جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

ولا ريب انّ هذه العبارة تدلّ على أنّ مختاره المذهب الرابع ، فان قوله : « فان تعقل ذاته وما يوجبه ذاته المعقولة من صور الموجودات » تدلّ على تقدّم معقولية صور جميع الموجودات على ذواتها ومنشئية تعقّل صورها لايجادها في الخارج. وعلى المذهب الخامس لا يكون تعقّل الجوهر الأوّل بصورته ، بل بحضوره عنده.

ثمّ قال بعد ذلك : « فبقى لك النظر في حال وجودها معقولة أنّها تكون موجودة في ذات الأوّل كاللوازم الّتي تلحقه ، أو يكون وجودها مفارقا لذاته ـ تعالى ـ وذات غيره أيضا كصور مفارقة على ترتيب موضوعة في صقع الربوبية ـ وهي المثل الأفلاطونية ـ ، أو يكون موجودة في عقل أو نفس إذا عقل الأوّل هذه الصور ارتسمت في ايّها كان ، فيكون ذلك العقل أو النفس كالموضوعة لتلك الصور المعقولة ، وتكون معقولة له على انّها فيه ومعقولة للاول على أنّها عنه (١).

ثمّ قال : وإن جعلت هذه المعقولات اجزاء ذاته عرض تكثر ، وإن جعلتها لواحق ذاته عرض لذاته أن لا يكون من جهتها واجب الوجود لملاصقته ممكن الوجود ، وإن جعلتها أمورا مفارقة لكلّ ذات عرضت الصور الافلاطونية ، وإن جعلتها موجودة في عقل ما عرض أيضا ما ذكرناه قبل هذا من المحال (٢).

وما ذكره قبل هذا هو انّه لو كانت تلك الصور المعقولة / ١٣٨ MB / مرتسمة في عقل او نفس لدخلت في جملة ما تعقل الاول ذاته مبدأ له فيجب ان يكون صدورها عنه على سبيل الخير ـ أي : على سبيل ما اذا عقله خيرا اوجده وننقل الكلام إلى ذلك التعقّل ويتسلسل.

ثمّ قال : « فينبغي أن تجتهد جهدك في التخلّص عن هذه الشبهة وتتحفّظ أن لا تتكثّر ذاته ولا تبالي بان تكون ذاته مأخوذة مع اضافة ما ممكنة الوجود ، فانّها من حيث هي علّة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود ، بل من حيث ذاتها. وتعلم انّ العالم الربوبي عظيم جدا » (٣) ؛ انتهى.

__________________

(١) راجع : نفس المصدر ، ص ٣٦٤.

(٢) راجع : نفس التعليقة السالفة.

(٣) راجع : نفس التعليقة السالفة أيضا.

١٢١

وأنت تعلم انّ قوله : « ولا تبالى بان تكون ذاته ـ ... إلى آخره ـ » صريح في اختياره المذهب الأوّل ، لانه قال أوّلا : « إن جعلت تلك الصور القائمة به اجزاء ذاته لزم التكثر وان جعلت لواحق ذاته لزم عدم كونه واجب الوجود من جهتها » ، وبعد ذلك صرّح بلزوم الاجتناب عن القول بما يوجب التكثّر ـ أعني : جعل تلك الصور اجزاء ذاته ـ وعدم المبالات بما يوجب عدم كونه واجب الوجود من جهته ـ أي : جهة تلك الصور لواحق ذاته ـ. وأورد ذلك مثالا. ولا ريب في انّ ذلك ـ أي : كون تلك الصور لواحق ذاته ـ إنّما يتأتّى على تقدير كونها مرتسمة في ذاته ، لا على تقدير المثل ، ولا على تقدير قيامها بالعقل أو النفس ، فاذا ضمّت هذه العبارة مع ما نقلناه أوّلا حصل الجزم بأنّ مذهبه في الشفا هو المذهب الرابع ؛ وحينئذ فلا حيرة في كلامه. وترديده بين الشقوق لا يدلّ على تحيره ، بل هو دأبه وعادته ـ كما لا يخفى على من له أدنى تتبّع بكلامه ـ.

وقال أيضا في الشفا : « ولا تظننّ انّه لو كانت المعقولات عنده كثيرة كانت كثرة الصور التى تعقلها اجزاء لذاته كيف وهى تكون ما بعد ذاته لانّ عقله لذاته ومنه يعقل كلّ ما بعده فعقله لذاته علّة عقله ما بعد ذاته وعقله ما بعد ذاته معلول عقله لذاته على انّ المعقولات والصور الّتي بعد ذاته انما هى معقولة على نحو المعقول الفعلى لا النفسانى وانما له إليها اضافة المبدأ الّتي تكون عنه لا فيه بل اضافات على الترتيب بعضها قبل بعض » (١) ؛ انتهى.

وهذه العبارة أيضا كسابقها تدلّ على العلم الحصولي ، فانّ غرضه انّ تعقّله لصور الأشياء المتكثّرة معلول لتعقّله لذاته. وهذه الصور المعقولة له ـ تعالى ـ وان كانت متكثّرة إلاّ أنّها لا توجب تكثّرا في ذاته ـ تعالى ـ ، لأنّها متأخّرة عن ذاته لا حقة له وليست داخلة في قوام ذاته ولا معدودة اجزاء لحقيقته ، لانّ ذاته من حيث تعقّله لذاته علّة لها. فهي من المعقولات العقلية الّتي له ـ تعالى ـ إليها اضافة المبدئية ـ أي : معقولة له على أنّها عنه / ١٣٥ DA / لا فيه ـ ، بل له إليها اضافات على الترتيب بعضها قبل بعض ،

__________________

(١) راجع : الشفا / الالهيات ، ص ٣٦٤.

١٢٢

فانّه ـ تعالى ـ إذا تعقّل ذاته وذاته علّة للعقل الأوّل مثلا فيعقل العقل الأوّل ـ أي : يعقله على انّه صادر عنه ـ ، وإذا عقل العقل الأوّل وهو علّة للعقل الثاني فيعقل العقل الثاني أيضا ... وهكذا إلى ان ينتهى إلى اخر مراتب الوجود.

والحاصل : انّه لمّا كانت مفاسد العلم الحصولي المشهورة بينهم أربعة اشار الشيخ في هذه العبارة إلى دفع ثلاثة منها :

الأوّلى : لزوم كون ذاته ـ تعالى ـ محلاّ للكثرة ، فاشار إلى دفعه بقوله : « بان له إليها اضافات على الترتيب بعضها قبل بعض ». أي : حصول هذه الصور في ذاته انّما هو على الترتيب لا دفعة ، وكما انّ صدور الكثرة منه في الخارج يمتنع دفعة ويجوز على الترتيب السببي والمسببي فكذا محلّيته للصور الكثيرة يمتنع دفعة ويجوز على الترتيب السببي والمسببي.

الثانية : لزوم كون الواحد من حيث انّه واحد فاعلا وقابلا ، وهو يستلزم التركيب ، إذ جهة القوّة غير جهة الفعل ، فيجتمع فيه جهتان وهو معنى التركيب ؛ فاشار الشيخ إلى دفعه بقوله : « على أنّ المعقولات والصور الّتي بعد ذاته انّما هي معقولة على النحو المعقول الفعلي لا النفسانى » ؛ وبقوله : « يكون عنه لا فيه ».

وحاصله : انّ محلّية ذات الواحد الحقّ للوازمه ـ أعني : تلك الصور ـ من باب مطلق الموصوفية لا من باب القابلية والمحلّية الّتي من باب مطلق الموصوفية دون القابلية لا يستلزم التركيب ، إذ استلزام جهة القوّة للتركيب لايجابها كون الفاعل فاقدا لشيء وكون هذا الشيء ممكن الحصول له مع أنّ هذا الفاعل له جهة الفعلية والوجود أيضا ، فيلزم التركيب. وأمّا مطلق الموصوفية فلا يعتبر فيه الفقدان ، فانّ الشيء إذا كان محلاّ لمعلوله كان موصوفا به البتة ولا يكون فاقدا له في حدّ ذاته ، لانّ المعلول من حيث انّه فائض من علّته وإن لم يكن موجودا في مرتبته ولكن لا يمكن أن / ١٣٩ MA / يقال : انّ العلّة في هذه المرتبة فاقدة لمعلولاتها ، لانّ ما يفيض عن شيء كيف يكون المفيض فاقدا له؟! ، وكيف يكون المفقود عن الشيء فائضا وصادرا عنه؟!. كيف ولو لم يجز أن يتصف علّة الشيء به لزم أن لا يتصف به مهيته البسيطة بلوازمها ـ لكون لوازمها معلولة لها ـ مع أنّ

١٢٣

جميع المهيات البسيطة متصفة بلوازمها. فالماهيات البسيطة مع بساطتها وعلّيتها موصوفة بلوازمها أيضا ، فلو كان مطلق الموصوفية موجبا للتركيب لزم كون تلك المهيات مركّبة ، وهو خلاف الواقع. فغرض الشيخ انّ محلّية الواجب لتلك انّما هو من حيث حصولها عنه وكونه علّة لها ، لا من حيث كونه قابلا لها ؛ فلا يتحقّق التركيب.

الثالثة : لزوم كون ذات الواجب متصفا بصفات زائدة غير اضافية وغير سلبية ، فاشار الشيخ إلى دفعه بقوله : « وانّما له إليها اضافة المبدأ » ، أي : تلك الصور العلمية ليست إلاّ صفات اضافية وليست هي صفات حقيقية ، إذ في الصور العلمية من حيث هى صور علمية يعتبر فيها الاضافة إلى المعلومات النسبية ، وإذا كانت لها صفات اضافية فلا ضير في كونها زائدة ، إذ امتناع اتصاف الواجب بصفات زائدة إنّما هو للزوم كونه فاقدا لصفة الكمال في مرتبة ذاته ، والصفات الاضافية ليست بأنفسها كمالات له ـ تعالى ـ ، بل كماله ـ تعالى ـ إنّما هو أن يكون بحيث يفيض عنه تلك الصفات ـ أي : الصور العلمية فيما نحن فيه ـ ، لا نفس هذه الصورة.

الرابعة : لزوم كون المعلول الأوّل للواجب غير مباين عنه بل قائما بذاته ، لانّ المعلول الأوّل هو تلك الصور العلمية لا الأعيان الخارجية ، وتلك الصور قائمة بذاته ـ تعالى ـ.

والشيخ لم يتعرّض لدفع هذه المفسدة الرابعة ، وأجاب عنه آخرون : بأنّ لزوم مباينة المعلول عن العلّة انّما هو إذا كان المعلول أمرا خارجيا بأن يكون المعلول بعد صدوره عن العلّة مباينا عنه ، لا إذا كان صورا علميا ، فان المباينة غير لازمة.

وأنت خبير بأنّ التعرّض لهذه المفاسد وأجوبتها هنا انّما هو لتحقيق مذهب الشيخ ، والاّ فالتعرّض لها هنا غير مناسب ، لكوننا بصدد تحرير المذاهب لا تحقيقها. وستعلم حقيقة الحال في صحّة هذه الأجوبة وعدمها.

ثمّ عبارات الشيخ في التعليقات أيضا تنطبق على ما ذكر ، فانّه قال فيه : « تعقّل الاول ـ تعالى ـ تعقّل بسيط لذاته وللوازم عنها وللموجودات كلّها ـ حاصلها وممكنها ، أبديّها وكائنها ، وفاسدها ، وكلّيها وجزئيها إلى أقصى الوجود معا لا بقياس وفكر وتعقّل في المعقولات ، فانّه يعقلها كلّها على الترتيب السببي والمسببي. وهو

١٢٤

يعقلها من ذاته ، لأنّها فائضة عنه وذاته مجرّدة ، فهو عاقل ذاته وذاته معقولة ، فهو عاقل ومعقول والموجودات كلها معقولة. / ١٣٥ BD / على أنّها عنه لا فيه ». وقال في تعليق بعده : « هو يعقل الأشياء لا على أنّها تحصل في ذاته كما نعقلها نحن ، بل على أنّها تصدر عن ذاته ، فانّ ذاته سبب لها ». وقال في موضع آخر : « وجوده ـ تعالى ـ مباين لسائر الموجودات وتعقّله مباين لسائر التعقّلات ، فانّ تعقّله على انّه عنه ـ أي : على أنّه مبدأ فاعلي له ـ ، وتعقّل غيره على انّه فيه ـ أي على : انّه مبدأ قابل له ـ » ؛ انتهى.

وأنت بعد التأمّل في تلك العبارات تجدها مطابقة لعبارات الشفا ، ويتضح كونها منطبقة على المذهب الرابع.

والعجب انّ بعض الأفاضل بعد أن نقل بعض العبارات المذكورة من الشفا والتعليقات قال : « وفي كلام الشيخ تنصيصات وتصريحات على أنّ التحقيق عنده في مسئلة العلم هو العلم الحضوري. وظنّي انّ من رأى في كلام الشيخ مثل هذه التنصيصات والتصريحات لم يبق له مجال أن يتوهّم أنّ مذهبه في علم الواجب بالأشياء بحصول الصور في الذات » ؛ انتهى.

وأنت بعد الاحاطة بما ذكرناه تعلم انّه ليس في كلام الشيخ موضع تنصيص ، بل ايماء وتلويح إلى ما ذكره بوجه. وكان عليه أن يعيّن الموضع وينصّ على كيفية الدلالة حتّى ينظر فيه ، ثمّ يبادر إلى الردّ والقبول.

وهذا الفاضل قد حمل عبارة الاشارات الّتي حملها الشارح المحقّق على العلم الحصولي على العلم الحضوري أيضا ، واستبعد ـ غاية الاستبعاد ـ من حمل المحقّق ؛ فلنذكر عبارة الشيخ ثمّ عبارة المحقّق ثمّ عبارة هذا الفاضل ثمّ نشير إلى موضع اشتباهه.

قال الشيخ : « وهم وتنبيه. ولعلّك تقول : إن كانت المعقولات لا تتحد بالعاقل ولا بعضها مع بعض ـ كما ذكرت ـ ثمّ سلّمت انّ واجب الوجود يعقل كلّ شيء فليس واحدا حقّا ، بل هناك كثرة ؛ فنقول : انّه لمّا كان يعقل ذاته بذاته ثمّ يلزم قيوميّته عقلا بذاته لذاته أن يعقل الكثرة جاءت الكثرة لازمة متأخّرة لا داخلة في الذات مقوّمة. والغرض انّ القيوم لمّا كان هو القائم بذاته المقيم بغيره والقائم بذاته ليس إلاّ المجرّد فهو

١٢٥

يعقل ذاته ، والمقيم لغيره هو مفيض الكلّ وعلّته ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، فمن لوازم القيوم وخواصّه بسبب تعقّل ذاته لذاته أن تعقل الكثرة ». ثمّ قال : « وجاءت الكثرة أيضا على ترتيب وكثرة / ١٣٩ MB / اللوازم من الذات مباينة أو غير مباينة لا يتسلّم الوحدة والأوّل يعرض له كثرة لوازم اضافية او غير اضافية وكثرة سلوب وسبب ذلك كثرة الأسماء لكن لا تأثير لذلك في وحدانية ذاته ـ تعالى ـ » (١) ؛ انتهى.

وقال الشارح المحقّق : « تقرير الوهم أن يقال : انّك ذكرت انّ المعقولات لا تتحد بالعاقل ولا بعضها ببعض ، بل هى صور متباينة متقررة في ذاته ويلزمك على ذلك ان لا يكون ذات الأوّل الواجب واحدا حقّا بل تكون مشتملة على كثرة. وتقرير التنبيه ان يقال : انّ الأوّل لمّا عقل ذاته بذاته وكان ذاته علّة للكثرة لزمه تعقل الكثرة بسبب تعقل ذاته لذاته فتعقله للكثرة لازم معلول له فصور الكثرة الّتي هى معقولاته أي معلوماته ولوازمه مترتبة ترتب المعلولات فهي متأخرة عن حقيقة ذاته تاخر المعلول عن العلة وذاته ليست بمتقومة بها ولا بغيرها بل هى واحدة وتكثر اللوازم والمعلولات لا ينافي وحدة عليتها الملزومة اياها سواء كانت تلك اللوازم متقررة في ذات العلّة او مباينة له فاذن تقرر الكثرة المعلولة في ذات الواحد القائم بذاته المتقدم عليها بالعلية والوجود لا يقتضي تكثر والحاصل انّ الواجب واحد ووحدته لا يزول بكثرة الصور المعقولة المتقررة فيه » (٢) ؛ انتهى.

ولا ريب في انطباق ما ذكره على كلام الشيخ ، وليس لكلام الشيخ محمل سوى ما ذكره. وهو بعينه مضمون ما نقلناه من الشفا والتعليقات ؛ وهو ظاهر.

وقال الفاضل المذكور : « توضيح الوهم : انّ العالم والمعلوم إذا لم يكونا متحدين ولم يكن بعض المعلومات متحدة مع بعض بل يكون المعلومات أمورا متباينة يلزم الكثرة ، لانّ العلم يتكثّر بتكثّر المعلومات ، لانّ العلم بأحد المتباينين ليس العلم بالمباين الآخر و

__________________

(١) راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ، ج ٣ ص ٣٠٢.

(٢) راجع : نفس التعليقة السالفة.

١٢٦

إلاّ يلزم أن يكون العلم بالانسان عين العلم بالفرس ؛ وهو باطل بالضرورة. فيجب أن يكون مغايرا ، إذ الممكنات حقائق متباينة والواجب موجد الكلّ. ولا ايجاد إلاّ بالعلم ، فيلزم التكثّر في علمه.

وحاصل دفع الوهم : انّ تكثر العلم بتكثّر المعلومات إذا كان مناط العلم حصول صورة الأشياء في ذات العالم ويكون العلم صفة زائدة على ذاته ، أمّا إذا لم يكن كذلك بل كان العلم عين ذات العالم بمعنى انّ ما يترتّب / ١٣٦ DA / على الصور العلمية يترتّب على ذات العالم ـ كما في علم الواجب سبحانه ـ فلا يلزم التكثّر في العلم ، بل التكثّر إنّما يكون حينئذ في المعلومات الّتي تكون متأخّرة عن ذات العلم ولوازم له ، وتكثّرها لا يوجب التكثّر في ذات الواجب ولا في صفة العلم. فذاته ـ تعالى ـ عقل ذاته ومعقول ذاته ، وكذلك عقل بالنسبة إلى جميع معلوماته قبل الوجود ، وحين الوجود فترتّب على ذاته ـ تعالى ـ كثرة لازمة متأخّرة على الترتيب السببي والمسببي. وليست تلك الكثرة مقدّمة لذاته حتّى يلزم الكثرة في ذاته ـ تعالى ـ. بل تلك الكثرة ـ الّتي هي النظام الجملي ، سواء كانت لازمة مباينة أو غير مباينة ـ لا توجب الكثرة في الملزوم اصلا. نعم! ، يعرض له ـ تعالى ـ بسبب السلوب والاضافات كثرة الأسماء ـ كالخالقية والرازقية والصانعية وأمثالها ـ ، ولا يلزم من هذا التكثّر في ذاته ـ تعالى ـ أصلا ولا في علمه أيضا » ؛ انتهى.

وحاصل كلام هذا الفاضل : انّه لمّا أورد انّ الواجب تعقل الأشياء الكثيرة فيلزم الكثرة في علمه ، فاجاب الشيخ بأنّ الكثرة إنّما هو في الأشياء الخارجية لا في العلم ، فكون علمه حضوريا لا حصوليا يوجب ارتسامه ـ تعالى ـ بصور الأشياء المتكثّرة ، فحمل الكثرة الّتي وقعت في جواب الشيخ ـ وقال : « لازمة متأخرة لا داخلة في الذات » ـ على كثرة الأعيان الخارجية ، لا كثرة الصور العلمية.

وأنت خبير بأنّ هذا لا يلائم كلام الشيخ أصلا! ، كيف ولو كان مراد الشيخ ذلك لكفى له أن يقول في دفع الوهم : « انّ العلم الانكشافي ليس فيه تكثّر » ، وأيّ مدخلية للقول بأنّ الكثرة في الاعيان الخارجية لا توجب التكثّر في الذات في الجواب عن الدفع المذكور؟! ، وأيّ مناسبة حينئذ للقول بأنّ الكثرة الخارجية لازمة متأخّرة وعلى

١٢٧

ترتيب السببي والمسببي؟! ، فانّ بعد كون العلم بالاشياء حضوريا انكشافيا لا يلزم تكثّرا في العلم ـ سواء كانت الأشياء المعلومة متأخرة أم لا ، وسواء كانت على الترتيب السببي والمسببي أم لا ـ ، وأيّ فرق بين تأخّر الكثرة وترتيبها وعدمها في عدم لزوم التكثّر في الذات ولزومه بعد فرض كون العلم حضوريا؟!. وبالجملة حمل عبارة الشيخ على ما ذكره هذا الفاضل يجعل عبارته مختلّة فاسدة. فالصحيح حمله على العلم الحصولي كما فعله الشارح المحقّق.

وبالجملة لا ريب في أنّ جميع عبارات الشيخ في جميع كتبه متطابقة متفقة صريحة في العلم الحصولي ، والمنكر مكابر.

السادس : ما ذهب إليه جماعة ، وهو : انّ للواجب علمين :

علم اجمالي كمالي متحقّق في مرتبة ذاته ؛

وعلم تفصيلي متحقّق في مرتبة وجودات الأشياء.

وتوضيحه : انّ الواجب لمّا كان عالما بذاته وذاته مبدأ لصدور جميع الأشياء فجميع الاشياء لوازم ذاته ومنطوية فيه اجمالا قبل وجودها ، فاذا كان عالما بذاته يكون عالما بهذه الأشياء اللازمة لذاته المنطوية فيه اجمالا بعلم واحد هو علمه بذاته ، فيكون عالما بالاشياء علما متحقّقا في مرتبة ذاته مقدّما على صدورها لا في مرتبة صدورها ، وإلاّ لم يكن عالما بالاشياء باعتبار ذاته بل باعتبار ذوات الأشياء ، فلا يكون له علم يكون صفة كمال في حقّه ، فعلمه بمجعولاته منطو في علمه بذاته. فكما انّ علمه بذاته هو ذاته فكذا علمه بمعلوماته. فاذا كان ذاته علّة لوجود ما عداه فكذا علمه بذاته علّة لعلمه بما عداه ، فعلمه بها يكون فعليا. وهذا هو العلم / ١٤٠ MA / الاجمالي. وبعد صدور الأشياء يتعلّق بها العلم تفصيلا.

وكلا العلمين يكون حضوريا ؛

أمّا الثاني فظاهر ؛

وأمّا الأوّل فلانّ ذاته حاضرة عند ذاته وكذا اللوازم المنطوية فيها اجمالا ، فتكون تلك اللوازم حاضرة عنده اجمالا.

١٢٨

السابع : ما ذهب إليه شيخ الاشراق ومتابعوه ـ كشارح التلويحات ، والعلاّمة الشهرزوري ، بل أكثر من تأخّر عنه ، وهو : انّ علمه ـ تعالى ـ بجميع الأشياء بحضور نفس الأشياء له ـ تعالى ـ وانكشاف ذواتها عنده بدون حاجة إلى حضور صور زائدة على ذواتها ، فعلمه بها نفس وجوداتها العينية.

والفرق بين هذا المذهب والمذهب الخامس ـ : المختار للمحقّق الطوسي ـ انّه على هذا المذهب يكون العلم بجميع الأشياء حضوريا ، وعلى مذهب المحقّق يكون العلم بالمعلولات القريبة حضوريا وبالمعلولات البعيدة حصوليا ـ كما تقدّم مفصّلا ـ.

هذا هو تحرير المذاهب في هذه المسألة.

وإذا عرفت ذلك فلا بدّ لنا من الاشتغال بابطال ما هو الباطل وتحقيق ما هو الحقّ.

فنقول : أمّا المذهب الأوّل / ١٣٦ DB / ـ أعني : مذهب المعتزلة ـ فلا ريب في بطلانه لابتنائه على ثبوت المعدومات ، وهو بديهى البطلان ظاهر الفساد ، والكتب العقلية مشحونة بابطال شيئية المعدوم وتحقّق الواسطة بين الموجود والمعدوم. وكيف يجوّز عاقل أن يكون المعدوم الصرف والليس المحض ثابتا في نفس الأمر؟ ، وما معنى هذا الثبوت؟.

وممّا يدل على فساده : انّ نفس الوجود ليس عند المعتزلة بموجود ولا بمعدوم ، فيكون هو أيضا من المعدومات الثابتة قبل صدورها عن جاعله ، وايجاد المعدوم الثابت إنّما هو بافادة الوجود وافاضته عليه ، لانّ الفرق بين الثابت المعدوم والموجود الخارجى لا يتصوّر إلاّ بافاضة الوجود عليه ، واخراجه عن عدمه لا يعقل إلاّ بذلك. فلو حصل نفس الوجود في الخارج بمجرّد افاضته من دون افاضة الوجود عليه لم يكن لثبوته في الخارج معنى ولم يكن ذلك الثبوت معنى زائدا على نفس الوجود ، فيلزم حينئذ أن يفيض الفاعل الوجود على الوجود ؛ وهم لا يقولون به. مع انّه يعود الكلام حينئذ في وجود الوجود ويلزم التسلسل.

وان قالوا : انّ الوجود ثابت في نفسه ومحقّق في الخارج ولا يحتاج إلى تاثير من الفاعل ؛

١٢٩

لزم عدم كون الفاعل مفيدا لشيء على المهيات ، فيلزم كون الفاعل معطّلا.

وأمّا المذهب الثاني ـ أعني : مذهب افلاطون الإلهي ، وهو القول بالمثل ـ : فقد عرفت انّ الشيخ فسّر المثل بالصور المفارقة على الترتيب الموضوعة في صقع الربوبية.

وقال بعض اهل التحقيق : المثل الافلاطونية في باب العلم مفسّرة بالصور العلمية المتعلّقة الموجودة لا في موضوع ولا في محلّ ولا في زمان ولا في مكان ، وفي باب اثبات وجود الكلّي الطبيعي مفسّرة بالطبائع المرسلة الموجودة في متن الدهر وحاقّ الاعيان لا بشرطيتها من حيث هى متمايزة في عالم الأمر عن الافراد وراء ما لها من الوجود في عالم الخلق ـ يعنى وجود الأفراد مخلوطة بها غير متميزة عنها ـ. وفي باب تفصيل العوالم مفسّرة بعالم المثال المتوسّط بين عالم الغيب والشهادة برزخا بين المجرّد والمادّي. وفي مقام اثبات الصور النوعية مفسّرة بالجواهر العقلية الّتي هي ارباب الانواع الموكّلة على جملة هياكل أشخاص نوع نوع بالتدبير والتسخير ، كما أنّ النفس المجرّدة بالقياس إلى تدبير هيكل شخص بعينه. وإن هي إلاّ ضرب من الملائكة المجرّدة وخليفة ربّ النوع المفارق لطبيعة الجزئية الجسمانية والصور الجوهرية المنطبعة ؛ وهذه ضرب من الملائكة الجسمانية. وليعلم أنّها بما عدا التفسيرين الاخيرين باطلة عند المحقّقين بالبراهين العقلية ؛ انتهى.

ثمّ لا يخفى انّ بطلان المثل بالمعنى المفسّر هاهنا في غاية الظهور ، وقد بيّن فساده المعلم الثاني والشيخ الرئيس في إلهيات الشفا.

وممّا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ تلك الصور موجودات عينية لا ذهنية ، فننقل الكلام إلى كيفية علمه ـ تعالى ـ بتلك الصور العينية قبل وجودها ، فان كان بصور موجودة عينية أخرى ـ وهكذا الكلام فيها أيضا ـ لزم التسلسل ؛ وان كان بصور ذهنية لزم ما هرب القائل بالمثل عنه أعني : التكثّر في ذاته تعالى ـ ؛ وإن كان بحضور انفسها عنده ـ تعالى ـ نقول : ان كان العلم الحضوري بالأشياء متوقّفا على وجود تلك الأشياء في الخارج لزم عدم كونه عالما قبل وجود تلك الصور وعدم كونه عاقلا في مرتبة ذاته ـ تعالى عنه علوّا كبيرا ـ ، وان لم يكن متوقّفا على وجودها فأيّ مانع حينئذ من القول

١٣٠

بالعلم الحضوري بالنسبة الى جميع الأشياء؟! ، والذهاب إلى القول بتحقّق الصور العلمية القائمة بذاتها مع مخالفته للبراهين العقلية؟!.

وأيضا على القول بالمثل يلزم احتياجه ـ تعالى ـ في عالميته بالاشياء وفي الفاعليّة لها إلى غيره ـ أعني : تلك المثل ـ ، وهو من أشنع المحال!.

وامّا المذهب الثالث ـ أعني : القول باتحاد العاقل والمعقول المنسوب الى فرفوريوس ـ ، فوجه بطلانه : انّه يمتنع أن يصير شيء شيئا آخر ، لانّه إن بقى الأوّل مع حضور الثاني فهما اثنان ، فلم تتحقّق الاتحاد ؛ وإن زال الأوّل وحصل الثاني أو بقى الأوّل ولم يحصل الثّاني ، فما صار أحدهما الاخر ، فلم يحصل الاتحاد أيضا.

وقد أطنب الشيخ الكلام في كتبه في بيان استحالة هذا المذهب وشنع على القائل به ؛ وقال في الاشارات : « وكان لهم ـ أي : للمشّائين ـ رجل يدعى « بفرفوريوس » ، عمل في العقل والمعقولات كتابا يثنى عليه المشّاءون ، وهو حشف كلّه ، وهم يعلمون انّهم لا يفهمونه ولا فرفوريوس / ١٣٧ DA / نفسه ؛ وقد ناقضه من أهل زمانه / ١٤٠ MB / رجل ناقص هو ذلك الناقص بما هو اسقط من الأوّل! » (١).

فان قيل : الظاهر انّ الشيخ قد رجع عن هذا التشنيع في كتاب المبدأ والمعاد واختار القول بالاتحاد ، لأنّه اقام الحجّة فيه على ثبوته ؛

قلت : الظاهر ـ كما أفاده بعض المحقّقين ـ انّ غرضه في ذلك الكتاب تقرير المعارضة على طريق اتباع المشائين ، دون ما هو الحقّ عنده وانعقد عليه رأيه ـ كما لا يخفى على الناظر فيه ـ. وما قيل : انّه خلاف عادة الشيخ ، لأنّه قلّما يميل عمّا هو الحقّ عنده إلى ما هو الباطل لديه ؛

ففيه : انّ ذلك على تقدير تقرير مذهبه واعتقاده ، لا على فرض تقرير مذهب غيره ، فانّ أحدا من العقلاء لا ينسب الباطل عنده إلى نفسه.

وممّا قيل في بطلان هذا المذهب : انّه لو كان حقّا لزم تبدّل جوهر النفس حين انتقالها من معقول إلى معقول آخر. وليس كذلك ، فانّ الجوهر الشاعر بذاته منّا هو هو في كلّ حين

__________________

(١) راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ، ج ٣ ص ٢٩٥.

١٣١

قبل ادراك شيء ومعه وبعده. وما يقال : من أنّ الماء صار هواء والابيض صار أسودا معناه : انّ مادّة الماء انسلخت عنها الصورة المائية وتصوّرت بالصورة الهوائية ، والحامل لوصف الابيضية زال عنه البياض وحصل فيه السواد والقابل في الحالين شيء واحد ؛ انتهى.

وأمّا المذهب الرابع ـ أعني : كون علمه تعالى بجميع الأشياء حصوليا ارتساميا بقيام صورها في ذاته تعالى ـ ، فيدلّ على بطلانه وجوه :

منها : انّه يلزم أن يكون الواجب ـ تعالى ـ فاعلا وقابلا معا ، لانّ تلك الصورة موجدها ومفيضها هو الواجب ـ ، سبحانه ـ مع انّه ـ تعالى ـ محلّ لها.

ومنها : انّه يلزم أن يكون الواجب ـ تعالى ـ موصوفا بصفات زائدة غير اضافية ولا سلبية.

ومنها : انّه يلزم أن يكون الأوّل ـ تعالى ـ محلاّ لمعلولاته المتكثّرة وهو مستلزم للتركيب في ذاته ـ تعالى ـ ؛ أو عدم كونه ـ تعالى ـ عالما في مرتبة ذاته. بيان ذلك : انّه لو كان علمه بالاشياء حصوليا لكانت بإزاء كلّ معلوم صورة ، فلا يخلو إمّا أن يكون تلك الصورة داخلة في قوام ذاته ـ تعالى ـ حتّى يكون من مقوّمات ذاته ، فيلزم التركيب ؛ وان لم يكن داخلا في قوام ذاته ـ بل كانت عارضة لها والعارض متأخّر عن ذات المعروض ـ فلا تكون تلك الصورة الّتي هي مناط الانكشاف موجودة في مرتبة ذاته ـ تعالى ـ ، فلا يكون الواجب في مرتبة ذاته عالما بالاشياء.

ومنها : انّه يلزم أن لا يكون المعلول الأوّل ـ أعني : صور الأشياء المرتسمة في ذاته تعالى ـ مباينا عن ذاته ، بل يكون قائما به ـ تعالى ـ.

ومنها : انّه يلزم أن لا يتمكّن الواجب من العلم بالاشياء ومن ايجادها إلاّ بواسطة الصور الحالّة فيه ، وتلك الصور لكونها معلولة تكون ممكنة ، فيلزم أن يكون الواجب مستكملا بالممكن محتاجا إليه. والى هذه الوجوه الخمسة اشار العلاّمة الطوسى في شرح الاشارات بقوله : « لا شكّ في أنّ القول بتقرّر اللوازم في ذاته ـ تعالى ـ قول بكون الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا ؛ وقول بكون الأوّل موصوفا بصفات غير اضافية ولا سلبية ؛ و

١٣٢

قول بكونه محلاّ لمعلولاته الممكنة المتكثّرة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ ؛ وقول بأنّ المعلول الأوّل غير مباين لذاته ـ تعالى ـ ؛ وبأنّه لا يوجد شيئا من الأشياء بذاته بل بتوسّط الأمور الحالّة فيه ... إلى غير ذلك ممّا يخالف الظواهر من مذاهب الحكماء والقدماء القائلين بنفي العلم عنه ـ تعالى ـ ، وافلاطون ـ القائل بقيام الصور المعقولة بذواتها ـ والمشّاءون القائلون باتحاد العاقل والمعقول ـ والمعتزلة ـ القائلون بثبوت المعدومات ـ انّما ارتكبوا تلك المحالات حذرا من التزام هذه المعاني » (١) ؛ انتهى.

ثمّ الحقّ انّ الوجه الأوّل مندفع عن العلم الحصولي بما تقدّم. وحاصل الدفع : انّ بطلان كون الواحد فاعلا وقابلا إذا أريد بالقبول مطلق الاتصاف ممنوع لانتقاضه بلوازم المهيات البسيطة ، فانّها فاعلة للوازمها مع كونها موصوفة بها. فبطلانه انّما هو إذا كان فاعلا وقابلا بمعنى كونه منفعلا أو متأثّرا من الغير. وكونه ـ تعالى ـ محلاّ للصور المعقولة لا يوجب انفعاله وتأثيره ، بل غاية ما يلزم هو كونه ـ تعالى ـ موصوفا بها ، فلا فرق بين وجودها فيه ووجودها عنه ، فلوازمه الّتي هي معقولاته انّما هي عنه وفيه بلا تفاوت.

وأمّا الوجه الثاني فقد دفعه بعضهم أيضا بما تقدّم في كلام الشيخ ؛ وحاصله : انّ الممتنع اتصاف ذاته ـ تعالى ـ بصفات زائدة حقيقية كمالية ، للزوم كونه ـ تعالى ـ فاقدا / ١٣٧ DB / للكمال في مرتبة ذاته ولا يمتنع عليه اتصافه ـ تعالى ـ بصفات اضافية غير كمالية زائدة. ولا ريب في أنّ الصور العقلية القائمة بذاته ـ تعالى ـ ليست صفات حقيقية كمالية ، فانّ ذاته وإن كانت محلاّ لتلك الصور العلمية لكن لا يكون هي كمالات له ـ تعالى ـ ، فانّ كماله ـ سبحانه ـ ليس تعقّله للأشياء ، بل بان يفيض عنه الأشياء معقولة. فكماله انّما هو بذاته لا بلوازمه الاضافية ـ أعني : الصور العلمية المضافة إلى المعلومات ـ. وإلى هذا المعنى أشار صاحب التحصيل بقوله : « واللوازم الّتي هي معقولاته ـ تعالى ـ وإن كانت أعراضا موجودة فيه فليس ممّا يتصف بها أو ينفعل عنها ، فانّ كونه واجب الوجود بذاته هو بعينه كونه مبدأ للوازمه ـ أي : معقولاته ـ ، بل ما يصدر عنه انّما يصدر عنه بعد

__________________

(١) راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ، ج ٣ ص ٣٠٤.

١٣٣

وجوده وجودا تامّا وانّما يمتنع ان يكون ذاته محلاّ للأعراض ينفعل عنها أو يستكمل بها. أو يتصف بها بل كماله في انّه بحيث يصدر عنه هذه اللوازم لا في انّه يوجد له ، فاذا وصف بانّه يعقل هذه الأمور فانّه يوصف به لأنّه يصدر عنه هذه ، لا لأنّه محلّه ».

وأنت تعلم انّ حاصل هذا الجواب انّ هذه الصور العلمية موجودة بعد الذات / ١٤١ MA / وليست كمالات حقيقية له ، بل كماله ـ تعالى ـ كون ذاته بحيث يصدر عنه هذه الصور ويصير منشأ لارتسامها في ذاته ، فلا تكون زيادتها قادحة في كماله ولا يوجب فقدانا لما هو الكمال في مرتبة ذاته. وذلك كما انّ ايجاد الموجودات العينية مع كونه بعد مرتبة الذات لا يوجب فقدانه لما هو كمال في مرتبة ذاته ، ولا اتصافه بصفات زائدة. فكما انّ ايجاده للأشياء العينية بعد مرتبة ذاته لا يوجب له نقصا وكونه فاقدا للكمال فكذا منشئيته لارتسام تلك الصور في ذاته لا يوجب ذلك.

وغير خفي انّ هذا الجواب لا يدفع الشبهة ، لأنّ تلك الصور العلمية إذا لم تكن متحقّقة في مرتبة الذات ولم تكن كمالات حقيقية له معه لزم أن لا يكون الواجب ـ سبحانه ـ عالما في مرتبة ذاته ، لانّ الفرض انّ العلم بالاشياء وانكشاف الأشياء له ـ تعالى ـ موقوف على قيام تلك الصور بذاته ـ تعالى ـ ، وإن كانت متحقّقة في مرتبة ذاته وكانت كمالات له ـ تعالى ـ لزم كونه ـ تعالى ـ موصوفا بصفات حقيقية كمالية في مرتبة ذاته. والقياس على الايجاد باطل ، لأنّ تحقّق الايجاد في مرتبة ذاته نقص في حقّه ، بل يجب تأخّره عن ذاته وكماله ـ سبحانه ـ انّما هو ذلك للزوم اقدمية العلّة على المعلول ، وعدم قبول الممكن من حيث هو ممكن الوجود في مرتبة الواجب.

وأمّا العلم فيجب تحقّقه في مرتبة ذاته ـ سبحانه ـ ، وإلاّ لزم جهله في مرتبة ذاته ، وهو كفر وزندقة. على انّه لو سلّم انّ تلك الصور ليست كمالات له فيكون الأوّل ـ تعالى ـ واجبا بذاته من دون مدخلية تلك الصور في وجوب وجوده وفي سائر كمالاته الّتي من جملتها العلم بكلّ شيء قبل الايجاد ، فلا دخل لها لانكشاف الأشياء قبلها ، فلا فائدة حينئذ في تجويز تلك الصورة وارتسامها في ذاته ـ تعالى ـ.

فان قلت : تلك الصور وإن لم تكن كمالات له ـ تعالى ، كما اشار إليه بهمنيار بقوله :

١٣٤

« بل كماله تعالى كون ذاته بحيث يصدر عنه هذه اللوازم » ـ ، لكن صدور الأشياء لا يتصوّر بدون تصوّر تلك الصور ، كما انّ بعض الأشياء واسطة لصدور بعض آخر من الواجب ـ تعالى ـ ، كصدور الأعراض فانّها لا تصدر عن الله ـ تعالى ـ إلاّ بعد صدور موضوعاتها عنه.

قلت : صدور نظام الكلّ على أتمّ انحاء الوجود واشرفها لا يمكن الاّ بعد فعلية ذاته بجميع صفاته الذاتية الّتي منها صفة العلم بكلّ الأشياء قبل ايجادها ، فتلك الصور الّتي هي صفة علمه ـ تعالى ـ لو لم تكن كمالا له ـ تعالى ـ وكانت زائدة على ذاته لكانت من جملة النظام ، فلا يمكن صدورها عنه على أتمّ الوجه إلاّ بتوسّط صفة العلم الّذي هو بعينه تلك الصور ، فتلك الصور لا يمكن أن تكون اشياء ذهنية زائدة على ذاته تكون وسائط لايجاد الأشياء العينية ، فالواجب الحقّ يعلم ذاته وجميع الأشياء بالعلم الّذي هو نفس ذاته. فظهر انّ الوجه الثاني وارد على العلم الحصولي.

وأمّا الوجه الثالث ـ أعني : لزوم مفسدة الكثرة في ذاته تعالى ـ : فقد أجاب عنه الشيخ ـ كما مرّ الاشارة إليه ـ في الشفا والتعليقات : بأنّ هذه الكثرة إنّما هى بعد الذات على الترتيب السببي والمسببي ، فلا تنثلم به / ١٣٨ DA / وحدته الحقّة. وذلك كما أنّ صدور الموجودات المتكثّرة عنه لا يقدح في بساطته المحضة ووحدته الصرفة لكونها صادرة عنه ـ تعالى ـ على الترتيب العلّي والمعلولي ، فكذلك معقولاته المنفصلة الكثيرة إنّما تترتّب عنه على وجه لا يقدح في وحدته الحقّة. فكما انّ صدور الموجودات عنه دفعة ينافى الوحدة وعلى الترتيب السببى والمسببى لا ينافيها فكذا محليّته للصور المعقولة دفعة ينافي الوحدة وعلى الترتيب السببي والمسببي لا ينافيها ، فتلك الكثرة ترتقى إليه وتجتمع في واحد محض ، فانّها مع كثرتها اجتمعت واشتملت عليها احدية الذات ، إذ الترتيب يجتمع الكثرة في واحد ـ كما اشار إليه المعلم الثاني بقوله : « واجب الوجود مبدأ الكلّ فياض الوجود وهو ظاهر على ذاته بذاته ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه ، فهو ينال الكلّ من ذاته. فعلمه بالكلّ بعد ذاته وبعلمه بذاته ، ويتحد الكلّ بالنسبة إليه ، فهو الكلّ في وحدته » ـ.

١٣٥

وغير خفي انّ هذا الجواب لا يدفع المفسدة ، لانّ بعد التزام كونه ـ تعالى ـ محلاّ للكثرة يلزم إمّا التركيب في ذاته ـ تعالى ـ إن كانت تلك الكثرة داخلة في قوام ذاته ، أو عدم كونه عالما في مرتبة ذاته إن لم تكن داخلة في قوام ذاته ، بل كانت بعد مرتبة ذاته. وأيّ فائدة في القول بأن محلّيته ـ تعالى ـ لتلك الكثرة على الترتيب السببي والمسببي؟! ، فانّ كونها على هذا النحو بعد قيامها بالذات الواجبي إنّما يوجب تحقّقها على التقديم والتأخير ، ولا يفيد ذلك شيئا إلاّ تحقّق علمه بالاشياء على الترتيب ، وهو يوجب جهله ـ تعالى ـ في بعض المراتب. وبالجملة لو تحقّقت تلك الصور العلمية دفعة لم يلزم جهله ـ سبحانه ـ الاّ في مرتبة ذاته ، وأمّا إذا تحقّقت على الترتيب السببي والمسببي لزم جهله في بعض المراتب الآخر ، مثلا لا يكون عالما بالعقل الثاني في مرتبة وجود العقل الأوّل وبالثالث في مرتبة وجود الثاني / ١٤١ MB / وبالأفلاك في مرتبة العقول ... وهكذا.

ثمّ إنّ تلك الصور إن كانت داخلة في قوام ذاته ـ سبحانه ـ لزم التكثّر في ذاته ـ سبحانه ـ سواء تحقّقت دفعة أو على الترتيب ؛ وإن لم تكن داخلة في قوام ذاته لم يلزم التركيب في ذاته على التقديرين ، بل يلزم عدم كونه عالما في مرتبة وذاته في كلّ من الصورتين ـ أي : صورة دخول الصور في قوام الذات وصورة عدم دخولها فيه ـ فيكون الفساد على التقدير الثاني أشدّ ، لأنّه على هذا التقدير إن كانت داخلة في قوام ذاته يلزم مع التركيب عدم كونه عالما في مرتبة الذات ، بل يلزم عدم تحقّق الذات في المرتبة اللائقة بالذات ؛ وإن لم تكن داخلة في قوام ذاته كان فساد لزوم جهله ـ سبحانه ـ أشدّ.

فظهر انّ الجواب المذكور للوجه الثالث غير تامّ ، وهو ـ أي : الوجه الثالث ـ كسابقه وارد على العلم الحصولي.

وأمّا الكلام المنقول من المعلم الثاني فليس ظاهرا في العلم الحصولي ، بل له محمل آخر بما يقرع سمعك بعد ذلك.

وامّا الوجه الرابع ـ أعنى : لزوم كون المعلول الأوّل غير مباين لذاته ـ ، فقد أجيب عنه ـ كما مرّت الاشارة إليه ـ بأنّ لزوم المباينة بين العلّة والمعلول إنّما هو إذا كان المعلول أمرا خارجيا لا أمرا ذهنيا ، فانّ القول بأنّ كلّ معلول ولو كان من الموجودات العلمية يجب

١٣٦

مباينته للعلّة ممنوع ، بل هو عين النزاع ؛ مع أنّ تلك الصور مباينة لذات الواجب ليست عينها. نعم! ليست موجودة خارجة عن ذاته ، فلو أريد بعدم مباينتها لذات الواجب قيامها بذاته ـ تعالى ـ وعدم وجودها في الاعيان ففيه : انّ عدم المباينة بهذا المعنى لا بأس به والقائلون بالعلم الحصولي يلتزمونه ؛ ولو أريد به كونها عين ذات الواجب ـ تعالى ـ واتحادها معه ـ تعالى ـ فهو ممنوع. والحقّ انّ هذا الجواب صحيح ، فالوجه الرابع لا تنتهض حجة على القائلين بالعلم الارتسامى.

وامّا الوجه الخامس فربما يجاب عنه : بأنّ توسّط تلك الصور وانكشاف الأشياء له ـ تعالى ـ وصدورها عنه ـ سبحانه ـ لا مانع له ، لكونها صادرة عنه ـ سبحانه ـ وتوسيط بعض معلولاته في صدور بعض آخر جائز ، كما في كون بعض الأشياء وسائط وشروطا لبعض آخر.

وأنت خبير بضعف هذا الجواب ، لانّا لو سلّمنا انّ كون بعض الممكنات لبعض الممكنات وسائط وشروطا لصدور بعض آخر جائز ، فلا نسلّم انّ كون بعضها وسائط وشروطا لعلمه ببعض آخر أيضا جائز ، فانّ هذا موجب لنقصه ـ سبحانه ـ / ١٣٨ DB / واحتياجه وعدم منشئيته بحسب ذاته المقدّسة وصرف وجوده التامّ للعلم ، وسبب لكونه ـ تعالى ـ جاهلا في مرتبة ذاته ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. وبالجملة عدم قبول بعض الممكنات الافاضة منه ـ سبحانه ـ بلا واسطة وعدم استعداده لذلك جائز لعدم لزوم نقص في حقّه ـ سبحانه ـ بعد قدرته على ايجاده بالنظر إلى ذاته بلا واسطة. وأمّا عدم قبوله لانكشافه عنده ـ تعالى ـ بدون الواسطة فهو نقص في حقّه وموجب لعدم كونه عالما في حدّ ذاته.

ومنها ـ أى : ومن الوجوه الدالّة على بطلان العلم الحصولي ـ : انّه لو كان علمه ـ تعالى ـ بالاشياء حصوليا لكان مناط علمه بالاشياء هو تلك الصور. فنقول : ايجاد تلك الصور إمّا أن يكون مسبوقة بصور أخرى ، أم لا : فعلى الأوّل ننقل الكلام إلى تلك الصور السابقة ... وهكذا ، فيلزم التسلسل ؛ وعلى الثاني يلزم إمّا صدور تلك الصور عنه ـ تعالى ـ بلا شعور كصدور افعال الطبائع عنها ـ وهو محال في حقّه أو كونه ـ تعالى ـ عالما بها في

١٣٧

مرتبة ذاته المتقدّمة على وجودها بالعلم الحضوري ، وهو يوجب جواز عالميته ـ تعالى ـ بالشيء بالعلم الحضوري قبل وجوده ، فليجوّز ذلك في جميع الأشياء ، إذ لا مخصّص لجواز ذلك في الصور العلمية دون سائر الأشياء.

وبتقرير آخر نقول : تلك الصور المرتسمة في ذاته ـ تعالى ـ إمّا أن تصير موجودة منه ـ تعالى ـ دفعة من غير ترتيب بينها ، أو تصير موجودة على الترتيب كترتيب الأشياء ذوات الصور في الوجود العيني ، فعلى الأوّل يلزم صدور الكثرة عن الواحد الحقّ من جهة واحدة ، بل يلزم جهله سبحانه في مرتبة ذاته ، لأنّ تلك الصور لصدورها عنه ـ تعالى ـ لا يكون موجودة في مرتبة ذاته لوجوب تأخّر المعلول عن العلّة ، فلا يكون عالما بالأشياء وبتلك الصور في مرتبة ذاته ـ لكون تلك الصور هي مناط العلم بناء على العلم الصورى ـ ؛ وعلى الثاني يلزم عدم علمه بتلك الصور قبل ايجادها ، لكونها من الأشياء الصادرة عنه ـ تعالى ـ وتوقّف علمه بما يصدر عنه على ارتسام صورته وعدم امكان ارتسام صور الصور في ذاته ، وإلاّ لزم التسلسل. فتعيّن عدم كونه عالما بتلك الصور قبل ايجادها ، بل بالاشياء وذوات الصور أيضا قبل ايجاد صورها ؛ وبطلان ذلك ظاهر.

وأجيب عنه : بأنّ هذه الصور المعقولة نفس وجودها عنه ـ تعالى ـ نفس تعقّله لها لا تمايز بين الحالين ولا ترتيب لأحدهما على الآخر ، فهي من حيث موجوديتها معقولة ومن حيث معقوليتها موجودة.

والحاصل : انّ ايجاده ـ تعالى ـ تلك الصور عين علمه بها ، فلا حاجة إلى اثبات علم آخر ، لأنّ كلّ ايجاد لا يكون نفس العلم فيحتاج في وقوعه عن الفاعل المختار إلى علم سابق وتصوّر يكون مبدأ لذلك الايجاد. وأمّا إذا كان نفس الايجاد نفس العلم فلا يتوقّف على علم آخر به يتحقّق الايجاد الّذي هو نفس العلم.

وأنت خبير بأنّ هذا الجواب غير صحيح ؛

أمّا أوّلا : فلأنّ موجودية هذه الصورة هو قيامها بالذات وتحقّقها فيها ، والمعقولية هو انكشافها عندها ؛ ولا ريب في انّ قيام الشيء وتحقّقه في الخارج أو في ذات أو في ذهن مغاير لنفس الانكشاف / ١٤٢ MA / وان استلزم قيامه بالمجرّد

١٣٨

لانكشافه عنده ، وقد تقدّم انّ حضور الشيء عند شيء آخر بمعنى عدم البعد عنه ليس نفس انكشافه له وان استلزمه ؛ وأمّا ثانيا : فلأنّا لو سلّمنا انّ المعقولية نفس الموجودية مع تحقّقهما نقول : لا ريب في انّ موجودية تلك الصور بعد مرتبة الذات وإلاّ لم يكن معنى لمعلوليتها ، فيلزم أن يكون معقوليتها أيضا بعد مرتبة الذات ، فيلزم جهله ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته ؛ وهو محال.

ومنها : انّه لو كان علم الواجب ـ تعالى ـ حصوليا لزم أن يكون ـ تعالى ـ عالما بشيء واحد حصوليا وحضوريا ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم. أمّا بيان اللزوم : فلانّه بناء على العلم الحصولي لمّا كان مناط علمه ـ تعالى ـ بالأشياء هو الصورة الحالّة في ذاته ـ تعالى ـ فقبل وجود الأشياء يكون عالما بها بصورها الحالّة فيه ـ تعالى ـ وبعد وجودها يكون حاضرة عنده ـ تعالى ـ لكونها معلولة له صادرة عنه ، والصدور والمعلولية يستلزم الحضور عند العلّة والحضور منشأ للعلم الحضوري الانكشافى ، فيكون عالما بها بالعلم الحضوري مع بقاء العلم الحصولي بحاله ، لانّه لا يجوز زوال الصورة عن ذاته ـ تعالى ـ بعد وجود ذي الصورة في الخارج ، وإلاّ لزم التغيّر في علمه ـ تعالى ـ. وأمّا بطلان اللازم : فلأنّ المعلوم بالذات في العلم الحصولي هو الصورة وذو الصورة معلوم بالعرض ، والمعلوم بالذات في العلم الحضوري هو ذو الصورة ، / ١٣٩ DA / وأيضا المعلوم في الحصولي هو الأمر الكلّي وفي الحضوري هو الجزئي بعينه ، فلا يمكن اجتماع الحصولي والحضوري على معلوم واحد بالنسبة إلى عالم واحد.

ويمكن أن يجاب : بمنع بطلان اللازم. وما ذكر في بيانه فجوابه : انّه لا مانع من كون ذي الصورة معلوما بالعرض نظرا إلى العلم الحصولي ومعلوما بالذات نظرا إلى العلم الحضوري. وقس عليه المعلومية على سبيل الكلّية وعلى سبيل الجزئية ، ولا دليل على امتناع ذلك ـ كما لا يخفى على المتأمّل ـ.

ومنها : ما أورده شيخ الاشراق في المطارحات ، وهو : انّه يلزم على القول بارتسام الصور في ذاته ـ تعالى ـ على الترتيب السببي والمسببي أن يكون الواجب ـ تعالى ـ منفعلا عن الصورة الأولى مستكملا بها ، وهي علّة اتصافه بصورة ثانية وسبب

١٣٩

استكماله بحصولها. ثمّ قال : « لا يقال : تلك الصور وإن كانت مرتسمة في ذاته ـ تعالى ـ لكنّها ليست كمالا له ـ تعالى ـ ؛ لأنّا نقول : هي من حيث كونها في ذاتها لما كانت ممكنة الوجود لا يكون حصولها بالفعل ، بل بالقوة ، ولا ريب في أنّ كون ذاته بالقوّة نقص لذاته وانتفاء القوة انّما يكون لوجود تلك الصور ، فيكون وجودها كمالا له أو مزيل النقص مكمّل ، فالصور السابقة تكون مكمّلة وذاته مستكملة والمكمّل أشرف من المستكمل ؛ مع انّ ذاته ـ تعالى ـ أشرف من كلّ شيء. وأجيب عنه بالنقض والحلّ ؛ أمّا النقض : فهو أن ينتقض بصدور الموجودات الخارجية عنه ـ تعالى ـ ، لاجراء الدليل المذكور فيه ؛ إذ المعلول الأوّل الصادر عنه ـ تعالى ـ علّة استكماله بصدور المعلول الثانى عنه ـ تعالى ـ وهكذا ؛ وأمّا الحلّ : فهو انّ فعلية تلك الصور والأشياء الخارجية إنّما هو من جهة المبدأ ووجوبها يترتّب على وجوبه ، وليس هناك فقد ولا قوّة أصلا ، وليس لتلك الصورة والاشياء امكان من الجهة المنسوبة إلى مبدئها الأعلى ، والانفعال أنّما يلزم لو انتقل ذاته من معقول إلى معقول ـ كما في العلوم النفسانية ـ ، أو يفيض معقولاته على ذاته من غيره ـ كما في علوم المبادي ـ ؛ وأمّا إذا كانت المعقولات لازمة لذاته ـ كما في لوازم المهيات البسيطة ـ فلا يلزم من الانفعال شيء » ؛ انتهى. وأنت خبير بأنّ هذا الجواب غير صحيح ، لانّ العلم عدمه نقص في حقّه ـ تعالى ـ مطلقا ، فلا يجوز تخلّف الصور العلمية عن مرتبة الذات ، ولو لم يكن ذلك التخلّف بالنظر إلى الذات ولم يكن لها فقد ولا قوّة بالنظر إلى الجهة المنسوبة إليه ، بل كان ذلك لتوقّف بعض تلك الصور على بعض آخر. فانّ العلم الفعلي بجميع الأشياء كمال مطلق له ـ تعالى ـ ، ويجب أن يكون مجرّد الذات من حيث هي منشأ له في مرتبة الذات ، فلو فرض عدم نقض العلوم في مرتبة الذات ـ لتوقّفه على نقض آخر ـ يلزم النقض وحصول الكمال له بواسطة شيء آخر ، فيلزم استكماله لصدور بعض معلولاته. وأمّا الايجاد الفعلي لجميع الأشياء فليس كمالا مطلقا له ـ تعالى ـ ؛ بل الكمال في الايجاد أن يوجد كلّ شيء في وقت يناسبه على الترتيب السببي والمسببي. فتوقّف ايجاده لبعض الأشياء على ايجاد بعض آخر لا يوجب نقصا في حقّه ـ تعالى ـ حتّى إذا ثبت ذلك لزم استكماله بصدور بعض معلولاته ؛ فتأمّل.

١٤٠