جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

ثمّ ما ذكره الخفري من انّ العلم التفصيلي عين ما أوجده في الخارج انّما يصحّ على أحد المعاني للعلم ، فانّ له معان ثلاثة.

أحدها : الاضافة الاشراقية ، وهو المعنى المصدري الّذي يشتق منه علم ويعلم ؛

وثانيها : الحاضر بالذات عند المدرك ، وهو المعلوم حقيقة ؛

وثالثها : ما يقتدر به على استحضار المنكشفات بالذات. ولا ريب في انّ هذا ليس ما هو عين ما اوجده في الخارج ؛ انّما هو المعنى الثاني دون الآخرين. وعلى هذا فالمراد من العلم التفصيلي هو الصورة الّتي تكون معلولة ومعلومة حقيقة. ولا ريب في انّ هذا ليس بحقيقة العلم ، كيف والعلم امّا نفس الانكشاف أو ما هو مناط الانكشاف ومبدئه ـ وبالجملة ما ينكشف به الشيء ـ وتغاير الأعيان الخارجية للأوّل بديهى. ولا يمكن أن يكون أيضا مناطا للانكشاف ، لانّ المناط لانكشاف الأشياء له فيه انّما هو ذاته بذاته والاشياء منكشفات لا مناطات للانكشاف ، وإلاّ لزم افتقاره ـ سبحانه ـ في علمه إلى غيره.

والقول بانّه لا مانع في احتياج الواجب في انكشاف الأشياء له انكشافا تفصيليا إلى غيره ـ أعنى : ذوات الأشياء ـ لانه ليس علما كماليا وحينئذ تكون الأشياء مناطات للانكشاف ومبادي له فيصحّ اطلاق العلم عليها ؛

لا يخفى فساده ، لانّ الانكشاف التفصيلي والتميّز التامّ كمال مطلق للواجب ، فلا يجوز افتقاره فيه إلى غيره.

وعلى هذا يرد على ما ذكره الخفري من التفصيل شيئان :

أحدهما : انّه يلزم بناء على اثبات هذه المراتب لعلمه ـ تعالى ـ احتياجه في صفة كمالي إلى غيره ؛

وثانيهما : اتصافه بصفة الكمال بعد ما لم يكن ، لانّ في كلّ من المراتب ـ على ما ذكره ـ لا تكون المرتبة الأخيرة عنها معلومة له على التفصيل ، بل في كلّ مرتبة تكون تلك المرتبة معلومة على التفصيل ويكون بعدها معلوما له على الاجمال ، فيلزم جهله فيما هو صفة كمال ـ أعني : العلم على التفصيل ـ في كلّ مرتبة بالنسبة الى المراتب المتأخّرة عنه. وقال بعض اهل التحقيق : انّما احتيج في علمه ـ تعالى ـ بالاشياء إلى هذه المراتب لانّه ـ تعالى ـ يجب

١٨١

أن لا ينفكّ عن العلم بالاشياء في شيء من المراتب في نفس الأمر ، فكما انّه ـ تعالى ـ يعلم الأشياء في مرتبة ايجادها العيني بعين تلك الأشياء كذلك يجب أن يعلم الأشياء في جميع المراتب السابقة على ايجادها ـ وهي مراتب وجودات عللها ـ. فاوّلها مرتبة وجوده ـ تعالى ـ ، إذ هو علّة العلل ومبدأ المبادي على الاطلاق ، فهو في مرتبة وجوده المتقدّمة على جميع المراتب بالذات يعلم الأشياء بالعلم الاجمالي الّذي هو عين ذاته ؛ وثانيهما : مرتبة وجودات العقول المجرّدة النورية الّتي هي وسائط فيضه ووسائط جوده ـ تعالى ـ ، فلها تقدّم بالوجود على الاشياء الّتي تحتها في نفس الأمر فيجب أن يعلم الأشياء في تلك المرتبة لا وجوداتها العينية ، إذ ليست هي في تلك المرتبة ـ لامتناع وجود المعلول في مرتبة وجود العلّة ـ. ويمتنع انفكاكه ـ تعالى ـ عن العلم بالاشياء في تلك المرتبة ، فعلمه ـ تعالى ـ بالاشياء في تلك المرتبة عين وجودات تلك العلل. فوجودات تلك العلل علوم تفصيلية له ـ تعالى ـ بذواتها وعلم اجمالي / ١٥١ MA / بسائر الأشياء الّتي هي معلولات لها ، كما انّ وجوده ـ تعالى ـ علم تفصيلي له بذاته وعلم اجمالي بمعلولاته ؛

وثالثها : مرتبة وجودات النفوس المجرّدة الفلكية ـ إذ لها تقدّم بالذات على المهيات الجسمانية ـ ، فيجب أن يعلم ـ تعالى ـ تلك المهيات في تلك المرتبة لا بوجوداتها العينية لعدمها في تلك المرتبة ، بل بماهياتها المرتسمة بافاضة الأوّل ـ تعالى ـ بواسطة علم العقل في الواح تلك النفوس. فما يكون في العقل يصير تفصيليا في النفوس وهناك يمتاز / ١٤٩ DB / المهيات بعضها عن بعض ؛ ولهذا المعنى عبّروا عن هذه المرتبة باللوح وبالمرتبة السابقة بالقلم. فالصور الكلّية الحالّة في النفوس المجرّدة الفلكية علوم تفصيلية له ـ تعالى ـ بتلك المهيات وعلم اجمالي بافرادها الموجودة في الخارج. فهذه هي مراتب علمه الاجمالي.

وما سوى المرتبة الاولى من هذه المراتب الثلث مع المرتبتين الباقيتين ـ أعني ـ مرتبة قوى الجسمانية ومرتبة موجودات الخارجية ـ هي مراتب علمه التفصيلى ، فمراتب علمه الاجمالى ثلث ومراتب علمه التفصيلي أربع ، والمجموع خمس ، واحدة اجمالية فقط واثنتان تفصيلية فقط واثنتان اجمالية باعتبار وتفصيلية باعتبار آخر ؛ انتهى.

ويرد عليه : أمّا أوّلا : فبانّه لا حاجة في علمه ـ تعالى ـ إلى هذه المراتب والاّ لزم

١٨٢

احتياجه ـ تعالى ـ في صفة كمالي إلى غيره ، واتصافه بالكمال بعد ما لم يكن وإن كان الأمر في الواقع ونفس الأمر كذلك. أي : كلّ موجود ، فهو مع ما يكون فيه من الصور حاضر عنده ـ تعالى ـ وظاهر لديه. ومنه يظهر علمه التفصيلي ـ على التفصيل المذكور ـ. الاّ انّه لا يجب البتّة اثبات تلك المراتب لتصحيح علمه ـ تعالى ـ ، بل هو عالم بالجميع على التفصيل ـ قبل وجود هذه المراتب وبعد وجودها ـ على نحو واحد من غير لزوم تفاوت بالخفاء والوضوح. على انّ علمه الكمالي بزعمهم ليس إلاّ علمه الاجمالي ، فأيّ حاجة باعتقادهم إلى اثبات مراتب العلم التفصيلي ، فوجوب عدم انفكاكه ـ تعالى ـ عن العلم بالاشياء في جميع المراتب ممنوع ، لكن لا يلزم منه اثبات تلك المراتب ؛ بل علمه الاجمالي ثابت في جميع المراتب ، وهو يكفي بزعمهم. اللهم إلاّ أن يقال : انّ اثباتهم تلك المراتب ليس لتصحيح علمه ، بل انّما هو لثبوتها في نفس الأمر ، فانّهم بعد ما اثبتوا العلم الكمالي الاجمالي ـ لما اقتضت الادلّة تحقّق تلك المراتب ـ لزمهم التصريح بثبوتها وبعالميته ـ تعالى ـ بها على النحو المذكور.

وامّا ثانيا : فلانّه لو تمّ ما ذكره لزم اثبات مراتب غير متناهية لعلمه ـ تعالى ـ ، ولا وجه للتخصيص بأربع ، إذ الحوادث غير متناهية ويجب علمه ـ تعالى ـ بكلّ منها في مرتبة وجود علّته ، فيلزم اثبات مراتب غير متناهية لعلمه ـ تعالى ـ.

ثمّ ما ذكروه من انّ وجودات تلك العلل علوم تفصيلية له ـ تعالى ـ بذواتها وعلم اجمالي بسائر الأشياء كما انّ وجوده ـ تعالى ـ علم تفصيلي له بذاته وعلم اجمالي بمعلولاته يدلّ على انّ تلك العلل بمنزلة المجمل لسائر الأشياء وذواتها علوم بالاشياء ـ كما في الواجب بعينه ـ ، وهو مبني على كون صفات العقول عينا لذواتها ـ كما نسب الى الحكماء ـ. ولو قيل بزيادتها لكانت صورا لأشياء المرتسمة فيها علوما تفصيلية لها لا اجمالية.

ويمكن أن يقال في توجيه كلام من صرّح بأنّ تلك المرتبة علم اجمالي لسائر الاشياء على تقدير زيادة صفات العقول : بأنّ مراده انّ تلك المرتبة علم تفصيلي بذوات تلك العلل بحضورها بذواتها ، واجمالي بالنسبة إلى باقي الموجودات. لانّ صور الجميع مكوّنة فيها ، لا لانّ وجودها علم اجمالي بها وكون تلك المرتبة اجمالية حينئذ بالنسبة إلى المرتبة الّتي

١٨٣

بعدها مع ارتسام صورها في المرتبة المتقدّمة ، لانّ التفصيل فيها أكثر ؛ هذا.

وقيل : على القول بأنّ للواجب ـ تعالى ـ علمين ـ : اجمالي وتفصيلي ـ يندفع الاشكالان الموردان على القول بأنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول.

أحدهما : انّه لمّا كان وجود العلّة يغاير وجود المعلول اتجه انّ حضورها غير حضور معلولها ، فحينئذ ان استلزم حضورها لحضور المعلول فهذا الحضور إمّا بطريق الارتسام في ذات العلّة ـ فيلزم كون ذاته تعالى محلاّ للكثرة وكونه قابلا وفاعلا لشيء واحد من جهة واحدة ـ وهو باطل ؛ أو بطريق قيام المعقولات بذواتها ، فيلزم المثل الافلاطونية وقد ثبت بطلانه ؛ أو بطريق آخر هو قيامها بأمر آخر غير ذات العلّة ، فلا يكون صورا علمية للعلّة ، لانّ الصور القائمة بغير الشيء لا تكون علما لذلك الشيء. ولو فرض ان يكون ذلك الامر آلة لادراك العلّة ـ كما انّ الحواسّ آلة لادراك النفس ـ كان الواجب بذاته محتاجا في ادراك المعلولات إلى الآلة ، وهو يلزم جهله في مرتبة ذاته ؛ وهو باطل.

وأنت خبير بأنّ هذا الاشكال يرد على أصل علم الواجب ـ تعالى ـ وان لم يقل بأنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، إذ لا شكّ انّه لا بدّ من علمه ـ تعالى ـ بالجميع في الازل وذلك لا يمكن أن يكون بحضور أنفسها ، فلا بدّ أن يكون بحضور صورها وذلك / ١٥٠ DA / إمّا بطريق الارتسام في ذات / ١٥١ MB / العلّة ـ ... إلى اخر ما ذكر ـ. ثمّ وجه اندفاع هذا الاشكال ـ على ما قيل ـ : امّا عن العلم التفصيلي فهو انّ حضور المعلولات الموجودة في الأعيان بطريق قيامها بذواتها ؛ ولا يلزم المثل الافلاطونية ، لأنّ المثل صور علمية للأشياء لا نفس الأشياء الحاضرة بذواتها عند مبدئها ، وامّا حضور الصور الادراكية سواء كانت صور المحسوسات أو كانت صور المعقولات فبطريق آخر هو قيامها بأمر آخر حاضرة بذواتها عند الواجب ـ تعالى ـ ، ولا محذور في ذلك ، فانّ مناط الاتصاف بالعلم أحد من الأمور الثلاثة :

إمّا العينية ؛

وإمّا القبول ؛

وإمّا الحضور ؛ ولا محذور في احتياج الواجب بالذات ـ تعالى ـ إلى معلوله في أمر

١٨٤

آخر غير كمالي كحضور الاعراض القائمة بالجواهر عنده ـ تعالى ـ ، بل هذه ليس احتياجا لواجب الوجود بالحقيقة ، لانّ ذلك ـ أي : قيام تلك الصور بمحالّها ـ انّما هو لأجل كونها محتاجة في الوجود إلى تلك المحالّ وكون وجودها وجودا في شيء وعدم قبولها للوجود بنحو آخر ـ كالاعراض مثلا ـ ، فاطلاق لفظ الاحتياج بطريق التسامح.

وتوضيح ذلك : انّه كما انّ الأشياء العينية يجب حضورها عند الواجب بانحاء وجوداتها المخصوصة بها ـ ولذا تكون الموجودات العينية القائمة بذواتها حاضرة بجملتها عنده ـ تعالى ـ بنحو وجوداتها العينية الّذي هو قيامها بذاتها في الاعيان ، وتكون الموجودات العينية القائم بغيرها حاضرة عنده تعالى بنحو وجوداتها العينية الّذي هو قيامها بموضوعاتها في الاعيان مع موضوعاتها ـ فكذلك الأشياء الذهنية ـ أي : الصور العلمية القائمة بذوات العلماء ، لا بذواتها ـ يجب أيضا أن تكون حاضرة عنده ـ تعالى ـ بنحو وجودها الذهني وبنحو كونها صورا ادراكية للعلماء ، فوجوب حضور تلك الصور الادراكية ليس لاستتمام علمه ـ تعالى ـ بالاشياء المعلومة بتلك الصور للعلماء ، فانّ تلك الأشياء معلومة له ـ تعالى ـ بذواتها ، بل لكون تلك الصور من جملة الأشياء الّتي يجب تعلّق علمه ـ تعالى ـ بجملتها. فاعتبار كون تلك الصور في الحضور الشهودي له قائمة بمحالّها ـ الّتي هي ذوات العلماء ـ ليس لكونه ـ تعالى ـ محتاجا في ادراكها إلى تلك المحالّ ليلزم كونها آلة لادراكه ـ تعالى ـ ، بل لوجوب تلك الصور بنحو وجودها الّذي هو قيامها بمحالّها حاضرة عنده كحضور الأعراض القائمة بالجواهر عنده ـ تعالى ـ.

وأمّا عن العلم الكمالي الاجمالي فهو انّا لا نسلّم انّ حضور العلّة غير حضور معلولها ، بل يتضمّن حضورها حضوره ؛ وحينئذ امّا أن يمنع أيضا كون وجودها مغايرا لوجود معلولها ويلتزم التضمن فيه أيضا ، أو يمنع كون تغاير الوجودين مستلزما لتغاير الحضورين ، وهو بعيد ؛ أو يلتزم تغاير الحضورين لكن نقول : انّ حضور العلّة مستلزم لحضور المعلول اجمالا وإن لم يعلم كيفية حضوره.

وجميع ذلك مبني على الاحتمال الأوّل في العلم الاجمالي ، وعلى الاحتمال الثاني فالجواب ظاهر ؛

١٨٥

ثمّ لا يخفى انّه على ما ذهب إليه أهل الحقّ من كون الواجب ـ تعالى ـ عالما بجميع الاشياء قبل ايجادها وبعده بالعلم الحضوري الاشراقي التفصيلي من غير تفاوت في علمه السابق على الأشياء والمقارن معه ، بل كون علمه بجميع الأشياء في جميع الأوقات على نحو واحد يمكن أن يقال : هذا الجواب بعينه عن الاشكال المذكور ، لأنّ ما يمكن ان يكون مناطا للعلم الاجمالى يمكن أن يكون بعينه مناطا للتفصيلي أيضا ـ أعني : كون الأشياء لوازم ذاته وانطواء جميعها في ذاته المقدّسة ـ ، فانّ مجرّد كونها من مفيضات ذاته ومعلولاته المترشّحة الفائضة عنه كافّ لانكشافها عنده على التفصيل ولا يفتقر إلى وجوداتها العينية للزوم المفاسد المذكورة. وحينئذ نقول في الجواب عن الاشكال المذكور إذ أورد على العلم الحضوري على ما اخترناه : انّ وجود العلّة مغاير لوجود المعلول ، إلاّ أنّ حضورها يتضمّن حضوره أو يستلزمه نظرا إلى كونه من لوازمه المترشّحة عنه ، فاستلزام تغاير الوجودين لتغاير الحضورين على الاطلاق غير ممنوع ، بل انّما يسلّم ذلك على تقدير كون علم العلّة بالمعلول زائدا على ذاته ـ كما في علوم الممكنات ـ ؛ أمّا إذا كان علم العلّة به عين ذاته ـ كما في علم الواجب تعالى ـ فلا نسلّم انّ حضور العلة حينئذ مباين لحضور المعلول مباينة رافعة للتفصيل والاستلزام. وذلك لانّ حضور الواجب عند ذاته أقوى في انكشاف معلولاته عنده من حضور معلولاته فيه. وبالجملة كون وجود المعلول غير وجود العلّة لا يستلزم أن يكون علم / ١٥٠ DB / العلّة بمعلولاتها على سبيل الحضور الانكشافي موقوفا على حضور المعلولات ، لانّ علم الحضوري بالمعلول يتصوّر من وجهين :

أحدهما : أن يكون المناط فيه حضور ذات المعلول ؛

وثانيهما : أن يكون المناط فيه حضور ما هو أقوى من حضور المعلول والعلم الحضوري للواجب بالأشياء من الوجه الثاني ، لانه يعلم الأشياء بالإضافة الاشراقية من جهة حضور ما هو اقوى في باب الانكشاف ـ أعني : ذاته تعالى ـ فما قيل : من انّ مناط الاتصاف بالعلم أحد من الأمور الثلاثة العينية أو القبول أو الحضور ؛ ممنوع ، إلاّ أنّ الحضور / ١٥٢ MA / أعمّ من حضور المعلول بنفسه أو حضور ما هو ملزومه ومقتضيه.

١٨٦

فمناط علم الواجب بالأشياء قبل ايجادها هو حضور علمها ، بل الأمر كذا بعد ايجادها أيضا. فمناط العلم الواجبي بالأشياء بعد ايجادها ليس هو حضور نفس الأشياء الخارجية وحصول صورها في جوهر عقلي حاضر عنده ، بل الحقّ انّ مناط علمه المطلق الّذي ليس إلاّ تفصيليا ليس سوى ذاته بذاته. وقد ظهر ممّا ذكرنا انّ القول بالعلم الاجمالي لا ينفع في دفع هذا الاشكال وغيره من الاشكالات ، فانّ كلّ ما يمكن أن يقال في دفع الاشكالات الموردة على العلم إذا جعل العلم السابق (١) اجماليا يمكن أن يقال بعينه إذا جعل ذلك العلم تفصيليا ، فهما في ذلك سيّان فأيّ حاجة إلى القول بالعلم الاجمالي مع استلزامه للمفاسد المذكورة؟!.

فالحقّ ـ كما قيل ـ : انّه لا يصحّ أن يكون الاجمال والتفصيل وصفين لعلمه ـ سبحانه ـ ، بل هما وصفان للاشياء باعتبار الشهود العلمي والشهود الخارجي ، فباعتبار الشهود العلمي يكون جميع الأشياء في درجة واحدة بحيث لا يكون لواحد منها تقدّم على الآخر باعتبار العلم بها ، فكان الجميع أمرا واحدا ؛ وباعتبار الوجود الخارجى امور متفاصلة متفارزة ويكون لبعضها تقدّم على الآخر. قال بعض الاعلام : انّ الواجب ـ تعالى ـ في مقام ذاته المقدّسة كلّ الأشياء ـ كما اشار إليه المعلم الثاني بقوله : « فهو الكلّ في وحدة » ، أي : هو عين الأشياء حالكونه واحدا ـ ، فحضور ذاته بذاته لذاته نفس حضور الكلّ على وجه أعلى وأشرف ، بمعنى انّ كلّ فعلية ووجود مستهلك ومندرج في شعاع ذاته ، أي هو محيط بالكلّ احاطة معنوية لا كاحاطة النواة على الشجرة النخلة أو احاطة الظرف على المظروف أو الكلّي للجزئي أو المكان للمتمكّن والزمان للزماني ـ تعالى الله عن ذلك ـ لنقص المحيط في كلّ منها ، بل احاطة كمالية بأن ظهر مع تنزّهه عن الكثرة والامكان ، بل عن كلّ شيء ونقصان في كلّ ، فهو بعلمه لذاته الّذي هو نفس ذاته ونور كلّ شيء وظهوره ـ كما قال : ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... ) (٢) الآية ـ يعلم الكلّ بذاته. ووجوب المغايرة بين حضور الواجب وحضور الغير إنّما يكون في مقام الكثرة والتفصيل ، لا في مقام الجمع والاجمال ، فانّ مقام الجمع عين وجود كلّ شيء

__________________

(١) الاصل : ان يقال.

(٢) كريمة ٣٥ ، النور.

١٨٧

منزّها عن القيود والكثرة ، وهذا نفس انكشاف الأشياء ، فذاته في مقام الاجمال بمنزلة المرآت لمشاهدة الكلّ منها. فهو قبل ايجاد الأشياء وبعدها ومعها يعلم بها نفس ذاته المقدّسة من غير تغيّر وتبدّل فيها.

وهذا علم الله ـ تعالى ـ بالحقيقة لا الّذي يسمّى بالعلم التفصيلي ، لانّ علمه ـ تعالى ـ يجب أن يكون كماله ، وغيره لا يكون كماله فعلمه بالكلّ بالحقيقة ليس إلاّ العلم الاجمالي الّذي هو نفس ذاته. وان تمرّد شيطان الوهم في الانقياد والقبول وقال : « كيف يمكن أن يكون شيء واحد علما للأمور المتكثّرة مع انّ العلم يتكثّر بتكثّر المعلوم »؟! ، فاطرده بشهاب البرهان وقل : انّه كما كان بوحدته الحقيقيّة متجلّى في الموجودات بترتيب السببي والمسببي من غير لزوم محال فكذلك يكون بعلمه الّذي هو واحد من جميع الجهات وعين ذاته عالما بكلّ شيء. بيانه : انّ كلّ ما هو كمال مطلق للموجود بما هو موجود فهو واجب له ـ تعالى ـ بحيثية ذاته ، ولا شكّ في أنّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء كلّها قبل وجودها ومع الوجود وبعد الوجود من كمال الموجود بما هو موجود ، فهو واجب له في مرتبة ذاته ؛ انتهى.

وغير خفيّ انّ ما ذكره من احاطته بالكلّ احاطة معنوية ومن اندراج الكلّ واستهلاكه في ذاته ـ تعالى ـ وكون ذاته بمنزلة المرآت لمشاهدة الكلّ مسلّم نظرا إلى كون الجميع لوازم ذاته ، إلاّ أنّ ذلك كما يجوز أن يكون مصحّحا للعلم الاجمالي / ١٥١ DA / بالكلّ يجوز أن يكون مصحّحا للتفصيلي ، فما الباعث لنفي العلم التفصيلى عنه في هذه المرتبة مع كونه كمالا مطلقا للواجب ـ تعالى شأنه ـ؟!. فحضور الواجب يستلزم حضور الكلّ تفصيلا في مقام الاجمال والتفصيل معا ـ أي : في مقام انطواء الأشياء جميعا في ذاته وفي مقام بروزها إلى الخارج ممتازة منفصلة ـ. وحينئذ فما ذكره القائل المذكور من الفرق بين مقام الاجمال والتفصيل في حضور الواجب لحضور الغير في الأوّل ومغاير له في الثاني غير صحيح.

وثانيهما ـ أي : ثاني الاشكالين الموردين على القول بأنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ـ : انّه لو كان العلم بالعلّة مستلزم للعلم بالمعلول لزم التسلسل أو الانتهاء إلى

١٨٨

علم هو عين ذاته ـ تعالى ـ. وجه اللزوم : انّه لو استلزم العلم بالعلّة العلم بالمعلول وكان جميع ايجادات الواجب مسبوقا بالعلم لكان هذا العلم أيضا معلولا له ـ تعالى ـ ، فيلزم سبق علمه ـ تعالى ـ به أيضا ؛ ثمّ ننقل الكلام إلى هذا العلم فامّا يتسلسل أو ينتهي إلى علم لا يكون معلولا له ، وذلك انّما يتصوّر بأن يكون عينه ـ تعالى ـ إذ كلّ ما هو غيره فهو معلول له ـ تعالى ـ ، والتسلسل بديهي البطلان. والانتهاء إلى علم يكون عينه ـ تعالى ـ أيضا باطل ـ لما سبق من أنّ حضور العلّة مغاير لحضور معلولها ـ.

قيل : كون العلم بالعلّة مستلزما للعلم بالمعلول لا يستلزم سوى كون جميع الايجادات / ١٥٢ MB / ـ أي : الموجودات ـ بتلك الايجادات معلومة ، لا كونها مسبوقة بالعلم ؛

وأجاب عنه بعض المحقّقين : بانّه لمّا كان وجود العلّة سابقا على جميع الايجادات وكانت العلّة في تلك المرتبة عالمة بذاتها وجب أن يكون علمها بمعلولاتها أيضا سابقا على المعلولات ، لتحقّق الاستلزام بينهما ؛ انتهى.

وأورد عليه بعض الاعلام : بأنّ استلزام العلم بالعلّة للعلم بالمعلول لا يستلزم أن يكون العلم بالمعلول سابقا عليه إذا كان العلم بالعلّة سابقا. ثمّ قال : فالصواب أن يقال : انّ هذا بناء على أن يكون مرادهم من تلك المقدّمة انّ علمه بالعلّة مستلزم للعلم بالمعلول قبل ايجاد المعلول ، وأمّا لو كان مرادهم انّ العلم بالعلّة مستلزم للعلم بالمعلول مطلقا فلا يتمّ الملازمة. وغير خفيّ بأنّ مراد القوم من تلك المقدّمة هو انّ العلم بالعلّة سواء تحقّق قبل ايجاد المعلول أو معه او بعده مستلزم للعلم بالمعلول ، وما يدلّ على ثبوت تلك المقدّمة يدلّ على هذا التعميم ـ كما لا يخفى ـ.

ثمّ انه قيل في دفع هذا الاشكال : انّه إمّا أن يراد من قولهم : « العلم بالعلّة التامّة بذاتها مستلزم للعلم بالمعلول » انّ ذلك مستلزم للعلم بالمعلول قبل ايجاد المعلول ، أو يراد به انّ العلم بالعلّة بذاتها مستلزم للعلم بالمعلول مطلقا ـ أي : على تقدير تحقّق العلم بالعلّة قبل الايجاد وعلى تقدير تحقّقه معه ـ ، أو يراد به أنّ العلم بالعلّة بذاتها مستلزم للعلم بالمعلول حين الايجاد ؛ والشقّ الاول لا يخلو عن احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يراد من العلم بالمعلول هو العلم المطلق الشامل للاجمالي الّذي هو عين

١٨٩

وجود العلّة الغير الغائبة عن ذاتها ، وللعلم التفصيلي الّذي هو مغاير لذات العلّة ؛

الثاني : أن يراد منه العلم الاجمالي فقط ؛

الثالث : أن يراد منه العلم التفصيلي فقط.

فعلى الاحتمالين الأوّلين من الشقّ الأوّل لا يلزم من تقدّم العلم بالمعلول على جميع الايجادات محذور ، لانّ القول بأنّ حضور العلّة مغاير لحضور معلولها انّما يصحّ في العلم التفصيلي ، فلو كان العلم بالعلّة مستلزما للعلم الاجمالي أو المطلق بالمعلول قبل ايجاد المعلول لم يتوقّف هذا العلم على علم آخر ـ ليلزم التسلسل ، لانّ هذا العلم ليس مغايرا لعلم العلّة بذاتها ـ ؛

وعلى الاحتمال الثالث ـ أي : كون العلم بالمعلول هو العلم التفصيلى ـ يمنع أصل المقدّمة المذكورة ـ أي : يمنع أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم التفصيلى بالمعلول قبل ايجاده ـ. ومنه يظهر أنّ غرض القوم من المقدّمة هو انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم الاجمالي بالمعلول قبل ايجاده ، لا العلم التفصيلي به.

وأنت خبير بأنّه يلزم على هذا أن لا تكون العلّة عالما بالعلم التفصيلي بالمعلول قبل ايجاده ، وهو باطل لكونه كمالا مطلقا للموجود.

فالحقّ ـ كما اشير إليه ـ أن يقال في الجواب : انّ علم العلّة بذاتها ليس مغايرا للعلم التفصيلي بالمعلول أيضا ، لانّ مناط العلم ليس إلاّ ذاته ولا يحتاج إلى وجود المعلولات ، والشق الثاني لا يخلو عن احتمالين :

أحدهما : أن يراد بالعلم بالمعلول هو العلم الاجمالي ؛

وثانيهما : أن يراد به / ١٥١ DB / العلم التفصيلي. وعلى الاحتمال الأوّل لا يلزم أن يكون جميع الايجادات مسبوقا إلاّ بالعلم الاجمالي ، ولا محذور فيه ـ لما تقدّم من انّه ليس مغايرا للعلم بالعلّة ـ ؛

وعلى الاحتمال الثاني فعلى التقدير الأوّل منه نمنع أصل المقدّمة المذكورة ، إذ لا نسلم انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم التفصيلي بالمعلول قبل ايجاده ـ كما مرّ ـ. وقد عرفت انّ هذا الجواب غير صحيح واشرنا إلى ما هو الحقّ في الجواب ؛ وعلى التقدير الثاني منه لا يلزم

١٩٠

محذور أصلا ، إذ لا يلزم منه سبق العلم التفصيلى الّذي فيه يلزم مغايرة علمه بالمعلول لعلمه بالعلّة على جميع الايجادات. وقد عرفت ما فيه وما هو الحقّ ؛

ثمّ الشق الثالث حكمه كحكم الشقّ الثاني ولا فرق إلاّ بأنّه لا يتحقّق في احتماله الثاني التقدير الأوّل الّذي كان للاحتمال الثاني للشقّ الثاني.

ثمّ أنت خبير بأنّ احد الشقّين من الثاني والثالث زائد ـ لرجوعهما إلى واحد ـ ، فأحدهما زائد. بل التحقيق انّ مناط الجواب على هذه الشقوق ليس إلاّ أنّ العلم الاجمالي سابق والتفصيلي ليس بسابق ، فمطلق الترديد والتفصيل بأنّ « المراد هل هو قبل الايجاد أو أعمّ؟ » لا مدخلية له في الجواب. فالأصوب أن يكتفى في الجواب عمّا ذكر من التفصيل في الشق الأوّل بأن يقال أوّلا : انّ المراد من العلم بالمعول إمّا العلم المطلق الشامل للاجمالي والتفصيلي ؛ أو أحدهما ، ويجاب على كلّ احتمال بما ذكر.

وعلى ما ذكرناه يكفى في الجواب أن يقال : انّ العلم بالعلّة ليس مغايرا للعلم بالمعلول مطلقا ولا يفتقر إلى ترديد وتفصيل أصلا.

وقد وضح ممّا ذكرناه انّ القول بالعلم الاجمالي باطل. ومنه يظهر انّ المذهب السادس كالمذاهب السابقة عليه.

وأمّا المذهب السابع ـ أعني : مذهب شيخ الاشراق ـ فتوضيحه : انّ علمه ـ تعالى ـ بذاته هو كونه نورا لذاته وعلمه بالأشياء الصادرة عنه هو كونها ظاهرة له ، إمّا بذواتها ـ كالجواهر والاعراض الخارجية ـ أو بمتعلّقاتها الّتي هي مواضع الشعور للأشياء المدركة لها ، سواء كانت مستمرّة ـ كالمدبّرات العلوية من العقول والنفوس الفلكية ـ أو غير مستمرّة ـ كما في القوى الحيوانية النطقية والخيالية والحسّية ـ. فانّ حضور تلك الأشياء المدركة ـ أعني : العقول والنفوس والقوى ـ عند / ١٥٣ MA / الواجب ـ تعالى ـ وظهورها لديه يقتضي انكشاف جميع الأشياء المتعلّقة بها المنكشفة لها للواجب ـ تعالى ـ أيضا ، فعلمه ـ تعالى ـ عند الشيخ الالهي محض اضافة اشراقية. فواجب الوجود حينئذ مستغن في علمه بالاشياء عن الصورة وله الاشراق التامّ والتسلّط المطلق ، فلا يحجبه شيء عن شيء.

هذا حاصل ما ذهب إليه هذا الشيخ ؛ فانّه قال بعد ابطال مذهب المشائين : « فاذن

١٩١

الحقّ في العلم قاعدة الاشراق ، وهو : انّ علمه بذاته هو كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته ، وعلمه بالاشياء كونها ظاهرة له على سبيل الحضور الاشراقي ، إمّا بأنفسها أو بمتعلّقاتها الّتي هي مواضع الشعور المستمرّة للمدبّرات العلوية ، وذلك اضافة عدم الحجاب سلبي. والّذي يدلّ على انّ هذا القدر كافّ في علمه بها هو انّ الابصار لمّا كان بمجرّد اضافة ظهور الشيء للبصر مع عدم الحجاب فاضافته إلى كلّ ظاهر له ابصار وادراك له وتعدّد الاضافات العقلية لا يوجب تكثّرا في ذاته » ؛ انتهى.

قيل : بيان هذا المذهب ووضوحه يتوقّف على أن يبحث الانسان أوّلا عن علمه بذاته وعلمه بقواه وآلاته ، ثمّ يرتقى إلى علم ما هو أشدّ تجرّدا عن النفس الانسانية بذاته وبالاشياء الصادرة عن ذاته ، فيعلم منه انّ علم الأوّل ليس بالصور مطلقا ، بل بالمشاهدة الحضورية ، إذ قد تحقّق أنّ النفس غير غائبة عن ذاتها وادراكها لذاتها لا يزيد على ذاتها وإلاّ لم تشر إلى ذاتها « بأنا » ، إذ كلّ صورة زائدة عليها وإن كانت قائمة بها فهي ليست عينها حتّى يشير إليها بأنا. وأيضا لو كان ادراكها لذاتها بصورة لم يكن هذا الادراك على الوجه الجزئي ، إذ كلّ صورة ذهنية وإن تخصّصت بكلّيات كثيرة لم يخرج عن الكلّية المطابقة للكثيرة. ثمّ ادراك النفس لبدنها ووهمها وخيالها إنّما يكون بنفس هذا الأشياء لا بصور زائدة عليها مرتسمة في النفس ، لانّ الصور المرتسمة فيها كلّية فيلزم أن تكون النفس محرّكة لبدن كلّي ومستعملة لقوى كلّية ولم يكن لها ادراك بدنها الخاصّ وقواها الخاصّة ، وهو ليس بصحيح ، فانّه ما من انسان إلاّ ويدرك بدنه الجزئي / ١٥٢ DA / وقواه الجزئية. والنفس يستخدم المتفكّرة في تفصيل الصورة الجزئية وتركيبها حتّى ينتزع الطبائع الكلّية عن الشخصيات الجزئية ويستنبط النتائج من المقدّمات. ولا ريب في أنّ المدرك لجميع ذلك هو النفس ، إذ ليس للقوّة الجسمانية سبيل إلى مشاهدة ذاتها لعدم حضورها عند نفسها ، فانّ وجودها في نفسها هو وجودها لمحلّها لا لنفسها ـ كما مرّ ـ ، كيف والوهم ينكر نفسه وينكر القوى الباطنة وان لم ينكر آثارها ، فاذا لم يكن للوهم ـ الّذي هو رئيس جميع القوى الجسمية الحسّية ـ سبيل إلى ادراك نفسه وادراك سائر القوى الباطنة على سبيل المشاهدة فكذلك حال ساير القوى الجسمية بطريق أولى ، فالمدرك

١٩٢

للقوى الخادمة والجزئيات المرتسمة فيها والكلّيات المنتزعة عن تلك الجزئيات إنّما هى النفس الناطقة بنفس تلك الأمور ، لا بصور اخرى. وذلك لاستقلالها وتجرّدها وحصول ربط مصحّح للعلم بينها وبين تلك الأمور لتسلّطها على البدن وقواه ، لكونها مؤثّرة فيه بالتحريك والتربية. وكلّما كانت أشدّ تجرّدا وأقوى سلطة على البدن وقواها كان إدراكها اتمّ وحضور قواها عندها أشدّ وظهور الصور الإدراكية لها أقوى ؛ ولو كانت ذات سلطة على غير بدنها كما على بدنها لأدركته أيضا بمجرّد الاضافة الاشراقية القهرية من دون احتياج إلى ارتسام صورة ذلك الغير فيها وانفعالها عنها ، فانّ القبول والانفعال نقص كما انّ القهر كمال. ونحن انّما احتجنا في ادراك بعض الأشياء ـ كالسماء والكواكب وغيرها ـ إلى الصورة لانّ ذواتها كانت غائبة عنّا فاستحضرنا صورها ، ولو كانت هي حاضرة لنا ـ كحضور الأبدان ـ لما احتجنا إلى صورة. وإذا تبين وتحقّق إنّ النفس غير غائبة عن ذاتها وليست قواها والصورة المتمثّلة في قواها محجوبة عنها ظهر انّ بدنها الخاصّ منكشف لديها لكونها نورا لذاتها ولارتباط تلك الأمور بها وتحقّق نوع علاقة بينها فواجب الوجود لمّا كان في أعلى مراتب النورية والتجرّد وله اضافة الجاعلية التامّة إلى ما سواه وله السلطنة العظمى والقهر الأتمّ والجلال الأرفع بالنسبة إلى جميع الأشياء وهذه الاضافة أقوى العلاقات والارتباطات المصحّحة للعلم ـ كما مرّ ـ ، فلا جرم يعلم ذاته ويعلم العقول والنفوس والاجرام وقواها وما يحلّها ويرتسم ، فهو بمجرّد اضافة المبدئيّة والاحاطة الشهودية. فكما انّ علمه بذاته لا يزيد على ذاته كذلك علمه بالاشياء لا يزيد على حضور ذواته. وجميع الأشياء حاضرة عنده على نحو واحد ، فالعقول القادسة والأجسام الهيولانية متساوية في الحضور عنده والانكشاف لديه بذواتها وأعيانها حضورا عقليا وانكشافا نوريا.

وقد استدلّ عليه الشيخ الالهي ـ كما تقدّم ـ في كلامه بأنّ الابصار انّما هو بمجرّد اضافة ظهور الشيء للبصر مع / ١٥٣ MB / عدم الحجاب ، فانّ من لم تكن الروية عنده بانطباع اشباح المقادير في الجلديّة ولا بخروج الشعاع عنها يلزمه أن يعترف بأنّ الابصار مجرّد مقابلة المستنير للعضو الباصر ، فيقع به اشراق حضوري للنفس ؛ لا غير. وإذا كفى

١٩٣

مجرّد الاشراق وعدم الحجاب في الابصار فيكفى ذلك في العلم أيضا ، فانّ اضافته لكلّ ظاهر ابصار وادراك وعلمه وبصره واحد ، إلاّ انّ علمه يرجع إلى بصره ، لا أنّ بصره يرجع إلى علمه كما في غير قاعدة الاشراق ، فانّه على قاعدة الاشراق يكون العلم عبارة عن الانكشاف وعدم الاحتجاب وهو حقيقة الابصار ، فيرجع العلم إليه ؛ وعلى غير هذه القاعدة يقال : البصر هو العلم بالمبصرات ، فيرجع البصر الى العلم.

ثمّ تعدّد الاضافات لا يوجب تكثّرا في ذاته وكذا تجدّدها لا يوجب تغيّرا في ذاته ، ف ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) (١).

وممّا يدلّ على صحّة هذا المذهب انّه قد سبق أنّ كلّ ما هو كمال مطلق للموجود بما هو موجود يجب تحقّقه للواجب ـ سبحانه ـ ، وإذا أمكن ثبوت العلم الاشراقي الوجودي لا بصور ذاته بل بمجرّد اضافة خاصّة كانت للنفس فيجب ثبوته لواجب الوجود بطريق أولى وأتمّ ، فيدرك ذاته لا بأمر زائد على ذاته ويعلم مصنوعاته بظهور ذواتها ، وهو العلم الشهودي الاشراقى.

ثمّ انّ هذه الطريقة في العلم قد ظهرت للشيخ الالهي من بيان المعلّم الأوّل له في بعض الخلسات ـ كما اشار إليه في التلويحات / ١٥٢ DB / حيث قال : « انّي رأيت المعلّم الاول في بعض خلساتي ، فشكوت إليه من صعوبة مسئلة العلم ،

فقال لي : ارجع الى نفسك ينجلى لك! ؛

فقلت : وكيف ذلك؟ ؛

قال : انّك تدرك نفسك فادراكك لنفسك انما هو بذاتك لا بغير ذاتك حتى تكون اذن قوّة اخرى او ذات اخرى بها تدرك ذاتك ـ إذ لو كان كذلك يلزم التسلسل ـ ؛ فاذن تدرك ذاتك باعتبار اثر في ذاتك ، وهذا الاثر ان لم يطابق ذاتك فلا يكون صورتها وحينئذ ما ادركتها ؛

قلت : ولعلّ (٢) الأثر صورة ذاتي! ؛

فقال : هذه الصورة هل هي مطلقة أو مخصّصة بصفات أخرى؟ ؛

__________________

(١) كريمة ٣ ، سبأ.

(٢) الأصل : دليل.

١٩٤

فاخترت الثاني ؛

فقال : كلّ صورة في النفس هي كلّية وإن تركّبت من كلّيات كثيرة ، فهي لا يمنع الشركة لنفسها ، وأنت تدرك ذاتك وهي مانعة للشركة بذاتها فليس هذا الادراك بالصور ؛

قلت : لعلّ المدرك في مفهوم « أنا » ؛

فقال : مفهوم « أنا » من حيث هو مفهوم « أنا » لا يمنع وقوع الشركة فيه ، وقد علمت انّ الجزئي من حيث هو جزئي يمنع وقوع الشركة فيه ، فهو لا يكون كلّيا مع أنّ « هذا » و « انا » و « نحن » و « هو » لها معان كلّية من حيث مفهوماتها المجرّدة من دون اشارة جزئية ؛

فقلت : فكيف اذن؟ ؛

فقال : فلمّا لم يكن علمك بذاتك غير ذاتك ـ بل كان عين ذاتك ـ فأنت تعلم أنت المدرك لذاتك لا غير ولا تأثير غير مطابق ، فذاتك هي العقل والعاقل والمعقول.

فقلت : زدنى! ؛

فقال : ألست تدرك بذلك الّذي تتصرّف فيه إدراكا مستمرّا لا تغيب عنه؟ ؛

فقلت : بلى! ؛

فقال : هذا الادراك لا يجوز أن يكون بحصول صورة شخصية في ذاتك ـ لما تقدّم من استحالته ـ ؛

فقلت : لعلّ يكون هذا الادراك بأحد صفات كلّية ؛

فقال : ذاتك غير بدنك الخاصّ وأنت بذاتك تعرف بدنا خاصّا جزئيا وما أحدث من الشعور والصفات لا يمنع لنفسها وقوع الشركة فيها ، فليس ادراكك لها إدراكا لبدنك الّذي لا يتصوّر أن يكون مفهومه ثابتا لغيره.

ثمّ قال أما قرأت من كتبنا انّ النفس يتفكّر باستخدام المتفكّرة وهي تفصّل وتركّب الجزئيات وترتّب الحدود الوسطى ، والمتخيلة لا سبيل لها إلى ادراك الكلّيات لأنّها جزئية ، فان لم يكن للنفس اطّلاع على الجزئيات فكيف تركّب مقدّماتها؟! ، وكيف ينتزع الجزئيات من الكليّات؟! ، وفي أيّ شيء يستعمل المفكّرة؟! ، وكيف يأخذ الخيال؟! ، و

١٩٥

ما ذا يفيد تفصيل المتخيلة؟! ، وكيف يستعدّ بالفكر للعلم بالنتيجة؟!.

ثمّ المتخيلة جزئية فكيف يدرك نفسها والصورة المأخوذة عنها في النفس كلّية وأنت عالم بتخيلك ووهمك الشخصين الموجودين ودريت انّ الوهم ينكرهما.

قلت : فارشدني ـ جزاك الله عن زمرة العلم خيرا! ـ ؛

قال : وإذا رأيت أنّها تدرك لا باثر مطابق ولا بصورة فاعلم! : أنّ التعقّل حضور الشيء للذات المجرّدة عن المادّة ـ وإن شئت قلت عدم غيبته عنها ـ ، وهذا أتمّ ، لانّه يعلم ادراك الشيء لذاته وغير الشيء لا ينحصر لنفسه ، ولكن لا يغيب عنها. وأمّا النفس فهي مجرّدة غير غائبة عن ذاتها ، فبقدر تجرّدها ادركت ذاتها ، وما غاب عنها ، إذ لم يكن لها استحضار عينه ـ كالسماء والارض ونحوهما ـ فاستحضرت صورته. وامّا الجزئيات ففي قوى حاضرة لها فاستحضرت ، وامّا الكلّيات ففي / ١٥٤ MA / ذاتها ، إذ المدركات الكلّية لا ينطبع في الأوهام ، والمدرك هو نفس الصورة لا ما خرج عن التصوّر ، وإن قيل للخارج انّه مدرك فذلك بقصد ثان ، وذاتها غير غائبة عن ذاتها ولا بدنها جملة ما ولا قوى لبدنها جملة ما وكان الخيال غير غائب عنها. وكذلك الصور الخيالية فتدركها النفس بحضورها لا لتمثّلها في ذات النفس ، ولو كان تجرّدها أكثر لكان الادراك بذاتها أكثر وأشدّ ، ولو كان تسلّطها على البدن أشدّ كان حضور قواها وأجزائها أشدّ.

ثمّ قال : اعلم! ؛ انّ العلم كمال للموجود من حيث هو موجود ولا يوجب تكثرا ولا يمتنع. وما يمكن للواجب بالامكان العامّ يجب أن يكون له بالفعل ، إذ لا يمكن له ـ تعالى ـ شيء بالامكان الخاصّ ، إذ ذلك يوجب أن يتحقّق فيه جهة امكانية ، فيلزم التكثّر فيه.

ثمّ قال : فواجب الوجود ذاته مجرّدة عن المادّة وهو الوجود البحت ، والأشياء حاضرة له على اضافة مبدئيته وسلطنته ، لأنّ الكلّ لازم ذاته ، فلا يغيب عنه / ١٥٣ DA / ذاته ولا لازم ذاته. وعدم غيبته عن ذاته ولوازمه مع التجرّد عن المادّة هو ادراكه ـ كما قرّرناه في النفس ـ. ويرجع الحاصل في العلم كلّه إلى عدم غيبته عن المجرّد عن المادّة ـ صورة كانت أو غيرها ـ ، فالاضافة جائزة في حقّه ـ تعالى ـ ، وكذا السلوب ،

١٩٦

ولا تخلّ بوحدانيته. وتكثّر أسمائه بهذا السلوب والاضافات ، ولو كانت لنا على غير بدننا سلطنة ـ كما على بدننا ـ لأدركناه كادراك البدن من غير حاجة إلى صورة ، فتعيّن بهذا انّه على كلّ شيء محيط. وادراك اعداد الوجود نفس الحضور له من غير صورة ومثال.

ثمّ قال لي : كفاك في العلم هذا » (١) ؛ انتهى ما افاده المعلم الأوّل بأدنى تغيير.

وانّما تعرّضنا لنقل هذا الكلام بطوله مع سبق ذكر ما هو حاصله أيضا تيمّنا بذكر عباراته وزيادة للتوضيح وبعض الفوائد.

وإذا عرفت ذلك فاعلم! ، انّ الحقّ في كيفية علم الواجب ـ سبحانه ـ انّه ـ تعالى ـ عالم بذاته ـ تعالى ـ وبجميع الأشياء بالعلم الحضوري الاشراقي التفصيلي قبل ايجاد الاشياء وبعده على نهج واحد ، وحقيقة علمه ـ تعالى ـ هو الاضافة الاشراقية الّتي لا توجب تكثّرا ولا تركّبا ، فلا فرق بين انكشاف شيء واحد وأشياء متكثّرة في عدم لزوم الكثرة في ذاته. ومصحّح هذا الانكشاف وموجبه أمّا بالنسبة إلى ذاته الحقّة فتجرّده التامّ مع عينية المعلوم للعالم ـ كما في علم النفس بذاتها ـ ؛ وأمّا بالنسبة إلى الأشياء المعلومة له ـ تعالى ـ فتجرّده أيضا مع تحقّق علاقة قوية هي علاقة المبدئية بينه ـ تعالى ـ وبينها ـ كما في علم النفس بقواها الجزئية المرتبطة بها نحو ارتباط ـ.

وهذا المذهب هو الّذي ثبت عندنا حقّيته واخترناه ، فإضافة المبدئية والفعالية الثابتة له ـ تعالى ـ بالنسبة إلى الجميع مصحّحة لجميع الاضافات ـ كالعالمية وغيرها ـ ، وتلك الاضافات متغايرة تغايرا اوجب اختلاف الآثار ، إلاّ أنّها لا توجب تركّبا وتكثّرا في ذاته ، كما انّ واحدة منها مع كثرة متعلّقاتها ـ كانكشاف الأشياء الكثير ـ لا توجب تكثّرا في ذاته ـ تعالى ـ. والسرّ انّ مبدأ جميع تلك الاضافات ذات واحدة بسيطة مجرّدة هي صرف الوجود ، وهي من لوازم التجرّد ، فكلّما كانت أشدّ كان التجرّد والبساطة أقوى ، فلا يوجب زيادة أمر في الذات حتّى يلزم التكثّر. فمقتضى الكلّ ليس إلاّ واحد صرف وإن كان حقيقة الانكشاف غير حقيقة الايجاد ، كما انّ وجود الأشياء عنه ـ تعالى ـ غير حضورها بمعنى الانكشاف وإن كان الجميع راجعا إلى واحد.

__________________

(١) راجع : كتاب التلويحات ، ص ٧٠.

١٩٧

ثمّ أنت تعلم بما ذكرناه انّ (١) كلام الشيخ الالهي لا ينافي حمله على ما ذكرناه ، ولكن قد نسب إليه في كتب القوم القول بأنّ مناط علمه ـ تعالى ـ بالأشياء ليس مجرّد ذاته الحقّة ، بل نفس وجوداتها أيضا حتّى لو لم يكن شيء لم يكن حاضرا عنده ـ تعالى ـ لعدم تعقّل حضور الشيء عند آخر مع كونه معدوما. وعلى هذا يكون علمه بالاشياء مقارنا لوجودها ، فلا يكون له ـ تعالى ـ علم كمالي لشيء ثابت له ـ تعالى ـ في حدّ ذاته ، بل يكون ذوات المعقولات صورا علمية له ـ تعالى ـ في حدّ ذاته ، بل تكون ذوات المعقولات صورا علمية له ـ تعالى ـ وعالميته ـ تعالى ـ اضافة شهودية. ولا ريب في أنّ وجود الممكنات واضافة الأوّل ـ تعالى ـ إليها انّما يكون بعد مرتبة ذاته ـ تعالى ـ ، فلا يكون الواجب ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته عالما بشيء غير ذاته ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. ـ فان كان الثابت عنده ما ذكرناه / ١٥٤ MB / من التفصيل المختار عندنا فنعم الوفاق! ؛ وإن كان الثابت عنده ما نسب إليه في المشهور ـ من تحقّق المقارنة بين علمه وبين وجودات الأشياء وعدم تحقق علمه بها في مرتبة ذاته ـ ، فنحن نخالفه في هذا الجزء ، والحقّ عندنا سبق علمه ـ تعالى ـ على وجودات الأشياء وتحقّقه في مرتبة ذاته ؛ وسنشير إن شاء الله الى ما يحقّق الحضور الانكشافي والظهور الاشراقى للأشياء مع عدم كونها موجودة.

والحقّ انّ مذهبه هو ما نسب إليه المشهور لدلالة بعض كلماته عليه ـ كما سنشير الى بعضها ـ.

ثمّ إنّ الشيخ الالهي ذهب إلى أنّ علم غيره ـ سبحانه ـ من المجرّدات أيضا حضوري اشراقي ، وقال : انّ / ١٥٣ DB / الجواهر العقلية تعرف كلّ واحد منها ذاتها بذاتها وتدرك جميع الموجودات الباقية الّتي دونها بالإضافة الاشراقية من غير احتياج إلى أن يكون فيها صورة وأثر. فارتسام الصور مطلقا ـ جزئية كانت أو كلية ـ في العقول الفعّالة والقوى العالية عنده باطل ؛ وهذا أيضا من البواعث له على جعل علم الواجب بالأمور المادّية أيضا بالاشراق الحضوري ، لعدم جواز ارتسام صورة في مجرّد حتّى يلاحظها منه ـ كما ذهب إليه العلاّمة الطوسي من جعل الصور المرتسمة في الجواهر العقلية مناطا لعلم الله

__________________

(١) الاصل : من.

١٩٨

تعالى بالأشخاص المادّية والحوادث الكونية ـ. ولا ريب في انّ ارتسام صور المادّيات في الجواهر العقلية لا ينافي القول بالعلم الحضوري الانكشافي بالنسبة إلى الجميع ، فانّه يجوز أن تكون صور المادّيات مرتسمة في الجواهر العقلية ومع ذلك تكون ذوات الصور منكشفة عنده بالعلم الحضوري ؛ كما انّ صورها أيضا كذلك.

ثمّ شيخ الاشراقي استدلّ على عدم جواز ارتسام الصور في الجواهر العقلية بأنّ انتقاش المجرّدات بصور ما تحتها إمّا يحصل ممّا تحتها ، فيلزم انفعال العالي من السافل ، وهو غير جائز ؛ أو عمّا فوقها بأن تكون الصور العارضة في بعضها حاصلة عن صور عارضه في بعض آخر ، فينتهى إلى أن تكون الصور المتكثّرة حاصلة في ذات الحقّ ـ تعالى ـ ، بل إلى أن يتكثّر في ذاته ـ تعالى عنه علوّا كبيرا ؛ ـ انتهى حاصل ما ذكره.

وأنت خبير بأنّ افاضة الصور من بعض المجرّدات إلى بعض اخر لا يستلزم تحقّقها في المفيض ، فيجوز أن تحصل الصور المرتسمة في بعض المجرّدات عمّا فوقه من دون لزوم حصول الصور في ذاته ـ سبحانه ـ.

وبالجملة فالحقّ في كيفية العلم هو ما ذكرناه ، سواء كان مطابقا لمذهب الشيخ الالهي او خالفه في جزء واحد.

ثمّ انّه أورد على المذهب المختار اشكالات كلّها مندفعة ؛ فلا بدّ لنا من ذكرها والاشارة إلى دفعها حتّى لا تبقى لأحد شبهة :

منها : ما أورده شيخ الاشراق على نفسه ثمّ أجاب عنه ، وهو : إنّا إذا علمنا شيئا إن لم يحصل فينا منه أثر فحالنا قبل ذلك العلم وبعده واحد ، وحينئذ لا معنى لادراكنا له ؛ وإن حصل فينا شيء فلا بدّ من مطابقته لذلك المدرك ، فيكون صورة ؛

وحاصل جوابه : انّ ذلك انّما هو في العلم الارتسامي ، وأمّا العلم الحضوري الشهودي فاذا حصل فينا فلا بدّ من حصول شيء للمدرك ممّا لم يكن حاصلا له قبل ذلك ـ وهو الاضافة الاشراقية فقط ـ من غير افتقار إلى المطابقة الواجبة حصولها في العلوم الصورية. وتقسيم العلوم في اوائل المنطق إلى التصوّر والتصديق إنّما هو في غير علوم المجرّدات بذواتها وغير العلم بالأشياء الّتي يكتفي في العلم بها مجرّد الاشراق الحضوري ،

١٩٩

فانّها ليست من المدركات التصورية والتصديقية.

ومنها : ما أورده الشيخ الإلهي أيضا وأجاب عنه ، وهو : انّ النظام العجيب الواقع مقتض للعلم السابق ، إذ لو لم يكن مسبوقا بالعلم لم يمكن صدوره عن الباري الحقّ ، وقد امتنع أن يكون على مجرّد البخت والاتفاق.

وحاصل جوابه : انّ وقوع النظام الأصلح الأتمّ عنه ـ تعالى ـ بسبب جودة ترتيبه الأسبق الواقع بين المجرّدات العقلية والنسب اللازمة عنها ، فانّ للعقول كثرة وافرة غير محصورة ، بل هى على وفق تكثّر الأنواع الجسمانية ، فانّ هذه الأصنام مع هيئاتها اللازمة ونسبها الوصفية ظلال لتلك الأرباب النورية ونسبها المعنوية.

وأنت خبير بأنّ حاصل هذا الايراد انّ النظام الأتمّ إنّما يجب أن يكون مسبوقا بالعلم ويكون صدوره عنه ـ تعالى ـ لأجل علمه به ، والعلم السابق لا يمكن أن يكون حضوريا ـ لعدم تعقّل حضور الشيء وانكشافه مع كونه / ١٥٥ MA / معدوما ـ ، فيلزم أن يكون حضوريا. وحاصل الجواب المذكور : انّ وقوع النظام العجيب لا يلزم أن يكون مسبوقا بالعلم ولا يجب أن يكون صدوره معلّلا له ، بل صدوره عنه ـ تعالى ـ إنّما هو لأجل حسنه وترتيبه الأنيق في الواقع.

وغير خفيّ بأنّ في هذا الجواب الزام كون مناط علمه بالاشياء الممكنة هو نفس حضور تلك الأشياء المناسبة وجودها عن وجوده ومقارنة علمه ـ تعالى ـ بالاشياء لوجوداتها وعدم تقدّمه عليها وكون علمه / ١٥٤ DA / ـ تعالى ـ بها في حال ايجادها ، لا ترتيب ايجادها على علمه بها ، فهذا من الشواهد على ذهابه إلى أنّ مناط علم الله ـ سبحانه ـ بالأشياء هو نفس وجوداتها وظهوراتها وعدم ثبوت علم كمالي له في مرتبة ذاته. فهذا من كلماته الدالّة على أنّ مذهبه هو ما نسب إليه في المشهور ـ كما وعدناك مجيئه ـ. فهذا الجواب على ما اخترناه غير صحيح.

وما صرّح به من كثرة العقول وكونها غير محصورة عددا ممّا استقرّ عليه رأيه وتفرّد به ؛ والمشهور خلافه.

ثمّ على ما اخترناه فالحقّ في الجواب عن الايراد المذكور أن يقال : نحن نسلّم انّ هذا

٢٠٠