جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

كان العلم بالمعلول حاصلا ، والمقدّمتان ظاهرتان بناء على القول بأنّ التعقّل يستدعي حصول ماهية مساوية للمعقول في العاقل » (١) صحيح لا خدشة فيه ويندفع عنه ما أورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ تصوّر العلّة انّما يوجب تصوّر المعول إذا كانت العلّة بوجودها الذهني علّة لوجود المعلول في الذهن ، وحينئذ يكون المعلول لازما بيّنا للعلّة.

فقوله : « متى تعقّلنا العلّة بكنهها فقد حصل في الذهن ماهية موجبة لماهية المعلول » قلنا : قد حصل في الذهن مهيته إذا تحقّقت في الخارج تحقّق المعلول في الخارج ، فعلى كون ماهية العلة موجبة لماهية المعلول إن العلّة بوجودها الخارجي تستلزم وجود المعلول في الخارج لا انّها بوجودها الذهني تستلزم وجود المعلول في الذهن ، وهذا هو المطلوب ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع انّ تعقّل العلّة بالكنه لا ينفكّ عن تعقّل اللوازم الّتي من جملتها المعلول ، فيلزم من تعقّلها بالكنه تعقّله لدخول تعقّل المعلول في تعقل العلّة بالكنه. فما ذكره ايرادا عليه خبط وهفوة صدرت عن غير التأمّل.

وإذا ثبت انّ العلم بالعلّة بكنهها أو بالوجه الّذي ينشأ منه المعلول يوجب العلم / ١٣٤ MA / التامّ بالمعلول فنقول : ثبت منه ما نحن بصدد اثباته في هذا المقام ، وثبوت العكس وعدم ثبوته لا مدخلية له في المطلوب. إذ نقول : مع ثبوت تلك المقدّمة لا ريب في أنّه ـ تعالى ـ علّة لجميع الموجودات وعالم بذاته المقدّسة بكنهها وبالوجه الّذي ينشأ منها المعلولات ، فيلزم كونه ـ تعالى ـ عالما بجميع الموجودات لأنّ ذاته علّة موجدة لجميع ما عداه وجميع الموجودات حسّيا كان أو عقليا معلول له ـ إمّا بدون واسطة أو بواسطة هي منه ـ ، والعلم التامّ بالعلّة يستلزم العلم التامّ بمعلولها ، فيلزم كونه ـ تعالى ـ عالما بالموجودات بحقائقها ولوازمها وملزوماتها ؛ وبذلك ثبت المطلوب.

ومنها : ـ أي : من الادلّة الدالّة على علمه تعالى ـ : انّه ـ تعالى ـ لمّا كان مبدأ لجميع الموجودات الّتي منها العلماء بذواتهم كان عالما بذاته بالضرورة ، لكون الفاعل

__________________

(١) ما وجدت العبارة في المحصّل.

١٠١

أشرف وأكمل من أثره ومن كونه ـ تعالى ـ عالما بذاته ومبدأ لجميع الموجودات علم كونه ـ تعالى ـ عالما بجميع الموجودات ـ معقولة كانت أو محسوسة ، كلّية كانت أو جزئية ـ.

وقد يناقش فيه بأنّ كون الفاعل أشرف لا يقتضي إلاّ كونه عالما بما علم معلوله ، وحينئذ فعلم العلماء بذواتهم لا يدلّ إلاّ على علم الواجب ـ تعالى ـ أيضا بذواتهم ، لا بذاته ـ تعالى ـ على ما هو المدّعى.

وفيه : انّه إذا ثبت علمه بالغير ـ أعني : بما يعلمه العلماء ـ يثبت علمه ـ تعالى ـ بذاته ، لما مرّ من أنّ من علم الغير يعلم ذاته بالضرورة.

ويمكن أن يستدلّ بحيث لا يرد هذه المناقشة أصلا ، بأن يقال : انّه ـ تعالى ـ مبدأ لجميع الموجودات الّتي منها العلماء ، فيكون هو ـ تعالى ـ أيضا عالما بذاته بالضرورة ـ لكون العالم أشرف ـ.

فان قيل : لا يعلم العلماء ذاته ـ تعالى ـ ولا ذواتهم إلاّ بوجه لا بكنهه فلا يثبت منه الاّ علمه ـ تعالى ـ بذاته بالوجه لا بالكنه ، مع انّه المطلوب ؛

قلت : المطلوب من هذا الدليل / ١٣٠ DB / اثبات علمه ـ تعالى ـ بذاته وبغيره في الجملة ـ سواء كان بالكنه أو بالوجه ـ ، وانّما يثبت علمه ـ تعالى ـ بكنه ذاته وبحقائق الاشياء بأدلّة أخر.

فان قيل : إذا لم يثبت منه علمه ـ تعالى ـ بجميع الموجودات ، إذ استلزام العلم بالعلّة للعلم بالمعلول إنّما هو إذا علم العلّة بكنهها ؛

قلنا : إذا علم العلّة بالوجه الّذي يصدر عنه المعلول يعلم المعلول أيضا ـ كما اشرنا إليه ـ ، ولا ريب في انّ الفاعل للشيء مع كونه ذا شعور بذاته عالم بالوجه الّذي ينشأ منه المعلول.

ولنا أن نثبت هذا المطلوب بالطريقة الاولى ـ أعني : ضرورة كون الفاعل العالم بذاته عالما بافعاله ـ من دون التمسك بالطريقة الثانية ـ أعنى : استلزام العلم التامّ بالعلّة للعلم بالمعلول ـ. وحينئذ نقول : إذا كان الواجب عالما بذاته ولو بوجه ما يكون عالما

١٠٢

بافعاله ـ إذ كون الفاعل الشاعر بذاته بأيّ نحو كان عالما بافعاله بديهي ـ.

ويمكن أن يثبت بهذا الدليل أوّلا العلم مطلقا ـ أي في الجملة ـ ثمّ يثبت العلم بذاته ، ثمّ يثبت لجميع الموجودات بأن يقال : لمّا كان ـ سبحانه ـ مبدأ لجميع الموجودات الّتي منها العلماء كان عالما في الجملة بالضرورة ـ لكون الفاعل أشرف ـ ، ثمّ يثبت العلم بذاته ـ على ما تقدّم من انّ من علم الغير يعلم ذاته بالضرورة ـ ، ثمّ يثبت بجميع الموجودات بناء على أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول.

ومنها : انّه ـ تعالى ـ لمّا كان مبدأ لجميع الموجودات الّتي منها الصور العلمية كان مبدأ لفيضان العلوم على العلماء وكان فياض العلوم وملهمها ، فكان عالما بذاته بالضرورة ؛ وإذا كان عالما بذاته كان عالما بجميع الموجودات ـ لانّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ـ.

ويمكن ان يثبت بهذا الدليل أيضا ـ على نظير سابقه ـ العلم في الجملة ، ثمّ يثبت العلم بذاته ، ثمّ يثبت بجميع الموجودات بان يقال : انّه ـ تعالى ـ لمّا كان فيّاض جميع العلوم فيكون عالما في الجملة بالضرورة ، واذا كان عالما في الجملة بالضرورة كان عالما بذاته بالضرورة ـ لما تقدّم ـ ؛ وإذا كان عالما بذاته فيكون عالما بجميع الموجودات ؛ هذا.

واعلم! ، انّ بعض المشاهير قال : يمكن أن يحمل دليل الاستناد في كلام المحقّق الطوسي على أحد هذين الدليلين ـ أي : الأخيرين اللذين ذكرناهما لانّ استناد كلّ شيء إليه يوجب استناد العلماء بذواتهم واستناد الصور العلمية إليه تعالى ـ ، ومن استنادهما إليه يثبت عموم علمه ـ تعالى ـ بالنسبة إلى ذاته والى جميع الموجودات ـ كما ذكرناه ـ ، فيصحّ قوله : « والأخير عامّ ».

ثمّ اعلم ؛ انّه يمكن ان يثبت بكلّ واحد من هذين الدليلين القدرة والإرادة والحياة وسائر الصفات الكمالية ، ولذا قيل : انّ قول سيّدنا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » اشارة إلى ذلك ، أي : إلى أنّه من عرف نفسه بانّه عالم قادر مريد مجرّد إلى غير ذلك من الصفات الكمالية يعرف انّ بارئها ومفيضها يجب أن يكون له تلك الصفات الكمالية على ما هو أعلى وأشرف ، فيمكنه أن يعرف

١٠٣

/ ١٣٤ MB / ربّه من طريق معرفة نفسه بجامعية الكمالات الحقيقية. وكيف يمكن أن يكون المخلوق متصفا بصفات كمالية يكون خالقه فاقدا عنها؟! ، وأيّ شيء أشدّ قبحا واكثر شناعة من أن يدّعى الانسان احاطته العلمية بحقائق الأشياء ويسلب العلم عن خالقه ومدبّره ويجعله انزل الحيوانات العجم الّتي يعلم كثيرا من الأشياء؟! ، ـ تعالى ربّنا عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا! ـ.

ومنها : انّه ـ سبحانه ـ قادر ـ أي : فاعل بالقصد والاختيار ـ ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بالعلم بالمقصود.

وأورد عليه : بانّه إن أريد بالقصد والاختيار ما هو المعنى المتعارف المستلزم للعلم فلا بدّ من اثباته ، إذ لم يثبت اتصافه ـ تعالى ـ بالقصد بالمعنى المتعارف ؛ وإن أريد بهما معنى القادرية المستلزمة لحدوث العالم ـ أي : امكان انفكاك العالم عنه تعالى ـ فلا بدّ من بيان الكبرى ـ أعنى : قوله : « ولا يتصوّر ذلك بدون العلم بالمقصود » ـ.

وأجيب عنه : باختيار الشقّ الثاني ثمّ بيّن الكبرى ـ أعني : كون حدوث العلم مستلزما لعلمه تعالى ـ بانّه لا يتصوّر حدوث العالم بدون علمه ـ تعالى ـ ؛

أمّا على طريقة المعتزلة فلأنّ العالم بدون العلم والإرادة لو كان حادثا يلزم الترجيح بلا مرجّح ، إذ المرجّح للحدوث عندهم هو الداعي ـ أي : العلم بالنفع ـ. وإذ لا شعور ولا علم فلا مرجّح ؛

وأمّا على طريقة الأشاعرة فلأنّ المصحّح للحدوث عندهم هو تعلّق الإرادة في آن الحدوث ، وإذ لا شعور فلا إرادة ؛ فلا يصحّ على الطريقين حدوث العالم بدون العلم

وأورد على هذا الجواب : بانّ العمدة في اثبات / ١٣١ DA / الحدوث هو اجماع المليين وحجّيته موقوفة على اثبات النبوّة المتوقّفة على علمه ـ تعالى ـ ، فلو أثبت علمه ـ تعالى ـ بالحدوث لزم الدور. وسيأتي حقيقة الحال في ذلك.

ثمّ لا يخفى انّه يمكن اثبات علمه ـ تعالى ـ بقدرته بالمعنى المشهور ـ أي : كونه تعالى بحيث يمكن أن يصدر عنه الفعل والترك بالنظر إلى ذاته ـ ، فانّه بعد ما ثبت انّه ـ تعالى ـ يتمكّن من الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته فلا بدّ من كونه عالما ، لأنّه مع امكان

١٠٤

الطرفين بالنظر إلى ذاته. فاذا اختار أحد الطرفين لا بدّ له من مرجّح وصدور الفعل لا ينفكّ عن العلم.

وغير خفي انّ اثبات العلم بالقدرة بهذا المعنى لا يستلزم دور ، لعدم توقّف اثبات القدرة بهذا المعنى على ثبوت الشرع.

ومنها : الأدلّة السمعية من الكتاب والسنة والاجماع ، فانّ دلالتها على ثبوت العلم للواجب قطعية بحيث لا يمكن انكارها.

وأورد عليه : بأنّ التصديق بارسال الرسل وانزال الكتب يتوقّف على التصديق بعلمه ـ تعالى ـ وقدرته ، فلو توقّف ثبوت العلم عليه لزم الدور ؛

وأجيب عنه : بمنع التوقّف ، فانّه اذا ثبت صدق الرسل بالمعجزات حصل العلم بكلّ ما أخبروا به وإن لم يخطر بالبال كون المرسل عالما.

وردّ هذا الجواب : بأنّ المجيب إن اراد بالخطور الّذي نفاه الخطور التفصيلى بأن يكون المراد انّه اذا ثبت صدق الرسل بالمعجزات حصل العلم بصحة ما اخبروا به وان لم يكن كون المرسل عالما ملتفتا إليه لنا ملحوظا بالتفصيل ، فنسلّم جواز ذلك ؛ لكن هذا لا ينفي التوقّف على وجوب أصل علمنا بكون المرسل عالما وان لم يكن ملتفتا إليه في هذا الوقت ، فاللازم على هذا ليس إلاّ جواز كون الالتفات إلى علم المرسل مستفادا من الشرع لا جواز كون أصل العلم مستفادا منه ؛ مع انّ الكلام في أصل العلم.

وإن أراد بالخطور حصول أصل العلم حتّى يكون غرضه انّه يجوز أن لا يكون أصل العلم معلوما لنا إلاّ بالشرع فهو مكابرة ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه لا بدّ في ثبوت النبوّة من العلم بكون المرسل عالما وكونه ملتفتا إليه أيضا ، إذ لو لم يلتفت إليه فلا يحصل العلم بصدقه ولا يجدي علمنا به لو لم يلاحظه في هذا الوقت. فما ذكره المورد في الترديد ـ من جواز كون الالتفات إلى علم المرسل مستفادا من الشرع وعدم توقّف العلم بصحّة ما أخبر به الشرع على الالتفات وان توقّف على أصل العلم ـ لا يخفى قبحه.

نعم! ، يمكن أن يقال : إنّ حصول العلم لنا بذلك في وقت واستقراره في ذهننا و

١٠٥

العلم الاجمالي به في هذا الوقت كافّ في ذلك ، ولا يلزم الالتفات إليه في هذا الوقت على التفصيل ، إذ كثيرا ما يستدلّ على المطالب بمقدّمات استقرّت في ذهننا وإن لم نكن ملتفتا إليها في هذا الوقت. لكن لا يخفى انّ هذا انما هو في المقدمات البعيدة وامّا فى المقدمات القريبة فلا يتحقّق الاستدلال بدون الالتفات إليها. والظاهر انّ علمه / ١٣٥ MA / ـ تعالى ـ من المقدمات القريبة لاثبات النبوّة فلا بدّ من الالتفات إليه.

ويمكن أن يراد بالالتفات المنفي الالتفات على التفصيل والتوضيح ، دون الالتفات في الجملة.

ثمّ قيل : انّ ما ذكره المجيب شرطية لا يقبل المنع سواء على الخطور التفصيلى أو على اصل العلم ، فان بعد اثبات صدق الرسل يحصل العلم بجميع ما أخبروا به وإن لم يعلم شيئا آخر أصلا ، فالاولى أن يعترض على المجيب بأنّ الشرطية الّتي ذكرتها مسلّمة لكن الكلام في ثبوت مقدّمها ، يعنى انّ ثبوت صدق الرسل بالمعجزات كانّه لا يمكن بدون العلم بكون المرسل عالما ، إذ بناء اثبات ذلك على انّه ـ تعالى ـ عالم بها ويقبح عقلا من العالم القادر اظهار المعجزة على يد الكاذب فيكون صادقا ، فما لم يثبت علمه ـ تعالى ـ وكذا قدرته لا يثبت صدق الرسل. ودعوى انّه يجوز أن يحصل العلم بصدقهم بمحض ملاحظة المعجزة ـ كما نقل عن غياث الحكماء ـ لا يخلو عن اشكال ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه إذا لم يثبت صدق الرسل بدون العلم بكون المرسل عالما فيمكن أن يمنع حصول العلم بما أخبروا به على هذا التقدير ، فالشرطية ، (١) فثبت المنع. والظاهر انّه لذلك قال القائل المذكور : « فالاولى » دون « فالصواب » ومثله.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ اثبات أصل العلم بالشرع غير صحيح. اللهم إلاّ أن يقال : انّ صدور الآثار الّتي هي خارجة عن طوق البشر من يد شخص انساني دليل على كمال قربه إلى المبدأ الّذي يجب اطاعته ، وهو فائق على جميع بني نوعه وكلّ من هو فائق على جميع بني نوعه بالفضائل والكمالات يجب طاعته عقلا في أقواله وأفعاله ، لأنّ مثله كاد أن يكون ربّا انسانيا ، فيجب الانقياد له والطاعة في أوامره ونواهيه وما جاء به. ومن

__________________

(١) هكذا العبارة في النسختين.

١٠٦

جملة ما جاء به : إنّ الله ـ تعالى ـ عالم ، فلا دور حينئذ ؛ فتأمّل. / ١٣١ DB /

ثمّ الظاهر انّ القوم انّما تمسّكوا بالأدلّة السمعية في اثبات عموم علمه ـ تعالى ـ وشموله لجميع الموجودات كلّية أو جزئيّة ، لا في اثبات أصله وحينئذ لا يرد ما أورد عليه ، لانّ اثبات النبوّة لا يتوقّف على اثبات عموم علمه ـ تعالى ـ بل على علمه بالمعجزة الخاصّة ، واثبات العلم بها لا يتوقّف على اثبات عموم العلم ، بل يجوز أن يحصل بمشاهدة المعجزة العلم بأنّ فاعلها ليس إلاّ الله ـ تعالى ـ. ويحصل أيضا بملاحظة إحكامها وإتقانها العلم بكون مبدأها عالما بها ، فيثبت بها النبوّة ، ثمّ يثبت بالنبوّة عموم العلم ؛ وحينئذ فلا دور.

فان قيل : اثبات النبوّة يتوقّف على اثبات العلم بأمور أخرى أيضا ـ مثل العلم بدعوى الشخص بصدقه أو كذبه ـ ، وانّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح واثبات العلم بهذه الأمور بدون التمسّك بعموم العلم مشكل ؛

قلنا : اثبات العلم بهذه الأمور أيضا لا يتوقّف على عموم العلم ، بل بتحقّق علمنا بكونه ـ تعالى ـ عالما بها إذا تعدّدت المعجزات أو تكرّرت واحدة ، لانّه إذا لم يكن الله ـ تعالى ـ عالما بهذه الأمور لم يوجد الله ـ تعالى ـ المعجزة على يد مدّعى النبوّة لداع ومصلحة ، بل يكون ايجاده ـ تعالى ـ ايّاها على يده باتفاق صدور هذه بالعجزة عنه ـ تعالى ـ في وقت دعواه لا بسبب حكمة داعية ومصلحة باعثة ، ومعلوم بالضرورة إنّ الاتفاق لا يجتمع مع تعدّد الصدور وتكثّره من شخص واحد في وقت ارادته دون غيره من الاشخاص الغير المتناهية من أهل عصره ودون غير وقت ارادته من الاوقات المتطاولة. فالتكرّر والتعدّد عند وقت إرادة مدّعى النبوّة دليل على علمه ـ سبحانه ـ على صدقه وحسن اظهار المعجزة على يده ، فثبت المطلوب ؛ هذا.

وقيل : يمكن أن يقال : انّ مراد من تمسّك في اثبات علمه ـ تعالى ـ بالأدلّة السمعية بالعلم انّما هو العلم المتقدّم على ايجاد الممكنات في الأعيان ـ لانّ بعضهم انكر ذلك ـ ، لا اثبات أصل العلم ، وحينئذ فلا دور. لانّ اثبات الشرع انّما يتوقّف على اثبات أصل العلم لا العلم المقدّم.

١٠٧

وأورد عليه : بأنّ اثبات الشرع يتوقّف على اثبات العلم المقدّم ، إذ لو لم يكن الله ـ سبحانه ـ عالما بصدور المعجزة على يد الكاذب قبل صدورها بل انما علمه بعد الصدور أو مع الصدور أيضا لما أمكن له ـ تعالى ـ منعه منه. وتوضيحه انّه ـ تعالى ـ إذا لم يعلم الأشياء قبل وقوعها فلا يكون علمه ـ تعالى ـ إلاّ كالرؤية فينا ، فكما انّه لا يمكن أن نرى فعلا قبل وقوعه وإنّما نراه إذا فعل فكذا علمه ـ تعالى ـ بعينه ؛ وإذا كان علمه ـ تعالى ـ بهذه المنزلة فكما انّه لا يمكن ان يصير رؤيتنا بفعل مانعا عن وقوعه فكذلك لا يمكن أن يصير علمه ـ تعالى ـ مانعا عن وقوع شيء. وحينئذ فاثبات الشرع يتوقّف على العلم المقدّم ولا يكفي العلم المتأخّر والمقارن لاثباته ؛ هذا.

واعترض على التوجيه المذكور أيضا : بأنّ اثبات الشرع يتوقّف / ١٣٥ MB / على التصديق بالقدرة ، لانّ القصد بارسال الرسل لا يمكن بدون القدرة والعلم مأخوذ في حقيقة القدرة ؛ فيلزم الدور.

ودفع هذا الاعتراض بأنّ المأخوذ في القدرة ليس إلاّ أصل العلم ، لا العلم المقدّم ؛ والموجّه التزم توقّف اثبات الشرع على أصل العلم ، وانّما قال لا يتوقف اثباته على العلم المقدّم ومراد القوم من التمسك بالشرع في اثبات علمه انّما هو العلم المقدّم ؛ فلا دور.

ويمكن أن يقال : انّ مراد المعترض انّ المأخوذ في القدرة هو العلم المقدّم ، لانّ قدرته يجب أن يصلح للمنع عن الفعل ولو لم يكن العلم المأخوذ فيها هو العلم المقدّم لم يصلح لذلك. فحاصل كلامه : انّ اثبات الشرع يتوقّف على التصديق وقدرته الّتي لا ينفكّ عن العلم المتقدّم ، فالدور لازم.

وعلى هذا فالفرق بين هذا الاعتراض والايراد السابق بتوسيط القدرة وبعدمه ، وفي الحقيقة مآلهما واحد ؛ لانه لا بدّ في الايراد السابق أن يقال لاثبات توقّف الشرع على العلم المقدّم انّه لو لم يكن عالما بصدور المعجزة على يد الكاذب قبل صدورها لما امكن منعه منها. وهذا هو معنى القدرة ، فالقدرة قد أخذت في الايراد السابق أيضا. وحينئذ لا يمكن أن يقال : لا حاجة إلى اقحام القدرة في البين لكفاية أن يقال : انّ اثبات الشرع يتوقّف على العلم المقدّم فيلزم الدور ، لانّ توسيط القدرة انّما هو لبيان التوقّف على العلم

١٠٨

المقدّم ، فيكون حاصل الاعتراض انّه ـ تعالى ـ يجب أن يقدّر على المنع وما ذلك إلاّ بالعلم المقدّم ؛ وهذا هو الايراد السابق بعينه من دون تفاوت أصلا.

وقد ظهر ممّا حررناه انّ اثبات عموم علمه ـ سبحانه ـ بالأدلّة السمعية صحيح ، وانّ اثبات علمه المتقدّم بها غير صحيح ؛ وكذا اثبات / ١٣٢ DA / أصل العلم بها. اللهم إلاّ أن يوجّه بما اشرنا إليه أخيرا من وجوب اطاعة صاحب المعجزات في كلّ ما جاء به عقلا.

تتميم

الظاهر انّ بعض الملاحدة من الفلاسفة ـ خذلهم الله ـ أنكروا أصل علمه ـ سبحانه ـ وقالوا : ليس المبدأ الأوّل عالما أصلا. وقد نقل صاحب المواقف : انّ بعض قدماء الفلاسفة ممّن لا يعبأ به ذهب إلى انّ الله ـ تعالى ـ لا يعلم شيئا ـ تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا ـ (١). وقال العلامة الطوسى في نقد المحصّل : « قدماء الفلاسفة قالوا : العلم حصول صورة المعلوم في العالم ومع ذلك فهو يقتضي اضافة ما للعالم إلى المعلوم. والعالم والمعلوم إن كانا متغايرين فلا بدّ من أن يتصوّر العالم بصورة المعلوم ولا يمكن أن يقبل المبدأ الأوّل شيئا من غيره ، وإن كانا واحدا فلا بدّ فيه من تغاير اعتباري حتّى يمكن أن يعقل الاضافة بينهما. ولا كثرة في المبدأ الأوّل بوجه من الوجوه ، فهو لا يوصف بالعلم بوجه ، بل هو مفيض العلم على الموجودات الّتي هى معلولاته كما يفيض الوجود عليها ؛ فهذا مذهبهم.

والباقون منهم ومن أهل الملل جميعا اتفقوا على انّه ـ تعالى ـ عالم » (٢) ؛ انتهى.

وهذا الكلام أيضا صريح في انّ قدماء الفلاسفة مذهبهم انّه ـ تعالى ـ لا يعلم شيئا ـ تعالى الله عما يقول الملحدون ـ. وحمله على انّ مذهبهم نفي العلم الزائد بعيد جدّا. ولا يستبعدنّ من ذهاب بعض من بعد من العقلاء الى نسبة الجهل إليه ـ سبحانه ـ ، فانّ خفاء الضرورة على بعض العقلاء جائز ، ولذلك ترى انّ لكثير من العقلاء مذاهب شنيعة فاسدة مخالفة للبديهة ؛ فهؤلاء أيضا منهم.

__________________

(١) راجع : شرح المواقف ، ج ٨ ص ٦٥.

(٢) راجع : نقد المحصّل ، ص ٢٧٩.

١٠٩

وقال بعض المشاهير : « ظنّي انّه لم ينف أحد من العقلاء علم الواجب بالذات ـ تعالى ـ ، بل البعض انّما نفوا العلم التفصيلي قبل ايجاد الأشياء في الاعيان ظنّا منهم انّ هذا هو العلم ـ كما يدلّ عليه الدليل الّذي استدلّوا به ـ. والبعض الّذي نفوا العلم بذاته ـ تعالى ـ انّما نفوا العلم الزائد على الذات ـ كما يشعر به دليلهم ـ » ؛ انتهى.

وتوضيح ما ذكره : انّ بعض من نفوا العلم انّما نفوا العلم التفصيلى قبل الايجاد ـ وان نفوا بحسب اللفظ العلم المطلق قبل الايجاد ـ لظنّهم إنّ العلم منحصر في العلم التفصيلي. ولمّا نفوه عن الواجب ـ تعالى ـ قبل ايجاد الأشياء في الاعيان ظنّوا انّه ـ تعالى ـ ليس عالما بالاشياء في ذلك الوقت أصلا فهؤلاء لم ينفوا العلم مطلقا ، لانّهم لم ينكروا العلم بذاته ـ تعالى ـ أصلا. وأيضا لم ينكروا العلم بالاشياء بعد ايجادها ، بل انما انكروا العلم بالاشياء قبل ايجادها ، وذلك أيضا بناء على زعمهم من انحصار العلم في التفصيلي وإلاّ فما ذكروه لا ينف العلم الاجمالي قبل ايجاد الاشياء.

وأيضا : غير خفي عليك انّ المخالفين لعلم الواجب ـ تعالى ـ على النهج الّذي هو الحقّ وثبت من العقل والنقل فرق كثيرة ـ على ما هو المذكور في الكتب الكلامية ـ ؛

الفرقة الاولى : من أنكر علمه ـ تعالى ـ رأسا ؛

الثانية : من قال : انّه ـ تعالى ـ لا يعلم الحوادث قبل وقوعها ؛

الثالثة : من قال : انّه ـ تعالى ـ لا يعلم غيره مع كونه عالما بذاته ؛

الرابعة : من قال : انّه ـ تعالى ـ لا يعلم الجزئيات المتغيّرة المتشكّلة / ١٣٦ MA / المتبدّلة ؛

الخامسة : من قال : انّه ـ تعالى ـ لا يعلم نفسه وان علم غيره.

وسنشير ـ إن شاء الله ـ إلى أدلّة المخالفين وشبههم مع جوابها.

فالقائل المذكور إن كان مراده انّ الفرقة الاولى لم ينكروا العلم رأسا ، بل إنّما نفوا العلم التفصيلي قبل ايجاد الأشياء فهو مخالف لظاهر تصريحاتهم ـ على ما هو المنقول منهم ـ ؛

وان كان مراده انّ الفرقة الثانية انّما نفوا العلم التفصيلى قبل ايجاد الأشياء فهو ممنوع ، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي وجود الفرقة الاولى بعد تصريح جماعة ـ منهم المحقّق الطوسى وصاحب المواقف ـ مع أنّ دليل هؤلاء ـ أعني : الفرقة الثانية ـ كما تعلم وانّ دل على أنّ غرضهم نفى

١١٠

العلم قبل ايجاد الأشياء ، إلاّ انّه لا يدلّ على نفى العلم التفصيلى فقط دون الاجمالي ، بل يدلّ على نفى العلم بالاشياء قبل ايجادها مطلقا ـ سواء كان تفصيليا أو اجماليا ـ.

١١١

البحث الثاني

في كيفية علمه ـ تعالى ـ

بالأشياء قبل وجودها وبعده بحيث

لا يلزم منه كثرة وتركّب في ذاته ولا جهل

ونقص وافتقار في حقّه ، ولا كونه فاعلا وقابلا ؛

وبالجملة على ما يليق بجناب قدسه وساحة كبريائه

ولعمري انّ هذه المسألة من أغمض المسائل الإلهية وأصعب المباحث الحكمية ، ولذا ترى العقلاء فيها كالحيارى وأحدثوا فيها مذاهب شتى. ونحن نذكر أوّلا مذاهب العقلاء في ذلك ثمّ ما يرد على كلّ منها ، ثمّ نشير إلى ما هو الحقّ.

فنقول : أصول / ١٣٢ DB / المذاهب في ذلك سبعة.

الأوّل : مذهب المعتزلة ، وهو : انّ علمه ـ تعالى ـ بالاشياء بحضور ماهياتها الثابتة في الخارج قبل وجودها عنده. وهذا بناء على ما ذهبوا إليه من قولهم بثبوت المعدومات.

الثاني : مذهب افلاطون الإلهي ، وهو : انّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء بصور مفارقة قائمة بذواتها منفصلة عنه ـ تعالى ـ وعن الأشياء. وفسّرها الشيخ بأنّها صور مفارقة على ترتيب موضوعة في صقع الربوبية ، وهذه الصور هى الصور المسمّاة : « بالمثل الأفلاطونية ».

وغرض افلاطون انّ لكلّ شيء في صقع الربوبية صورة مفارقة قائمة بذاتها حاضرة عند الواجب يشاهدها بالعلم الحضوري ويعلم كلّ شيء بصورته المختصّة به ، فيكون علمه بتلك الصور حضوريا وبالاشياء الّتي تلك الصور بإزائها صوريا حصوليا.

الثالث : مذهب فرفوريوس ومن تبعه من المشائين ، وهو : انّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء جميعا بالصور ، إلاّ أنّ ذاته ـ تعالى ـ متّحد بالصور المعقولة فلا تكون تلك

١١٢

الصور المعقولة الّتي يعلم بها الأشياء زائدة متكثّرة حتّى يلزم مفاسد مذهب العلم الحصولي. وهذا المذهب هو المشهور بالقول « باتحاد العاقل والمعقول ».

الرابع : مذهب جمهور المشائين ، وهو : انّ علمه ـ تعالى ـ حصولي ارتسامي. يعنى انّ صور الأشياء مرتسمة في ذاته ـ تعالى ـ.

وتوضيحه : انّ الصورة العقلية قد يؤخذ عن الصورة الموجودة كما يستفاد من السماء بالرصد والحسّ صورتها العقلية في الذهن ، وقد لا تكون الصورة المعقولة مأخوذة عن الموجود ، بل يكون الأمر بالعكس ، كصورة أثبت البنّاء أوّلا في ذهنه ثمّ تصير تلك الصورة المعقولة محرّكة لاعضائه إلى أن يوجدها في الخارج ، فليست تلك الصورة بحيث وجدت فعقلت ، بل عقلت فوجدت.

وإذ ثبت ذلك فنقول : لمّا كانت نسبة جميع الأشياء إلى الله ـ سبحانه ـ نسبة المصنوع إلى النفس الصانعة لو كانت تامّة الفاعلية فقياس تعقّل واجب الوجود للأشياء هو قياس تعقّلنا للأمور الّتي نستنبطها أوّلا ثمّ نوجدها ـ لاشتراك التعقلين في سببيتهما للايجاد في الخارج ـ. والفرق إنّنا لكوننا ناقصين في الفاعلية نحتاج في أفاعيلنا الاختيارية إلى انبعاث شوق واستخدام قوّة محرّكة واستعمال آلة تحريكية وانقياد مادّة لقبول تلك الصورة ، والأوّل ـ سبحانه ـ لكونه تامّ الفاعلية غنيا عمّا سواه لا يحتاج في فاعليته إلى أمر خارج ، بل ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) ، فانّه يعقل ذاته وما يوجبه ذاته ويستلزمه ، ويعلم من ذاته كيفية الخيرية في الكلّ فتتبع صور الموجودات الخارجية الصور المعقولة عنده على نحو النظام المعقول عنده ، فالعالم الكياني الخارجي بإزاء العالم الربوبي العلمي.

وهذا المذهب ممّا اختارها انكسمالس المليطى ، وهو أحد الأساطين السبعة ، فانّه قال : الأوّل ما صدر عنه ـ تعالى ـ الصور العلمية للموجودات العينية ثمّ أوجد الموجودات العينية على نهج ما هي في العلم المقدّم. وعلى هذا المذهب يكون علمه ـ تعالى ـ بالصور والارتسام ـ أي : يكون علمه / ١٣٦ MB / تعالى بصورة زائدة على تلك

__________________

(١) كريمة ٨٢ ، يس.

١١٣

الأشياء ومطابقة لها قائمة بذاته تعالى ـ.

الخامس : ما ذهب إليه تالس المليطى ـ وهو أيضا من أساطين الحكمة ـ ، وهو : انّ علمه ـ تعالى ـ بأوّل المعلولات بالحضور ـ أي : بحضور ذاته عنده وانكشافه لديه بالإضافة الاشراقية ـ وبغيره من الأشياء بصورها القائمة في هذا المعلول. فانّه قال : أوّل ما صدر عن واجب الوجود بالذات جوهر فيه جميع صور باقي الممكنات. ونقل صاحب « الملل والنحل » عنه انّه قال : انّ القول الّذي لا مردّ له هو انّه كان المبدع ولا شيء مبدع ، فابدع الّذي ابدع ولا صورة له عنده في الذات ، لانّ قبل الابداع انّما هو فقط وإذا كان هو فقط فليس يقال حينئذ جهة وجهة حتّى يكون هو صورة ، أو حيث وحيث حتّى يكون هو ذا صورة ، والوحدة الخالصة ينافي هذين الوجهين ، هو يؤيّس ما ليس بأيس وإذا كان مؤيّس الاسباب فالتأييس لا من شيء متقادم ، فمؤيّس الأشياء لا يحتاج ان تكون عنده صورة. ثمّ قال : وأيضا فلو كانت الصورة عنده فامّا أن تكون مطابقة للموجود الخارجى أم غير مطابقة ، فان كانت مطابقة فليتعدّد الصورة بتعدّد الموجودات ، وليكن كلّياتها مطابقة للكليات وجزئياتها مطابقة للجزئيات ويتغيّر بتغيّرها ـ كما يتكثّر بتكثّرها ـ ، وكلّ ذلك محال ـ لانّه ينافي الوحدة الخالصة ـ. / ١٣٣ DA / وإن لم يطابق للموجود الخارجي فليست إذا صورة ، إنّما هى شيء آخر ، لكنّه ابدع العنصر الّذي فيه صور الموجودات والمعلولات كلّها وانبعث من كلّ صورة موجود في العالم على المثال الّذي في العنصر الأوّل ، فمحلّ الصورة ومنبع الموجودات هو ذات العنصر وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسّي إلاّ وفي ذات العنصر صورة له. ومن كمال الأوّل الحقّ انّه أبدع مثل هذا العنصر فيما يتصوّره العامّة في ذاته ـ تعالى ـ انّ فيها ـ يعنى صور المعلومات ـ ، فهو في مبدعه ويتعالى بوحدانيته وهويته عن انّ يوصف بما يوصف بما يوصف مبدعه (١) ؛ انتهى.

وهو صريح في انّ علمه بأوّل المبدعات ليس بصورة زائدة ، وبغيره من الأشياء بالصور القائمة به. والحاصل : انّه على هذا المذهب يكون الجوهر الأوّل غير مسبوق

__________________

(١) راجع : الملل والنحل ، ج ٢ ص ٦٦.

١١٤

بالعلم المغاير لذات الواجب بخلاف المذهب الرابع ، فانّ مبناه على أنّ جميع الموجودات العينية مسبوق بالعلم الزائد ، وهذا هو الفرق بين المذهبين.

ثمّ إنّ المحقّق الطوسي أيضا اختار هذا المذهب ـ أي : المذهب الخامس ـ ، فانّه صرّح بأنّ علمه ـ تعالى ـ بالحضور في المعلولات القريبة ، وأمّا في المعلولات البعيدة فبحصول صورها في القريبة. قال ـ رحمه‌الله ـ في شرحه للاشارات : « العاقل كما لا يفتقر في إدراكه لذاته إلى صورة غير ذاته الّتي هو بها هو ، كذلك لا يفتقر في ادراكه لما يصدر عن ذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر الّتي بها هو هو. واعتبر من نفسك انّك تعقّل شيئا بصورة تتصوّرها أو تستحضرها ، فهي صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا بل بمشاركة ما من غيرك » (١) ـ لأنّ الصور العقلية فائضة من المبادي العالية وليس للنفس بالنسبة إليها إلاّ القبول فقط ـ ، ومع ذلك فانت تعقّلها بذاتها لا بصورة أخرى ، لامتناع تضاعف الصور إلى غير النهاية فلا تتضاعف فيك الصور أصلا. نعم! ، ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلّقة بذاتك أو بتلك الصورة فقط على سبيل التركيب ـ أي : ربما تتضاعف الاعتبارات المتعلّقة بكلّ منهما فقط إذا تركّب بعض هذه الاعتبارات مع بعض اخر ـ ، فانّ العالم بذاته وإن لم يكن المنكشف له إلاّ شيء واحد هو ذاته فقط من غير افتقار إلى شيء آخر إلاّ انّه لمّا كان لنفسه اعتباران : أحدهما : اعتبارها من حيث هي هي ، وهى بهذا الاعتبار معلومة ؛ وثانيهما : اعتبارها من حيث كونها حاضرة ، وهي بهذا الاعتبار علم ، فالعالم بنفسه يعلم نفسه ويعلم أيضا أنّها حاضرة عنده ـ أي : يعلم انّه يعلم ـ. وبالجملة حصل له اعتبار العلم بالنفس واعتبار العلم بالعلم بها وقد يتحصل اعتبار العلم بالعلم بالعلم بها وهكذا ، فاذا تركّبت تلك الاعتبارات تتضاعف إلى غير النهاية. إلاّ انّه لا تحصل بتلك الاعتبارات صور متكثرة في النفس ، لانّه لا يفتقر إلى غير النفس في جميع تلك الاعتبارات ، فانّه قد اعتبر النفس تارة من حيث هي هي وتارة من حيث حضورها وتارة من حيث حضور حضورها ومعلوم انّ النفس لا يتكثّر ولا / ١٣٧ MA / يتعدّد بتلك الاعتبارات ، بل هي ليست في الخارج إلاّ واحدة والانكشاف لم يتعلّق إلاّ بها ، و

__________________

(١) راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ، ج ٣ ص ٣٠٤.

١١٥

التعدّد انّما هو في الاعتبارات. وما يرشدك إلى ذلك انّ الاعتبار الأوّل في نفس الأمر لا ينفكّ من الاعتبار الثاني ومن الثالث وهكذا ، فالنفس من حيث هي مع معلوميتها لا ينفكّ من كونها حاضرة وحضورها لا ينفكّ عن كونه حاضرا وهكذا ، وإن لم يتعلّق العلم بحضورها وحضور حضورها. فكما إذا لم يتحقّق العلم بحضورها لا يفتقر إلى صورة أخرى فكذا إذا تحقّق العلم به ، فالتعدّد إنّما هو في مجرّد الاعتبار. وهكذا نقول في علم النفس بالصور ، فانّه قد يحصل للنفس العلم بالصورة وقد يحصل لها العلم بتمثل هذه الصورة في ذاتها ، وقد يحصل لها العلم بتمثل هذا التمثل وبالجملة يحصل العلم بالصورة والعلم بالعلم بها وهكذا ، فتتضاعف الاعتبارات ؛ إلاّ أنّه لا تحصل بتلك الاعتبارات صور متكثرة في النفس ، بل تارة اعتبر الصورة فقط من حيث هي وتارة الصورة مع تمثّلها وتارة مع تمثل تمثلها ، فاذا تركّبت هذه الاعتبارات ـ أي : قيدت الصورة بتمثلها وتمثل تمثلها وهكذا ـ تصير الاعتبارات متكثّرة. إلاّ أنّها لا توجب تعدد الصور وتكثّرها في النفس ، فانّ الصورة من حيث هي هي مع معلوميتها على فرض عدم العلم بمعلوميتها لا ينفكّ عن المعلومية والتمثل في نفس الأمر ، مع انّه لا تحصل للنفس صورة اخرى ، فكذا مع فرض العلم بالمعلومية والتمثّل.

لا يقال : انّ / ١٣٣ DB / التمثّل حقيقة من الحقائق فالعلم به يوجب ارتسام صورة ، فاذا اعتبر الصورة مع التمثّل يلزم تعدد الصورة ؛

وهو كما ترى!.

وبالجملة قد ثبت انّك إذا تعقّلت صورة فانّما تعقّلها بذاتها لا بصورة اخرى.

وحينئذ نقول : فاذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة الغير هذا الحال فما ظنّك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه. وليس من شرط كلّ ما يعقل أن يكون المدرك محلاّ للصور المعقولة ، فلا تظنّ انّ كونك محلاّ للصورة العقلية شرط في تعقّلك ايّاها فانّك تعقّل ذاتك مع انّك لست محلاّ لها ، بل انّما محلّيتك لها شرط في حصول تلك الصورة لك وحصولها انّما هو شرط في تعقّلك ايّاها ؛

فان حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك حصل التعقّل لك من غير

١١٦

حلول فيك. ومعلوم انّ حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا للغير ليس دون حصول الشيء لقابله.

والحاصل : انّه لا ينبغى انّ يظنّ انّ مناط حضور نفس تلك الصورة العقلية وشرطه كون العاقل محلاّ لها وفي المعلولات القائمة بذاتها انّما يتصوّر مجرّد حضور أنفسها دون ارتسام صورها ، فلا يجوز كون وجوداتها العينية عين العلم أو مستلزمة له ، لانّ في الصورة العلمية أمرين :

أحدهما : كونها قائمة بالمحلّ الّذي هو ذات العاقل ؛

والثاني : كونها حاضرة عنده حاصلة له. ولا شك انّ قيامها بالمحلّ لا يكون شرطا في كون الشيء معقولا وإلاّ لزم أن لا يكون شيء عالما بذاته. وليس الأمر كذلك ، فتعين أن يكون مرجع المعلومية ومناطها هو حضور المعلوم وحصوله للعاقل. ومعلوم انّ حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره ليس دون الحصول لقابله ، بل لكون نسبة الاوّل بالوجوب والثاني بالامكان يكون حصول المعلوم للعلّة اتمّ في باب المعلومية من حصول المقبول للقابل فيها. ففي الصورة المعقولة كما أنّ لها حصولا ووجودا رابطيا للنفس المجرّدة القابلة فكذا لها حصول ووجود رابطي لفاعلها المفيض والحصول الثاني ليس أدون من الاوّل ، فكما انّ الاوّل منشأ للعلم فكذا الثاني / ١٣٧ MB / بالطريق الاولى. وكذا الحال في الحصولات الّتي لغير الصور المعقولة من الموجودات الجوهرية والعرضية بالنسبة إلى فاعلها المفيض ومبدأها الموجد ، فانّها أشدّ من الحصول للصور المعقولة بالنسبة الى النفوس القابلة. فاذن المعلولات الذاتية للفاعل العاقل لذاته حاصلة له من غير أن يحلّ فيه ، فهو عاقل ايّاها من غير أن تكون هي حالّة فيه.

وإذ ثبت ذلك نقول : انّ الأوّل ـ تعالى ـ عاقل لذاته من غير مغايرة بين ذاته وبين عقله لذاته إلاّ بالاعتبار ، بل عقله لذاته هو نفس ذاته. ولا ريب في أنّ عقله لذاته علّة لعقله للمعلول الأوّل كما أنّ ذاته علّة لذات المعلول الأوّل ، فكما حكمت باتحاد العلّتين ـ أعني : ذاته تعالى وعقله لذاته ـ فاحكم باتحاد المعلولين ـ أعني : المعلول الأوّل وتعقل الواجب له ـ. فاذن وجود المعلول هو نفس تعقّل الواجب ايّاه من غير احتياج إلى صورة

١١٧

مستأنفة تحلّ ذات الأوّل ـ تعالى عن ذلك ـ.

ثمّ قد عرفت انّ كلّ مجرّد تعقل ذاته وغيره من المجرّدات ، فالجواهر العقلية الصادرة عنه ـ تعالى ـ أوّلا عاقلة. ولمّا كانت تعقّل ما ليس بمعلول لها بحصول صورة فيها وهي تعقل الواجب أيضا ولا موجود إلاّ وهو معلول للواجب كانت صور جميع الموجودات الكلية والجزئية على ما عليه الوجود حاصلة فيها ، والواجب تعقل تلك الجواهر مع تلك الصور لا بصور غيرها ، بل باعيان تلك الجواهر والصور. وبهذا الطريق تعقل سلسلة الوجود على ما هو عليه فاذن لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض (١) من غير لزوم محال. فهذا اصل إن حقّقته وبسطته ظهرت لك كيفية احاطته ـ تعالى ـ بجميع الموجودات الكلّية والجزئية. و( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) (٢) ؛ انتهى ما ذكره مع توضيح وتتميم.

ولا ريب في انطباقه على هذا المذهب ـ أعني : / ١٣٤ DA / المذهب الخامس ـ.

فان قلت : حاصل هذا المذهب انّ الواجب عالم بالجوهر الأوّل وبالصور الّتي مرتسمة فيه بالعلم الحضوري ، وبسائر الأشياء بتلك الصور لا باعيانها والكلام المنقول من المحقّق يدلّ على الجزء الأوّل ولا يدل على الجزء الثاني ، بل قوله : « وبهذا الطريق نعقل الوجود على ما هو عليه » يدلّ على كون (٣) علم الواجب بأعيان الأشياء الّتي صورها حاصلة فى الجواهر العقلية أيضا علما حضوريا ، وهذا ليس في المذهب الخامس ، لأنّ حاصله انّه ـ تعالى ـ لا يعلم سوى المعلول الأوّل إلاّ بالصورة الحاصلة فيه ، كما انّ حاصل المذهب الرابع انّه ـ تعالى ـ لا يعلم شيئا ممّا سوى ذاته من الموجودات العينية الاّ بالصورة الحاصلة في ذاته ـ تعالى ـ ؛

قلت : كلامه في شرح الاشارات وان لم يدلّ على الجزء الثاني لكنّه صرّح في شرح رسالة العلم بأنّ ادراكه لمعلولاته البعيدة والمعدومات الّتي من شأنها امكان أن يوجد في وقت أو يتعلّق بموجود يكون بارتسام صورها المعقولة في المعلولات القريبة الّتي هي

__________________

(١) إشارة إلى كريمة ٣ ، سبأ.

(٢) كريمة ٥٤ ، المائدة.

(٣) الاصل : + الواجب.

١١٨

مدركاتها أوّلا وبالذات إلى أن ينتهي إلى ادراك المحسوسات بارتسامها في الآلة الّتي يدركها. ثمّ قوله : « وبهذا الطريق يعقل الوجود على ما هو عليه » ليس نصّا في كون علمه باعيان الأشياء الّتي صورها حاصلة في الجواهر العقلية حضوريا ، لاحتمال أن يكون المراد بهذا الطريق تعقّل الوجود بنفس تلك الصور القائمة بالجواهر العقلية لكونها مطابقة له على ما عليه الوجود. ويؤيّد هذا الاحتمال قوله : « على ما عليه » ، لأنّه لو كان المراد انّ علمه بأعيان الأشياء الّتي صورها حاصلة في الجواهر العقلية حضوريا لكان هذا القول لغوا. ثمّ كلامه الدالّ على اختياره هذا المذهب في شرح رسالة العلم هو قوله : « كما أنّ الكاتب مثلا يطلق على من يتمكّن من الكتابة ـ سواء كان مباشر الكتابة أو لم يكن ـ وعلى من يباشرها باعتبارين ـ فانّ اطلاق الكاتب على الأوّل باعتبار حصول التمكّن وعلى الثاني باعتبار حصول التمكّن منه ـ ، كذلك العالم يطلق على من يتمكّن بأن يعلم ـ سواء كان في حال استحضار المعلوم أو لم يكن ـ وعلى من يكون مستحضرا له حال الاستحضار باعتبارين ، فانّ اطلاق العالم على الاوّل باعتبار حصول التمكّن من العلم وعلى الثاني باعتبار حصول نفس العلم. فوقوع اسم العالم على الأمر الأوّل ـ أعني : من يتمكّن من أن يعلم ـ بالاعتبار الأوّل ـ أي : التمكّن من العلم ـ وعلى الثاني ـ أي : على من يكون مستحضرا ـ بالاعتبار الثاني ـ أي : حصول نفس العلم ـ. والعالم الّذي يكون علمه ذاتيا يكون علمه / ١٣٨ MA / بالغير بالاعتبار الأوّل ، إذ لا يصحّ العلم بالغير في حدّ ذاته إلاّ بمعنى التمكّن ، بخلاف علمه بذاته فانّه يصحّ بالاعتبار الثاني. وهو ـ أي : العالم الّذي علمه ذاتي ـ بذلك الاعتبار ـ أعني : اعتبار الأوّل ـ لا يحتاج في كونه عالما إلى شيء غير ذاته ؛ والعلم بهذا الاعتبار شيء واحد ذاتا. وأمّا بالاعتبار الثاني فهو محتاج إلى اعتبار صورة المعلوم ، والعلم بذلك الاعتبار متكثّر بتكثّر المعلومات ، إذ لا يصحّ استحضار الغير دون صورته الذهنية أو الخارجية. ولا يكون هذا العلم ذاتيا للعالم ـ أي : ثابتا في ذات العالم بدون اعتبار الغير وحصوله ـ ، وادراك الأوّل ـ تعالى ـ بالاعتبار الثاني إمّا لذاته ـ فيكون بعين ذاته لا غير ويتحد هناك المدرك والمدرك والادراك ، ولا يتعدد إلاّ بالاعتبار ـ ؛ وإمّا لمعلولاته القريبة منه ـ فيكون باعتبار ذوات تلك

١١٩

المعلومات ويتحد هناك المدركات والادراكات ، ولا يتعدّدان الاّ بالاعتبار وتغايرها المدرك ـ.

ثمّ قال : وادراكه لمعلولاته البعيدة بارتسام صورها في معلولاته القريبة الّتي يعبّر عنها تارة بالكتاب المبين وتارة باللوح المحفوظ ويسمّيها الحكماء بالعقول الفعّالة وهي مرتسمة بجميع الصور الكونية » (١) ؛ هذا.

ولو لا تصريحه هذا في شرح الرسالة لم يبعد أن يدّعى انّ مختاره في العلم مذهب الشيخ الاشراقي من كون علمه بالجميع حضوريا وعدم كونه بالصور في موجود أصلا ، لما عرفت من انّ كلامه في شرح الاشارات لا يأبأ عن حمله على ذلك.

ثمّ الحقّ انّ مذهب الشيخ الرئيس في العلم هو المذهب الرابع ـ أعنى : كون علمه تعالى بجميع الأشياء بالصور المرتسمة في ذاته تعالى ـ ، لا المذهب الخامس ـ أي : كون علمه تعالى بما عدا المعلول الأوّل بالصور المرتسمة في هذا المعلول ـ. وقد صرّح جماعة بأنّ مختاره هو المذهب الخامس في جميع كتبه. وقيل هو متحيّر بين المذهبين في الشفا ولكنّه اختار المذهب الرابع / ١٣٤ DB / في الاشارات.

ولا بدّ لنا من نقل عباراته حتّى يظهر جلية الحال. قال في الشفا : « انّ المعقول قد يؤخذ من الشيء الموجود كما اخذنا من الفلك بالرصد والحس صورته المعقولة ، وقد يكون الصور المعقولة غير مأخوذة عن الموجود بل بالعكس ، كما انّا نعقل صورة بنائية نخترعها تكون تلك الصورة المعقولة محرّكة لأعضائنا إلى أن نوجدها ، فلا يكون وجدت فعقلناه ولكن عقلناه فوجدت. ونسبة الكلّ إلى العقل الأوّل الواجب الوجود هو هذا ، فانّه يعقل ذاته وما يوجبه ذاته المعقولة من صورة الموجودات على النظام المعقول عنده لا على أنها تابعة اتباع الضوء للمضيء والاسخان للنار ، بل هو عالم بكيفية نظام الخير في الوجود وانّه ـ تعالى ـ بان هذه العالمية يفيض عنها الوجود على الترتيب الّذي يعقله خيرا ونظاما » (٢) ؛ انتهى.

__________________

(١) راجع : شرح رسالة مسئلة العلم ، ص ٢٨.

(٢) راجع : الشفا / الالهيات ، ص ٣٦٣.

١٢٠