عندنا موجود في عقولنا وهناك نفس وجوده ومعقولاتنا المفصلة متجدّدة زمانية واردة علينا شيئا بعد شيء بعدية على التراخي ، وهناك مرتبة ذاته مجتمعة دهرية والمعقول البسيط هاهنا ليس علّة تامّة ، بل معدّة لهذه التفاصيل والنفس قابلة لها ، بخلاف ما هناك. فعلى هذه الطريقة صور المعقولات عنده على وجه بسيط مقدّس عن شوب القوّة والكثرة. وأشبه الأمثلة في هذا الباب قول بعض الحكماء : لو كان للأوّليات وجود في الاعيان لا في النفس ـ لأنّها معان مجرّدة عن المادّة ـ لكانت نسبتها إلى لوازمها كنسبة الأوّل إلى معلولاته ؛ انتهى.

وغير خفي بانّه كان المناسب على ما ذكره ـ من جعل العلم الكمالي هو العلم الاجمالي على الوجه الثاني ـ أن يمثّل له بالملكة لا بالمعقول البسيط ـ كما تقدّم من أنّ المعقول البسيط انّما يناسب الاجمالي على الوجه الأوّل ـ.

ثمّ ما ذكره من قوله : « فعلى هذه الطريقة صور المعقولات عنده ـ ... إلى آخره ـ » يناسب ظاهر العلم الاجمالي على الوجه الأوّل ، لانّ الاجمالي بمعنى المنشئية للانكشاف والتمكّن عليه لا يستلزم تحقّق صور المعقولات عنده في مرتبة ذاته ؛ فتأمّل.

وثانيهما ـ أي : ثانى الوجوه للجواب عن الاشكال المشهور الّذي ورد على العلم الحضوري ـ : ما صرّح به بعض الأعاظم من العرفاء ، وهو : انّ ذاته ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته مظهر لجميع صفاته وأسمائه كلّها ، وهي أيضا مجلاة يرى بها وفيها صور جميع الممكنات من غير حلول ولا اتحاد ـ إذ الحلول يقتضي وجود شيئين لكلّ منهما وجود مغاير لوجود صاحبه ، والايجاد يستدعي ثبوت أمرين يشتركان في وجود واحد ينسب ذلك الوجود إلى كلّ منهما بالذات ـ ، وهناك ليس كذلك ، بل ذاته بمنزلة مرآة يرى فيها صور الموجودات كلّها وليس وجود المرأة وجود ما يتراءى فيها أصلا. ثمّ صرّح بأنّ ما يظهر في المرأة ويتراءى من الصور ليست هي بعينها الأشخاص الخارجية ـ كما ذهب إليه الرياضيون القائلون بخروج / ١٥٨ DA / الشعاع ـ ، ولا هي صور منطبعة فيها ـ كما اختاره الطبيعيون ـ ، ولا هي من موجودات عالم المثالى ـ كما زعمه الاشراقيون ـ ، بل الحقّ انّ

٢١٣

تلك الصور موجودات لا بالذات بل بالعرض بتبعية وجود الأشخاص المقترنة بجسم مشفّ وسطح صيقل على شرائط مخصوصة ، فوجودها في الخارج وجود الحكاية بما هي حكاية ، وهكذا يكون وجود المهيات والطبائع الكلّية عندنا في الخارج ، فالكلّى الطبيعي ـ أي : الماهية من حيث هي ـ موجود بالعرض لأنّه حكاية الوجود وليس معدوما مطلقا ـ كما عليه المتكلّمون ـ ، ولا موجودا أصيلا ـ كما عليه الحكماء ـ ، بل له وجود كلّي. وإذا كان جميع صور الأشياء مترائية من ذات الواجب ـ كما يتراءى الصور من المرآة / ١٥٧ DB / من غير لزوم تكثّر وتركّب ـ فمشاهدة الواجب لذاته يقتضي مشاهدته ـ تعالى ـ لتلك الصور المترائية.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه لا يناسب أسلوب المباحثة والنظر ، ولا يوافق القواعد العقلية الّتي لنا إلى دركها سبيل ، فالاعراض عنه حقيق!.

وثالثها : ما اختاره جماعة من محقّقي الحكماء والعرفاء ، وهو : انّه لمّا ثبت استواء نسبة جميع اجزاء الزمان والمكان إليه ـ سبحانه ، لكونه تعالى مجرّدا غاية التجرّد ومنزّها عن الوقوع في شيء من الأزمنة والأمكنة ومن أن يتجدّد بالنسبة إليه شيء دون شيء ـ فالأشياء الكلّية والجزئية حاضرة عنده ومنكشفة لديه في الأزل ، لا بمعنى أنّها موجودة في الأزل والأزل ظرفها حتّى يلزم قدم كلّ حادث ، بل بمعنى انّ كلّ حادث في وقت وجوده حاضر عنده ـ تعالى ـ منكشف لديه مع كونه في الأزل ، فهو عالم بجميعها بالعلم الحضوري الانكشافي ، ويرى في الأزل الأشياء في الأبد بانكشاف ذواتها لديه وان كان بعضها بالنسبة إلى بعض غير موجود بعد وغائبا عنه. وليس علمه بشيء من الأشياء بارتسام صورة لا في ذاته ولا في غيره. نعم! ، جميع الصور الإدراكية الحاصلة في المدارك العالية والسافلة ـ تصورية أو تصديقية صادقة أو كاذبة بل جميع الأوهام والخيالات لكلّ متوهّم ومتخيل ـ حاضرة عنده ـ تعالى ـ مع مداركها الّتي هي محالّها ومعلومة له ـ تعالى ـ بنفس تلك الصور. وليس تلك الصور علما له ـ تعالى ـ بما سوى ذوات تلك الصور ، والمعلومات بتلك الصور للمدارك المذكورة معلومة له ـ تعالى ـ بنفس ذواتها لا بتلك الصور. والحاصل : انّ جميع الأشياء الممكنة من المجرّدات والمادّيات بالقياس إلى

٢١٤

ذات الواجب في درجة واحدة لا يتجدّد ولا يتصرّم ، بل التجدّد والتصرّم والحضور والغيبة إنّما يتحقّق للمسجونين في سجن الزمان ، وأمّا المتعالي عن الزمان والزمانيات والمتقدّس عن المكان والمكانيات فذاته منزّه عن علوق هذه الأمور به ووجوده أعلى من أن يقع في التغيّر والتجدّد ، فنسبة الواجب ـ تعالى ـ إلى زمان عدم الحادث عين نسبته إلى زمان وجوده. وما يرى في أجزاء الزمان من التقدّم والتأخّر وما يشاهد بين الحوادث من الاختلاف والتفاوت بالقياس إلى اجزاء الزمان إنّما هو مخصوص بظرف الزمان وما يقع فيه من الزمانيات ؛ وأمّا في الخارج عن ظرف الزمان فلا يتحقّق بالنسبة إليه اختلاف وتجدّد أصلا. فما يكون موجودا في وقت من الأوقات يكون حاضرا منكشفا عند الواجب أزلا وأبدا ولا يكون عدمه ـ سواء كان عدما سابقا أو لاحقا ـ متحقّقا إلاّ بالنسبة إلى موجود آخر مثله في كونه زمانيا وواقعا في جزء آخر من الزمان موصوفا بالقبلية أو البعدية الزمانيتين.

ولمّا كان درك هذا المطلب عسرا فلا بأس بأن نذيّل ما ذكرناه بتوضيح للمقام ذكره بعض العرفاء الأعلام ؛ قال ـ قدس‌سره ـ : قد ثبت وتبين انّ الله ـ سبحانه ـ عالم بالموجودات كلّها في الأزل على ما هي عليه فيما لا يزال علما ثابتا لا يتغيّر بتغيّر المعلوم ولا يتفاوت بحدوث وجودات الأشياء فيما لا يزال بعد فقدانها في الأزل على ما هي عندنا. وذلك لأنّه لا ينافي فقدانها في الأزل على ما هي عليه بالفعل علمه ـ تعالى ـ بها في الأزل على ما هي عليه بالفعل ، لانّه إنّما يعلمها في الأزل على ما هي عليه بالفعل بوجوهها الّتي عنده وبجميع احوالها الثابتة لها في نفس الأمر. ومن جملة احوالها الثابتة لها في نفس الأمر انّها فيما لا يزال دون أن يكون في الأزل ، وذلك لاحاطته ـ تعالى ـ في الأزل بما لا يزال وما فيه ، كاحاطته بالأزل وما فيه ، فانّه ـ جلّ وعزّ ـ محيط بجميع الأزمنة والأمكنة وما فيها من الزمانيات والمكانيات ، كما انّه محيط بما خرج عنها.

فان قلت : انّها لم تكن موجودة في الأزل ، فكيف / ١٥٩ MA / أحاط بها في الأزل؟ ؛

قلت : انّها وإن لم تكن موجودة في الأزل لانفسها وبقياس بعضها على أن يكون الأزل ظرفا لوجوداتها كذلك إلاّ أنّها موجودة فيه للواجب ـ تعالى ـ وجودا جميعا

٢١٥

وحدانيا غير متغيّر بمعنى أنّ وجوداتها الفائضة إليه الحادثة ثابتة له ـ سبحانه ـ في الأزل ، وهذا كما أنّ الموجودات الذهنية موجودة في الخارج إذا فقدت بقيامها بالذهن وإذا / ١٥٨ DA / اطلقت من هذا القيد فلا وجود لها إلاّ في الذهن. فالاشياء الموجودة فيما لا يزال إذا قيدت بوجودها لله ـ سبحانه ـ كانت موجودة في الأزل ، فيكون كالموجودات الذهنية من حيث أنّها اعيان خارجية لا من حيث أنّها أمور ذهنية. وإذا اطلقت من هذا القيد لا تكون موجودة في الأزل فقط ، بل فيما لا يزال ؛ فيكون كالموجودات الذهنية من حيث أنّها أمور ذهنية فقط ، فالأزل يسع القديم والحادث والأزمنة وما فيها وما خرج عنها. وليس الأزل كالزمان واجزائه محصورا مضيقا يغيب بعضه عن بعض ويتقدّم جزء ويتأخّر ، فإنّ الحصر والضيق والغلبة من خواصّ الزمان والمكان وما يتعلّق بهما ، والأزل عبارة عن الزمان واللازمان السابق على الأزمان سبقا غير زماني وليس بين الله وبين العالم بعد مقدّر لانّه إن كان موجودا يكون من العالم وإلاّ لم يكن شيئا ولا ينسب أحدهما إلى الآخر من حيث الزمان بقبلية ولا بعدية ولا معية ـ لانتفاء الزمان عن الحقّ وعن ابتداء العالم ـ. فسقط السؤال بمتى عن العالم كما هو ساقط عن وجود الحقّ ، لانّ متى سؤال عن الزمان ولا زمان قبل العالم ، فليس إلاّ وجود خالص من العدم وهو وجود الحقّ ، ووجود من العدم وهو وجود العالم ، فالعالم حادث من غير زمان.

وإنّما يتعسّر فهم ذلك على الأكثرين لتوهّمهم الأزل جزء من الزمان يتقدّم سائر الأجزاء وان لم يسمّوه بالزمان ، فانّهم اثبتوا له معناه وتوهّموا أنّ الله ـ سبحانه ـ موجود فيه ولا موجود فيه سواه ، ثمّ أخذ يوجد الأشياء شيئا فشيئا في أجزاء آخر منه. وهذا توهّم باطل وأمر محال ، فانّه ـ سبحانه ـ ليس في زمان ولا في مكان ، بل هو محيط بهما وبما فيهما وبما معهما وما تقدّمها.

والتحقيق التامّ في ذلك يقتضي نمطا آخر من الكلام لا يسعه العقول المشوبة بالأوهام ، ونشير إلى لمعة منه لمن كان أهله ؛ فنقول :

انّ نسبة ذاته ـ سبحانه ـ إلى مخلوقاته يمتنع أن يختلف بالمعية واللامعية وإلاّ فيكون بالفعل مع بعض وبالقوّة مع بعض اخر ، فيتركّب ذاته من جهتي فعل وقوّة ويتغيّر صفاته

٢١٦

حسب تغيّر المتجدّدات المتعاقبات ـ تعالى عن ذلك ـ ، بل نسبة ذاته الّتي هي فعلية صرفة وغناء محض من جميع ، الوجوه إلى الجميع وان كان من الحوادث الزمانية نسبة واحدة ومعية قيومية ثابتة غير زمانية ولا متغيّرة أصلا ، والكلّ بفنائه يقدر استعداداتها مستغنيات كلّ في محلّه ووقته وعلى حسب طاقته ؛ وانّما فقرها وفقدها ونقصها بالقياس إلى ذواتها وقوابل ذواتها وليس هناك امكان وقوّة البتّة ، فالمكان والمكانيات بأسرها بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ كنقطة واحدة في معية الوجود ( وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (١) والزمان والزمانيات بآزالها وآبادها كان واحدا عنده في ذلك ؛ جفّ القلم بما هو كائن. ما من نسمة كائنه إلاّ وهو كائنة عنده. والموجودات كلّها ـ شهادياتها وغيبياتها ـ كموجود واحد في الفيضان عنه ؛ ( ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ) (٢) وانّما التقدّم والتأخّر والتجدّد والتصرّم والحضور والغيبة في هذه كلها بقياس بعضها إلى بعض ، وفي مدارك المحبوسين في سيطرة الزمان المسجونين في سجن الامكان ، لا غير. وامّا قوله ـ عزّ وجلّ ـ : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٣) فهو كما قال بعض أهل العلم : انّها شئون يبديها لا شئون يبتديها. ولعلّ من لم يفهم بعض هذه المعاني يقول : كيف يكون وجود الحادث في الأزل؟ ، أم كيف يكون المتغيّر في نفسه ثابتا عند ربّه أم كيف يكون الأمر المتكثّر المتفرّق وجدانيا جميعا؟ ، أم كيف يكون الأمر الممتدّ ـ أعني : الزمان ـ واقعا في غير الممتدّ ـ أعني : اللازمان ـ مع التقابل الظاهر بين هذه الأمور؟. فلنمثّل له بمثال حتّى يكسر سورة استبعاده ، فانّ مثل هذا المعترض لم يتجاوز بعد درجة الحسّ والمحسوس.

قلنا : خذ أمرا ممتدا كحبل أو خشب مختلف الأجزاء في اللون ثمّ ليمرره في محاذات نملة أو نحوها ممّا يضيق حدقته عن الاحاطة بجميع ذلك الامتداد ، فتكون تلك الألوان المختلفة متعاقبة في الحضور لديها يظهر لها شيئا فشيئا واحدا بعد آخر لضيق / ١٥٩ MB / نظرها ، ومتساوية في الحضور عند من يراها كلّها دفعة لقوّة احاطة نظره وسعة حدقته ؛ ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) (٤). فهو ـ سبحانه ـ ادرك الأشياء جميعها في الأزل ادراكا

__________________

(١) كريمة ٦٧ ، الزمر.

(٢) كريمة ٢٨ ، لقمان.

(٣) كريمة ٢٩ ، الرحمن.

(٤) كريمة ٧٦ ، يوسف.

٢١٧

تامّا واحاطة كاملة ، فهو عالم فيه بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ / ١٥٨ DB / زمان من الأزمنة وكم يكون بينه وبين الحادث الّذي بعده أو قبله من المدّة. ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك بل بدل ما يحكم بان الماضي ليس موجودا في الحال يحكم بأنّ كلّ موجود في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان من الأزمنة الّتي تكون قبله أو بعده ، وهو عالم بأنّ كلّ شخص في أيّ جزء يوجد من المكان وأيّ نسبة تكون بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع جهاته ، وكم الأبعاد بينهما على الوجه المطابق للحكم. ولا يحكم على شيء بانّه موجود الآن أو معدوم أو موجود هناك أو معدوم أو حاضر أو غائب ، لانّه ـ سبحانه ـ ليس بزماني ولا مكانى ، بل هو بكلّ شيء محيط ازلا وأبدا ( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ ) (١) ؛ انتهى.

أقول : لا ريب في انّ هذا الوجه ـ أعني : عدم كونه تعالى زمانيا واستواء نسبة جميع الأوقات والأزمان إليه تعالى وكون نسبته إلى جميع الأمور المتحدة المتعاقبة نسبة واحدة ومعية قيومية غير زمانية ـ ممّا صرّح به سلف الحكماء ، وهو صحيح في نفسه المتعالي عن الزمان والزمانيات والمحيط بهما ؛ لا يكون بالنسبة إلى ذاته وعلمه حال ومضيّ واستقبال ولا غيبة ولا حضور ـ كما قال بعض العرفاء : ليس عند ربّك صباح ولا مساء ـ ، كما انّ المتقدّس عن المكان والمكانيات لا يتحقّق له بالنسبة إلى مكان قرب ولا بعد ، بل نسبته إلى الكلّ نسبة واحدة غير متغيرة ولا متجدّدة. وعلى هذا يلزم أن يكون الواجب ـ سبحانه ـ في الأزل عالما بالأشياء على ما هي عليه كما يكون عالما بها فيما لا يزال ، ويكون انكشاف جميع الأشياء ـ من المجرّدات والمادّيات والحوادث الزمانية ـ في جميع الأوقات عنده على نهج واحد.

فان قيل : هذا الوجه لا يدفع الاشكال المذكور ـ أعني : عدم تصوّر حضور المعدوم وانكشافه عند الواجب ـ ، فانّ هذا الاشكال كما يرد على أصل المدّعى ـ أعني : كون علم الواجب بجميع الأشياء حضوريا سابقا على وجوداتها ـ يرد على هذا الوجه الّذي قيل جوابا عن الاشكال المذكور المورد على المدّعى ؛ إذ لقائل أن يقول : كيف يعقل

__________________

(١) كريمة ٢٥٥ ، البقرة.

٢١٨

استواء نسبة الأشياء إلى الواجب ظهورا وانكشافا في حالتي الوجود والعدم وعدم اختلافها بالنسبة إليه أزلا وأبدا في الغيبة والحضور مع كونها في الأزل معدومة صرفة وفي الأبد موجودة في الخارج؟! ؛ وما المصحّح لكون الأشياء منكشفة عند الواجب في الأزل مع كونها معدومة فيه؟ ؛ وكيف يكفي وجوداتها اللايزالية لوجوداتها في الأزل للواجب ـ سبحانه ـ؟ ؛ فانّ وجوداتها اللايزالية الخارجية لو اقتضت كونها موجودة في الأزل أيضا لزم أن يكون موجودة خارجية في مرتبة ذات الواجب ؛

قلنا : المراد ـ كما تقدّم ـ انّ كلّ حادث في وقت وجوده منكشف عنده ـ تعالى ـ مع كونه في الأزل ، لا انّه موجود في الأزل.

فان قيل : ما مصحّح هذا الانكشاف مع كون الحادث معدوما في الأزل؟ ؛

قلنا : المصحح هو وجوده الخارجي اللايزالى بملاحظة استواء نسبة جميع الموجودات ـ أزلية كانت أو ابدية ، مجرّدة كانت أو مادية وجميع الأزمنة والحوادث الواقعة فيها ـ إلى الواجب ـ سبحانه ـ ، فالوجود الخارجي بعد تحقّقه في أيّ وقت كان يكون حاضرا عنده ـ تعالى ـ في الأزل والأبد على نحو واحد ، لانّ المحيط بالزمان والدهر والمتقدّس عن الوقوع في الامتداد والتغيّر يكون نسبته إلى الأمور المتحقّقة الثابتة في أيّ وعاء كان وفي أيّ جزء من هذا الوعاء كان نسبة واحدة ثابتة مستمرّة من الأزل إلى الأبد ، واستواء هذا النسبة المقتضي لكون الموجود فيما لا يزال منكشفا عنده ـ تعالى ـ بمقتضى وجود هذا الحادث للواجب ـ سبحانه ـ في الأزل وان لم يكن موجودا فيه لو قطع النظر عن كون الواجب ـ سبحانه ـ بمعنى انّ وجوده اللايزالى ثابت للواجب في الأزل وإن لم يكن / ١٦٠ MA / ثابتا لنفسه فيه. وهذا أمر جائز يعطى التأمّل صحّته ووقوعه. فانّ في مثال الحبل المذكور لا ريب في أنّ كلاّ من الجزء المتحقّق فيه في آخره وجد فيه العلّة الّتي محاذية بهذا الجزء لا يكون متحقّقا في أوّله ولا عند حدقة الحبلة المحاذية لأوّله ولا متحقّقا في البعد المنفصل عن ابتداء الحبل ، ومع ذلك متحقّق لمن اتسعت حدقته ويرى جميع الحبل وما هو منفصل عنه دفعة فكذا الحال بعينه فيما نحن فيه ؛ فانّ الوجود اللايزالي لكلّ حادث ـ سواء كان جزء من الزمان / ١٥٩ DA / أو أمرا متحقّقا فيه ـ لا يكون موجودا في جزء آخر

٢١٩

من الزمان ولا في الوعاء المتقدم على الزمان ، ومع ذلك يكون موجودا لمن هو خارج عن الزمان محيط به ويلاحظ الجميع على نهج واحد ويكون الكلّ موجودا له بوجود جمعي وحداني غير متغيّر ؛ لا في الشهود العلمى الانكشافي فقط ، بل في الشهود الخارجي أيضا ، لما علمت أنّ الجميع بالنسبة إليه موجود في الخارج فيكون لجميع الأشياء وجود خارجي وحداني جمعى للواجب ـ تعالى ـ أزلا وأبدا ووجود خارجي تكثيري تفصيلي لأنفسها.

فان قيل : الحبل لمّا كان جميعه موجودا فمن اتسع حدقته يري جميع اجزائه ولو فرض ايجاده تدريجا لم ير جميعه ، بل يرى ما يوجد ؛ وحينئذ فالزمان لو كان جميعه موجودا فنحن نسلّم انّ الواجب يلاحظ جميع اجزائه ملاحظة عقلية على نسبة واحدة ويشاهد الحوادث الواقعة فيه أيضا كذلك ، وأمّا إذا لم يكن موجودا ـ كما في الأزل ـ فلا يعقل ظهوره وظهور ما فيه لديه وانكشافهما عنده ؛

قلنا : نحن قد بيّنا انّه موجود في الأزل للواجب ـ سبحانه ـ وإن لم يكن موجودا لنفسه نظرا إلى استواء نسبته ـ تعالى ـ إلى جميع الأوعية من الدهر والزمان واجزائه ، وهذا كما انّ الحبل المذكور أيضا بجميع اجزائه موجود في البعد الّذي تحقّق فيه وليس موجودا في البعد المحقّق لمن يراه دفعة ؛ هذا غاية الكلام في تصحيح هذا الوجه.

والحقّ كما قرّرناه انّه صحيح في نفسه ويمكن أن يصحّح به العلم الحضوري ، إلاّ انّه لمّا كان مناط علمه ـ تعالى ـ بالأشياء مجرّد ذاته ـ سبحانه ـ من غير افتقار إلى نفس وجوداتها فيجب أن يكون للواجب ـ سبحانه ـ بالنسبة إلى الأشياء شهود علمي مع قطع النظر عن وجوداتها الخارجية بمعنى أن لا يكون لوجوداتها الخارجية مدخلية في الانكشاف أصلا. ولذا ترى أنّ سلف الحكماء مع تصريحهم بالوجه المذكور وقولهم بأنّ نسبة جميع الأوقات والأزمان والحوادث وغيرها من الموجودات إليه ـ سبحانه ـ نسبة واحدة لم يصحّحوا العلم الحضوري به ، ولم يعترفوا بأنّ للأشياء شهودا خارجيا ووجودا جمعيا وحدانيا عينيا للواجب ، بل صرّحوا بأنّ لها شهودا علميا ووجودا جمعيا وحدانيا ذهنيا له ـ سبحانه ـ فالأصوب في الجواب عن الايراد المذكور هو الوجه الّذي نذكره بعد

٢٢٠