جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

ومنها : ما أورده بعض المحقّقين من العرفاء ، وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمات :

الأولى : انّ العلم التامّ بشيء من أفراد الموجودات الخارجية من حيث هو فرد بعينه ـ أي لشيء من انحاء الوجود حتّى يكون المعلوم الماهية مع الوجود لا مجرّد الماهية ، وبالجملة يكون الوجود الخاصّ معلوما ـ لا يحصل إلاّ بحضور ذلك النحو من الوجود وانكشاف هذا الفرد الخاصّ من الوجود عند العالم دون حصول صورته ومثاله. والدليل على ذلك :

أمّا أوّلا : انّ الوجود لا مثال له ، / ١٤٢ MB / بل مثاله نفسه بخلاف الماهية ، فانّ لها مثالا مطابقا لها في الحقيقة.

وأمّا ثانيا : انّ افراد الوجودات الخارجية من حيث هي تلك الافراد بعينها لا يمكن حصولها في الذهن حصولا مطابقا لها ، وإلاّ لزم أن يكون الموجود الخارجي من حيث هو موجود خارجي موجودا ذهنيا ، فيلزم قلب الحقيقة ، إذ الموجود الخارجي من حيث هو موجود خارجي حقيقته وذاته أن يكون في الخارج ، فلو حصل في الذهن لزم قلب الحقيقة.

وأمّا ثالثا : انّ العلم الارتسامي إنّما يكون بحصول صورة من ماهية الشيء في الذهن ، فلا بدّ من وحدة الماهية وانحفاظها في الخارج والذهن وتعدّد وجودها ، وهذا إنّما يتصوّر إذا كانت تلك الماهية غير الوجود وكانت الصورة الحاصلة في الذهن للماهية / ١٣٩ DB / دون الوجود ، إذ لو كانت الصورة للوجود لكان الوجود في الطرفين متحدا فلا يتصوّر حينئذ تعدّد ، إذ تعدّد الماهية مع وحدة الوجود في الخارج والذهن غير معقول.

والثانية : انّ التأثير والتأثّر والعلّية والمعلولية عند المحصّلين من المشائين إنّما هو في انحاء الوجودات بمعنى انّ العلّة من حيث هي وجودها يؤثّر في المعلول من حيث وجوده ، لا أنّ ماهية العلّة من حيث هي هي مع عدم اعتبار وجودها يكون علّة لماهية المعلول وتؤثّر فيها كذلك. نعم! ، تأثيرها في اللوازم الاعتبارية للماهيات كذلك ـ أي : في ماهيتها من حيث هي هي من دون اعتبار وجودها ـ ، وجواز ذلك لعدم تحقّق الوجود

١٤١

لها وكونها اعتبارية.

الثالثة : قولهم : « العلم التامّ بالعلّة التامّة يوجب العلم التامّ بالمعلول » ، يحتمل في بادى النظر وجوها أربعة :

الأوّل : انّ العلم بماهية العلّة التامّة مطلقا ـ أي : من حيث هي ولو قطع النظر عن وجودها وعلّيتها ـ يوجب العلم بالمعلول.

الثانى : انّ العلم بالعلّة من حيث انّها علّة ـ أي : من حيث انّها معروضة لهذا المفهوم الاضافي ولو قطع النظر عن جميع ما عداه ـ يوجب العلم بالمعلول.

الثالث : انّ العلم من جميع الوجوه والحيثيات واللوازم والملزومات والعوارض والمعروضات يوجب ذلك.

الرابع : انّ العلم بتمام حقيقتها الّتي بها علّة تامّة يوجب ذلك ، بمعنى انّ الموجب للعلم بالمعلول هو العلم بتمام الحقيقة الّتي تتمّ بها العلية ، ولا يحتاج معها في العلّية إلى أمر آخر بحيث أيّ قيد آخر أخذ وأيّ حيثية أخرى لوحظت يكون خارجا عمّا هو العلّة التامّة لوجود المعلول ، إذ لو لم يكن خارجا لم يكن ما فرض علّة تامّة علّة تامّة ، فكلّ ما له مدخلية في العلّية من الجهات والحيثيات يضمّ إلى العلّة حتّى ينتهى إلى شيء هو لذاته موجب تامّ لوجود المعلول ، وكلّ ما هو خارج عنه لا يكون له مدخلية في العلية. فالعلم بمثل هذا الموجب يوجب العلم بالمعلول. ولا ريب في أنّ وجود هذه العلّة له مدخلية في العلّية أيضا ، بل هو العلّة بالحقيقة. فعلى هذا الوجه يكون معنى قولهم : العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول : إنّ العلم بوجود العلّة وبغيره ممّا له مدخلية في تمامية العلّة يوجب العلم بالمعلول.

ثمّ لا يخفى انّ الوجه الأوّل ليس مراد القوم ، إذ لا ريب في أنّ العلم بماهية العلّة من حيث هي لا يوجب العلم بالمعلول مطلقا ، وقد تقدّم ذلك. غاية الأمر صحّة هذا الوجه وجريانه في لوازم المهيات.

وكذا الوجه الثاني أيضا ليس مرادهم ـ لعدم الفرق فيه بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول في استلزام احدهما للآخر وعدمه ـ. وامّا الوجه الثالث وان كان صحيحا في

١٤٢

نفسه إلاّ انّه ليس أيضا مراد القوم ـ لعدم الفائدة فيه ـ. فتعين أن يكون مراد القوم من المقدّمة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول هو الوجه الرابع. فمرادهم منها : انّه إذا كان شيء لذاته بلا اعتبار أمر آخر علّة وموجبا لمعلول فمتى علم علم كونه علّة لذلك المعلول ومتى علم كونه علّة له وجب أن يحصل العلم به ـ أي : بذلك المعلول ـ.

والحاصل : انّ كلّ معلول من لوازم علّته التامّة بما هي علّة تامّة ، فكذلك العلم به من لوازم العلم بها. ولكون العلّة التامّة بما هي علّة تامّة ماهية أخذت معها الانية ـ أي :

الوجود ـ أو نفس الانية فلا يرد انّه يلزم حينئذ أن يكون جميع المعلولات أمورا اعتبارية نظرا الى توهّم كون العلّة التامّة مجرّد الماهية. وقد تقرّر انّ لوازم المهيات أمور اعتبارية.

والحاصل : انّه وقع في هذا الايراد الاشتباه بين لوازم المهيات من حيث هى من غير اعتبار الوجود معها وبين لوازمها من حيث اعتبار الوجود معها ، فانّ المهيات على قسمين :

أحدهما : المهيات الّتي هي نفس الانيّات ، أو الّتي يؤخذ معها شيء منها ؛

وثانيهما : المهيات الّتي هى غير الانيّات وغير المأخوذة معها شيء منها. ولوازم القسم الأوّل لا تكون اعتبارية ، لأنّها لوازم الوجود الخارجى الّذي هو عين الماهية بهذا المعنى أو معتبر فيها ، وهى موجودة به ؛ بخلاف لوازم القسم الثاني ، فانّها لا تكون إلاّ اعتبارية ـ لعدم مدخلية الوجود في لزومها ـ. ولا ريب في أن العلّة التامّة من حيث هى علّة تامّة من القسم الأوّل دون الثاني ، فلوازمه تكون موجودة لا اعتبارية.

وإذا تقرّرت تلك المقدمات نقول : يلزم أن يكون الواجب ـ تعالى ـ بوجوده / ١٤٠ DA / الّذي هو عين ذاته سببا تامّا لوجودات جميع الممكنات بحكم المقدّمة الثانية ؛

وأن يعلم معلولاته لعمله بوجوده الّذي هو تمام حقيقته الّتي هي علّة تامة بحكم المقدمة الثالثة ؛

فيجب / ١٤٣ MA / أن يعلم معلولاته بما هي معلولاته ـ أي : بحسب كونها موجودة لا بمجرّد ماهيتها من حيث هى هى مع قطع النظر عن خصوص وجوداتها ـ ، لانّها من تلك الحيثية فقط ليست معلولة له كما علمت من المقدّمة الثانية أيضا. والعلم بها من حيث

١٤٣

كونها موجودة في الخارج وصادرة عنه ـ تعالى ـ ليس إلاّ بحضور نفس وجوداتها الخارجية لا بحصول ماهيتها وارتسام صورها في ذات العالم بحكم المقدّمة الاولى ؛ فعلمه ـ تعالى ـ بجميع الأشياء لا يمكن أن يكون بحصول صور مطابقة لها في ذات العالم ، بل يجب أن يكون بحضورها بأنفسها عنده وانكشافها بذواتها ووجوداتها لديه ، ويلزم منه أن يكون علمه بجميع الأشياء على الوجه الجزئي.

ومنها : انّه لو كان علمه ـ تعالى ـ بالأشياء بالصور القائمة بذاته لزم أن لا يعلم الجزئيات بجزئيتها ـ لا الابداعيات ولا الكائنات الفاسدات ـ ، وأن لا يعلم شيئا منها إلاّ بصورها الذهنية ، ولا ينكشف ذواتها عنده باعتبار وجوداتها العينية. وذلك لانّ كلّ صورة عقلية ولو تخصّصت بألف تخصيص لا يمنع لذاتها المشتركة فيها ، وقد تقدّم انّ العلم الحصولي لا يكون إلاّ كلّيا وانّ مناط العلم على الوجه الجزئي إمّا الاحساس أو العلم الحضوري ، والعلم الحصولي لا يكون إلاّ كلّيا. والسرّ ما أشير إليه من أنّ الصورة العقلية للشيء الحاصلة من اسبابه لا تكون إلاّ كلّية فلا يمكن ارتسام صورة الجزئى من حيث انّه جزئي في ذات المجرّد. على أنّ الجزئي لو كان مادّيا لم ينفكّ صورته عن اللواحق المادّية ـ من الوضع والكمّ وغيرهما ـ ؛ والمجرّد لا يكون محلاّ لها.

ولا ريب في أنّ القول بعدم علمه بالاشياء الجزئية على الوجه الجزئي وعدم انكشاف الأشياء باعتبار وجودها العيني عنده وانحصار علمه بها بالعلم بصورها الذهنية ونفي الشهود العينى عنه ـ سبحانه ـ ، في غاية الضعف والسخافة!. كيف وجميع الموجودات الكلّية والجزئية فائضة عنه ـ تعالى ـ؟! ، وهو مبدأ لكلّ وجود ـ عقليا كان أو حسيا ، ذهنيا كان أو عينيا ـ؟! ، وفيضانها عنه لا ينفكّ عن انكشافها عنده وظهورها لديه ـ كما عرفت فيما سبق ـ. ومن قال : إنّ الواجب لا يعلم الجزئيات إلاّ على وجه كلّى فقد أخطأ وبعد عن الحقّ. بل بعضهم ـ كالغزالى وغيره ـ حكم بكفر القائل بذلك ، وبعضهم لم يكفّره نظرا إلى انّه ما نفى عنه ـ تعالى ـ العلم بشيء من الأشياء ، بل إنّما نفى عنه نحوا من انحاء العلم الّذي هو العلم الحضوري ، وهذا ليس من ضروريات الدين. ويأتي تحقيق ذلك إن شاء الله ـ تعالى ـ.

١٤٤

فالحقّ الصريح انّ جميع الأشياء المبدعة والكائنة المعقولة والمحسوسة ـ سواء كانت ذوات العقلاء أو علومهم وسواء كانت قوى خيالية أو حسية أو ادراكاتها ـ معلومة له بالعلم الحضوري الجزئى ومنكشفة عنده بالشهود العيني ، لاستلزام صدورها عنه لذلك ، فلا يعزب عنه شيء من الأشياء لا باعتبار الشهود العيني ولا باعتبار الثبوت الذهنى. فقوله ـ سبحانه ـ : لا يغرب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض اشارة إلى الاعتبار الأوّل ؛ وقوله : ولا اصغر من ذلك ولا اكبر الاّ في كتاب مبين اشارة إلى الاعتبار الثاني.

فان قيل : يلزم على ما ذكرت من علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات على الوجه الجزئي أن يكون للواجب علم لا يتغيّر ـ وهو علمه بالاشياء المتقدّمة على الزمان والدهر ـ ؛ وعلم متغير ـ وهو علمه بالأمور الكائنة الفاسدة ، لأنّ الجزئيات الكائنة الفاسدة متغيرة ، فاذا علمها على الوجه الجزئي يجب أن يعلمها في كلّ وقت على ما هي عليه من التغيّر ـ ، والتغيّر في علمه ـ تعالى ـ مطلقا باطل ؛

قلنا : هذه الأشياء وإن كانت في ذواتها وبقياس بعضها إلى بعض متغيّرة لكنّها بالنسبة إلى الواجب في درجة واحدة في الحضور. وبعضهم التزم لزوم التغيّر في حضور الاشياء الكائنة الفاسدة وشهودها عند الواجب ، إلاّ انّه قال : انّ هذا التغيّر لا يوجب تغيرا في الذات ولا في العلم الكمالي الذاتي ، بل التغيّر إنّما هو في النسب والأوصاف الاعتبارية. / ١٤٠ DB / ومثل ذلك مثل من اطّلع على ما في كتاب دفعة ثمّ التفت إلى صفحة بعد صفحة ، فانّ العلم بما في الكتاب لا يتغيّر بحدوث تلك الالتفات.

وسيجيء لذلك زيادة بيان في موضعه.

ومنها : انّه لو كان علمه بالاشياء بالصور فتلك الصور إمّا أن تكون مكمّلة لذاته ـ تعالى ـ بحيث يكون ذاته ـ تعالى ـ بدونها ناقصة ويتوقّف ما هو كماله ـ المطلق أعني : علمه بالاشياء ـ عليها ؛ أو لا يكون كذلك ، بل يكون تلك الصور بعد تمامية ذاته المقدّسة عارضة لها وخارجة عنها على وجه اللزوم بأن يكون من مقتضيات ذاته التامّة من جميع الوجوه الكاملة في كلّ صفة وكمال. فعلى الأوّل يلزم احتياجه في علمه ـ الّذي هو الكمال المطلق ـ إلى الغير ـ أعني : تلك الصور السابقة على الأشياء ، الّتي تسمّى بالعناية

١٤٥

تارة وبالقضاء أخرى ، لأنّها زائدة ممكنة فهي مغايرة له تعالى ومع ذلك صارت كمالا له ـ تعالى الله عن ذلك ـ ؛ وعلى الثاني يلزم أن يعلم كلّ شيء في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن جميع الاعتبارات ، فثبوت تلك الصور وعدمها / ١٤٣ MB / سواء ، بل عدمها واجب في هذا الباب ، فعلمه بالكلّ انّما هو بنفس ذاته سواء وجد أو لم يوجد.

ومنها : ما ذكره بعض الأعاظم ، وهو : انّه لو كان علمه ـ تعالى ـ بالاشياء بحصول صورها في ذاته فلا يخلو : إمّا أن تكون تلك الصور المرتسمة في ذاته لوازم خارجية له ؛ أو لوازم ذهنية ؛ أو لوازم له مع قطع النظر عن الوجودين ؛ لا سبيل إلى الأخيرين ، لأنّه ليس له ـ تعالى ـ إلاّ نحو وجود واحد هو عين ذاته ـ تعالى ـ وهو الوجود الخارجي ، وليس له وجود ذهني بمعنى حصوله في الذهن من الأذهان ومدرك من المدارك حتّى يعرض له اللوازم الذهنية ـ كالكلّية العارضة لطبيعة الانسان إذا حصلت في ذهن من الأذهان ـ ، وكذا ليس له ماهية زائدة على وجوده الخارجي حتّى يعرض له لوازم الماهية من حيث هي ـ كالزوجية للأربعة مع قطع النظر عن الوجودين ـ ،. فتعيّن أن تكون تلك الصور لوازم خارجية له. وهذا أيضا باطل ، لانّ اللوازم الخارجية لا تكون إلاّ حقائق خارجية وتلك الصور ليست كذلك ، لأنّها ليست حقائق خارجية ، فانّ الجواهر الحاصلة في ذاته ـ تعالى ـ ليست جواهر خارجية ، بل جواهر ذهنية ، وكذا الأعراض الحاصلة فيه ـ تعالى ـ ليست أعراضا خارجية ، بل اعراضا ذهنية وان كان الكلّ باعتبار أعراضا ، فانّ الجميع من حيث قيامه بالذهن وعدم استقلاله في الوجود يعرض له مفهوم العرض. وأنت خبير بأنّ بناء هذا الوجه على أنّ لازم الوجود الخارجى يشترط فيه أمران :

أحدهما : أن يكون ثبوته للملزوم في الخارج ، بمعنى أن يكون الخارج ظروف وجوده ؛

وثانيهما : أن يصدق عليه انّه حقيقة كذا خارجية كما يصدق على الحرارة أنّها حرارة خارجية ، وعرض خارجي وعلى الصورة النوعية مثلا أنّها صورة خارجية وجوهر خارجي ، والصور القائمة بذاته ـ تعالى ـ وان كانت ثابتة له ـ تعالى ـ في الخارج وكان الخارج ظرف وجودها إلاّ انّه يصدق عليها أنّها حقائق كذا خارجية فلا يصدق على

١٤٦

صورة الجسم المرتسمة في ذاته انّها جسم خارجي ولا انّها جوهر خارجي ، فلا تكون لوازم خارجية. وغير خفي انّ اشتراط الأمر الثاني في اللزوم الخارجي غير ظاهر ، وليس مصرّحا به في كلام القوم ، ولا يقتضيه دليل ولا برهان ؛ فانّ القدر الملخّص ممّا يعتبر في لوازم الوجود الخارجي كونها موجودا في الخارج بحيث يترتّب عليه الآثار الخارجية. ولا ريب في أنّ الصور المرتسمة في ذاته ـ تعالى ـ على فرض تحقّقها وارتسامها موجودة في الخارج كما انّ الواجب موجود فيه ، لانّ المحلّ إذا كان موجودا خارجيّا يكون حاله القائم به أيضا كذلك. ويترتّب عليها أيضا الآثار الخارجية لأنّها تصير بزعمهم منشأ لصدور الموجودات عنه ، وكلّ منها يصير سببا لارتسام أخرى. ولو اعتبر هذا الأمر في اللازم الخارجي لزم أن لا يكون شيء من الصور المرتسمة في النفس شيئا من اللوازم الثلاثة ؛ أمّا عدم كونها لوازم الماهية فظاهر ؛

وأمّا عدم كونها لوازم الوجود الخارجي فلما ذكر في الصور المرتسمة في ذاته ـ تعالى ـ بعينه ، لأنّها ليست حقائق خارجية ، فانّ صورة الجسم المرتسمة في النفس لا يصدق عليها أنّها جسم خارجي أو جوهر خارجي ، وقس عليها سائر الحقائق من الجواهر والاعراض ؛ وأمّا عدم كونها من لوازم الوجود الذهني فلأنّ لازم الوجود الذهني هو أن لا يتصف به الملزوم في الخارج أصلا ، وإذا / ١٤١ DA / حصل في أي ذهن اتصف به فيه. ولا ريب في أنّ الصور المرتسمة في النفس يتصف النفس بها في الخارج والخارج ظرف وجودها ، وإذا حصلت النفس في أيّ ذهن ومدرك لا تحصل تلك الصور معها.

فان قيل : الصور المرتسمة في النفس ليست لوازم لها حتّى يجب أن يكون واحدا من اللوازم الثلاثة ، بل هى عوارض لها ؛ وحينئذ لا يرد النقض بها ؛

قلنا : لو سلّم ذلك نقول : انّ العوارض أيضا منحصرة في الاقسام الثلاثة ، ولا يخلو عارض عن أحدها ؛ والبيان المذكور يجري في عدم كونها شيئا من العوارض الثلاثة.

فالحقّ انّ الامر الثاني ليس شرطا في اللازم الخارجي ولا في عارضه. وقيام الشيء في ذات خارجية وكون الخارج ظرفا لوجوده يكفي في كونه لازما خارجيا أو عارضا كذلك ، ولو لم يكف ذلك لزم عدم كون شيء من الاخلاق والصفات القائمة بالنفس

١٤٧

أيضا من اللوازم أو العوارض الخارجية.

وبذلك يظهر انّ هذا الوجه غير ناهض لابطال العلم الحصولي.

ومنها : ما ذكره بعض الأعاظم أيضا ، وهو : انّه لو كان علم الواجب بالأشياء بارتسام صورها في ذاته لزم صدور الكثرة عن الواحد ، لانّ المعلول الأوّل يكون صدورها عن المبدأ على هذا المذهب مشروطا بسبق صورته مع أنّ حصول صورة المعلول الثاني في ذاته ـ تعالى ـ أيضا مشروط على هذا المذهب بسبق صورة المعلول الأوّل ، فيلزم / ١٤٤ MA / أن يكون الواحد الحقّ باعتبار صورة واحدة من جهة واحدة يفعل فعلين مختلفين ـ أعنى : ايجاد المعلول الأوّل في الخارج واثبات صورة المعلول الثاني في ذاته ـ.

فان قيل : لعلّ ذاته من حيث ذاته علّة لوجود المعلول الأوّل ومن حيث علمه بذاته علّة لحصول صورة المعلول الأوّل في ذاته ، ثمّ باعتبار المعلول الأوّل علّة لوجود المعلول الثاني وباعتبار ارتسام صورته علّة لحصول صورته ... وهكذا ؛ فلا يلزم صدور الكثرة عن الواحد ؛

قلنا : على هذا الفرض يكون وجود المعلول الأوّل وعلمه ـ تعالى ـ به في مرتبة واحدة لاتحاد مرتبة علّتهما ـ اعني : وجود الواجب بذاته وعلمه تعالى بذاته ـ ، فلا يتقدّم العلم حينئذ على الايجاد ، مع أنّ القائلين بالعلم الحصولي مصرّحون بتقدّمه عليه ويكون علمه ـ تعالى ـ بالأشياء علّة لوجودها.

وما هداهم إلى اثبات الصور في ذاته ـ تعالى ـ إلاّ كون علمه بكلّ شيء سببا لوجوده في الخارج عندهم ، فاذا لم تكن الصورة العقلية للمعلول الأوّل موجبا لوجوده ـ كما هو اللازم في الفرض المذكور ـ يبطل أصل مذهبهم.

وأيضا : إذا كان ذاته ـ تعالى ـ علّة لذات المعلول الأوّل وعقله لذاته علّة لعقله المعلول الأوّل فلا يخلو : إمّا أن يكون ذاته ـ تعالى ـ وعقله لذاته أمرا واحدا وحيثية واحدة ؛ أو لا يكون كذلك ،

فعلى الأوّل : يلزم التكثر في ذاته ـ تعالى ـ ، وهو باطل ؛

١٤٨

وعلى الثاني : يلزم أن يكون وجود المعلول الأوّل وعقل الواجب له شيئا واحدا وحيثية واحدة بلا اختلاف إلاّ بحسب العبارة لاتحاد علّيتهما ؛

وكذا يلزم اتحاد وجود المعلول الثاني وعقل الواجب أو المعلول الأوّل له من غير تغاير يقتضي مباينة احدهما للاول ـ تعالى ـ واستقلاله في الوجود ومقارنة الثاني له ـ تعالى ـ وحلوله فيه ـ كما هو كذلك عند القائلين بالعلم الصوري ـ.

ومنها : ما أورده بعض أفاضل المتألّهين في ابطال العلم الحصولي مطلقا ـ أي : سواء كان في علم الباري ـ سبحانه ـ أو علم النفس ـ ، وهو : انّه لو تحقّق علم حصولي لكان العلم إمّا نفس حصول الصورة أو نفس الصورة أو أمرا لازما لحصول الصورة ؛ والأوّلان باطلان ـ وإلاّ يصحّ أن يشتقّ من الحصول والصورة ما يتصف به الواجب أو النفس كالحاصل او المصوّر ويفيد ما يفيد العالم ، وليس الامر كذلك ـ ؛ والثالث أيضا باطل ، لانّ الصورة الّتي جعلوها ملزوما للعلم إمّا أن تكون مباينة لذي الصورة ، أو تكون مساوية له ؛ والأوّل يوجب كون المباين للشيء معرفا له ، وهو بديهى الفساد ؛ والثاني يوجب مساوات الصورة وذي الصورة في جميع اللوازم والذاتيات ـ لعدم ثبوت المساوات الكلّي بينهما بدون ذلك ـ ، وهو أيضا خلاف الواقع.

ومنها : انّ العلم بانكشاف ذوات الأشياء بوجوداتها العينية أتمّ في باب العلم من ارتسام صورها ، لانّ المعلوم بالذات والمنكشف بالحقيقة في العلم الصوري هو الصورة / ١٤١ DB / دون الاعيان الخارجية. ولا ريب في أنّ العلم بذات الشيء ووجوده العيني أتمّ من العلم بصورته ، وحصول الأتمّ للواجب ممكن في حقّه ، فيجب اتصافه به دون الأنقص ـ لأنّه نقص في حقّه ـ.

ومنها : انّ القول بالعلم الصوري مناف للابداع ـ لانّه هو الايجاد من غير مثال ـ ، وعلى العلم الصوري يتحقّق ايجاد كلّ شيء بمثال محقّق قبله. وهو خلاف ما ثبت من شرائع الأنبياء ونصّ عليه ائمّتنا النقباء ـ عليهم افضل التحية والثناء ـ ؛ وفي الخبر عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ انّه قال : انّ الله ابتدع الأشياء بعلمه على غير مثال كان قبله (١).

__________________

(١) راجع : بحار الانوار ، ج ٥٧ ص ٨٥.

١٤٩

هذه هي الوجوه الّتي تدلّ على بطلان العلم الحصولي. وقد عرفت انّ اكثرها تامّة وهي كافية لاثبات المطلوب ، فعدم تمامية بعضها غير قادح. وبذلك يظهر انّ القول بالعلم الحصولي ظاهر الفساد.

ثمّ انّ القائلين به قد احتجّوا عليه بأن الله ـ تعالى ـ يعلم ذاته ، وذاته سبب تامّ للأشياء والعلم بالسبب التامّ للشيء يوجب العلم بذلك الشيء ، فذاته ـ تعالى ـ يعلم جميع الأشياء في الأزل ، فلا بدّ أن يكون لها فيه امّا الوجود العينى أو الصوري لتحقّق العلم فيه ، إذ لو لم يكن للأشياء وجود أصلا ـ لا عينا ولا صورة ـ لم يتحقّق العلم بها ، إذ العلم يستدعي التعلّق بين العالم والمعلوم سواء كان نفس التعلّق والاضافة أو صفة موجبة له ، والتعلّق بين العاقل والمعدوم الصرف محال ـ لاستلزام النسبة تحقّق الطرفين بوجه ـ ؛ لكن تحقّق الأشياء في الأزل بوجودها الخارجي محال ـ والاّ لزم قدم الحوادث ، وهو محال عند الكلّ ـ ، فبقى كونها موجودة بالوجود الصوري قبل وجودها الخارجي ، لا في الخارج مباينا عن ذاته ـ تعالى ـ ليلزم المثل الافلاطونية ، بل في ذات الباري ؛ وهو المراد بالعلم الحصولي.

وأورد عليه : بانّه منقوض بالقدرة الازلية المتعلّقة بالحوادث المقتضية لنسبة ما بين القادر والمقدور مع عدم توقّفها على وجود المقدور ضرورة.

واعترض عليه بأنّ مثل هذه النسبة ـ أي : الذاتية ـ بين القادر والمقدور لا يقتضي وجود الطرفين تحقيقا ، بل يكفي فيها الوجود / ١٤٤ MB / التقديري ، إذ النسبة مطلقا تقديرية.

والوجه أن يقال : النسبة وإن لم يقتض تحقّق الطرفين بالفعل ، لكن تحقّق العلم يقتضيه ، إذ العلم يستلزم انكشاف المعلوم عند العالم والمعدوم الصرف لا منزلة له أصلا حتّى يكون منكشفا ؛ انتهى.

واجيب عنه : بأنّ الفرق بين القدرة والعلم في حقّ الله ـ تعالى ـ بكون أحدهما يستدعى التعلّق دون الآخر غير صحيح ، لانّ صفاته الحقيقية كلّها معنى واحد وحقيقة واحدة هي ذاته الأحدية. ولا يجوز قياس قدرته ـ تعالى ـ على قدرتنا ، فانّ القدرة فينا

١٥٠

نفس القوّة واستعداد الفاعلية وفي الواجب محض الفعل والتحصيل ـ لبراءته عن شائبة الامكان والاستعداد ـ ، فوزان علمه وقدرته في تعلّقهما بالممكنات واحد من غير تفاوت ؛ انتهى.

أقول : غير خفي انّ كلّ واحد من العلم والقدرة قد يراد به ما هو مبدئه ، وقد يراد به المعنى الاضافي الّذي هو حقيقته ؛ فعلى الأوّل لا فرق بين العلم والقدرة ، لانّ مبدأ كلّ منهما هو الذات الاحدية ، فلا يتصوّر بينهما فرق بوجه ؛ وعلى الثاني نقول : لا ريب في أنّ المراد بالعلم بهذا المعنى هو الانكشاف ، والمراد بالقدرة إمّا امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات أو نفس الفعل أو الترك بالعلم أو المشيئة ، ولا ريب في انّ انكشاف جميع الاشياء عنده ـ أزلا وأبدا وجدت أو لم توجد ـ واجب ، لأنّ خلافه نقص في حقه ـ تعالى ـ ولو بالنسبة إلى بعضها في بعض الاوقات. فالانكشاف من الصفات الكمالية الّتي عدمها نقص وقصور ، فتحقّقها قبل وجود الاشياء أيضا لازم ؛ وامّا القدرة بمعنى نفس الصدور أو اللاصدور فيرجع إلى معنى الفاعلية وهي من الصفات الإضافية الّتي لا يلزم تحقّقها أزلا وأبدا ، بل تحقّقها في مرتبة الذات نقص وقصور لوجوب تأخّر المفعول عن الفاعل. فالقدرة بهذا المعنى لا يلزم وجودها للواجب في حال عدم الأشياء ، وفي حال وجودها يتحقّق وجود طرفي النسبة ، فلا يرد بها نقص مطلقا.

وأمّا القدرة بمعنى امكان الفعل والترك ـ ... إلى آخره ـ ، فهى ذاتيّة له ـ تعالى ـ في الأزل وتحقّقها قبل وجود المقدور لازم ، إلاّ أنّها لا تتوقّف على وجود المقدور ، لانّ كون الذات بحيث يصحّ منه صدور الشيء وعدم صدوره لا يتوقّف / ١٤٢ DA / على وجود هذا الشيء ، اذ وجود هذا الشيء في مرتبة القدرة مناقض لكونه متعلّق القدرة. غاية الامر أن يقال : انّ مقدورية الشيء يتوقّف على وجوده العلمى ، لانّ استواء نسبة الذات إلى فعل الشيء وتركه لا يتحقّق بدون تصور ذلك الشيء ، فلا بدّ من وجوده العلمي. إلاّ أنّ ذلك لا يوجب نقضا على توقّف العلم على الوجود العيني أو الصوري ، لانّ بعد تسليم ذلك غاية الأمر أن يكون العلم أيضا مثله ، فيتوقّف على الوجود الصوري.

وبذلك يظهر اندفاع الايراد المذكور على ما احتجّوا به لاثبات العلم الحصولي ، و

١٥١

يتوجّه الاعتراض على الّذي نقلناه على الايراد المذكور ؛ ويندفع الجواب المذكور عنه.

وحينئذ فالجواب عن الاحتجاج المذكور : انّ غاية ما يدلّ عليه هذا الاحتجاج اقتضاء الانكشاف نحوا من الوجود للأشياء المنكشفة ، وهو لا ينحصر بالوجود الصوري ، فانّ القائلين بالعلم الحضوري يثبتون لها نحوا من الوجود قبل وجودها العيني ؛ وستعلم هذا النحو من الوجود على ما اخترناه ؛ هذا.

وقد استدلّ أيضا على انّ عالميته ـ تعالى ـ بالأشياء بارتسام صورها في ذاته : بأنّ الواجب لو تعقّل الأشياء من الأشياء ولم يكن متعقّلا لها قبل وجودها لكان وجوداتها متقدّمة على عاقليته ـ تعالى ـ لها ، ويكون في ذاته وقوامه أن يقبل معقولات الأشياء ـ أي : صورها العقلية ـ منها بعد أن كان فيه عدمها باعتبار ذاته ، فيكون ذاته بذاته عادما لمعقولات من شأنها حصولها له. ففيه اذن جهة امكانية ويكون لغيره مدخلية في تتميم ذاته ، فلا يكون الأوّل ـ تعالى ـ واجب الوجود من كلّ جهة. وقد تقرّر انّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات. وحينئذ فيجب أن يكون له من ذاته الأمر الأكمل لا من غيره ، فيكون علمه بالممكنات حاصلا له ـ تعالى ـ قبل وجودها.

والجواب : انّه لا ريب في وجوب تقدّم علمه ـ تعالى ـ على وجودات الأشياء إلاّ أنّ ذلك لا يوجب كون هذا العلم المتقدّم هو العلم الصوري ، فانّ القائلين بالعلم الحضوري أيضا يقولون بتقدّمه على وجود الأشياء ، وأمّا كيفية ذلك فيظهر بعد ذلك ؛ هذا.

وأعترض ابو البركات البغدادي على الاستدلال المذكور بأنّ قولهم : لو كان علمه مستفادا من الأشياء لكان لغيره مدخلية في تتميم ذاته ، منقوض بكونه ـ تعالى ـ فاعلا للأشياء ، فانّ فاعليته لها انّما يتمّ بصدور الفعل عنه ، فيجب أن يكون لفعله مدخل في تتميم ذاته ، وذلك باطل ؛ فيلزم نفي كونه ـ تعالى ـ فاعلا للأشياء ، فكما انّ هذا الكلام باطل فكذا ما قالوه ؛

وأجاب عنه بعض الأعاظم : بأنّ الفاعلية وكذا العلم والقدرة ونحوها قد يطلق ويراد بها نفس المعنى الاضافي ـ إذ لا شكّ في أنّها بهذا الاعتبار متأخّرة عن وجود ما اضيف / ١٤٥ MA / هي إليه ، لانّها مستفادة منه ـ ، وقد يطلق ويراد مبادي تلك

١٥٢

الاضافات ، وهي بهذا الاعتبار متقدّمة على وجود ما تعلّقت به. وليست تلك الصفات بالاعتبار الأوّل صفات كمالية لذات الواجب ـ تعالى ـ ، بل انّما هى صفات كمالية بالاعتبار الثاني ، ففاعليته الّتي هي صفات كمالية له ـ تعالى ـ هو كونه بحيث يتبع وجوده وجود جميع الأشياء الموجودة ، وعالميته بحيث ينكشف له الأشياء ؛ وعلى هذا فقس سائر الصفات الكمالية له ـ تعالى ـ. فكما انّ فاعليته الحقيقية لا تتوقّف على وجود الفعل ـ لأنّ وجود الفعل يتوقّف على كونه فاعلا ـ فلو تحقّق العكس أيضا لزم الدور ، فوزانه في علمه ـ تعالى ـ أن يجعل المعلوم تبعا للعلم لا العلم تبعا للمعلوم ؛ انتهى.

ولعلّك بعد الاحاطة بما ذكرناه آنفا تعلم ما في كلام أبي البركات ، وكلام المجيب المذكور من الاجمال والاخلال ، وتعرف منه في أمثال المقام جلية الحال ؛ هذا.

وربما أيّد القول بالعلم الحصولي بكلام انكسيمالس الملطي حيث قال : « انّ كلّ مبدع ظهرت صورته في حدّ الابداع فقد كانت صورته في علم مبدعه الأوّل ، والصور عنده غير متناهية » ؛ ثمّ قال : « ولا يجوز في الرأي إلاّ أحد القولين : إمّا أن نقول : ابدع ما في علمه ، وإمّا أن نقول : ابدع اشياء لا بعلمها ؛ وهذا القول من المستشنع ، وإن قلنا : ابدع ما في علمه فالصور ازلية بازليته ، وليس يتكثّر ذاته بتكثّر المعلومات ولا يتغيّر بتغيّرها ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الفيلسوف أوّل القائلين بالعلم الصوري ومجرّد قوله به / ١٤٢ DB / لا يصير حجّة أو تأييدا لحجّة. وأمّا استدلاله فانّك وان عرفت جوابه من المباحث المتقدّمة إلاّ أنّا نشير أيضا إلى ما أجاب به عنه بعض المحقّقين ؛ وهو انّه قال بعد نقل الكلام المذكور : ويرد عليه وجهان :

أحدهما : انّه لم يتعرّض لكيفية فيضان الصور من الذات بمعنى كونه بالعلم المقدّم أو لا ؛ وعلى الأوّل يرد عليه انّ العلم المقدّم الّذي هو عين الذات ـ دفعا للتسلسل ـ كافّ للعلم بالموجودات العينية ، فما الدليل على فيضان الصور العلمية قبل الايجاد العينى؟! ؛

وعلى الثاني يرد عليه : انّ هذا قول بأنّ الله ـ تعالى ـ ابدع اشياء لا بعلمها وهذا قول مستشنع ـ كما ذكره ذلك الفيلسوف ـ ؛

وثانيهما : انّه يرد عليه انّ هذه الصور إمّا جواهر أو اعراض ، فان كان الأوّل لزم أن

١٥٣

يكون موجودات عينية لا بدّ لها من صور اخر للعلم بها ، والكلام في ذلك كالكلام في أصل الصور ؛ وان كان الثاني لزم أن يكون واجب الوجود بالذات محلاّ لها وفاعلا لها ، والقول بأنّ الواجب ليس محلاّ لها ـ لكونه غير متأثّر عنها ، بل انّما هو فاعل لها ـ قول بكونها جواهر كباقي الممكنات. ولا خفاء أيضا في أنّ علم واجب الوجود باعتبار هذه الصور ليس علما كماليا ذاتيا لكونه تابعا لفيضان تلك الصور ، فعلى تقدير انحصار العلم المقدّم في فيضان الصور المنكشفة لزم أن لا يكون للذات علم هو كمال ذاتي غير تابع للتأثير ؛ انتهى.

وقد اعترض بعض العرفاء على هذا الجواب بوجوه قد ظهر اندفاعها من كلماتنا السالفة. وقد ظهر ممّا ذكر ظهورا بيّنا انّ المذهب الرابع ـ أعني : القول بالعلم الصوري ـ باطل.

وامّا المذهب الخامس ـ أعني : القول بأنّ علمه تعالى بأوّل معلولاته ليس بالصور الزائدة وعلمه بسائر المعلولات بالصور الزائدة القائمة به ـ ، فيرد عليه : انّ ايجاد أوّل المعلولات وكذا ايجاد صور باقي الممكنات المرتسمة فيه إمّا يكون مسبوقا بالعلم الحضوري الاشراقى أو لا ؛

فعلى الأوّل يلزم صحّة العلم الحضوري بالشيء قبل حضوره ، واذا صحّ ذلك فليجوّز ذلك في غير الجوهر الأوّل أيضا من الممكنات ، والفرق تحكّم ؛ مع انّه يلزم افتقار الواجب في علمه بغير المعلول الأوّل إلى غيره ، ويلزم جهله ـ سبحانه ـ بالنسبة إلى سائر المعلولات في مرتبة ذاته ؛

وعلى الثاني : يلزم أن لا يكون ايجاد بعض معلولاته مسبوقا بالعلم مع أنّ الفاعل المختار يجب أن يكون فعله مسبوقا بالعلم ، فيلزم نفي الاختيار بالنسبة إلى الجوهر العيني الأوّل ، بل بالنسبة إلى صورته في باقي المعلولات القائمة به ، لانّ الاختيار لا يوجد بدون العلم. والشيخ الرئيس قد أبطل هذا المذهب ـ على ما أشير إليه سابقا ـ بأنّ الصور المعقولة لو كانت مرتسمة في عقل ونفس لكانت من أجزاء النظام الّذي يعقل الأوّل ـ تعالى ـ ذاته مبدأ له ، فيجب أن يكون صدورها عنه على سبيل الخير ـ أي : على

١٥٤

سبيل ما إذا عقله خيرا أوجده ـ ، وننقل الكلام إلى ذلك التعقّل ويلزم التسلسل.

قال بعض المشاهير : ولعلّ الشيخ لم يختر هذا المذهب واختار العلم الحصولي لاعتقاده انّ فيه نفي الاختيار بالنسبة إلى الجوهر العينى الأوّل بناء على انّ الاختيار لا يوجد بدون العلم المتقدّم المحض مع المعلوم نحوا من الاتحاد. وهذا النحو من العلم لا يمكن القول به ، لأنّه لا يكون عين ذات الواجب عند أهل التنزيه ؛ وهو كما ترى.

ثمّ انّا قد أشرنا إلى انّ المحقّق الطوسى اختار هذا المذهب إلاّ انّه صرّح بكونه ـ تعالى ـ عالما بمعلولاته القريبة ـ أعني : العقول ـ وبصور سائر الممكنات المرتسمة فيها بالعلم الحضوري الانكشافي ، وبمعلولاته البعيدة بصورها القائمة بالقريبة ؛ فلا يرد عليه لزوم كون ايجاد المعلولات القريبة غير مسبوق بالعلم ، بل يرد عليه : انّه إذا جاز انكشاف المعلولات القريبة عنده ـ تعالى ـ قبل وجودها فلم لا يجوز ذلك في البعيدة أيضا؟! ، وأيّ داع إلى القول بالعلم الصوري فيها ليلزم افتقار / ١٥٤ MB / الواجب إلى غيره في الصفة الكمالية وعدم كونه عالما في مرتبة ذاته؟!.

قال بعض الاعاظم موردا عليه : والتعجّب من هذا العلاّمة مع تفطّنه لذلك الاصل المتين ـ أعني : جواز تعقّل الأشياء بأعيانها لا بصورها ـ كيف لم يتمّ اعماله في انكشاف جميع الأشياء الصادرة عنه بذواتها بل اقتصر فيه على انكشاف العقول والصور العقلية للأشياء الكلية والجزئية عليه ـ تعالى ـ وجعل الصور القائمة بالجواهر العقلية مناطا لعلم الله ـ تعالى ـ بالمادّيات. وهو غير مرضيّ ، / ١٤٣ DA / بل الحقّ اطراد الحكم بالانكشاف الشهودي على جميع الأشياء المبدعة الكائنة المعقولة والمحسوسة.

ثمّ إنّه على هذا المذهب كما يلزم كون الصورة المرتسمة في الجواهر العقلية مناطا لعلم الواجب بالأشخاص المادّية والحوادث الكونية كذلك يلزم كون الصور مناطا لعلم تلك الجواهر العقلية ، فيكون علم ما سوى الواجب من المجرّدات بالأشياء بحصول صورها فيه.

وعلى مذهب شيخ الاشراق ـ كما تقدّم ويأتي ـ انّ الواجب لذاته كما يدرك المجرّدات العقلية بالاشراق الحضوري كذلك يدرك الأمور المادّية أيضا بالحضور الانكشافي من غير أن يدركها بالصور الحاصلة في المبادي العقلية ، بل ارتسام الموجودات الكلّية في العقول

١٥٥

الفعّالة والقوى العالية باطل عنده وكذلك الجواهر العقلية يعرف كلّ واحد منها ذاتها بذاتها ويدرك جميع الموجودات الباقية الّتي دونها بالإضافة الاشراقية من غير احتياج إلى أن تكون فيه صورة.

وأمّا المذهب السادس ـ أعني : القول بعلمين الاجمالى والتفصيلى ـ ، فاعلم انّ بعض المتأخّرين لمّا ذهبوا إلى انّ علمه ـ تعالى ـ بما سواه من الأشياء أنما هو بحضور ذواتها لا بحصول صورها ـ لما فيه من المفاسد ، كما علمت ـ وظاهر انّ حضور الأشياء انّما يمكن حين وجودها لا قبلها ولا بدّ من القول بعلمه ـ تعالى ـ قبل الايجاد أيضا حتّى يتحقّق الاختيار ولقيام الادلة الشرعية أيضا عليه ، فاضطرّوا إلى اثبات علم اجمالي هو عين ذاته مقدّم على جميع الايجادات ، وقالوا : انّ الكمال انّما هو هذا العلم ؛ وأمّا التفصيلى فليس بكمال ، فلا ضير في احتياج الواجب فيه إلى غير ذاته المقدّسة.

والحقّ انّ القول بالعلم الاجمالي مع كونه من العلم الحضوري لا يختصّ بالقائلين بالحضوري ، فانّ القائلين بالعلم الحصولي ـ ومنهم الفارابى والشيخ وبهمنيار ـ اضطرّوا أيضا إلى العلم الاجمالي في اثبات علمه الكمالي ، فانّ كماله ـ تعالى ـ لا يمكن أن يكون بارتسام صور الموجودات فيه ، وإلاّ لزم احتياجه فيما هو كمال له إلى غيره ـ تعالى عن ذلك ـ. بل قالوا : كماله ومجده ـ تعالى ـ إنّما هو بالعلم الّذي هو عين ذاته ، وهو كونه بحيث يفيض عنه صور الأشياء معقولة مفصّلة ـ كما يأتى من كلام الفارابي وبهمنيار ـ.

ثم ما ذكروه في بيان العلم الاجمالى يحتمل وجهين :

الأوّل : أن يقال إنّ ذاته ـ تعالى ـ بمنزلة المجمل لجميع المعلومات لكون الجميع لازمة لذاته مندمجة فيه ، فاذا علم ذاته ـ تعالى ـ علم جميع الأشياء اجمالا ؛ كما انّ المعقول البسيط عندنا بمنزلة المجمل لجميع المعقولات المفصّلة ، فاذا علمناه علمناها اجمالا ؛

الثاني : أن يقال : انّ علمه ـ تعالى ـ اجمالا عبارة عن كونه في ذاته بحيث يصير منشأ لانكشاف جميع الموجودات ـ أي : كونه بحيث يصير منشأ لوجودها ـ ، فانّ الوجود هو الانكشاف. فكونه عالما عبارة عن تمكّنه من العلم والانكشاف لا عن الاستحضار بالفعل. والحاصل : انّ علمه الاجمالى بالأشياء قبل ايجادها على هذا الوجه عبارة عن

١٥٦

منشئيته للعلم التفصيلي وتمكّنه منه بأن يوجد الأشياء فيعلمها مفصّلة.

وعلى هذا فالتمثيل بالمعقول البسيط غير مناسب ، لانّ المعقول البسيط صورة علمية مطابقة لتلك المعقولات المفصّلة ، بل هي عينها بالذات ؛ وانّما التفاوت في نحوي الادراك بناء على ما حقّق من أنّ التفاوت بالاجمال والتفصيل ليس إلاّ في نحوي الادراك لا في ذات المدرك. وذاته ـ تعالى ـ بالنسبة إلى العلوم المفصّلة على هذا الاحتمال ليست بتلك المثابة ، بل هو علّة لتفاصيل تلك العلوم ومنشأ لحصولها ، وليس صورة مطابقة لها. وحينئذ فالتمثيل لمجرّد الاشتراك في المبدئية وان كان أحدهما من قبيل مبدئية الكلّ للأجزاء والآخر مبدئية الفاعل لمفعوله.

والاولى في التمثيل أن تمثّل بملكة العالم ـ الّتي هي ملكة استخراج العلوم المفصّلة ـ بالنسبة إلى تلك العلوم ، فكما انّ تلك الملكة علم اجمالي بجميع العلوم المفصّلة الحاصلة منها فكذلك علمه ـ تعالى ـ بذاته علم اجمالي بجميع الأشياء ؛ هكذا افاد بعض المحقّقين ـ أي : قرر العلم الاجمالى على الاحتمال الثاني ـ. ومثّل بملكة العالم حيث قال : « تقرير العلم الاجمالي انّ ذاته ـ تعالى ـ لمّا كان بذاته منشأ لفيضان جميع الموجودات عنه وكان علمه ـ تعالى ـ بذاته الّذي هو عين ذاته علّة لجميع الموجودات وانكشافها له ولا حاجة له في ذلك إلى أمر مغاير لذاته بل انكشافه لذاته منشأ لجميع الانكشافات كان نسبة علمه ـ تعالى ـ بذاته إلى العلم بجميع الموجودات المنكشفة بذواتها كنسبة ملكة العالم ـ وهي ملكة استخراج العلوم المفصّلة ـ إلى تلك العلوم ، وكما انّ تلك الملكة علم إجمالي بجميع تلك العلوم المفصّلة فكذلك علمه ـ تعالى ـ بذاته علم اجمالي بجميع العلوم المتعلّقة بذوات الأشياء وصفاتها الفائضة عن ذاته ـ تعالى ـ.

ثمّ التحقيق انّه لا يتحقّق / ١٤٦ MA / في الوجه الثاني / ١٤٣ DB / الاجمال والتفصيل حقيقة. بيان ذلك : انّ الاجمال والتفصيل وصفان للادراك ، وهما قد يتحقّقان في المحسوسات ـ كما إذا رأينا عشرة اشخاص دفعة ، فهذه الرؤية قد وقعت على جميع تلك الأشخاص حقيقة وهي مرئية بالحقيقة ، لكن بعنوان الاجمال ، ثمّ إذا التفتنا مرّة أخرى إلى كلّ شخص شخص بخصوصه فيكون كلّ شخص مرئيا بعنوان التفصيل ، و

١٥٧

المعلوم في الصورتين واحد والعلم الاحساسي متعدّد ؛ ـ وقد يتحقّقان في المعقولات ، كما إذا حصل لنا علم تعقّلي بشيء من غير أن نحلّله إلى أجزائه وجزئياته ونستخرج شقوقه وفروعه ومحتملاته ، ومن غير أن نرد ما يحتمل أن يورد من الشكوك والشبهات ولكن كان بحيث تمكّنا على ذلك ، ولو شكّك علينا مشكّك كنّا قادرين على جوابه بلا تجشّم كسب جديد. فالعلم السابق على التشكيك اجمالي بالقياس إلى ما يحدث بعد التشكيك بلا كسب ، والمعلوم في الصورتين واحد والعلم متعدّد. فالعلم الاجمالي مبدأ وسابق على العلم التفصيلى والعلم التفصيلى متأخّر ، فلا يكون العلم التفصيلي في مرتبة العلم الاجمالي ؛ لأنّ التفصيلي مرتّب على الاجمالي ، الاّ أنّ المعلوم فيهما واحد.

وإذا عرفت ذلك نقول : انّ التمكّن من الادراك ـ الّذي هو العلم الاجمالي على الوجه الثاني ـ ليس ادراكا حقيقة ولم يعلم منه شيء حتّى يتحقّق ادراكان يكون المعلوم فيهما واحدا ، فاطلاق الادراك على المنشئية والمعلومية على ما من شأنه أن يعلم حينئذ على التجوّز.

ثمّ انّ أكثر المتأخّرين جزموا في مقام بيان العلم الاجمالي بالوجه الثاني ، وحملوا ما ورد عليهم من عبارات القوم عليه. قال العلاّمة الخفري : « وليعلم انّ لواجب الوجود علمين : أحدهما علم اجمالي ، وهو عين ذاته ـ تعالى ـ وهو كونه باعتبار ذاته بحيث يصير منشأ لانكشاف جميع الموجودات » ، قال بهمنيار : « بيان ذلك : انّ حقيقته حقيقة تصدر عنها مفصّل المعقولات كما انّ المعقول البسيط عندنا علّة للمعلومات المفصّلة ، لكن المعقول البسيط عندنا موجود في عقولنا وهناك نفس وجود ومعنى المعقول البسيط هو انّه كما يكون بينك وبين انسان مناظرة فاذا تكلّم بكلام كثير خطر ببالك جوابه ، ثمّ تفصّله شيئا بعد شيء إلى أن تملأ دستة كاغذ ، بل ما عنده أشدّ تجريدا من المعقول البسيط لأنّ ما عنده سبب لانكشاف الأشياء ـ وهو ذاته البسيط البحت الّذي لا تكثّر فيه أصلا ـ ، بخلاف المعقول البسيط فانّه مركّب ؛ وانّما يوصف بالبساطة بالإضافة إلى التفاصيل الّتي تحصل بعد التحليل ؛ انتهى كلام بهمنيار بأدنى توضيح.

ثمّ قال العلاّمة : « ففي الشهود العلمي الكمالي كان ذاته ـ تعالى ـ عالما بذاته وبجميع

١٥٨

الممكنات وعلما ومعلوما ، والتغاير بين هذه المعانى انّما هو بالاعتبار ». وإلى هذا اشار الفارابى حيث قال : « واجب الوجود مبدأ كلّ فيض وجود وهو ظاهر ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه ، فهو من حيث هو ظاهر ينال الكلّ من ذاته ، فعلمه بالكلّ بعد علمه بذاته وعلمه بذاته نفس ذاته ، فكثرة علمه بالكلّ كثرة بعد ذاته ويتحد الكلّ بالنسبة الى ذاته ، فهو الكلّ في وحدته » (١) ؛ انتهى.

وغير خفي انّ قول الخفري : « وهو كونه باعتبار ذاته ـ ... الى آخره ـ » ظاهر الانطباق على الوجه الثاني. وقوله : « علما ومعلوما » ، قيل : انّما يستقيم بالنسبة الى الممكنات بناء على الوجه الأوّل دون الثاني ، ووجهه ظاهر. نعم ، بالنسبة إلى ذاته يستقيم مطلقا.

وأنت خبير بانّه على الوجه الأوّل لا ريب في كون ذاته ـ تعالى ـ عالما ومعلوما ، لانّ حضور ذات العلّة حينئذ بعينه حضور ذات المعلولات على سبيل الاجمال ، فانّ ذات الواجب ـ تعالى ـ بهذا الاعتبار عين المعلومات على سبيل الاجمال ، فكان عالما ومعلوما ، فلا يغاير العالم المعلوم ، فكان ذات الواجب مجمل ما يصدر عنه مفصّلا حتّى أنّ الوهم ربما يذهب إلى أنّ هذه الحقائق المتعدّدة اتّحدت بحسب حضور ذواتها في ذات الواجب. وهذا معنى قول المعلم الثاني : « فهو الكلّ في وحدته ».

وأمّا كونه علما فيصحّح بأحد التوجيهين في عينية صفاته ـ أعني : كون ذاته ـ بذاته من غير قيام صفة العلم به منشأ لانكشاف جميع معلولاته ـ أي : نائبا مناب هذه الصفة أو كونه فردا من العلم ـ ؛ وقد عرفت انّ الحقّ في ذلك ما ذا.

وأمّا على / ١٤٤ DA / الوجه الثاني فلا ريب في أنّ المعلومات حينئذ خارجة عن ذاته ، فيكون عند العلم بها عالما لا معلوما. وأمّا كونه علما فكما تقدّم في الوجه الأوّل.

وإذا علمت ذلك فيظهر حال ما أورد على العلم الاجمالي بانّه عند القائل به عين ذاته ـ تعالى ـ وعلى التحقيق العلم عين المعلوم بالذات ومغاير له بالاعتبار فكيف يكون علمه ـ تعالى ـ بالممكنات عين ذاته ـ تعالى ـ مع تخالف الحقيقة الواجبية والممكنة

__________________

(١) راجع : فصوص الحكم ، الفص ١٢ ؛ نصوص الحكم ، ص ٥٣.

١٥٩

بالذات؟! ، لانّه على القول بالاجمالى على الاحتمال الأوّل يتحد العالم والمعلوم ـ لانطواء جميع الاشياء في ذاته ـ ؛ فيندفع الايراد المذكور.

ثمّ ما ذكر في هذا الايراد من انّ العلم عين المعلوم بالذات ففيه : انّ العلم ـ كما يأتي ـ يطلق على معان ثلاثة :

الاضافة الاشراقية ؛

والحاضر بالذات ؛

والملكة الّتي يقتدر بها على استحضار المعلومات. وما هو عين المعلوم بالذات هو المعنى الثاني وهو ليس عين ذاته إلاّ في العلم الاجمالى وفي علم الشيء بذاته. فاطلاق / ١٤٦ MB / القول بعينية العلم للمعلوم ليس بصحيح. وأمّا ما نقله عن بهمنيار فظاهره منطبق على الوجه الأوّل. كما يدلّ عليه تمثيله ، لانّ المعقول البسيط صورة مطابقة للمعقولات المفصّلة بل هو عينها ، والتفاوت انّما هو في نحوي الادراك ، فهو بمنزلة المجمل لجميع المعقولات المفصّلة ، وليس هو علّة ومنشأ لها ، وما هو العلّة والمنشأ لها لا يكون منطبقا عليها. وبالجملة الظاهر من تشبيه الواجب بأصل الجواب المجمل لا بالقوّة والتمكّن على الجواب انّه لا يكتفي في العلم الاجمالي بما فهمه الخفري من انّه هو مبدأ الانكشاف والقوّة عليه ـ كالقوّة على الكتابة والتمكّن عليه من غير أن يباشر شيئا منهما ـ. فان الظاهر من كلام بهمنيار انّه جعل ذاته ـ تعالى ـ بمنزلة مجمل الموجودات ، فوجوده حقيقة وجد في الجملة للموجودات ، فانكشاف ذاته على ذاته انكشاف للموجودات في الجملة ، كالجواب المجمل فان حضوره في الذهن حضور للمفصّل في الجملة ، فلا يكتفي بمحض القوّة والتمكّن. فالظاهر حمل عبارة بهمنيار على الاحتمال الأوّل ـ كما فعله السيد الداماد ـ. والقول بأنّ التمثيل لمجرّد الاشتراك في المبدئية وان كان أحدهما من قبيل مبدئية الكلّ للأجزاء والآخر مبدئية الفاعل لمفعوله ـ كما أشير إليه آنفا ـ بعيد جدّا.

وامّا عبارة الفارابى فلا بدّ انّ نوضحه حتّى يظهر أنّها منطبقة على الاحتمالين ؛ فنقول : قوله : « واجب الوجود مبدأ كلّ فيض » معناه ظاهر. وقوله : « وهو ظاهر » أي : واجب الوجود ظاهر بذاته على ذاته. وفي بعض النسخ : « وهو ظاهر بذاته » وهو أظهر ،

١٦٠