الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

السيّد علي الحسيني الميلاني

الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

وكذلك إحتمال أنّه « رآه في المراة الثالثة من السرقة وهو رأي الاكثر من العلماء لعدم الدليل على هذا الإحتمال ، على فرضه فلا فائدة في موافقة أكثر العلماء ، لأنّ الذي يعترض على أبي بكر لا يعتني بموافقة الأكثر له لو كان؟

ومن هنا كان هذا الموضع من المواضع التي اضطراب فيها القوم فذكروا توجيهاتٍ كلّها احتمالات عارية عن الدليل (١) ...

فكان الأولى لهم الإعراض عن هذه التوجيهات بعد الإعتراف بأن ما وقع خلاف الشرع ، ولذا قال بعض محقّقيهم : « وقد قطع يسار السارق وهو خلاف الشرع ، والظاهر أن القضاء بغير علمٍ ذنب ، وما كان هو معصوماً » (٢).

الجهل بميراث الجدّة

قوله (٣٥٧) :

( ووقوفه في مسألة الجدّة ورجوعه إلى الصحابة في ذلك ، لأنّه غير بدع من المجتهد البحث عن مدارك الأحكام ).

أقول :

قد روى خبر جهله بهذه المسألة أكابر محدّثيهم مثل مالك بن أنس في الموطأ ١| ٣٣٥ وأبي داود في السنن ٢| ١٧ وإبن ماجة في السنن ٣/١٦٣ وأحمد في المسند ٤/٢٢٤ ... واعترف بذلك كبار علمائهم في العقائد والكلام كما في الكتاب ...

ولا يخفى أن غرض المستدلّ هو ذكر بعض الموارد المثبتة لجهل الرجل بأحكام الشريعة الإسلامية ...

ومن الطريف أنّه قد وجد العلم بذلك عند المغيرة بن شعبة ، واضطر إلى الأخذ بقول هذا الفاسق اللّعين!!

__________________

(١) انظر الصواعق المحرقة : ٣٣.

(٢) تعليقة على شرح الخطابي للعقائد النسفية ، لإسماعيل القرماني المعروف بقرّه كمال المتوفى سنة ٩٢٠ ترجمته في معجم المؤلّفين ٢/٢٨٧.

٨١

قوله (٣٥٧) :

( الرابع من الوجوه النافية لصلوحه للإمامة : عمر مع أنه حميمه وناصره وله العهد من قبله قد ذمّه ، حيث شفع إليه عبدالرحمن بن أبي بكر في الحطيئة الشاعر فقال : دويبة سوء وهو خير من أبيه ... قلنا : نسبه الذمّ اليه من الأكاذيب الباردة ... ).

كلام عمر في ذم أبي بكر

أقول :

هذا الخبر رواه الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي البغدادي المتوفى سنة ٤٣٦ باسناده في كتاب ( الشافي في الإمامة ) (١) الذي ألّفه ردّاً على كتاب ( المغني في الإمامة ) للقاضي عبدالجبار بن أحمد المعتزلي ... ومن المقطوع به أنّ الشريف المرتضى هذا الرجل العظيم الجامع بين العلوم النقلية والعقليّة والمرجوع إليه فيها لا يروي ـ لا سيّما في كتابٍ وضعه لإثبات الحق ودحض أقاويل المخالفين ـ إلاّ الأخبار الثابتة الواصلة إليه بطرقٍ معتبرة ...

قوله (٣٥٨) :

( وإنكار عدم قتل خالد أي عدم قتله من إنكار المجتهدين بعضهم على بعض فيما أدّ إليه أجتهادهم ... ).

قضيّة خالد مع مالك بن نويرة

أقول :

هذا من جملة مطاعن أبي بكر العظيمة التي لا يجد الباحث عنها جواباً بعد الإلمام بمجمل الواقعة ... سواء كان عمر موافقاً لأبي بكر في موقفه أو كان مخالفاً له ومنكراً عليه ، وإنما يستشهد بإنكار عمر عليه للدّلالة على فظاعة ما كان

__________________

(١) الشافي ٢/١٢٦.

٨٢

وشناعته ... وإنّ من غير الجائز شرعاً وعقلاً أنْ يتجاوز الإنسان هذه القضيّة ـ المشتملة على قتل المسلمين صبراً وسبي النساء المسلمات واستباحة الفروج والأموال ، ثم تعطيل الحدود الإلهية ، فيقول (٣٥٧) مجيباً عن إنكار عمر : « وإنكار عدم قتل خالد من إنكار المجتهدين بعضهم على بعض فيما أدى إليه اجتهاهم ، فإنه نقل : إنّ خالداً انما قتل مالكاً لأنّه ارتد ، وردّ على قومه صدقاتهم لمّا بلغ وفاة رسول الله ، وخاطب خالداً بأنّه مات صاحبك ، فعلم خالد قصده إنّه ليس صاحباً له فتيقّن ردّته وأما تزوجه امرأته فلعلّها كانت مطلقة قد انقضت عدتها إلاّ أنها كانت محبوسة عنده ».

فنقول : لقد أطبق المؤرّخون على أن مالك بن نويرة قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيمن قدم من العرب ، وأسلم وأسلم بنو يربوع بإسلامه ، وولاّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صدقات قومه ثقةً به (١) وكان رجلاً سريّاً نبيلاً يردف الملوك ـ والمرادفة موضعان أحدهما : أن يردفه الملك على دابته في صيدٍ أو غيره من مواضع الانس ، والموضع الثاني أنبل وهو : أنْ يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم فينظر بين الناس بعده ـ وهو الذي يضرب به المثل فيقال : مرعى ولا كالسعدان وماء ولا كصدّاء وفتىً ولا كمالك ، وكان فارساً ، شاعراً ، مطاعاً في قومه ، وكان فيه خيلاء وتقدم ، وكان ذا لمة كبيرة (٢).

فمالك كان مسلماّ وعاملاً لرسول الله على صدقات قومه.

وبقي مالك مسلماً حتى آخر لحظة من حياته ، روى المتقي عن إبن أبي عون وغيره : « ان خالد بن الوليد ادعى أن مالك بن نويرة ارتد بكلام بلغه عنه فأنكر مالك ذلك وقال : أنا على الإسلام ما غيّرت ولا بدّلت ، وشهد له أبو قتادة وعبدالله ابن عمر ، فقدّمه خالد وأمر ضرار بن الأزور الأسدي فضرب عنقه ، وقبض خالد امرأته أم متمّم فتزوجها. فبلغ عمر بن الخطّاب قتله لمالك بن نويرة وتزوّجه امرأته

__________________

(١) وفيات الأعيان ٥/٦٦ ، الإستيعاب ٣/١٣٦٢ ، الإصابة ٣/٣٥٧.

(٢) وفيات الأعيان ٥/٦٦ ، وانظر الإصابة ٣/٣٥٧.

٨٣

فقال لأبي بكر : انه قد زنا فارجمه. فقال أبوبكر : ما كنت لأرجمه ، تأول فأخطأ. وقال : أنه قد قتل مسلماً فاقتله قال : ما كنت لأقتله ، تأول فأخطأ قال : فاعزله. قال : ما كنت لأشيم سيفاً سله الله عليهم أبداً. إبن سعد » (١).

وقد روى الطبري بإسناده عن أبي قتادة كيفية قتله ببعض التفصيل قال :

« وكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الحارث بن ربعي أخو سلمة ، وقد كان عاهد الله ألاّ يشهد مع خالد حرباً أبدأ بعدها ، وكان يحدّث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح ، قال : فقلنا : إنا المسلمون. فقالوا : ونحن المسلمون. قلنا : فما بال السلاح معكم؟ قالوا لنا : فما بال السلاح معكم. فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح. قال : فوضعوها ثم صلّينا وصلّوا. وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال وهو يراجعه ما أخال صاحبكم إلاّ وقد كان يقول كذا وكذا. قال : أو ما تعدّه لك صاحباً؟ ثم قدّمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه.

فلمّا بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر فقال : عدوّ الله عدا امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته.

وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صداء الحديد معتجراً بعمامة له قد غرز في عمامته أسهماً ، فلما دخل إليه وأتى إلى المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها ثم قال : إربأ ، قتلت امرءً مسلماً ثم نزوت على أمرأته. والله لأرجمنّك بأحجارك ، وخالد لا يكلّمه » (٢).

وعلى الجملة فالمصادر متفقة على إسلام مالك ... وحينئذٍ فيتوجّه أوّلاً على أبي بكر تسييره خالداً ومن معه لقتال مالك بن نويرة وقومه ... فاضطرب القوم في الدفاع عن أبي بكر وتوجيه ما فعله خالد ...

أمّا في قتل مالك ... يقولون : إرتد عن الإسلام .. لكن كيف؟

__________________

(١) كنز العمال للمتفي الهندي ، وانظر تاريخ الطبري ٢٤٢ ، وفيات الأعيان ٥/٦٦.

(٢) تاريخ الطبري ٣/٣٤٣.

٨٤

فتارةً يقولون : بأنّه لم يؤدّ الزكاة إلى أبي بكرو فرّق ما كان بيده من الزكاة على قومه ، لكنّهم يعلمون بأن مالكاً كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ولاّه على صدقات قومه ، وأيّ حرجٍ عليه لو دفعها إلى الفقراء بمقتضى ولايته؟

قال ابن حجر : « وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعمله على صدقات قومه ، فلمّا بلغه وفاة النبي أمسك عن الصدقة وفرّقها في قومه وقال في ذلك :

فقلت : خذوا أموالكم غـير خائف

ولا نـاظـر فيما يجيء من الغـد

فإن قام بالدين المحقـق قـائــم

أطعنا وقلنا الدين ديـن محمّد » (١)

بل إنّ ذلك كان هو المفروض عليه ، إذ الزكاة لا تنقل من بلدٍ إلى آخر إلاً إذا لم يكن في ذلك البلد من هو مستحق لها ...

وهل عدم تسليم الزكاة إلى أبي بكر جرم يستوجب أن يرسل إليه من يقتله ويستبيح حريمه ويقع في قومه سبياً وتقتيلاً؟!

وهل نزلت في جواز ذلك آية أو سمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه رواية؟

ليت أبابكر تذرّع في المسألة بحديث زعم أنّه سمعه من النبي ، ولم يسمعه غيره!! ـ كما كان في قضيتة مع الزهراء!

لكن عمر يقول ـ فيما روى عنه أكابر الحفاظ ـ : « لئن أكون سألت النبي عن ثلاث أحب إليّ من حمر النعم : عن الخليفة بعده ، وعن قومٍ قالوا : نقرّ بالزكاة من أموالنا ولا نؤدّيها إليك أيحل قتالهم؟ وعن الكلالة » (٢).

وعلى الجملة فإنّ مالكاً لم يرتد ... وما في الكتاب وغيره من أنّه « ردّ على

__________________

(١) الإصابة ٣/٣٥٧.

(٢) الدر المنثور ٢/٢٤٩ عن جماعة من أعلام الحديث.

٨٥

قومه صدقاتهم لمّا بلغه وفاة رسول الله » تحريف ... بل الواقع ما عرفته.

وأخرى : يقولون بأنّه كان إذا ذكر النبّي قال : « صاحبكم » ... فقد جاء في الطبري عن أبي قتادة : « وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال ـ وهو يراجعه ـ ما أخال صاحبكم إلاّ وقد كان يقول كذا وكذا ، قال : أو ما تعدّه لك صاحباً؟! فقدّمه خالد وأمر ضرار بن الأزور الأسدي فضرب عنقه » (١).

وفي الوفيات : « ... فقال مالك : قد كان صاحبك يقول ذلك. قال خالد. وما تراه لك صاحباً؟ والله لقد هممت أن أضرب عنقك. ثم تجاولا بالكلام طويلاً ، فقال له خالد : إني قاتلك. قال : أو بذلك أمرك صاحبك؟ (٢) قال : وهذه بعد تلك ، والله لأقتلنّك » (٣).

وفي الإصابة : « وكان خالد يقول إنه إنما أمر بقتل مالك لأنه كان إذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما أخال صاحبكم إلاّ قال كذا وكذا ، فقال له : أو ما تعدّه لك صاحباً » (٤).

فنقول : أولاً : إنّا لم نر في المصادر الّتي بأيدينا قول مالك لخالد « مات صاحبك ».

وثانياً : إنه ليس التعبير كذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إرتداداً عن الإسلام وقد قال مالك : « أنا على الإسلام ما غيّرت ولا بدّلت » (٥) و « شهد له أبو قتادة وعبادالله بن عمر » (٦) و « كانا حاضرين ، فكلّما خالداً في أمره فكره كلامهما » (٧) ثم ذلك الإعتراض الشديد من عمر ... ومطالبته بالقصاص ...

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣/٢٤٤.

(٢) الظاهر أن مراده هذه المرة أبوبكر ، فلا وجه لقول خالد « هذه بعد تلك ».

(٣) وفيات الأعيان ٥/٦٦.

(٤) الإصابة ٣/٣٥٧.

(٥) كنز العمال وغيره.

(٦) كنز العمال وغيره.

(٧) وفيات الأعيان ٥/٦٦.

٨٦

لقد كان التعبير كذلك متعارفاً بينهم كما لا يخفى على من تتبّع أخبارهم ... ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي وائل قال : « جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة فقال : لقد جلس هذا المجلس عمر فقال : لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلاّ قسّمته. قلت : إنّ صاحبيك لم يفعلاه. فقال : هما المرءان أقتدي بهما ».

وما رواه المتقي عن علي أنه قال لعثمان : « إنّ سرّك أن تلحق بصاحبيك فأقصر الأمل وكل دون الشّبع ... ».

إذن ليس هذا التعبير دليلاً على الإرتداد قطعاً عند الجميع ... ولذا اضطربت كلماتهم :

ففي الكتاب : « تيقّن ردّته » وفي الإستيعاب : « فقتل خالد بن الوليد مالكاً يظن أنه ارتد ، وأراه ـ والله أعلم ـ قتله خطأ » (١).

وفي المغني : « كان الأولى أن لا يستعجل وأن يكشف الأمر عن ردته حتى يتّضح » (٢).

وكأنّ بعضهم ـ لمّا رأى أن لا فائدة له في ذلك ـ إلتجأ إلى إنكار أصل القضية فقال أحدهم : « وقد قيل إنّ خالداً لم يقتل مالكاً بل قتله بعض أصحابه خطأ لظنّه أنه ارتد » (٣).

وقال آخر : « وقيل أيضاً : إنّ خالداً لم يقتل مالكاً وإنما قتله بعض قومه خطأ لأنّهم أسروا على ظن أنّهم ارتدّوا وكانت ليلةً باردة ، فقال خالد : ادفنوا أساراكم أو لفظاً غيره معناه معنى أدفئوا ، وكان ذلك اللفظ في لغة المخاطب بمعنى اقتلوهم ، فظنّ ذلك الشخص أنه أمره بقتل الأسارى فقتل مالكاً » (٤).

__________________

(١) الإستيعاب ٣/١٣٦٢.

(٢) المغني للقاضي عبدالجبار كما في الشافي.

(٣) شرح القوشجي على التجريد ٣٨٩.

(٤) حاشية الكتاب ٣٥٨.

٨٧

قلت : فانظر كيف يحاولون الدفاع عن أبي بكر وخالد ، ومن المحتمل أنهم يريدون إلقاء الذنب على بعض أصحاب مالك نفسه ، فتأمّل فإنّه غير بعيدٍ من هؤلاء القوم!!

هذا ... وأبوبكر كان يقول : « تأوّل فأخطأ » (١).

قلت : لماذا لم يستجب لطلب مالك بإرساله إلى أبي بكر ... قال ابن خلكان : « فقال مالك : يا خالد إبعثنا إلى أبي بكر فيكون هوالذي يحكم فينا ، فقد بعثت إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا ، فقال خالد لا أقالني الله إن لم أقتلك ».

ولماذا قتل الناس الآخرين من قومه واستباح أموالهم وسبى ذراريهم ونسائهم؟

هذا كلّه في قتل مالك.

وأمّا تزوج خالد بزوجة مالك من ليلة قلته ومضاجعته لها فلا خلاف في أنه يوجب الرّجم ... ومن هنا قال له عمر كما تقدم عن ( تاريخ الطبري ) : « قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على أمرأته! والله لأرجمنّك بأحجارك » وقال لأبي بكر كما عن ( وفيات الأعيان ) وغيره : « إنه قد زنا فارجمه. فقال أبوبكر : ما كنت لأرجمه ، تأوّل فأخطأ » وعن ( مرآة الزمان ) : « دخل خالد المدينة ومعه ليلى بنت سنان زوجة مالك ، فقام عمر فدخل على علي فقال : إنّ من حق الله أن يقاد من هذا لمالك ، قتله وكان مسلماً ونزا على أمرأته على ما ينزو الحرام. ثم قاما فدخلا على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيدالله فتابعوا على ذلك ودخلوا على أبي بكر وقالوا : لابدّ من ذلك فقال أبوبكر : لا أغمد سيفاً سلّه الله ».

وقد اضطرب القوم في توجيه ما فعله خالد وامتناع أبي بكر من رجمه ، ففي الكتاب : « وأما تزوجه امرأته فلعلّها كانت قد انقضت عدتها إلاّ أنها كانت محبوسة

__________________

(١) وفيات الأعيان ٥/٦٦.

٨٨

عنده » وقال القوشجي : « لا نسلّم أنه وجب على خالد الحد والقصاص ، لأنه قد قيل إن خالداً إنما قتل مالكاً لأنه تحقق منه الردّة وتزوّج بامرأته في دار الحرب ، لأنه من المسائل المجتهد فيها بين أهل العلم. وقد قيل : إن خالداً لم يقتل مالكاً بل قتله بعض أصحابه خطأ لطنه أنه ارتد وكانت زوجته مطلقةً منه وقد انقضت عدتها » (١) وقال ابن حجر : « وتزوجه امرأته لعلّه لأنقضاء عدتها بالوضع عقيب موته أو يحتمل أنها كانت محبوسةً عنده بعد انقضاء عدّتها عن الإزدواج على عادة الجاهلية ، وعلى كل حالٍ فخالد أتقى لله من أن يظنّ به مثل هذه الرذالة التي لا تصدر من أدنى المؤمنين فكيف بسيف الله المسلول على أعدائه » (٢) وقال ابن خلكان : « وقبض خالد امرأته ، فقيل : إنه اشتراها من الفيء وتزوج بها. وقيل : إنها اعتدت بثلاث حيض ثم خطبها إلى نفس فأجابته ، فقال لابن عمر وأبي قتادة يحضران النكاح فأبيا ، وقال له ابن عمر : تكتب إلى أبي بكر وتذكر له أمرها فأبي وتزوّجها ... ولما بلغ الخبر أبابكر وعمر قال عمر لأبي بكر : إن خالداً قد زنى فارجمه. قال : ما كنت لأرجمه فإنه تأوّل فأخطأ » (٣).

وقال ابن حجر العسقلاني : « وكان فيه تقدم على أبي بكر يفعل أشياء لا يراها أبوبكر ، أقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته ، فكره ذلك أبوبكر وعرض الدية على متمم بن نويرة وأمر خالداً بطلاق امرأة مالك ولم ير أن يعزله ، وكان عمر ينكر هذا وشبهه على خالد » (٤).

وإنه ليكفي في سقوط جميعها إصرار عمر على أنه « زنا فارجمه » وقول أبو بكر تأوّل فأخطأ » ثم عرضه الدية وأمره خالداً بطلاق المرأة كما ذكر ابن حجر العسقلاني.

__________________

(١) شرح التجريد ٣٨٩.

(٢) الصواعق المحرقة ٣٤.

(٣) وفيات الأعيان ٥/٦٦ ـ ٦٧.

(٤) الإصابة ١/٤١٤ ترجمة خالد.

٨٩

هذه طائفة من كلمات القوم في المقام ... وتلك هي الوجوه التي ذكروها لتوجيه فعلة خالد وموقف أبي بكر منها ... وهي كما ترى متضاربة وكلّها « لعّل » و « يحتمل » و « قيل » ...

إلا أن ابن حجر المكي يصرّح بالباعث على كلّ هذه المحاولات فيقول : « وعلى كلّ حال فخالد أتقى لله من أن يظن به مثل هذه الرذالة التي لا تصدر من أدنى المؤمنين فكيف بسيف الله المسلول على أعدائه »! لكن الذي نسب إلى خالدٍ هذه الرذالة عمر بن الخطاب وجماعة من أكابر الصحابة ، فماذا نفعل؟

فظهر أن لا جدوى لتلك التعليلات والإحتمالات ، ولعلّه من هنا اضطرّ صاحب ( التحفة الإثنى عشرية ) إلى إنكار أصل القضيّة!! (١).

هذا موجز الكلام على قصة خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة وزوجته وقومه ... فاقض ما أنت قاض ...

قوله (٣٥٨) :

( وأما قوله في بيعة أبي بكر فمعناه : إن الإقدام على مثله بلا مشاورة الغير وتحصيل الإتفاق منه مظنة للفتنة العظيمة فلا يقدمنّ عليه أحد ، على أني أقدمت عليه فسلمت وتيسر الأمر بلا تبعة ).

قول عمر : بيعة أبي بكر فلتة

أقول :

لم يناقش في الكتاب في أصل ثبوت قول عمر : « إن بيعة أبي بكر كانت فلتةً وقى الله شرها » لكونه مروياً في أوثق كتبهم في الحديث والتاريخ والسير ...

ومعنى لفظة « الفلتة » بفتح الفاء « الفتنة » كما في الكتاب وغيره.

أو « البغتة والفجأة » كما عن بعض شرّاح البخاري.

__________________

(١) التحفة الإثنا عشريّة : ٢٦٣.

٩٠

أو « ما يندم عليه » كما عن أشهب وغيره.

وهي ـ بأيّ معنى كانت ـ تفيد الذمّ ، ويؤكّد ذلك قوله : « وقي الله شرّها » فلو لم تكن ذات شرّ لم يقل ذلك ... وأمّا أنّ الله « وقى » شرّها أو أنه « بقي » فهذا أمر يجب أن ينظر فيه!

هذا ويشهد بكون الكلام على كل حالٍ ذماً لأبي بكر وخلافته إنكار بعضهم كابن روزبهان أصل الخبر!!

بقي الكلام في :

١ ـ قوله (٣٥٨) :

( نسبة الذم إليه من الأكاذيب الباردة ، فإنّ عمر مع كمال عقله ... كيف يتصوّر منه ذلك؟ ).

أقول :

كيف لا يتصوّر ذلك ممّن صدر منه ما صدر بالنسبة إلى نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو ثابت ولا حاجة إلى ذكره هنا.

٢ ـ قوله (٣٥٨) :

( ثم إنك خبير بأنّ أمثال هذه الوجوه لا تعارض الإجماع على إمامته ... ).

أقول :

أين الإجماع على إمامة أبي بكر؟ بل إنّ هذه الوجوه المشتملة على ذمّ أمير المؤمنين علي وعمر وكبار الصحابة وإنكارهم على أبي بكر في قضية خالد بن الوليد وغيرها ... من جملة الأدلة على عدم اعتقاد القوم بخلافته!

النصوص على إمامة علي

قوله (٣٥٨ ـ ٣٥٩) :

( وخامسها : إدعاء النصّ على إمامة علي إجمالاً وتفصيلاً. أما إجمالاً

٩١

فقالوا ... والجواب : إنه لمّا علم النبي عليه‌السلام أن الصحابة يقومون بذلك ولا يخلّون به لم بفعل ذلك لعدم الحاجة إليه ... ).

أقول :

قد عرفت أنّ الشروط المعبترة في الإمام من العصمة والأعلمية ـ المستلزمة للأفضلية ـ وعدم المعصية سابقاً على ما تقدّم ... منتفية عن أبي بكر وهي موجودة في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهو المتعيّن لأن يكون الإمام ...

وأيضاَ : يجب أن يكون الإمام منصوصاً عليه ، وأبوبكر ليس بمنصوصٍ عليه كما اعترف في الكتاب فلا يكون إماماً ، بل الإمام هو علي عليه‌السلام.

والنصوص الدالة على إمامته كتاباً وسنةً كثيرة ...

وأمّا ما ذكر من الوجهين للنص عليه إجمالاً فلم يخدش في شيء من مقدّماتهما ولا في النتيجة المطلوبة منهما وهي وقوع النصّ على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، غير أنه قال في الجواب ما حاصله : إيكال النبّي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر تعيين الإمام إلى الصحابة ، لكن فيه :

أوّلاً : إنه إذا تمّت مقدمات الإستدلال وسلّمت ، فالإلتزام بالنتيجة المترتبة عليها ضروري ، وإلاً لزم الخلف.

وثانيا : إنّ إيكال الأمر إلى الصحابة يستلزم أحد الأمرين : إمّا الإخلال بالواجب وإمّا الجهل بحال الأصحاب ، وكلاهما محال. بيان الإستلزام : إنّه إن كان عالماً بما سيقع بين الأصحاب والأمة من الإفتراق والإختلاف والإرتياب ، فأوكل إليهم تعيين الإمام من بعده ، فهذا من أظهر مصاديق الإخلال بالواجب ، وهو محال في حقه. وإن كان جاهلاً بأحوالهم وتشتّت أهوائهم واختلاف آرائهم ... فهذا نقص لا يجوز نسبته إليه أبداً ، مضافاً إلى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ستفترق أمّتي من بعدي إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة ، واحدة في الجنّة والباقي في النار » (١).

__________________

(١) هذا الحديث من الأخبار الثابتة ، وقد ذكر في الكتاب واستند اليه في ٣٧٦.

٩٢

فمن كان على علم بما سيكون من بعده ، وهو أشفق الناس على أمّته وشريعته ... كيف يترك الامّة بلا راع والشريعة بلا حافظ؟

ولو سلّمنا أنّه لم يفعل ذلك إيكالاً إلى الصحابة فالمفروض قيام الصحابة بأمر التعيين ، لكنّ الواقع غير ما قصده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحسب الفرض.

قوله (٣٥٩) :

( ثم عدم النص الجليّ معلوم قطعاً ، لأنه لو وجد لتواتر ولم يكن سترة عادةً إذ هو ما تتوفّر الدواعي إلى نقله ، وأيضاً : لو وجد نص جلي على إمامة علي لمنع به غيره ... ثم لا يحتج علي عليهم بذلك النص الجليّ ... )

أقول :

إنّ النص الجلي على إمامة علي عليه‌السلام معلوم قطعاً ، أمّا عن طريق أئمة أهل البيت عليه‌السلام وأتباعهم فواضح ، وأمّا ع طريق المخالفين ، فكذلك كما ستعرف بعضه بالرغم م كثرة الدواعي على إخفائه وتوفّر الموانع عن نقله ونشره.

أمّا أنه لو وجد لمنع به علي غيره من الإمامة به على الصحابة ...

فالجواب : إنه لم يكن حاضراً في السقيفة حتى يمنع أو يحتج ، لاشتغاله بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يفرغ من ذلك إلاّ وقد نودي بالإمامة لأبي بكر وحمل الناس على بيعته ، فلم يبق له ـ والحال هذه ـ طريق إلى « منع غيره عن الإمامة والإحتجاج عليه ».

فلو سلّم عدم احتجاجه عليهم هذه المدة فالسبب عدم إتاحة فرصة له بذلك ، ولذا تراه يحتج كلّما سنحت له الفرصة ، ومن مواقف احتجاجه المشهورة يوم الشورى ، حيث كان احتجاجه المعروف المروي في كتب الفريقين (١) ، والدال

__________________

(١) المناشدة يوم الشورى معروفة ، رواها : كبار العلماء من الفريقين فهي متفق عليها ، وممن رواها من

٩٣

على وجود النصوص الكثيرة على إمامته منذ اليوم الأول ، لا في رايه فقط ، بل باعتراف كبار الصحابة وإقرارهم المستفاد من سكوتهم ...

هذا مضافاً إلى ما جاء في إحتجاجات الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام وبعض الأصحاب الذين عرفوا منذ حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتشيّع والولاء لعلي عليه‌السلام ... على إمامته بجملة من النصوص ، مما هو مذكور في التواريخ والسير ...

لكنّ الباعث الأصلي إلى إنكار النصّ وغير ذلك مما قال هو حسن الظنّ بالصحابة ، حتى أنه يقول : « كيف يتصوّر ...؟ » إلاّ أنّ حسن الظنّ واستبعاد معصية القوم يزول بالنظر إلى الكتاب والسنّة ، وبالتأمل في أخبارهم وسيرهم الواصلة إلينا بالأسانيد المعتبرة ، وسنشير إلى موارد من ذلك في بحثٍ حول الصحابة.

من الكتاب

قوله (٣٥٩) :

( وأمّا تفصيلاً فالكتاب والسنّة ، أمّا الكتاب فمن وجهين ).

أقول :

ظاهره انحصار استدلال أصحابنا لإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بآيتين من الكتاب ، وهذا باطل كما لا يخفى على من راجع كتبهم ، نذكر منها على سبيل التمثيل أنّ العلاّمة الحلّي استدل في كتابه ( منهاج الكرامة ) بأربعين آية ، وفي كتابه ( نهج الحق ) بأربع وثمانين آية ، معتمداً على الأحاديث الثابتة عند الفريقين ...

قوله تعالى : ( وآولوا الأرحام )

__________________

أهل السنة : الدار قطني ، الخوارزمي ، ابن عبدالبر ، الذهبي ، الحمويني ، الكنجي ، ابن حجر المكي ، ابن المغازلي ، فهم رووها بكاملها أو جملاً منها.

٩٤

قوله (٣٥٩) :

( الأول قوله تعالى : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) والآية عامة في الأمور كلّها ... والجواب منع العموم ... ).

أقول :

الآية هي : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين ) (١). إذ اعتبر فيها الأولوية لمن جمع ثلاثة قيودٍ هي : كونه ذا رحم ، وكونه مؤمناً ، وكونه مهاجراً. فمن جمعها كان أولى من غيره ، وهذه الأولوية عامة للمال وللولاية ، بل كونها للولاية أوضح ، لكون سياقها سياق الآية الآخرى الواردة في خصوص الولاية وهي قوله تعالى : ( النبّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضِ في كتاب الله ) (٢). فهي ثابتة لأمير المؤمنين عليه‌السلام لكونه الجامع لها دون أبي بكر ، لأنه لو سلّم كونه من المؤمنين والمهاجرين فليس بذي رحمٍ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن هنا يشترط في الإمامة والولاية الاقربية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا احتجّ المهاجرون على الأنصار بالقرابة منه ، فلمّا بلغ عليّاً عليه‌السلام ذلك قال :

« وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيـرك أولـى بـالنبي وأقرب » (٢)

ولقد أذعن المنصور العبّاسي والفخر الرازي باستدلال محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في كتاب له إلى المنصور ـ بالآية المباركة على أولوية ذي الرحم قائلاً : « وليس في الآية شيء معيّن في ثبوت هذه الأولوية فوجب حمله على الكل إلاّ ما خصّه الدليل وحينئذٍ يندرج فيه الإمامة » لكنه أجاب

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٦.

(٢) سورة الأنفال : ٧٥.

(٣) نهج البلاغة : ٥٠٣ ط صبحي الصالح.

٩٥

بأن.

« العباس أولى بالإمامة ، لأنه كان أقرب إلى رسول الله من علي » (١).

قلت : لو سلّمنا أقربية العباس من علي لكن القيود المأخوذة في الآية منها الهجرة ، والعباس لم يكن من المهاجرين ، إذ لا هجرة بعد الفتح.

وبما ذكرنا يظهر سقوط ما جاء في الكتاب في الجواب عن الإستدال بالآية الشريفة.

قوله تعالى : ( إنما وليكم الله )

قوله (٣٥٩ ـ ٣٦٠) :

( الثاني : قوله تعالى : ( إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (٢) والجواب ... ).

أقول :

إنه يعترف بنزول الآية المباركة في شأن علي عليه‌السلام ، ويعترف أيضاً بأنّ من معاني « الولي » هو « الأولى بالتصرّف » وظاهره تمامية الإستدلال بالآية على الوجه المذكور لولا المانع وهو أمران : لزوم إمامته عليه‌السلام حال حياة الرسول ، ولا شبهة في بطلانه ، وتكرر صيغ الجمع في الآية ، وهذا كيف يحمل على الواحد؟ فلا بدّ من أن يكون المراد من « الولي » هو « الناصر » لا « الأولى بالتصرّف » والقرينة على كون المراد هو الناصر دون غيره هو ما قبل الآية وما بعدها ، فوجب أن يحمل ما بينهما على النصرة لتتلائم أجزاء الكلام.

وحاصل ذلك تمامية المقتضي لولا المانع ... وهو الأمران المزبوران ، فاللازم رفعه ، من دون احتياج إلى إيراد ما ذكره أصحابنا في بيان وجه الإستدلال وإن كان أتمّ وأوضح ممّا ذكر في الكتاب عن لسانهم ، ومن دون بحث حول « الولي » وأنّه مشترك لفظي أو معنوي ، وإن كان الإستدلال على الثاني أبين

__________________

(١) الكامل للمبرّد ٢/٢٨٣ ، تفسير الرازي ٤/٣٩٥.

(٢) سورة المائدة : ٥٨.

٩٦

وأمتن ... فنقول :

أمّا الأمر الاوّل فجوابه ـ كما عرفت سابقاً ـ أنّ التصرّف من شؤون صاحب الولاية سواء كان نبياً أو وصي نبي ، فقد يكون حاصلاً له بالفعل وقد لا يكون ، والمقصود بالإستدلال هنا إثبات الولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأمّا تصرّفه في الأمور فمن الواضح كونه موقوفاً على ما بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا كما يثبت بالوصية استحقاقها للوصي وإنْ منعه وجود الموصي من اتصرف ، وكذلك جعل النبّي في حياته الولاية لعليّ كما في غير واحد من الأحاديث ، وتنزيله إياه من نفسه بمنزلة هارون من موسى كما في حديث المنزلة.

وأمّا الأمر الثاني فجوابه ظاهر جدّاً بعد تصريح الأحاديث عند الفريقين بانّ المراد شخص « على عليه‌السلام » وبأنّ « وهم راكعون » جملة حالية ، فهو الذي تصدّق بخاتمة راكعاً فنزلت الآية ... فظهر سقوط ما ذكره الماتن إذ ليس إلاّ استبعاداً ، مع ان نظائر الآية في القرآن المجيد كثيرة ، واندفاع ما ذكره الشارح ، لعدم اشتراك غيره عليه‌السلام معه في تلك الصفة.

فارتفع ـ بما ذكرنا ـ المانع عن أن يكون المراد من « الولي » في الآية هو « الأولى » ، وبقي الكلام حول ما ذكر قرينةً لحمله على « الناصر » وهو ما قبل الآية ، قال : « وهو قوله : ( يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ) فإن الأولياء ههنا بمعنى الأنصار لا بمعنى الأحقين بالتصرّف » وما بعد الآية « وهو قوله : ( ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون ) فإنّ التولي ههنا بمعنى المحبة والنصرة دون التصرّف ».

فنقول : ـ بعد التسليم بقرينية السياق مطلقاً ـ أمّا الآية التي ذكرها فليست قبل قوله تعالى : ( إنما وليّكم الله ... ) بل هي مفصولة عن هذه الآية بآياتٍ عديدةٍ أجنبيّة عنها ، فلا تصلح التي ذكرها قرينة لحمل « الولي » على « الناصر ». وأمّا التي بعدها فهي مناسبة لكون المراد « الأولوية » بكلّ وضوح ، لأنّ المراد بتولّي

٩٧

الله ورسوله والذين أموا هو اتخاذهم أولياء والقول بولايتهم بالمعنى الذي أريد من الولي في ( إنما وليكم الله ... ) فكيف لا تحصل المناسبة؟

فظهر أنّ الآية الكريمة ـ وبالنظر إلى أحاديث الفريقين الواردة في شأن نزولها ـ نصّ في إمامة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل.

قوله (٣٦٠) :

( أمّا السنة فمن وجوه ... ).

أقول :

الوجوه التي ذكرها هي قليل من كثير لا يخفى على من لاحظ كتب أصحابنا ، فلا يتوهّم الإنحصار بما أورد في الكتاب.

حديث الغدير

قوله (٣٦٠) :

( الأول خبر الغدير ... والجواب ... )

أقول :

لقد أوجز الكلام في بيان كيفيّة الإستدلال بحديث الغدير ، فليراجع في ذلك كتب أصحابنا ، ثم ناقش فيه سنداً ومتناً ودلالةً ، ونحن نتكلّم على ما قال في كلّ جهة بقدر الضرورة.

أمّا سنداً فذكر : ( منع صحة الحديث ، ودعوى الضرورة في العلم بصحته لكونه متواتراً مكابرة ).

وفيه : إنّ هذا الحديث متواتر قطعاً ـ فضلاً عن الصحّة ـ عند أهل البيت وأتباعهم ، وأمّا أهل السنة فإنّما يستشهد أصحابنا بأخبارهم وأقوالهم إثباتاً للإتفاق على المطلب وإلزاماً لمن تعصّب ... ولذا يكفي إقرار بعض من يحتجّ بقوله منهم بالصحّة فضلاً عن الإذعان بالتواتر ... وحينئذٍ نقول : لقد نصَّ على صحة

٩٨

الغدير جماعة من أعلام أهل السنة ، منهم :

١ ـ الترمذي المتوفى سنة ٢٧٩ ، فإنّه قال بعد أن أخرجه : « هذا حديث حسن صحيح » (١).

٢ ـ الطحاوي المتوفى سنة ٢٧٩ بعد أن رواه : « فهذا الحديث صحيح الإسناد ولا طعن لأحدٍ في رواته » (٢).

٣ ـ الحاكم المتوفى سنة ٤٠٥ حيث أخرجه بعدة طرقٍ وصحّحها (٣).

٤ ـ ابن عبدالبر المتوفى سنة ٣٦٤ حيث قال بعد أحاديث في فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام منها حديث الغدير : « هذه كلها آثار ثابتة » (٤).

٥ ـ الذهبي المتوفى سنة ٧٤٨حيث أنه وافق الحاكم على تصحيحة في تلخيص المستدرك (٥).

٦ ـ إبن كثير الدمشقي المتوفى سنة ٧٧٤ حيث ذكر الحديث ثم عقبه بقوله : « قال شيخنا أبو عبدالله الذهبي : هذا حديث صحيح » (٦).

٧ ـ إبن حجر العسقلاني المتوفى سنة ٨٥٢ حيث قال : « وأما حديث من كنت مولاه فعليّ مولاه فقد أخرجه الترمذي والنسائي ، وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتابٍ مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ... » (٧).

٨ ـ إبن حجر المكي المتوفى سنة ٩٧٤ : « إنه حديث صحيح لا مرية فيه وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد ، فطرقه كثيرة جداً ، ومن ثمّ رواه ستة

__________________

(١) صحيح الترمذي ٥/٥٩١ ، باب فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٢) مشكل الآثار ٢/٣٠٨.

(٣) المستدرك على الصحيحين ٣/١١٠ وغيره.

(٤) الإستيعاب ترجمة الإمام عليه‌السلام ٣/١٠٩٠.

(٥) تلخيص المستدرك ـ المطبوع بذيله ـ ٣/١١٠.

(٦) تاريخ ابن كثير ٥/٢٠٩.

(٧) فتح الباري ٧/٦١.

٩٩

عشر صحابياً ، وفي رواية لأحمد : إنه سمعه من النبي ثلاثون صحابياً وشهدوا به لعلي لمّا نوزع أيام خلافته كما مرّ وسيأتي ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ، ولا التفات لمن قدح في صحّته ولا لمن ردّه بأنّ علياً كان باليمن لثبوت رجوعه منها ... » (١).

٩ ـ علي القاري المتوفّى سنة ١٠١٤ فإنه قال بعد أن رواه : « والحاصل إن هذا حديث صحيح لا مرية فيه بل بعض الحفاظ عدّه متواتراً ... فلا التفات لمن قدح في ثبوت هذا الحديث ، وأبعد من ردّه بأن عليّاً كان باليمن ... » (٢).

١٠ ـ المناوي المتوفى سنة ١٠١٣ حيث قال : « قال ابن حجر : حديث كثير الطّرق جدّاً ، قد استوعبها ابن عقيدة في كتابٍ مفرد ، منها صحاح ومنها حسان ... » (٣).

هؤلاء جماعة من أكابر القوم نصوا على صحّة الحديث ، ولو شئنا أن نذكر غيرهم لذكرنا ... ولنذكر جماعةً نصّوا على تواتره فمنهم :

١ ـ شمس الدين الذهبي.

٢ ـ ابن كثير الدمشقي ، حيث قال : « وقد قال شيخنا الحافظ أبو عبدالله الذهبي ... الحديث متواتر أتيقّن أن رسول الله قاله » (٤).

٣ ـ ابن الجزري التوفى سنة ٨٣٣ : « صحيح عن وجوه كثيرةٍ متواتر عن أمير المؤمنين علي وهو متواتر أيضاً عن النبي ، رواه الجم الغفير عن الجم الغفير ، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممّن لا اطلاع له في هذا العلم ... وصح عن جماعة ممّن يحصل القطع بخبرهم » (٥).

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٢٥.

(٢) المرقاة في شرح المشكاة ٥/٥٦٨.

(٣) فيض القدير في شرح الجامع الصغير ٦/٢١٨.

(٤) تاريخ ابن كثير ٥/٢١٣.

(٥) أسنى المطالب ٣ ـ ٤.

١٠٠