جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

أي : منكشف عند ذاته بمعنى انّه عالم بذاته. وقوله : « فله الكلّ من حيث أنّه لا كثرة فيه » أي : بالحضور العلمي كما انّ منه الكلّ بالوجود العينى. والغرض انّه عالم بالكلّ ، وذلك لأنّه لمّا كان مبدأ لكلّ وجود وعالما بذاته والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول فيكون عالما بالكلّ. لكن بحيث لا كثرة فيه ، لانّ علمه بالكلّ على سبيل الاجمال ، كما عرفت من انّ علمه بالكلّ منطو في علمه بذاته ؛ إمّا لانّ ذاته بمنزلة المجمل لجميع المعلومات ، فعلمه بذاته يوجب العلم بالجميع ، بل هو عينه ؛ وإمّا لانّه منشأ لجميع الموجودات ، فهو متمكّن عن العلم والانكشاف. وحينئذ فقوله : « فله الكلّ » أي : التمكّن من العلم بالكلّ. فهذه العبارة يمكن حملها على كلّ من الوجهين وان كانت أكثر انطباقا على الوجه الأوّل. و: « قوله فهو من حيث هو ظاهر ينال الكلّ من ذاته » أي : هو من حيث هو عالم بذاته يعلم الكلّ من ذاته ؛ أي : يكون علمه بذاته هو بعينه علمه بالكلّ بناء على الوجه الأوّل أو يتمكّن من ذاته العلم بالكلّ لكون ذاته مبدأ لظهور الكلّ. وهذه العبارة أيضا يمكن حملها على كلّ من الاحتمالين وان كان حملها على الأوّل أظهر ، للزوم حمل العلم على مبدئيته له بناء على الاحتمال الثاني ، وهو خلاف الظاهر. وكلام المعلم الثاني الى هنا ينطبق على العلم الاجمالي بأحد الوجهين. وامّا قوله : « فعلمه بالكلّ بعد ذاته » ـ وفي بعض نسخ الفصوص : « بعد علمه بذاته » ـ وقوله : « وكثرة علمه بالكلّ كثرة بعد ذاته » ، فلا مدخلية لهما بالعلم الاجمالي ، بل هما ظاهران فيما هو المشهور / ١٤٤ DB / من مذهب الفارابى والشيخ من كون علمه ـ تعالى ـ بالكلّ بحصول الأشياء في ذاته ، إذ العلم الاجمالى بالأشياء ليس بعد العلم بالذات لاتحادهما ، وكذا ليس في العلم الاجمالى بالأشياء كثرة فضلا عن الكثرة الحاصلة بعد الذات ، بل البعدية عن الذات والكثرة انّما يتحقّقان في العلم الصوري. وايراد الفارابى العبارتين في العلم الصوري مبني على انّه لمّا اشار في العبارة الاولى إلى بعديته فربما يتوهّم انّ ما هو بعد الذات ـ أعني : العلم الصوري ـ علم وحداني بسيط ، فاشار في الثانية إلى انّ ما هو بعد الذات كثرة.

فما قيل ـ كما يأتي ـ : انّ المراد من العلم في الاولى العلم الاجمالى ـ بالتوجيه الّذي يذكر ـ دون العلم التفصيلى الصوري ، والمراد منه في الثانية التفصيلى إذ لو حملت الاولى أيضا

١٦١

على التفصيلى لزم الاعادة والتكرار ؛

ليس على ما ينبغي ، مع استلزامه لتأويل بعيد ـ كما يأتي ـ.

ولا يخفى انّ ذلك ـ أي : انطباق هاتين العبارتين على العلم الحضوري ـ غير مضرّ لغرض من اسند القول بالعلم الاجمالي إلى المعلم الثاني ، لأنّا أشرنا إلى أنّ القول بالعلم الاجمالي ليس مخصوصا بالقائلين بالعلم الحضوري ، بل القائلون بالعلم الحصولي ـ كالفارابى والشيخ وبهمنيار ـ أيضا مثبتون له ـ تعالى ـ العلم الاجمالي الكمالي ، فانّهم يقولون : انّ له ـ تعالى ـ علما اجماليا بالاشياء بأحد الوجهين في مرتبة الذات وهو علم بسيط لا تكثّر فيه أصلا ؛ وليس بعد مرتبة الذات ، بل هو عين العلم بالذات. وله أيضا علم تفصيلي بالأشياء بحصول صورها في ذاته ، وهو متكثّر وبعد العلم بالذات ، وتكثّره غير موجب للنقض لأنّه ليس كمالا ؛ وقد عرفت الحقّ في ذلك.

والقائلون بالعلم الحضوري أيضا يقولون : انّ للواجب علما اجماليا بالاشياء في مرتبة الذات لا تكثّر فيه أصلا ، وعلما تفصيليا بها بحضور ذواتها عنده ؛ ويقولون : هذا العلم بعد الذات لتوقّفه على وجود الأشياء في الخارج. فالمعلم الثاني لمّا أشار في أوائل كلامه إلى العلم الاجمالي وكونه عين ذاته فكانّه قيل له : انّ علمه بالكلّ انّما هو بارتسام الصور المتكثرة عندكم فكيف يكون عين ذاته؟! ؛ فاشار الى دفعه بأنّ العلم المتكثّر ليس عين ذاته بل هو بعد ذاته وما هو عين ذاته ليس إلاّ العلم الوحداني الاجمالى البسيط فالمراد من الكثرة في قوله : « فكثرة علمه بالكلّ ـ ... الى آخره ـ » هو الكثرة بحصول صور الأشياء لا الكثرة بحضور الأشياء بأنفسها ، لما ثبت من قوله بالعلم الحصولي. وقوله : « وعلمه بذاته نفس ذاته » معناه ظاهر. وفي بعض نسخ الفصوص لم يوجد قوله : « نفس ذاته » ، وحينئذ يكون قوله : « وعلمه بذاته » مجرورا معطوفا على ذاته في قوله : « بعد ذاته » أي : فعلمه بالكلّ بعد ذاته وبعد علمه بذاته. وهذا أولى ، إذ ليس هنا موضع بيان كون علمه بذاته نفس ذاته ، فلا تقريب. اللهم إلاّ على النسخة الّتي بدّلت « بعد ذاته » : « بعد العلم بذاته » ، فانّه / ١٤٧ MA / حينئذ لمّا لم يثبت منه كون علمه بالكلّ بعد ذاته أشار إلى انّ علمه بذاته نفس ذاته ، فاذا كان علمه بالكلّ بعد علمه بذاته أيضا ، فيكون مفاد هذا

١٦٢

الكلام مفاد النسختين معا ، ويحصل التقريب ؛ هذا.

وقيل : المراد من العلم في اولى العبارتين ـ أعني : قوله « فعلمه بالكلّ بعد ذاته » ـ العلم الاجمالي ، والمراد من البعدية : البعدية بحسب الاعتبار ، إذ لا شكّ انّ اعتبار كونه علما بعد اعتبار الذات ، من حيث الذات والمراد منه في ثانيتهما ـ أعني : قوله « وكثرة علمه » ـ إلى العلم التفصيلى.

وقيل : قوله : « بعد ذاته » ليس خبرا لقوله : « فعلمه بالكلّ » ، بل هو صفة للكلّ. وقوله : « نفس ذاته » خبر لكلّ من العلمين ـ أعني : فعلمه بالكلّ وعلمه بذاته ـ. والمعنى انّ علمه بكلّ الأشياء الّتي وجودها بعد وجود ذاته ، وكذا علمه بذاته نفس ذاته فتكون العبارة الاولى واردة لبيان العلم الاجمالي ؛ وامّا الثانية ـ أعني : « فكثرة علمه ... إلى آخره » ـ لبيان التفصيلى.

ولا يخفى انّه مع بعد هذا التوجيه واستلزامه خلاف الظاهر في قوله : « بعد ذاته » ، يرد عدم التقريب ، إذ ليس هنا موضع بيان كون علمه بالكلّ وعلمه بذاته نفس ذاته.

وقيل : المراد من العبارة الاولى هو ما ذكر في التوجيه الأخير ـ أي : علمه بالكلّ الّذي بعد ذاته وعلمه بذاته نفس ذاته ـ ، فيكون علمه بذاته وبجميع معلولاته علما واحدا حقيقة من دون تكثّر فيه الاّ بالاعتبار. والمراد من الكثرة في العبارة الثانية ـ أعني : « فكثرة علمه ... الى آخره » ـ هو الكثرة الاعتبارية ـ أي : فكثرة علمه بالاعتبار كثرة بعد الذات بالاعتبار فتكون العبارتان واردتين لبيان العلم الاجمالي ، اذ هما أو الثانية لبيان العلم الحضوري التفصيلى. فان هذا القائل اعتقاده انّ جميع اساطين الحكمة ـ حتّى الفارابى والشيخ ـ قائلون بالعلم الحضوري.

وقيل : المراد من العلم المعلوم مجازا ، وحينئذ يكون المراد من الكثرة الكثرة الحقيقية ، لأنّ المعلومات متكثرة حقيقة ، فيكون المراد من العبارة الاولى : انّ وجود الكلّ المعلوم بعد ذاته ، ومن الثانية : انّ كثرة معلوماته كثرة حاصلة بعد ذاته.

وغير خفيّ انّ جميع / ١٤٥ DA / هذه التوجيهات تكلّفات باردة وتعسّفات بلا فائدة. وأيّ داع إلى هذه التأويلات البعيدة بعد القطع بأنّ هذا الفيلسوف يثبت العلم الاجمالي و

١٦٣

التفصيلي الصوري معا؟!. وقد نشير إلى انّ بهمنيار مع تصريحه بثبوت العلم الاجمالي ـ كما مرّ ـ اثبت العلم الصوري أيضا ، فالصحيح في حمل العبارتين ما ذكرناه أوّلا.

قوله : « ويتحد الكلّ بالنسبة إلى ذاته » ، ظاهره ينطبق على الاجمالي ، وربما كان الاحتمال الأوّل منه أظهر. ويمكن حمله على التفصيلى أيضا ، أي : ويتحد الكلّ بالنسبة إلى ذاته في انّ له ـ تعالى ـ علما بجميعها من غير أن يوجب تكثرا في ذاته ، لانّ صدورها على ترتيب سببي ومسببي ، فلا يوجب تكثرا في أصل الذات ، بل في الأمور العارضة ـ كما تقدّم.

قيل : وقوله : « بالنسبة الى ذاته » مؤيّد الحمل على التفصيلي ، إذ لو كان المراد العلم الاجمالي لكان ينبغى أن يقال : ويتحد الكلّ في ذاته. قوله : « وهو الكلّ في وحدته » رجوع إلى أوّل الكلام ـ أعني : بيان العلم الاجمالى ـ وحديث العلم التفصيلي وكثرته وقع في البين لدفع دخل مقدّر ـ كما اشرنا إليه ـ. ومعناه : وهو كلّ الأشياء حالكونه واحدا لا تكثّر فيه. وهو ظاهر الانطباق على الوجه الأوّل من العلم الاجمالي ، وحمله على الوجه الثاني ـ بانّ المراد انّ الواجب هو الكلّ ، أي : عالم بالكلّ ومبدأ له في حال كونه في وحدة ، إذ الكلّ كلّ في وحدة ، أي : معلوم لذاته الأحدي ـ بعيد جدّا. وحمله على العلم التفصيلي بأنّ المراد : فله الكلّ حالكون ذلك الكلّ واحدا بالنسبة إلى ذاته فانّ له ـ تعالى ـ علما به من غير لزوم تكثّر في ذاته ، أبعد.

وقد ظهر من هذه العبارة انّ مراد الفارابى « من العلم الاجمالي » هو الاحتمال الأوّل ـ كما ظهر ذلك من عبارة بهمنيار أيضا ـ.

فان قلت : يمكن أن يحمل جميع عبارات الفارابى الّتي حملتها على العلم الاجمالي تأسّيا بالقوم على أنّ المراد منها بيان كون جميع الأشياء لوازم ذاته وانطواء الجميع في ذاته ، وبالجملة كونه مجمل الأشياء من غير دلالة شيء منها على كونه عالما بها على الاجمال ؛ وحينئذ يكون مراده من هذه العبارات اثبات هذا المطلوب. ومن العبارات الّتي حملتها على العلم الصوري هو اثبات العلم الصوري ، لبعد حملها على الحضوري الانكشافي. ويكون غرضه : انّه لمّا كان الواجب ـ تعالى ـ مجمل الأشياء وكان مندمجة فيه وهو كلّ الأشياء

١٦٤

من دون لزوم كثرة فيه يكون علمه الصوري ناشئا عن ذاته لا مستفادا عن غيره ، وحينئذ أيّ داع إلى نسبة العلم الاجمالي إليه مع استلزامه لبعض المفاسد؟! ؛

قلت : الباعث لحمل تلك العبارات على العلم الاجمالي إنّه إذا ثبت منها انّه مجمل الاشياء وانّه ينال الكلّ من ذاته وانّه كلّ الأشياء فيفهم منها علمه ـ تعالى ـ بهذا الكلّ نظرا إلى كونه ـ تعالى ـ عالما بذاته ، ولا يمكن أن يكون هذا العلم عنده تفصيليا حضوريا ـ لتصريحه بالعلم الصوري التفصيلى ـ ، فلا بدّ أن يحمل على الاجمالي مع انّه صرّح في موضع آخر من الفصوص بما يدلّ على اثباته علمين للواجب حيث قال : « علمه الأوّل لا ينقسم ، وعلمه الثاني عن ذاته إذا تكثّر لم تكن الكثرة / ١٤٧ MB / في ذاته ، بل بعد ذاته » (١) ؛ انتهى.

ووجه الدلالة ظاهر ؛ هذا.

وقال بعض أهل التحقيق : انّ هذه العبارة ظاهرة الانطباق على ما ذهب إليه المعلم الأوّل في اثولوجيا من انّ البسيط ما لا تركيب فيه بوجه أصلا ونعنى بالواجب ـ تعالى ـ كلّ الوجود. وبيانه ـ على ما ذكره بعض العرفاء المحقّقين ـ هو : انّ كلّ ما هو بسيط الحقيقة فهو بوحدته كلّ الأشياء ، ولا يخرج عنه شيء منها إلاّ ما هو من باب النقائص والاعدام والامكانيات ، فانّك إذا قلت « ج » ليس « ب » فحيثية كونه « ج » ان كانت بعينها حيثية انّه ليس « ب » حتّى يكون « ج » نفسه مصداقا لهذا السلب بنفس ذاته فكانت أمرا عدميا ، ولكان من عقل « ج » عقل ليس « ب » ، لكن التالى باطل ، فالمقدّم كذلك. فيثبت انّ موضوع الجيميّة مركّب الذات ولو بحسب الذهن من معنى وجودي به يكون « ج » ومن معنى عدمى به يكون ليس « ب » ، أي : ممّا هو سبب لهذا الامر العدمي من قوّة أو استعداد. فعلم انّ كلّ ما سلب عنه أمر وجودي فهو غير بسيط الحقيقة مطلقا ، وتعلم بعكس نقيضه انّ كلّ بسيط الحقيقة مطلقا فغير مسلوب عنه أمر وجودي ، فيثبت انّ البسيط كلّ الموجودات من حيث الوجود والتمام لا من حيث النقائص والاعدام ولهذا ثبت علمه بالموجودات علما بسيطا وحضورها عنده على وجه أعلى واتمّ.

__________________

(١) راجع : فصوص الحكم ، الفص ١٥ ؛ نصوص الحكم ، ص ٦٨.

١٦٥

وتوضيح ذلك : انّ واجب الوجود / ١٤٥ DB / لمّا كان عين حقيقة الوجود بحيث لا يشوبه نقص ولا عدم ولا قصور ولا ماهية ولا تركيب بوجه من الوجوه ـ بل هو صرف الوجود ومحض الخيرية وعين الكمال ـ وكلّ وجود أو كمال وجود إنّما هو يفيض عنه ويرشّح منه ، فكلّ وجود وكمال وجود انبسط على هياكل الممكنات وقوابل المهيات مشوبا بالعدمات ومخلوطا بانتقاض في ضمن الكثرات بجميعها مجتمع في واجب الوجود على نحو التمام والكمال غير مشوب بالنقيصة والزوال في ضمن وحدته الحقّة ، فلو سلب عنه الشيء فانّما هو باعتبار نقصه وقصوره ومهيته لا باعتبار خيريته وكماله ووجوده ، فانّ كلّ موجود غير واجب الوجود ليس صرف الوجود ومحض الخيرية ، بل مشوب بالنقص والقصور والماهية والامكان. فاذا قيل : « الواجب ليس بجسم » فالمسلوب عنه ليس الاّ نقص الجسمية وقصور المادّة ، لا غير. وكذا اذا قيل : « ليس بجوهر ولا بعرض ولا بفلك ولا بعنصر ـ ... الى غير ذلك ـ » فالمسلوب ليس الاّ نقيصات تلك الحقائق ومهيات تلك الوجودات ، فانّ ذاته ـ تعالى ـ لو كانت بذاته مصداقا لسلب شيء من تلك الوجودات من حيث هو وجود وحقيقة لزم أن لا تكون ذاته ـ تعالى ـ عين حقيقة الوجود وصرف طبيعته ، فانّ حقيقة الشيء وطبيعته لا تكون مصداقا لسلب شيء من افراد ذلك الشيء وإلاّ لم تكن طبيعة ذلك الشيء. وذلك هو التوحيد الوجودي فاعرفه إن كنت أهلا لذلك! ؛ انتهى.

وغير خفيّ انّ ما ذكره بعض العرفاء يحتمل وجهين :

أحدهما : انّ الواجب لمّا كان صرف الوجود وتأكّده ووجودات الأشياء وجودات مشوبة بالقوة والعدم فائضة منه ، وهذه الوجودات المشوبة بالعدم إذا فرض تحليلها الى وجودات صرفة وعدماتها يكون وجود الواجب مشتملا على تلك الوجودات الصرفة. يعنى : انّ وجوده لمّا كان فوق التمام فيشتمل على كلّ مرتبة دونه مع الزيادة من غير أن يكون عين سائر المراتب ، بمعنى أنّه إذا حلّل الأشياء الموجودة إلى وجوداتها الصرفة واعدامها كان وجودها عين الواجب. وذلك كما انّ السواد الأشدّ يشتمل على جميع السوادات الّتي تحته مع الزيادة من غير أن يكون الاشدّ عين سائر المراتب ؛ فاذا قلنا : انّ

١٦٦

السواد الأشدّ كلّ السوادات ، يكون المراد : انّ كلّ مرتبة دون الاشدّ يوجد في الأشدّ مع الزيادة ، لا أن يكون الأشدّ عين باقي المراتب.

وثانيهما : أن يكون المراد انّ وجود الواجب هو عين وجودات الممكنات إذا خلصت عن أعدامها.

وأنت خبير بأنّ مبنى الوجه الأوّل على كون الوجود مقولا بالتشكيك ، وكون وجود الواجب فردا أقوى وأشدّ منه ؛ ومبنى الثاني على وحدة الوجود بل الموجود ؛ والقول بكلّ منهما يشتمل على مفاسد ، وقد بينّا ذلك بما لا مزيد عليه في رسالتنا المسمّاة « بقرّة العيون ».

فالحقّ انّ مراد المعلّمين من انّ الواجب كلّ الوجود مع وحدته البسيطة الصرفة : أنّ جميع الوجودات لوازم ذاته ورشحات وجوده وهو علّة تامة لها ، وهى ناشئة صادرة عنها ، وهو كلّ الأشياء في الشهود العلمي بمعنى انّ حضور ذاته عند ذاته هو حضور الأشياء ، بل هو في انكشاف الأشياء أقوى من حضورها بانفسها. فمن قال : انّ الاشياء عين الواجب أراد بالعينية العينية باعتبار الشهود العلمي وباعتبار ملزوميته وعليته لها وانطوائها فيه اجمالا وهذا المعنى هو مرادهم من قولهم : انّه مجمل الأشياء او كلّها ، لا أن تكون تلك الوجودات عين وجود الواجب بعد تخليصها عن عدماتها الامكانية أو يكون وجود الواجب مشتملا عليها مع الزيادة ، لانّه إن تحقّق / ١٤٨ MA / حينئذ بين وجود الواجب وسائر الوجودات ما به الاشتراك وما به الامتياز لزم التركيب ؛ وإن لم يكن بينهما ما به الامتياز أصلا لزم وحدة الوجود ؛ وإن لم يكن بينهما ما به الاشتراك بل كانا متخالفين بانفسهما لم يكن لاشتمال وجود الواجب على سائر الوجودات معنى.

وبالجملة قد ظهر من كلام الفارابي انّه قائل بالعلم الاجمالي الكمالي المقدّم على الايجاد على الاحتمال الاوّل على ـ الظاهر ـ ، وبالعلم التفصيلى الصوري.

وإذا عرفت ذلك فاعلم! انّ مذهب بهمنيار أيضا ذلك. امّا قوله بالعلم الاجمالى فقد عرفت من كلامه المنقول ؛ وأمّا قوله بالعلم الصوري فانّه قال : « فاذا كان واجب الوجود يعقل ذاته فيعقل أيضا لوازم ذاته ، وإلاّ ليس يعقل ذاته بالتمام وبالكنه أو

١٦٧

بالجهة الّتي بها صارت علّة لملزوماتها ، وكلاهما في الواجب واحد لتنزهه عن تعدد الجهات واللوازم التى هى / ١٤٦ DA / معقولاته وان كانت اعراضا موجودة فيه فليس مما يتصف بها او ينفعل عنها فان كونه واجب الوجود بذاته فهو بعينه كونه مبدأ للوازمه أي معلولاته بل ما صدر عنه انّما يصدر عنه بعد وجوده وجودا تامّا وانّما يمتنع ان يكون ذاته محلا لاعراض ينفعل عنها او يستكمل بها او يتصف بها بل كماله انّه بحيث يصدر عنه هذه اللوازم لا في آن يوجد له فاذا وصف بانّه يعقل هذه الامور فانّه يوصف به لانه يصدر عنه هذه لا لأنّه محلها ولوازم ذاته هى صور معقولاته لا على انّ تلك الصور تصدر عنه فيعقلها بل نفس تلك الصور لكونها مجرّدة عن المواد تفيض عنه وهى معقولة له فنفس وجودها عنه نفس معقوليتها له ، فمعقولاته اذن فعلية » (١) ؛ انتهى.

ولا ريب في انّ قوله : « وإن كانت اعراضا موجودة فيه » صريح في العلم الصوري ؛ وقوله : « فليس ممّا يتصف بها » اشارة إلى دفع ما يظنّ وروده على العلم الحصولي من لزوم كونه متصفا بصفات غير اضافية ولا سلبية ، وكونه قابلا وفاعلا ـ كما تقدّم في كلام الشيخ والمحقّق الطوسي ـ. وما ذكروه في دفع الأوّل هو انّ اتصاف الشيء بعرض هو أن يكون ذلك العرض محمولا عليه أو مبدأ لمحمول عليه ، ولوازمه ـ تعالى ـ على تقدير وجودها فيه ليس محمولا عليه ـ وهو ظاهر ـ ؛ ولا مبدأ لمحمول عليه ، لانّ العالم الّذي هو محمول عليه ـ تعالى ـ ليس حمله عليه باعتبار انّ تلك الصور فيه ، بل انّما هو باعتبار كونه ـ تعالى ـ مبدأ لتلك الصور ومصدرا لها ـ أعني : كونه بحيث يصدر عنه تلك الصور منكشفة له تعالى ـ. وقد اشار الى ذلك بهمنيار بقوله بعد ذلك : « فاذا وصف بانّه تعقّل هذه الامور فانّه يوصف به لانّه يصدر عنه ، لا لانه محلّها ».

ثمّ المراد بالاتصاف المنفي ـ كما أشير إليه ـ هو الاتصاف بصفة حقيقية غير اضافية ، فلا يقدح كون تلك الصور مبدأ لاتصافه ـ تعالى ـ بالعالمية الاضافية ، فانّه لا امتناع في احتياجه ـ تعالى ـ في الاضافات إلى غيره ـ تعالى ـ ، بل الامتناع انّما هو في الصفات الحقيقية. وما ذكروه في رفع الثاني ـ على ما مرّ ـ هو انّه فرق بين القبول بمعنى الانفعال و

__________________

(١) راجع : التحصيل ، ص ٥٧٤.

١٦٨

القبول بمعنى مطلق المعروضية والموصوفية ، والمحال هو الأوّل وهو غير لازم. قال الشيخ في التعليقات ما حاصله : « انّه فرق بين أن يوصف جسم بانّه ابيض لانّ البياض يوجد فيه من خارج ، وبين أن يوصف بانّه ابيض لانّ البياض من لوازمه ؛ وإذا اخذت حقيقة الأوّل ـ تعالى ـ على هذا الوجه ولوازمه على هذه الجهة استمرّ هذا المعنى فيه ـ وهو أن لا كثرة فيه وليس هناك قابل وفاعل ، بل من حيث هو قابل وفاعل ـ.

وهذا الحكم مطّرد في جميع البسائط ، فانّ حقيقتها هي انّها يلزم عنها اللوازم على انّها من حيث القابلية والفاعلية واحدة فانّ البسيط عنه وفيه شيء واحد. وقد أشار بهمنيار إلى عدم لزوم القبول بمعنى الانفعال بقوله : « أو ينفعل عنها » ؛ وإذا لم ينفعل عنها لم يلزم مفسدة كونه ـ تعالى ـ محلاّ لمعلولاته الممكنة ، لانّ المحال ليس مجرّد محلّيته لمعلولاته ، بل انّما يكون ذلك محالا لو لزم انفعاله عنها.

وقوله : « فانّ كونه واجب الوجود ـ ... الى آخره ـ » علّة لقوله : « فليس ممّا يتّصف بها » ، يعنى : انّ الواجب لا يتّصف بتلك اللوازم اتصافا يكون محالا ، لانّ الاتصاف المحال هو الاتصاف بصفات زائدة كمالية ، وكمال الواجبية لا يحصل له بتلك اللوازم بل انّما يحصل له ذلك الكمال لمبدئية تلك اللوازم ؛ يدلّ عليه قوله : « بل ما صدر عنه انّما يصدر عنه بعد وجوده وجودا تامّا كاملا ».

وقوله : « بل كماله انّه بحيث يصدر عنه هذه اللوازم » يعنى : إنّ هذه الصور وان كانت موجودة فيه لا بأحد الوجوه المذكورة المنفية لكن كماله ـ تعالى ـ لا من حيث وجودها فيه ، بل من حيث انّه مصدرها. وعالميته ـ تعالى ـ أيضا عين هذه الصدور لا وجودها له وإن كان وجودها له واقعا أيضا بغير الانحاء المذكورة ، فغرضه ليس نفي الوجود له أو فيه مطلقا ، إذ صرّح انّه اعراض موجودة فيه ؛ بل غرضه انّ عالميته وكمالاته ليس من هذه الحيثية بل من حيث الصدور. ويمكن أن يوجّه قوله : « بل كماله » بأن يقال : انّه اضراب عن قوله : « ينفعل عنها أو يستكمل بها » ، أي : ليس كمال بالانفعال عن تلك الاعراض والاستكمال والاتصاف بها ، بل كماله ـ ... إلى آخره ـ. وقوله : « ولوازم ذاته ـ ... إلى آخره ـ » تمهيد لقوله : « فمعقولاته إذن فعلية ».

١٦٩

واعلم! ، انّ العلم على المشهور ثلاثة أقسام.

فعلي ؛ / ١٤٦ DB /

وانفعالى ؛

وخارج عن القسمين ؛ لانّ العلم امّا سبب لوجود المعلوم في الخارج ـ كما إذا تصوّرت فتعقّلته ـ ، وهو الفعلي ؛

أو مسبّب عن وجود المعلوم ـ كما إذا شاهدت شيئا فتعقّلته ـ ، وهو الانفعالي ؛ أو لا هذا ولا ذاك ـ كما إذا تصوّرت الأمور المستقبلة الّتي ليست فعلا لك ، وكعلمك بذاتك ـ.

وقيل : المعقول إمّا فعلي أو انفعالي ولا ثالث لهما ؛ لأنّ كلّ ما تكون جهة موجوديته مغايرة بالذات لجهة كونه حاضرا لمدركه ـ كما تعقلنا الأشياء الخارجة عنّا ـ فهو معقول انفعالي ، وما كان جهة وجوده وصدوره عن فاعله بعينها / ١٤٨ MB / هي جهة حضوره لمدركه ولا تكون مغايرة بينهما الاّ بالاعتبار ـ كما في تعقّلنا افعالنا الذاتية الصادرة عنّا حال كونها صادرة عنا ـ فهو معقول فعلي ، وحينئذ لا واسطة بينهما. وبالجملة ليس للواجب علم انفعالي ، بل علومه فعلية ـ كما صرّح به بهمنيار وغيره من أساطين الحكمة ـ. لانّ الانفعالي إمّا تدريجي او غير تدريجى ، والأوّل شأن المادّة والمادّيات والواجب ـ تعالى ـ منزّه عنهما ؛ والثاني يستلزم الاستفادة عن الغير والواجب لا يجوز أن يستفيد كمال ذاته عن الغير ، وإلاّ لزم النقص.

وأيضا واهب الكمالات لا يكون إلاّ الواجب ، فكيف يجوز أن يستفيد الكمال عن الغير؟!.

فان قيل : لم لا يجوز أن يتعقّل الواجب عن ذاته ، فحينئذ يكون علمه انفعاليا؟! ؛

قلنا : هذا يؤول إلى العلم الحصولي ، بل هو عينه ؛ وقد عرفت ما فيه. وقد ظهر من كلام بهمنيار قوله بالعلم الحصولي. والمفاسد الواردة عليه الّتي اشار إلى دفعها فقد عرفت حالها فيما سبق وعلمت ما يمكن دفعها وما لا يمكن دفعها.

والعجب انّ بعض افاضل المتاخرين حمل جميع تلك العبارات المنقولة عن بهمنيار على العلم الحضوري بتأويلات بعيدة وتكلّفات ركيكة ، وهذا الفاضل هو الّذي حمل

١٧٠

كلام الشيخ في جميع كتبه وكلام الفارابى ـ بل غيرهما من أساطين الحكمة ـ على العلم الحضوري ؛ وهو كما ترى.

قال بعض المشاهير بعد نقل هذا الكلام من بهمنيار : فان قيل : قد قال بعد هذا الكلام : « وليس يجدها ـ أي : الواجب ـ بحيث يحصل له تلك المعلومات ، وليس هو عالم لانّ له تلك الصور ـ أي : لا يعمله كاملا أو واجب الوجود بسبب حيثية حصول المعلومات فيه ـ وليس عالما لانّ فيه تلك الصور ، وان كانت تلك الصور له بل هو عالم بمعنى انّه يصدر عنه تلك الصور ـ أي : العالمية لأجل كونها منه ، لا لأجل كونها فيه ـ وصور تلك المعلومات مع كثرته عنده على وجه بسيط. وبيان ذلك : انّ حقيقته حقيقة يصدر عنه مفصّل المعقولات كما انّ المعقول البسيط عندنا علّة للمعلومات المفصّلة ـ ... إلى آخر ما نقلناه عنه سابقا في بيان العلم الاجمالى ـ » ، وهذا الكلام يدلّ على انّ العلم المقدّم عين ذاته ؛

قلت : لمّا كان ظاهر الكلام السابق يدلّ على انّه اختار مذهب انكسيمالس الملطي ـ وهو انّ جميع الايجادات العينية مسبوق بالعلم الزائد بالذات ـ وجب حمل الكلام الأخير ـ وهو قوله : « وصور تلك المعلومات مع كثرته على الوجه البسيط » ـ على العلم المتقدّم على العلوم التفصيلية المقدّمة على جميع الايجادات العينية. وهذا العلم المتقدّم هو عين ذاته ـ تعالى ـ وهو العلم الاجمالي بالمعلوم المفصلة ؛ انتهى.

وحاصل كلامه : انّه لا تناقض بين كلمات بهمنيار في تصريحه تارة بالعلم الحصولي وتارة بالعلم الاجمالي ، لانّه لا منافاة بينهما ، فانّ مذهبه انّ للواجب علمين : علم كمالي اجمالي وعلم صوري تفصيلى ـ كما تقدم في كلام الفارابي أيضا ـ. فانّ كلاّ من القائلين بالعلم الصوري والقائلين بالعلم الحضوري فرقتان : فرقة قالوا بالعلم الاجمالي ؛ وفرقة لم يقولوا بهذا ، والعلم الاجمالى لا ينافي كلاّ من المذهبين ولا يتحقّق فرق في العلم الاجمالي على المذهبين. نعم! ، يتحقّق فرق حينئذ في العلم التفصيلي بانّه صوري مقدّم على الايجاد عند القائلين بالعلم الحصولي ، وانكشافي اشراقي مقارن لوجودات الأشياء عند جماعة من القائلين بالعلم الحضوري ، وعند المحقّقين منهم ـ كالشيخ الإلهي وغيره ـ ليست تلك

١٧١

المقارنة لازمة ـ كما تعرف ـ.

ثمّ انّ العلامة الخفري قد نسب القول بالعلم الاجمالي إلى المحقّق الطوسي ، وغرضه انّه ممّن قال بالعلم الاجمالي الكمالي وبالعلم التفصيلي الحضوري ، فقال : « وهو ـ أي : المحقّق ـ وإن لم يتعرّض في التجريد لنحو العلم الكمالي المتقدّم على الايجاد إلاّ بالاشارة ، وأمّا في شرح الاشارات فهو يخالف صاحبها ، فاختار المذهب الثاني ـ أي : مذهب طاليس الملطي ـ من القول بكون الجوهر الأوّل غير مسبوق بالعلم المغاير / ١٤٧ DA / لذات الواجب ، وسائر الأشياء معلومة بالصور المرتسمة في الجوهر الأوّل. وردّ القول بالعلم الحصولي لما فيه من المفاسد ، وأشار فيه إلى ما يؤدّي الى التحقيق الّذي ذكرته » ؛ انتهى.

ومراده من التحقيق الّذي ذكره هو العلم الاجمالى فقط ، أو العلم الاجمالي والتفصيلى.

وأنت خبير بانّه ليس فيما ذكره المحقّق في شرح الاشارات أثر من العلم الاجمالي ولا اشارة إليه بوجه ، فان المذكور منه فيه ليس إلاّ العلم التفصيلي وكون علمه بمعلولاته القريبة بنفس ذواتها وبمعلولاته البعيدة بالصور الحاصلة في المعلولات القريبة ، وليس هذا من التحقيق الّذي ذكره ـ أعني : العلم الاجمالى بوجه ـ.

وامّا ما ذكره من تعرّض المحقّق في التجريد للعلم الاجمالي بالاشارة ، فلا ريب في انّه لا اشارة فيه أيضا إليه بوجه ؛ والظاهر انّ مراده من الاشارة الاشارة في قوله : « واستناد كلّ شيء إليه ـ تعالى ـ » ، اذ يعلم منه كونه ـ تعالى ـ علّة للاشياء وهو عالم بذاته ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، فيجب ان يكون له ـ تعالى ـ علم سابق على وجود جميع معلولاته ، لانّ الاستدلال بكون العلم بالعلّة مستلزما للعلم بالمعلول الصق بالعلم قبل الايجاد ، والعلم قبل الايجاد هو العلم الاجمالي. ويمكن أن يكون الاشارة بزعمه في قوله : « ولا يستدعي العلم صورا مغايرة للمعلومات » ، لانّه نفى أن يكون العلم صورا مغايرة للمعلومات ولم ينف كونه مغايرا ـ إذا لم يكن صورة ـ فبقي احتمال علم يكون مغايرا للمعلومات ولا يكون صورا لها ، وليس هو الاّ العلم الاجمالي الّذي هو عين علمه بذاته بل عين ذاته فان ذاته ، ـ تعالى ـ مغايرة لمعلولاته وليست صورة لها.

١٧٢

قيل : ويمكن أن يكون الاشارة في قوله : « والتغاير اعتباري » ، لما قال هذا العلامة في بيان العلم / ١٤٩ MA / الاجمالي : انّ في الشهود العلمي الكمالي كان ذاته ـ تعالى ـ عالما بذاته وبجميع الموجودات وعلما ومعلوما ، والتغاير بين هذه المعاني انّما هو بالاعتبار.

وأنت تعلم انّه لا اشارة في هذه العبارات إلى العلم الاجمالي بوجه ، فانّ العبارة الاولى لا تفيد أزيد من كونه ـ تعالى ـ عالما ولا دلالة فيها على كيفية العلم بوجه ، وحديث الالصقية لا يلتصق بالقلب.

وأمّا الثانية فلا يدلّ إلاّ على نفي العلم الصوري ، ولا دلالة فيها على اثبات الاجمال والتفصيل في العلم بوجه ، واللازم من نفي الصوري ليس الاّ ثبوت العلم الحضوري من غير دلالة على كونه اجماليا أو تفصيليا. ولكون العلم الانكشافي مغايرا للمعلومات يندفع ما ذكر من انّ العلم المغاير للمعلومات ليس إلاّ الاجمالي.

وأمّا الثالثة : فهي جواب عمّا قيل : انّ العلم نسبة بين العالم والمعلوم والنسبة تقتضي تغاير الطرفين ، فيلزم أن لا يعلم الواجب نفسه ، إذ لا تغاير هنا بين العالم والمعلوم.

ثمّ قال الخفري : « وما يدلّ على أنّ هذا التحقيق الذي اخترته هو المختار عند المحقّق الطوسى ما قاله في الرسالة الّتي الّفها في تحقيق العلم ، وهو : انّه كما انّ الكاتب مثلا يطلق على من يتمكّن من الكتابة ـ ... الى اخر ما نقلناه سابقا ـ ».

والحقّ ـ كما افاده ـ انّ تلك العبارة تدلّ على العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني ، لانّ حاصل اوائل تلك العبارة انّ العالم يطلق على من يتمكّن من استحضار المعلومات أيّ وقت شاء وعلى المستحضر لها بالفعل كالكاتب على القادر وعلى المباشر لها ، واطلاق العالم على الأوّل ـ تعالى ـ انّما هو بالاعتبار الأوّل ، فهو بذلك الاعتبار لا يحتاج في كونه عالما إلى شيء غير ذاته. ثمّ صرّح بأنّ ادراك الأوّل ـ تعالى ـ بالاعتبار الثاني إمّا لذاته فيكون بعين ذاته لا غير ، وامّا لمعلولاته القريبة منه فيكون باعتبار ذوات تلك المعلومات ثمّ صرّح بأنّ ادراكه لمعلولاته البعيدة بالصور المرتسمة في المعلولات القريبة ، فيظهر من مجموع عبارته انّ له علما اجماليا على الوجه الثاني في جميع الأشياء ـ أي : له تمكّنا من العلم بالجميع في مرتبة ذاته بأن يصدر عنه جميع الأشياء منكشفة له تعالى ـ ؛ وانّ له

١٧٣

علما تفصيليا حضوريا بمعلولاته القريبة وعلما تفصيليا حصوليا بمعلولاته البعيدة.

وإذا عرفت مذاهب بعض الرؤساء في العلم الاجمالي وغير ذلك من المطالب المذكورة فلنعد إلى تحقيق الحقّ في العلم الاجمالي ؛ فنقول :

الحقّ بطلان العلم الاجمالي على الوجهين ، إذ لا شكّ انّ العلم التفصيلى المقابل لكلّ من الوجهين للاجمالي ـ أعني : الغير التامّ والاستحضار بالفعل ـ في مرتبة فوق الاجمالي الّذي / ١٤٧ DB / هو مقابله وكمال أتمّ منه ، فلو لم يكن ثابتا للواجب ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته وانّما يثبت له ذلك بعد أن يوجد غيره لزم اتصافه ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته بالنقص والخلوّ عن ذلك الكمال ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ.

ثمّ انّا قد اشرنا سابقا إلى أنّ الأكثر بيّنوا العلم الاجمالى للواجب ـ تعالى ـ على الوجه الأوّل وقرّروا البقية تعقّله للأشياء بانطواء العلم بالكلّ في علمه بذاته كانطواء العلم بلوازم الانسانية في العلم بالانسانية. وربما أوردوا مثالا بتقسيم حال الانسان في علمه إلى ثلاثة اقسام ، ثمّ جعلوا علم الواجب من القسم الّذي هو الاحتمال الأوّل.

بيان ذلك : انّهم قالوا : انّ حال الانسان في علمه لا يخلو عن اقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يكون علومه تفصيلية زمانية على سبيل الانتقال من معقول إلى معقول على سبيل التدريج ؛ ولا يخلو تعقّله حينئذ من مشاركة الخيال ، بل يكون مع حكاية خيالية بحيث يتّحد الادراكان ـ أي : يتحد ادراك النفس وادراك الخيال نحوا من الاتحاد ـ ، كما إذا ابصرنا شيئا وحصل أيضا عنه صورة في الحسّ المشترك اتحد الادراكان ولا يتميز لنا ما يحصل في آلة البصر وما يحصل في الحسّ المشترك إلاّ بوسط ودليل.

الثاني : أن يكون له ملكة حاصلة من ممارسة العلوم والافكار يقدر لاجلها على استحضار الصور العقلية متى شاء بلا تجشّم كسب جديد ، وإن لم تكن علومه وادراكاته حاضرة عنده بأن تكون نفسه معرضة عن تصوّر الأشياء جميعا وان حصلت لها القوة عليه ، إذ ليس في وسعها ما دامت متعلّقة بالبدن أن تعقل الأشياء معا دفعة واحدة لمشاركة الخيال معها في الادراك ، والخيال لا يتخيل الأشياء معا ، وهذه ـ أي : تلك الملكة ـ حالة بسيطة ساذجة لها نسبة واحدة إلى كلّ صورة يمكن حضورها لصاحبها. ولا شكّ في أنّ

١٧٤

الانسان في هذه الحالة ليس عالما بالفعل ، فلا تكون الصور حاصلة له بالفعل ولكن له قدرة الاستحضار ، فيكون عالما بالقوّة.

والثالث : أن يحصل له علم اجمالي لجواب مسائل كثيرة أوردت عليه دفعة ، ثمّ يأخذ بعده في التفصيل شيئا فشيئا حتى يملأ الأوراق والأسماع ، فهو في هذه الحالة ـ أي : حالة علمه اجمالا لجواب الكلّ ـ يعلم من نفسه يقينا انّه يحيط بالجواب جملة ولم يفصل بقوّة ذهنه بترتيب الجواب ، ثمّ يخوض في الجواب مستمدّا من الأمر البسيط الكلّي الّذي كان يدركه من نفسه ، فهذا العلم الواحد البسيط خلاف / ١٤٩ MB / تلك التفاصيل وهو أشرف منها عندهم. وقالوا : علم الواجب بالأشياء وانطواء الكلّ في علمه من هذا القسم الثالث. ولمّا أوردوا عليهم بأنّ العلم بالشيء على هذا الوجه أيضا مثل الوجه الثاني بالقوّة وليس علما بالفعل وان كان قوّة قريبة من الفعل ؛

أجابوا : بأنّ لصاحبه يقينا بأنّ هذا حاصل عنده بالفعل إذا شاء علمه ، فلفظ هذا منه اشارة إلى شيء ما به حاصل بالفعل. ولا ريب في انّ النقض بحال الشيء ـ أعني : حصوله بالفعل ـ لا ينفكّ عن المعلومية من جهة ما تيقّنه ، فالاشارة يتناول المعلوم بالفعل فيكون كلّ واحد من الأشياء المفصّلة الداخلة تحت الاجمالي معلوما له بهذا النحو ـ أي : بانّه حاصل له مخزون عنده ـ ، فهو بهذا النحو البسيط معلوم له قد يريد أن يجعله معلوما بنحو آخر. وهذا العلم البسيط هيئة تحصل للنفس لا بذاتها ـ بل من عند مخرج لها من القوّة إلى الفعل ـ. ثمّ بحسب تلك الهيئة يلزم النفس التصور التفصيلي والعلم الفكري ، فالأوّل أعني : الهيئة البسيطة ، فحصولها من القوّة العقلية للنفس المشاكلة للعقول الفعالة ؛ وأمّا الثاني ـ أعني : التفصيلى ـ فهو للنفس من حيث هى نفس ؛ هذا هو جوابهم عن الايراد المذكور.

وفيه : انّ غاية ما يستفاد من هذا الجواب انّ العالم بجميع المسائل الموردة عليه اجمالا عالم في تلك الحالة بالفعل بأنّ له قدرة على اظهار شيء دافع لذلك السؤال ، وأمّا حقيقة ذلك الشيء فهو غير عالم به ، فلهذا الشيء ـ أعني : الجواب ـ الّذي يقدر المجيب العالم به اجمالا أنّ ما يأتي به حقيقة ماهية وله لازم وهو كونه دافعا لذلك السؤال ، فالحقيقة مجهولة واللازم معلوم ، فهى حالة بين الفعل المحض الّذي هو العلم بالمعلومات مفصّلة متميزة بعضها

١٧٥

عن بعض وبين القوّة المحضة الّتي هى حالة اخبر ان المعلومات المفصّلة ـ أعني : حالة حصول الملكة ـ من دون حصول صورة علمية مطابقة لتلك التفاصيل ، فهي بين الحالين. ولا ريب في أنّها قوّة بالنسبة إلى العقل المحض ـ أعني : حصول المعلومات مفصّلة متميزة ـ ، والفعل المحض مرتبة فوقها وكمال أتمّ بالنسبة إليها ، فيلزم ما ذكر من النقض في حقّه ـ سبحانه / ١٤٨ DA / تعالى عن ذلك ـ.

وأورد على الاحتمال الأوّل من العلم الاجمالي أيضا : بانّه كيف يكون شيء واحد بسيط ـ غاية الوحدة والبساطة ـ صورة علمية لامور مختلفة متكثّرة؟. فانّه لو صحّ ذلك لا نسلّم ما قرّروه من أنّ العلم بالشيء يجب ان يكون متّحد الماهية مع ذلك الشيء ، ولذا قالوا : الصورة المعقولة من الشيء عين ماهية هذا الشيء ومتّحدة معه في الحقيقة ، فكيف يتميز الاشياء بمجرّد هذا العلم وانّها لم يوجد ماهياتها بعد؟! ؛ وهل هذا الاّ تمايز المعدومات؟!. والحاصل انّ الأشياء لو لم يكن لها نحو وجود وثبوت بوجه ومع ذلك تعقّلها الواجب بخصوصياتها ممتازة لا من صورها بل من مجرّد علمه بذاته لزم أن يكون العلم بذات بسيطة واحدة علما باشياء متكثّرة مختلفة متباينة لهذه الذات ، ولزم تمايز المعدومات الصرفة ؛ وإن كانت متقرّرة ثابتة في الذات لزم تقرّر الأشياء العينية في ذات الواجب ، فيلزم التركيب ، وأيّ تركيب!! ؛ وان كانت ثابتة في الخارج لزم ثبوت المعدومات. ثمّ لو سلّم جواز كون ذات واحدة بسيطة في غاية الوحدة والبساطة علما بامور مختلفة الذوات متباينة الماهيات فانّها لا يمكن أن تكون علما بها بخصوصياتها ، لانّه لا يمكن أن يكون تلك الأمور معلومة بالذات وإلاّ لزم تمايز المعدومات ، غاية الامر أن تكون معلومة بالعرض ، فالمعلوم بالذات ذلك الأمر الواحد البسيط كالعلم بافراد الانسان من مفهومه الكلّي ، وكالعلم بالفروع من العلم بالاصل لا كالعلم باجزاء الحدّ من العلم بالمحدود ، لأنّ والحدّ والمحدود متحدان ذاتا ومتغايران اعتبارا وليس فيهما تفاوت بنحو الادراك ، والمجمل والمفصّل متفاوتان بنحو الادراك وإن لم يكن تفاوت بينهما لأجل أمر في المدرك. ولئن سلّم ذلك ـ أي : كون معلومية المفصّل من المجمل كمعلومية اجزاء الحدّ من المحدود في العلم الاجمالى الّذي يحصل للانسان ، أعني : في المعقول البسيط الّذي يحصل

١٧٦

له ـ فكيف يسلّم كون الذات الإلهية بالنسبة إلى معلوماته كالحدّ بالقياس الى المحدود؟!. وإذا كانت تلك المعلومات المفصّلة معلومة بالعرض على النحو المذكور فلا يكون معلومة حقيقة ولا يكون الواجب في الحقيقة بالنسبة إلى خصوصياتها جاهلا ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ.

هذا هو الايراد الآخر الّذي ذكروه ، وهو ممّا يمكن أن يورد على ما اخترناه أيضا. والحقّ انّه ممكن الدفع فنجيب عنه ـ إن شاء الله ـ في موضعه.

قال بعض الأفاضل بعد تقرير العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني : فان قلت : قد تقرّر في محلّه انّ التفاوت بين الاجمال والتفصيل ليس الاّ في نحوي الادراك لا في ذات المدرك ، فلو كان علمه ـ تعالى ـ في ذاته علما اجماليا بجميع الموجودات لزم كون ذاته ـ تعالى ـ لكونها عين علمه بذاته عين تلك الموجودات أو صورة علمية مطابقة لتلك الموجودات ، وذلك باطل بالضرورة ؛

قلت : لمّا كان ذاته مبدأ لفيضان جميع الموجودات وكان علمه بذاته ـ تعالى ـ مبدأ لعلمه بجميع الموجودات كان علمه بذاته علما اجماليا بتلك الموجودات مجازا لتلك العلاقة ، كما يقال للملكة المذكورة علم اجمالي بالعلوم / ١٥٠ MA / المفصّلة الحاصلة منها ، وهذا قول بعض المحقّقين : « انّ عالميته ـ تعالى ـ عبارة عن كونه خلاّق العلوم برمّتها » ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ جواب هذا الفاضل عن الايراد المذكور راجع إلى ما يقال : انّ كون علم الواجب بذاته علما اجماليا بجميع الموجودات قول مجازي لعلاقة كونه مبدأ لها وتمكّنه من العلم بها بأن يوجدها منكشفة عنده. ويلزم على قوله ان لا يكون عالما بها بالفعل قبل ايجادها ، فيلزم جهله ـ سبحانه ـ في مرتبة ذاته ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. ثم قال الفاضل المذكور : والحاصل انّ العلم الجمالي صورة علمية واحدة يشتمل اجمالا على الصور العلمية المفصّلة الحاصلة منها وعلمه ـ تعالى ـ هذا باعتبار كونه علما بذاته وكون ذاته علّة لجميع الموجودات تشتمل على العلم بجميع الموجودات بحيث كانّه أمر واحد يشتمل على أمور متكثّرة ؛ وهذا معنى كلام المعلّم الثاني : « فهو الكلّ في وحدة ».

١٧٧

وهذا سر لارباب التوحيد لا تحتمله العبارة ولا تفي به الاشارة. ويمكن ان يشار إلى ذلك بانّ وجود المعلول كانّه الشبح لوجود العلّة وفيض منه وكأنّ الوجود قد زاد عليه وفاض على غيره ، فوجود جميع الموجودات على كثرتها كانّها مجتمعة بعنوان الوحدة في وجود ما هو علّة لها حقيقة ، فهو عين جميع الموجودات الفائضة عنه المترشحة منه ، فالعلم به علم بجميع الموجودات على سبيل الاجمال. فوجود العلّة هو صورة جميع الموجودات الفائضة منه لكن مبراة عن شوائب الكثرة فهو الكلّ في وحدته ؛ انتهى. / ١٤٨ DB /

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام بيان للعلم الاجمالي بالوجه الأوّل مع انّه اعتقد في جميع كلماته انّ العلم الاجمالي للواجب هو الاجمالي بالوجه الثاني.

ثمّ ما ذكره من كون علم الواجب بذاته موجبا للعلم بجميع الموجودات ـ لكون جميع الموجودات لازمة له مرشّحة منه فائضة عنه ، فكأنّها مجتمعة فيه بعنوان الوحدة ـ فهو ممنوع ، إلاّ أنّا نقول : انّها عالم بها تفصيلا لا اجمالا ـ كما ذكره ـ للزوم جهله ـ سبحانه ـ في مرتبة ذاته بمرتبة اتمّ من العلم ـ أعني : التفصيلى الّذي هو التميّز التامّ والادراك بالخصوصيات ـ. قال بعض الفضلاء : إذا كان العلم الاجمالي عين ذات الواجب ولم يكن العلم التفصيلي عين ذاته لزم أن لا يكون الواجب ـ جلّ اسمه ـ بحيث يحصل له العلم التفصيلي في مرتبة الذات ، فيلزم أن لا يعلم الأشياء مفصّلة في مرتبة الذات بل يعلمها مجملة في هذه المرتبة ؛ وأيضا يلزم أن يحصل له علم بعد ما لم يكن في مرتبة الذات ، فيلزم ان يكون فاقدا لبعض الكمالات في مرتبة الذات ـ لانّ العلم كمال مطلق للموجود بما هو موجود ـ. وما يتوهّم من انّه يجوز أن لا يكون العلم التفصيلى كمالا يندفع بما ذكرنا : من أنّ العلم كمال مطلق للموجود بما هو موجود ، والجهل نقص مطلق. وأيضا ايجاد الاشياء مفصّلة لا يكون إلاّ بعلم سابق على تلك الأشياء ، ويجب أن يكون ذلك العلم السابق علما مفصّلا وإلاّ يلزم ايجاد الشيء بعينه بدون العلم بذلك الشيء بعينه ، وهو باطل بالبديهة من الفاعل المختار ، على ما قال ـ جلّ ذكره ـ : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ). وذلك العلم السابق لا يمكن أن يكون زائدا على ذاته وإلاّ لزم التسلسل ، وهو محال ،

١٧٨

فيكون علما انكشافيا تفصيليا ؛ انتهى.

وهو جيّد موافق لما ذكرناه ؛ هذا.

ثمّ انّ العلامة الخفري بعد أن قال : انّ للواجب علمين أحدهما علم كمالي اجمالى وبينه بنقل كلام بهمنيار ـ كما تقدّم ـ قال : « وثانيها : علم تفصيلي وهو عين ما أوجده في الخارج والمدرك. ومراتبه أربع :

أحدها : ما يعبّر عنه « بالقلم » و « النور » و « العقل » في الشريعة ، و « بالعقل الكلّ » عند الصوفية ، و « بالعقول » عند الحكماء. فالعلم الّذي هو أوّل المخلوقات حاضر بذاته مع ما هو مكنون فيه عند الواجب ـ تعالى ـ فهو علم تفصيلي بالنسبة إلى العلم الاجمالي الّذي هو عين ذاته واجمالى بالنسبة إلى باقي المراتب ؛

وثانيها : ما يعبّر عنه في الشريعة « باللوح المحفوظ » ، و « بالنفس الكلّ » عند الصوفية ، و « بالنفوس الفلكية المجرّدة » عند الحكماء ، فاللوح المحفوظ حاضر بذاته مع ما ينتقش فيه من صور الكليات عند واجب الوجود ، فهو علم تفصيلي بالنسبة إلى المرتبتين اللتين هما فوقها ؛

وثالثها : « كتاب المحو والاثبات » ، وهو القوى الجسمانية الّتي ينتقش فيها صور الجزئيات المادية ، وهي النفوس المنطبعة في الاجسام العلوية والسفلية. فهذه القوى مع ما فيها من النفوس حاضرة بذواتها عند واجب الوجود ـ تعالى ـ ؛

ورابعها : الموجودات الخارجية من الأجرام العلوية والسفلية واحوالهما ، فانّها بذواتها حاضرة عند واجب الوجود في مرتبة الايجاد. والحاصل : انّ جميع الممكنات ـ سواء كانت كلّية أو جزئية وسواء كانت صورا ادراكية أو موجودات عينية ـ حاضرة بذواتها عند واجب الوجود في مرتبة الايجاد ، فهي علوم باعتبار ومعلومات باعتبار » ؛ انتهى.

وقوله : « أحدها ما يعبّر عنه بالقلم ـ ... الى آخره ـ » التعبير عن مرتبة الاولى في الشريعة بألفاظ ثلاثة ، ووجهه ـ على ما ذكره أهل التحقيق ـ انّ تلك الألفاظ الثلاثة عبارات عن معنى واحد ، فانّ الصادر الأوّل باعتبار انّه جوهر مجرّد عاقل لذاته عبّر عنه

١٧٩

« بالعقل » ؛ وباعتبار كونه واسطة في افاضة نفوس صور جميع ما سيوجد / ١٥٠ MB / إلى يوم القيامة في الواح النفوس المجرّدة الفلكية ـ كما انّ القلم واسطة في رسم الصور العلمية الحاصلة في أذهاننا على الالواح الصحيفة ـ عبّر عنه « بالقلم » ؛ وباعتبار انّ تلقّى الوحى من حضرة الرّبّ إنّما يكون باتصال النفس المقدّسة النبوية بذلك الجوهر المجرّد الّذي هو ظاهر في ذاته وسبب لانكشاف العالم الربانية لتلك الذات ـ كما انّ النور ظاهر في ذاته وسبب لظهور سائر الأشياء عند الحسّ ـ عبّر عنه « بالنور » ، وأضيف الى الذات الشريفة ـ صلوات الله عليها وعلى سائر الذوات المطهّرة المنشعبة عنها ـ » ؛ انتهى.

وما ذكره من انّ المرتبة الثانية يعبّر عنها بالنفس الكلّ عند الصوفية ممنوع ، إلاّ انّ هذا التعبير ليس مخصوصا بهم ، بل ذلك التعبير وقع في كلام الحكماء أيضا ـ كما نقل عن الشيخ انّه قال في رسالة المبدأ والمعاد : « اشرف الموجودات واولها عقل الكلّ ثمّ نفس الكلّ » ـ. وقد ذكر أيضا في رسالته الموسومة بالأسئلة والاجوبة انّه يطلق نفس الكلّ تارة على / ١٤٩ DA / النفس المحرّكة للفلك الأعلى الّتي يسمّى في الشرع عرشا ، وتارة على جملة الانفس المحرّكة للافلاك كلّها كأنّها نفس واحدة ، والافلاك جرم واحد.

ثمّ الظاهر انّ تدريج النفوس المجرّدة الانسانية في هذه المرتبة ، أو يجعل في مرتبة أخرى ، اذ لا يمكن اندراجها في المرتبة الثانية ، إذ حكم فيها بانتقاش صور الجزئيات المادة وهي لا تنتقش في النفوس المجرّدة على رأيهم. ويبعد جدّا أن يجعل قواها مرتبة قبل المرتبة الرابعة ولا يدخل انفسها في غير الرابعة.

ثمّ تسمية المرتبة الثالثة بكتاب المحو والاثبات لانّ الصور المرتسمة فيها لمّا كانت صورا للجزئيات الكائنة الفاسدة فكما انّ تلك الجزئيات يمحي ويثبت فكذلك تلك الصور المطابقة لها ؛ هذا.

وقال بعض الأعاظم : حمل تلك الالفاظ الواردة في الشرع على المعاني المذكورة انّما هو بمجرّد التشبّه وهي الرجم (١) بالغيب بلا سند شرعى. والظاهر منها معان أخر وإن امكن حملها عليها ـ والله يعلم ـ ؛ انتهى.

__________________

(١) الاصل : بمجرّد التشبهى والرجم.

١٨٠