الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

السيّد علي الحسيني الميلاني

الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

إذن لم يتوفر في أبي بكر من هذه الشروط المختلف فيها إلاّ الأول وهو كونه قرشياً.

وأما الشروط المدّعى عليها الإجماع ، فالذي كان متوفّراً منها فيه بلا خلاف هي الأربعة التالية.

الحريّة ، الذكورة ، البلوغ ، العقل.

فالصّفات التي كان مستجمعاً لها هي هذه الأربعة والقرشيّة ... ولكنْ لا حاجة إلى الإستدلال لها بكتب السير والتواريخ.

وأما الأربعة الأولى وهي :

الإجتهاد ، البصيرة ، الشّجاعة ، العدالة. فكتب السير والتواريخ تشهد بعدم توفّرها فيه ...

ولو سلّمنا توفّر الثمانية كلّها فيه والقرشية ... فقد استجمع هذه الصفات غير واحد من الصحابة ... فما الذي رجّح أبابكر على المستجمعين لها منهم؟

على أنّك قد عرفت أن عمدة الشرائط العصمة والأفضلية والأعلمية ، وأنّ طريق تعيين الإمام هو النصّ أو ما يقوم مقامه ...

قوله ٣٥٥ :

( ولا نسلّم كونه ظالماً ... ).

أقول :

قد ذكرنا معنى قوله تعالى : ( ولا ينال عهدي الظالمين ).

قضية فدك

قوله ٣٥٥.

( قولهم : خلاف الآية في منع الإرث : قلنا : لمعارضتها بقوله عليه‌السلام : نحن معاشر الأنبياء لا نوّرث ... ).

أقول :

٦١

١ ـ ليس في استدلال أصحابنا أن الزهراء عليها‌السلام كانت مستحقة للنصف ، بل إن البنت الواحدة ترث كلّ ما تركه مورثّها بالفرض والرد.

٢ ـ إن الزهراء عليها‌السلام لن تطالب بنصف فدك بل كلّه.

٣ ـ إنّ صريح الأخبار الآتي بعضها هو أن « فدك » غير « خيبر » فليس قريةً بخيبر كما ذكر.

٤ ـ إنّ مطالبتها في خصوص فدك لم يكن إرثاً ، بل إنّها كانت تطالب برفع إستيلاء القوم على ذلك الملك الحاصل لها نحلةً من والدها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ منذ عام خيبر.

أمّا أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أعطاها فدكاً فذاك ما رواه كبار الحفّاظ عن غير واحد من الأصحاب (١).

وأمّا أنّ أبابكر تعرّض لفدك واستولى عليه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذاك أمر ثابت لا خلاف فيه ، وفي عبارة ابن حجر المكي : « إن أبابكر انتزع من فاطمة فدكاً » (٢).

وعلى الجملة فلا ريب في أن فدكاً كان بيد الزهراء من قبل وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوبكر كان يعلم بذلك ، فهل انتزعه منها لكون يدها عدوانيةً؟

وهلاّ طلب منها قبل الإنتزاع إقامة البيّنة لو فرض أنّه كان يرى بإجتهاده!! توقف استمرار يدها على ذلك.

وإذ طلب منها الشهود ـ وهو يعلم بكون فدك بيدها بالحق ـ فلما ذا ردّ شهادة أمير المؤمنين؟ أكان يراه كاذباً أو كان اجتهاده! على عدم كفاية الشاهد الواحد وإن علم بصدقة؟ أمّا الأول فلا نظنّهم يلتزمون به وعلي من عرفه الكل. وأمّا الثّاني فيردّه حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة خزيمة بن

__________________

(١) الدر المنثور : ٤/١٧٧.

(٢) الصواعق المحرقة : ٣١.

٦٢

ثابت ، فلهذا لقّب بذي الشّهادتين (١).

ولو سلّم حصول الشك له فهلاّ طلب اليمين من فاطمة فيكون قد قضى بيمين وشاهد ، وهو ما نزل به جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) وقضى به رسول الله كما في الصحيح (٣).

لكن في الكتاب : « لعله!! لم ير الحكم بشاهد ويمين »!!

سلّمنا ، أليس كان عليه أن يحلف حينئذ؟ فلماذا لم يحلف والزهراء ما زالت مطالبةً؟

هذا كلّه بغض النظر عن عصمة علي والزهراء والحسنين ، وفضلاً عن شهادة أن أم أيمن وهي المشهود لها بالجنة (٤).

٥ ـ ثم إنّها طالبت أبابكر بإرثها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد شمل طلبها هذا فدكاً بعد أن ردّ طلبها بترك التعرض له ، لكون هذه الأرض ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فكان ملكاً خاصّاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أخرج البخاري عن عائشة قالت : « إنّ فاطمة عليها‌السلام بنت النبي أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر.

فقال أبو بكر : إن رسول الله قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، وإني والله لا أغيرّ شيئاً من صدقة رسول الله عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله ، ولأعملنّ فيها بما عمل بها رسول الله.

فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.

__________________

(١) سنن أبي داود ٣/٤١٨.

(٢) كنز العمال ـ كتاب الخلافة ٥/٥٠٨.

(٣) صحيح مسلم كتاب الأقضية ، سنن أبي داود ٣/٤١٩.

(٤) كما في ترجمتها في طبقات ابن سعد والإصابة وغيرهما.

٦٣

فوجدت فاطمة على أبي بكر ، فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت.

وعاشت بعد النبي ستة أشهر.

فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يوذن بها أبابكر ، وصلّى عليها.

وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة » (١).

٦ ـ لكنّ الكلام في الحديث الذي ذكره ، فإنّ القوم لم يتمكّنوا من إثبات تماميّته سنداً ودلالةً فقد جاء في الكتاب ما نصّه.

( حجية خبر الواحد والترجيح ممّا لا حاجة لنا إليه ههنا ، لأنه كان حاكماً بما سمعه من رسول الله ، فلا اشتباه عنده في سنده ).

وهذا ـ مضافاً إلى أنّ أبابكر لم يكن حاكماً في القضية بل كان خصماً ـ فرار عن البحث ، لأن غاية هذا الكلام حسن الظن بأبي بكر ، فلما ذا لم يحسن الظن بعلي وفاطمة والعباس وأزواج النبي ... الذين طالبوا بارثهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منكرين لهذا الحديث الذي انفرد أبوبكر بروايته!! ولا أقلّ من حسن الظن بكلا الطرفين ، فلم يثبت المخصّص لعمومات الإرث.

هذا ، وقد وجدنا في حفّاظ أهل السّنة من تجرّأ فقال الحق وتحمّل في هذا السّبيل الطّعن والطّرد ، فصرّح ببطلان هذا الحديث ... ألا وهو الحافظ أبو محمد عبدالرحمن بن يوسف المعروف بابن خراش ، البغدادي ، المتوفي سنة ٢٨٣ ، قال ابن المديني : « كان من المعدودين المذكورين بالحفظ والفهم للحديث والرجال » وقال الخطيب : « كان أحد الرّحالين في الحديث إلى الأمصار وممّن يوصف بالحفظ والمعرفة » وقال أبو نعيم : « ما رأيت أحفظ منه » وقال السّيوطي : « ابن خراش الحافظ البارع الناقد » إلى غير ذلك من كلماتهم في تكريمه وتجليله ، وقد رووا عن عبدان أنه قال « قلت لابن خراش : حديث لا نورّث ما تركنا صدقة. قال باطل. قلت : من تتهّم به؟ قال : مالك بن أوس » ولهذا رموه بالتشيع ، وتهجّم

__________________

(١) صحيح البخاري : باب غزوة خيبر. صحيح مسلم كتاب الجهاد والسيّر.

٦٤

عليه الذهبي وابن حجر. لاحظ : تذكره الحفاظ ٢/٦٨٤ وميزان الاعتدال ٢/٦٠٠ ولسان الميزان ٣/٤٤٤ وطبقات الحفاظ : ٢٩٧.

فالحديث باطل سواء كان من أبي بكر أو مالك بن أوس.

وممّا يؤكد ذلك عمل عمر وعثمان وعمر بن عبدالعزيز خامس الخلفاء الراشدين عندهم وسائر أمراء المسلمين في عقيدتهم في فدك ، فهم جميعاً مكذّبون عملاً للحديث المذكور.

هذا في ناحية السند.

وكذا كلامه في ناحية المتن والدلالة حيث قال : ( وعلم أيضاً دلالته على ما حمله من المعنى ، لانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرّقها اليه بقرينة الحال ، فصار عنده دليلاً قطعيّاً مخصّصاً للعمومات الواردة في باب الإرث ).

فهلاً احتمل ـ في أقل تقدير ـ أن يكون أبوبكر قد أخطأ في دلالة هذا الحديث وقد صرّح سابقاً بعدم عصمته؟

إن الحديث ذو وجهين :

أحدهما : أن يكون كلمة « صدقة » مرفوعةً على الاخبار به عن « ما » الموصولة في « ما تركناه ».

والآخر : أن يكون « ما » منصوبةً محلاً على المفعولية لـ « تركناه » وتكون « صدقة » حالاً من « ما ».

وإثبات الأول ليتم الإحتجاج به في غاية الإشكال ـ بل يبعّده ، بل يبطله ـ عدم علم أمير المؤمنين علي وفاطمة وأهل البيت عليهم‌السلام والعباس وأزواج النبي وسائر المسلمين ... بهذا الذي ذكره أبوبكر ... بل إنّ هذا الحديث لم يسمع من أبي بكر قبل ذلك اليوم!! بل إنّ كلامه في آخر حياته حيث كان يتمنى لو سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حقّ أهل البيت في الخلافة ـ وإن كان في نفسه تضليلاً ـ دليل على ندمه على تصدّي الأمر وما ترتّب عليه من أفعال وتروك.

٦٥

قال : إني لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهنّ ووددت أني تركتهنّ ، وثلاث تركتهنّ وددت أني فعلتهنّ ، وثلاث وددت أني سألت عنهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فأما الثلاث اللأّتي وددت أني تركتهن : فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة وإن كانوا قد غلّقوه على الحرب ، ووددت أني لم أكن حرّقت الفجأة السلمي وإني كنت قتلته سريحاً أو خلّيته نجيحاً ، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً ... ووددت أني سألت رسول الله : لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد ، ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا لاأمر نصيب؟ ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الآخ والعمة فإن في نفسي منهما شيئاً » (١).

قوله (٣٥٥) :

( قولهم : فاطمة معصومة. قلنا : ممنوع ، لأن أهل البيت يتناول أزواجه وأقربائه كما رواه الضحّاك ، فإنّه نقل بإسناده عن النبي عليه‌السلام أنه قال حين سألته عائشة عن أهل بيته ... وقوله عليه‌السلام : بضعة مني مجاز قطعاً ... ).

عصمة الزهراء عليها‌السلام

أقول :

ليس دليل عصمةالزهراء محصوراً بالآية والحديث المذكورين.

أمّا الآية المباركة فقد تواتر النقل عن الفريقين أن أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً فيها إنما هم : النبي وعلي وفاطمة والحسنان عليهم الصلاة والسلام ، وكفاك في هذا المقام الحديث الذي رواه أعلام الأئمة الحفّاظ وصحّحوه عن السيدة أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها التي على يدها دار الحديث وفي بيتها نزلت الآية ...

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤/٥٢ وغيره.

٦٦

فقد أخرج الترمذي وصحّحه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : في بيتي نزلت : ( إنما يريد ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) وفي البيت : فاطمة وعلي والحسن والحسين ، فجلّلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكساء كان عليه ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً (١).

وفي حديث آخر رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنها : قالت أم سلمة رضي الله عنها فأدخلت رأسي في الستر فقلت : يا رسول الله وأنا معكم؟ فقال : إنك إلى خير ـ مرتين » (٢).

وفي آخر : « قالت أم سلمة فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبه من يدي وقال : إنك على خير » (٣).

وأما الحديث الذي ذكر في الكتاب عن الضحّاك ففيه أولاً : إنّه لم يعلم من راويه وما سنده؟

وثانياً : ( الضحّاك بن مزاحم ) كان يروي عمّن لم يلقه ، وكان شعبة لا يحدّث عنه ، وقال يحيى بن سعيد ، كان الضحّاك عندنا ضعيفاً. وقال البخاري بعد أن روى عنه حديثاً عن ابن عمر : لا أعلم أحداً قال سمعت ابن عمر إلاً أبو نعيم (٤).

وثالثاً : إنّ الحديث عن عائشة ، وهي في هكذا موضع بالخصوص متّهمة في النقل.

ورابعاً : إنّ الحديث يعارضه ما رواه القوم عن أم سلمة وجماعة من الصحابة وهو المشهور روايةً والمعتبر سنداً.

وخامساً : إنّ الحديث معارض بحديث آخر من عائشة نفسها ـ ومن رواته

__________________

(١) الدر المنثور ٥/١٩٨.

(٢ و ٣) الدر المنثور ٥/١٩٨.

(٤) تهذيب التهذيب ٤/٣٩٨.

٦٧

مسلم بن الحجاج ـ قال الحافظ السيوطي : « وأخرج ابن أبي شيبه وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة قالت : خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه ثم جاء علي فأدخله معه ثم قال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً » (١).

ثم إن الآية الكريمة تدل على عصمة الخمسة ، لأن الرجس فيها كما نص عليه الزمخشري (٢) وغيره هو « الذنوب » وقد تصدرت الآية بأداة الحصر ، فدلّت على أنّ إرادة الله تعالى في حقهم مقصورة على إذهاب الذنوب كلّها عنهم ، وهذا واقع العصمة.

وأيضاً : فقد ذكر أصحابنا هذه الآية المباركة في أدلة إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام. لأنه قد إدّعى الخلافة لنفسه ، وإدّعاها له فاطمة والحسنان ، وهم لا يكونون كاذبين ، لأنّ الكذب من الرجس الذي أذهبه الله عنهم.

وأمّا الحديث الشّريف : « فاطمة بضعة منّي ... » فهو أيضاً من الأحاديث الصحيحة المتفق عليها ، وممّن أخرجه : أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والحاكم ... وهو يدلّ على عصمتها صدراً وذيلاً.

وأما صدراً فلكلمة « بضعة » ، قوله : « مجاز قطعاً » منه : أنّ الأصل هو الحقيقة فلابدّ من حمل الكلام عليها ، ثم من أين يحصل القطع بكونه مجازاً؟ وممّا يشهد بحمله على الحقيقة فهم كبار الحفاظ من ذلك بشرحه كالحافظ أبي القاسم السهيلي شارح السيرة النبوية ... فقد قال المناوي بشرح الحديث : « إستدل به السّهيلي على أنّ من سبّها كفر لأنه يغضبه وأنها أفضل من الشيخين » (٣).

فإنّ دلالته على الأفضلية منهما لا يكون إلاّ بلحاظ كون الزهراء « بضعة »

__________________

(١) الدر المنثور ٥/١٩٩.

(٢) الكشاف ٣/٥٣٨ وكذا في غيره من التفاسير.

(٣) فيض القدير ٤/٤٢١.

٦٨

من النبي وهو أفضل الخلائق أجمعين.

وكالحافظ السمهودي فإنّه قال : « ومعلوم أنّ أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منه » (١) فإنّ هذا لا يتم إلاّ بحمل « البضعة » على الحقيقة كما هو مقتضى الأصل. فتأمّل.

ومتى تعذّر حمل الكلام على الحقيقة فأقرب المجازات هو المتعيّن كما تقرّر في موضعه ، وهو أيضاً كافٍ لاثبات المطلوب كما لا يخفى.

ويشهد بما ذكرنا أن الكلمة جاءت في بعض الروايات بلفظ « مضغة » (٢) وبلفظ « شجنة » (٣).

وأما ذيلاً فإنّ في ذيل الحديث : « فمن أغضبها أغضبني » (٤) وفي لفظ : يقبضني ما يقبضها وبيسطني ما ويبسطها » (٥) وفي ثالث « يؤذيني ما آذاها » (٦).

وكيف تنكر عصمة من يكون رضا النبي وغضبه دائراً مدار رضاه وغضبه؟

قوله (٣٥٦) :

( الثاني من الوجوه الدّالة على نفي أهليته للإمامة أنه لم يولّه النبي عليه‌السلام شيئاً في حال حياته ... قلنا : لا نسلّم أنه لم يؤلّه شيئاً بل أمّره على الحجيج سنة تسع وأمره بالصلاة بالناس في مرضه ... ).

قصة إبلاغ سورة براءة

أقول :

إنّه لم يذكر إلاّ قضية إبلاغ سورة براءة ، وقضية الصلاة ، ومعنى ذلك أنه

__________________

(١) فيض القدير ٤/٤٢١.

(٢) صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل فاطمة بنت النبي.

(٣) المستدرك ٣/١٥٤ ، مسند أحمد ٤/٣٢٢.

(٤) صحيح البخاري باب مناقب قرابة رسول الله.

(٥) مسند أحمد ٤/٣٣٢ ، المستدرك ٣/١٥٨.

(٦) صحيح مسلم باب فضائل فاطمة من فضائل الصحابة.

٦٩

إذا تبيّن واقع الحال في القضيتين فهو مضطرّ إلى التلسيم بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يؤلّه شيئاً ... فنقول :

أمّا قضيّة إبلاغ سورة براءة :

فيقول القوم إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبابكر إلى مكة أميراً للحاج ، وأمره أن يقرأ الآيات من سورة البراءة على المشركين في الموسم ، فلمّا خرج أبوبكر بدا لرسول الله في أمر تبليغ الآيات ، فبعث علياً لتبليغها ، وبقيت أمارة الحج لأبي بكر ، فيكون قد ولاّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً من الأمور في حياته ...

قالوا : وإنما أتبع النبي علياً أبابكر ليأخذ منه الآيات فيبلّغها ، لأنّ الآيات كانت مشتملة على نبذ العهود التي كان بينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين المشركين ، ومن عادة العرب في أخذ العهود ونبذها أن يتولاّه الرجل بنفسه أو أحد من بني عمه.

فكلامهم يشتمل على أمور ثلاثة :

الأول : الإقرار بأن علياً عليه‌السلام هو الذي أبلغ الآيات بعد أن كان المأمور بتبليغها أبوبكر.

والثاني : دعوى أنّ أبابكر دخل مكة وكانت إمارة الحاج في تلك السنة معه.

والثالث : السبب في تبليغ علي الآيات دون أبي بكر.

فنقول :

من الأفضل أن نذكر أولاً نصوصاً من الخبر عن عدة من الكتب المعتبرة عند القوم حتى تتضح حقيقة الحال ، ويتبين أن أصحابنا لا يتكلّمون إلاّ إستناداً إلى أخبارهم :

١ ـ أخرج أحمد بإسناده عن أبي بكر : « إنّ النبي بعثه ببراءة لأهل مكة ، لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنّة إلاّ نفس مسلمة ، من كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى مدّته والله بريء من المشركين

٧٠

ورسوله. قال : فسار بها ثلاثاً ثم قال لعلي : إلحقه فردَّ عليّ أبابكر وبلّغها أنت. ففعل ، فلمّا قدم على النبي أبوبكر بكى قال : يا رسول الله حدث فيّ شيء؟ قال : ما حدث فيك إلاّ خير ، ولكن أمرت أن لا يبلّغه إلاّ أنا أو رجل مني » (١).

٢ ـ أخرج أحمد بإسناده عن علي عليه‌السلام قال : « لمّا نزلت عشر آيات من سورة براءة على النبي ، دعا النبي أبابكر فبعثه بها ، ثم دعاني النبي فقال لي : أدرك أبابكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى مكة فاقرأه عليهم ، فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبوبكر إلى النبي فقال : يا رسول الله نزل فيّ شيء؟ قال : لا ولكن جبرئيل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك » (٢).

٣ ـ أخرج أحمد بإسناده عن النبي : « إن رسول الله بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكة. قال : ثم دعاه فبعث بها علياً » (٣).

٤ ـ أخرج الترمذي عن زيد بن يثبع قال : « سألنا علياً بأي شيء بعثت في الحجة؟ قال : بعثت بأربع : أن لا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو إلى مدّته ، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر ، ولا يدخل الجنّة إلاّ نفس مؤمنة ، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا » (٤).

٥ ـ أخرج الحاكم بأسناده عن ابن عمر في حديث قال : « ان رسول الله بعث أبابكر وعمر ببراءة إلى أهل مكة. فانطلقا فاذا هما براكب ، فقال : من هذا؟ قال : أنا علي يا أبابكر ، هات الكتاب الذي معك ، فأخذ علي الكتاب فذهب به

__________________

(١) مسند أحمد ٢ |١.

(٢) مسند أحمد ١/١٥١ ، الخصائص : ٢٠ ، المستدرك ٢/٥١ ، تفسير ابن كثير ٢/٣٣٣ ، الدر المنثور ٣/٢٠٩.

(٣) مسند أحمد ٣/٢٨٣ ، وكذا الحديث عن أنس عند الترمذي تفسير سورة التوبة ، الخصائص : ٢٠ ، البداية والنهاية ٥/٣٨ ، إرشاد الساري ٧/١٣٦ روح المعاني ٣/٢٦٨.

(٤) صحيح الترمذي تفسير سورة التوبة.

٧١

ورجع أبوبكر وعمر إلى المدينة فقالا : ما لنا يا رسول الله؟ قال : ما لكما إلاّ خير ، ولكن قيل لي : لا يبلّغ عنك إلاّ أنت أو رجل منك (١).

فنقول :

أمّا الإقرار ببعث أمير المؤمنين خلف أبي بكر وأخذه الآيات منه ... فلم يكن لهم مناص منه ...

وأمّا الدعوى بأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أبابكر على الحجيج ولم يعزله عمّا ولاّه فليس لها شاهد في الأحاديث المذكورة ونحوها ، بل كلّ ما هنالك أنه بعثه « ببراءة لأهل مكة » ثمّ بيّن البراءة في الحديث الأول بقوله : « بعثه ببراءة لأهل مكة : لا يحجّ ... » ويفيد الحديث الثاني أنّ هذه الأمور هي مفاد « عشر آيات في سورة براءة » ... وذلك ما أخذه منه علي عليه‌السلام وبلّغه ... كما هو مفاد الأحاديث الأول والثاني والرّابع ... فأبن إمارة الحج؟

ثم إنّ هذه الأحاديث وغيرها صريحة في أنّ علياً لحق أبابكر ـ أو هو وعمر ـ في الطريق ، وردّ أبابكر من حيث أدركه ، وفي بعضها أنه لحقه « بالجحفة ... ورجع أبوبكر إلى المدينة ... » فأين أمارة الحج؟

إنه لم يكن في الواقع إلاذ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبابكر بإبلاغ أهل مكة : « أن لا يطوف بالبيت عريان...» وهي مفاد الآيات من سورة البراءة ، ثم أمر علياً عليه‌السلام أن يدركه في بعض الطريق فياخذ منه الكتاب ويبلّغه أهل مكة بنفسه ويرجع أبوبكر إلى المدينة ...

أمّا أن السبب في ذلك ... فليس في الأحاديث إلاّ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل عليه جبرائيل فقال : « لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك » كما هو نص الحديث الثاني وغيره .. فقولهم : « لأنّ عادة العرب ... » لا دليل عليه ، بل في الأحاديث قرائن عديدة على أن السبب ليس ما ذكروه ، ومنها :

__________________

(١) المستدرك ٣/٥١.

٧٢

أولاً : إنّه لو كان عادة العرب في ذلك ما ذكر فلماذا خالفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإرسال أبي بكر؟ أكان جاهلاً بتلك العادة أم كان عالماً بها فخالفها عمداً تساهلاً بتنفيذ حكم الله عزّ وجلّ؟

وثانياً : لو كان السبب ذلك ، فلماذا جاء أبوبكر يبكي مخالفة أن يكون قد نزل فيه شيء؟ أكان جاهلاً بتلك العادة أم ماذا؟

فتلخص : إنه لم يكن بعث أبي بكر لإمارة الحج ، وإنما لإبلاغ البراءة ، والنبي أرسل علياً عليه‌السلام خلفه بأمر من الله ، ليأخذ ذلك منه ، فيكون قائماً مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أداء تلك الوظيفة ... فيظهر أنّه الصالح لذلك ...

ولذا كانت هذا القضية خصيصة من خصائصه الدالة على إمامته وخلافته ، وعن بعض أكابر الصحابة أنّهم كانوا يتمنّون أن تكون لهم هذه المنقبة العظيمة والخصيصة الرفيعة ، فهذا سعد بن أبي وقاص ... قال الحارث بن مالك : « خرجت إلى مكة فلقيت سعد بن مالك فقلت له : هل سمعت لعلي منقبة؟ قال : شهدت له أربعاً لئن يكون لي إحداهنّ أحبّ إلي من الدنيا ، أعمّر فيها ما عمّر نوح : إنّ رسول الله بعث أبابكر ببراءة من مشركي قريش فسار بها يوماً وليلة ثم قال لعلي : إلحق أبابكر فخذها منه فبلّغها وردّ عليّ أبابكر ، فرجع أبوبكر فقال : يا رسول الله هل نزل فيّ شيء؟ ... » (١).

ويظهر أيضاً : أنّ أبابكر غير صالح للقيام مقام النبي في ذلك ، ومن لم يصلح للقيام مقامه لأداء آيات كيف يصلح للقيام مقامه في الرياسة العامة الإلهية ...

__________________

(١) كنز العمال : ٢/٤١٧.

٧٣

صلاة أبي بكر في مرض النبي

وأمّا قضية الصّلاة بالناس وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أمره بالصلاة بالناس في مرضه الذي توفي فيه » وأنّ « قولهم عزله عن الصلاة كذب وما نقلوه فيه مختلق ... » فكأنها أقوى أدلة الكتاب على المدعى ، ولذا أطنب الشارح في هذا المقام ...

لكنّ الحق الواقع الذي يتوصل إليه المحقّق المنقّلب :

أولاً : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأمره بالصلاة.

وثانياً : إنّه لمّا علم بخروجه إلى الصلاة في موضعه خرج معتمداً على أمير المؤمنين ورجل آخر ، وصلّى تلك الصلاة بنفسه.

وثالثاً : إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقتد بأحدٍ أبداً.

ورابعاً : إنه على فرض كلّ ذلك فقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أبي بكر بالصّلاة بالناس في مواضع عديدة ، ولم يكن ذلك دليلاً على شيء.

وبيان ذلك بإيجاز هو : إنهم وإن رووا عن عائشة وعدّة من الصحابة أن رسول الله عليه وآله وسلّم أم بأن يصلي أبوبكر بالنّاس في مرضه. لكن أسانيد تلك الأخبار كلّها ساقطة بضعف رجالها ، على أنها جميعاً تنتهي إلى عائشة ، وهي في مثل هذا الأمر ـ لكونها بنت أبي بكر ومناوئةً لعلي عليه‌السلام ـ متهمة ، فلا يعتمد على خبرها هذا.

هذا من حيث السند.

وأمّا من حيث الدلالة فإنها وإن اشتملت على أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبابكر بالصلاة في موضعه لكنها جميعاً مشتملة على خروجه إلى المحراب وصلاته بالناس بنفسه الشريفة (١).

__________________

(١) لاحظ البخاري بشرح ابن حجر ٢/١٣٢ ، ١٣٧ ، ١٦٢ ، مسلم بشرح النووي ـ هامش إرشاد الساري ٣/٥٤ ، ٦١.

٧٤

فهذا ما جاء في نفس تلك ألاخبار المخرجة في الصحاح وغيرها المستدل بها على أمره أبابكر بالصّلاة بالناس ، وليست أخباراً أخرى ، وخروجه للصّلاة بنفسه ـ بعد أمره أبابكر بالصلاة ـ عزل له عن ذلك.

فمن قال بأنه « عزله عن الصلاة » فإنما أراد هذا المعنى ، ولم يرد ورود حديث في مصادر أهل السنة مشتمل على لفظ العزل حتى يقال بأن هذا القول كذب « وما نقلوه فيه مختلق »!

هذا ولم يتعرض الماتن إلى دعوى صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلف أبي بكر ، ولعله لعدم ورود شيء يفيد ذلك في شيء من الصحاح والسنن ، ومن المعلوم أن مجرد صلاة أحد في مكان النبي لا يدل على استحقاقه للخلافة من بعده ، وإلاّ لزم استحقاق كلّ من أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك من الصحابة ، حتى ابن أم مكتوم الأعمى ، فاستدلاله باطل على فرض ثبوت أصل الخبر.

أمّا الشّارح فكأنّه إلتفت ـ كغيره ـ إلى سقوط هذا الإستدلال فأضاف دعوى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إلى المسجد وصلّى خلف أبي بكر ، وزعم أن ما روى البخاري مما دلّ على عزله عن المحراب « فهو إنما كان في وقت آخر ».

لكنّ مستند هذه الدعوى بعض الأخبار الضعيفة التي أعرض عنها البخاري ومسلم وكبار أئمة الحديث ، وممّن نصّ على عدم الاعتداد بهذه الأخبار وسقوطها عن الإعتبار الحافظ ابن الجوزي والحافظ ابن عبد البر والحافظ النووي (١) وأما الجمع بين هذه الأخبار وما دلّ في الصحاح على عزله بتعدد الواقعة فهو :

أولاً : فرع على صحة هذه الأخبار المزعومة.

__________________

(١) لاحظ : فتح الباري ٢/١٢٠ ، عمدة القاري ٥/١٩١ ، المنهاج في شرح مسلم ٣/٥٢.

٧٥

وثانياً : على تكرار صلاة أبي بكر بالناس حتى يكون في مرةٍ إماماً للنبي وفي أخرى مأموماً له ، لكن الذي عليه الأئمة أنّ صلاته بالناس لم تكن إلاّ مرةً واحدة ، وهي التي حضر فيها النبي فكان الإمام (١).

ثم إنه يؤكد كذب أصل خبر أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كون أبي بكر في ذلك الوقت في جيش أسامة في خارج المدينة (٢) الذي لعن من تخلف عنه (٣) فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعود ـ والحال هذه ـ فيأمره بالصلاة بالناس.

وأيضاً فالنبّي كان ملتزماً بالحضور للصلاة بنفسه ، فقد صلّى بالناس في مرضه الأخير إلاّ في الصلاة الأخيرة من عمره الشريف حيث اشتد حاله فلم يحضر (٤) ، وهذه هي التي خرج إليها معتمداً على رجلين أحدهما علي عليه‌السلام (٥) ، فصلّى تلك الصلاة أيضاً بنفسه ، لأنّه لم يكن قد أمره بذلك.

والذي يؤكّد كذب ما روي من صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلفه أنّ الله تعالى قد نهى المؤمنين عن التقدم على رسول الله حيث قال : ( يا أيّها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) (٦) ، وقد استدل بهذه الآية وأدلة أخرى مالك بن أنس وأتباعه وجماعة آخرون فذهبوا إلى أنه لا يصح التقدّم بين يديه لا في الصّلاة ولا في غيرها ، ولا لعذر ولا لغيره (٧).

هذا موجز الكلام على هذه القضية ، ولنا فيها رسالة مستقلة *.

قوله (٣٥٧).

__________________

(١) لاحظ : فتح الباري ٢/١٣٨.

(٢) لاحظ : فتح الباري ٨/١٢٤.

(٣) الملل والنحل ١/٢٩ وهو في الكتاب عن الآمدي ٨/٣٧٦.

(٤) صحيح البخاري بشرح ابن حجر ٣/١٣٧ ، صحيح مسلم بشرح النووي ٣/٥٤.

(٥) فتح الباري ٢/١٢٣ وغيره.

(٦) سورة الحجرات : ٢.

(٧) لاحظ : نيل الأوطار ٣/١٩٥ ، السيرة الحلبية ٣/٣٦٥ ، فتح الباري ٣/١٣٩.

* لاحظ الرّسالة في هذه المجموعة.

٧٦

( الثالث من تلك الوجوه : شرط الامام أن يكون أعلم الأمة بل عالماً بجميع الأحكام كما مر ، ولم يكن أبو بكر كذلك ... قلنا : الأصل ممنوع ... ).

جهل ابي بكر

أقول :

كيف يمنع اشتراط كون الامام أعلم الأمة ، وقد دلّت عليه آيات الكتاب والسنة العتبرة ونصّ عليه كبار العلماء ، بل هو مذهب أكثر أهل السنة؟

قال التفتازاني في ( شرح المقاصد ) : « ذهب معظم أهل السنة وكثير من الفرق إلى أنّه يتعيّن للامامة أفضل أهل العصر ، وقد طابق الكتاب والسنة والإجماع على أنّ الفضل بالعلم والتقوى.

قال الله تعالى : ( ان أكرمكم عند الله أتقاكم ).

وقال : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ).

وقال الله تعالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ).

وقال القاضي البيضاوي بتفسير : ( إنّي جاعل في الأرض خليفة ... ) :

إعلم أنّ هذه الآيات تدل على شرف الإنسان ومزية العلم وفضله على العبادة ، وأنه شرط في الخلافة ، بل العمدة فيها (١).

أقول :

ومن أوضح آيات الكتاب دلالة في هذا الباب قوله عزّ وجلّ : ( أفمن يهدي إلى الحق أحق ان يتبع أمن لا يهدّي الا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) (٢). فإنّه

__________________

(١) تفسير البيضاوي : ٢٥.

(٢) سورة يونس : ٣٥.

٧٧

إشارة إلى أمر عقلي مركوز في أذهان العقلاء ، وهو في نفس الوقت دليل آخر على اعتبار العصمة في الشخص المتصدي أم هداية الخلق إلى الحق.

وعلى هذا الغرار جاءت الأحاديث النبوية المتفق عليها ، يكفي منها ما أخرجه مسلم وغيره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنّة نبيّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين ».

وأمّا أن أبابكر لم يكن كذلك فهذا ما لا خلاف فيه لأحد ، وتدل عليه كتب السير والتاريخ ، وابوبكر نفسه معترف به ...

لكن عليّاً عليه‌السلام ادعى الأعلمية ـ وهو الصادق المصدق ـ واعترف له بذلك كبار الصحابة ، ورجوعهم اليه في المعضلات والمشكلات ، واعترافهم أمامه بالجهل ، مشهور ... فيكون هو الامام.

احراق أبي بكر فجاءة

قوله (٣٥٧) :

(لأنه أحرق فجاءة المازني بالنار وكان يقول أنا مسلم ).

فأجاب بقوله : إحراق فجاءة إنما كان باجتهاده ، وعدم قبول توبته لأنّه زنديق ، ولا تقبل توبة الزنديق في الأصح ).

أقول :

ظاهر قوله : « لأنه ... » أنّ ما يذكره أصحابنا من المطاعن في هذا الباب ينحصر بهذه الموارد الثلاثة التي ذكرها ، والحال أنه ليس كذلك ... ففي التجريد مثلاً : « ولم يكن عارفاً بالأحكام ، حتى قطع يسار سارقه ، وأحرق بالنار فجاءة السلمي ، ولم يعرف الكلالة ، ولا ميراث الجدة ، واضطرب في أحكامه ، ولم يحد خالداً ولا اقتص منه » (١).

__________________

(١) التجريد وشرحه : ٢٩٦.

٧٨

أمّا إحراق فجاءة .. فقد اضطربت الكلمات في توجيهه فمنهم من أجاب كما في الكتاب ، وتبعه صاحب ( الصواعق ) بقوله : « وإذا ثبت أنّه مجتهد فلا عتب عليه في التحريق ، لأن ذلك الرجل كان زنديقاً ، وفي قبول توبته خلاف ، وأما النهي عن التحريق فيحتمل أنه لم يبلغه وتأوّله على غير نحو الزنديق » (١).

لكنْ لا تعرض في الكتاب لنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الإحراق ، كما في صحيح البخاري (٢) أما في ( الصواعق ) فقد نبّه على أن اجتهاد أبي بكر مخالف للنص فأجاب باحتمال أنه « له يبلغه » لكن هذا قدح في أبي بكر فاستدركه بأنّه يحتمل أنه بلغه لكن « تأوّله ».

ثم إنّ هذا كلّه مبني على أن يكون الرجل زنديقاً ، لكنه لم يكن زنديقاً ، وكان يقول : « أنا مسلم » كما ذكر في الكتاب ، بل قيل إنه كان يلهج بالشهادتين حتى احترق وصار فحمةً ، وغاية ما هناك أنّه قطع الطرق ونهب أموال المسلمين كما ذكر المؤرخون كالطبري ، ومثله لا يكون زنديقاً ...

ولذا عدل بعض المعتزلة المدافعين عن أبي بكر كابن أبي الحديد إلى التوجيه بأسلوب آخر فقال : « والجواب : إن الفجاءة جاء إلى أبي بكر ـ كما ذكر أصحاب التواريخ ـ فطلب منه سلاحاً يتقوى به على الجهاد في أهل الردة ، فأعطاه ، فلما خرج قطع الطرق ونهب أموال المسلمين وأهل الردة جميعاً وقتل كل من وجد ـ كما فعلت الخوارج حيث خرجت ـ فلمّا ظفر به أبوبكر حرٌقه بالنار إرهاباً لأمثاله من أهل الفساد ونحوه ، وللإمام أن يخص النصّ العام بالقياس الجلي عندنا ».

فتراه لم يدع زندقة الرجل ، بل ذكر له توجيهاً ثبت في محلّة بطلانه جداً ...

وحيث رأى بعض المتكلّمين الأشاعرة سقوط هذا التوجيه كغيره اضطر إلى أن يقول :

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٣٢.

(٢) صحيح البخاري ٦/١١٣ بشرح ابن حجر.

٧٩

« أحراقه فجاءة السلمي بالنار من غلطه في اجتهاده ، فكم مثله للمجتهدين » (١).

لكن الإعتراف بغلط أبي بكر في الإجتهاد لا يبرء ساحته ، ولا يكون له عذراً يوم القيامة ، مع وجود النص الصّريح الصّحيح في حرمة التحريق بالنار ، فهو قادح في عدالة أبي بكر وخلافته ، ولذا اضطّر بعضهم كالشيخ عبدالعزيز الدهلوي في كتابه ( التحفة الاثنا عشرية ) (٢) إلى إنكار أصل القضيّة ، ودعوى أنها من افتراءات الشيعة. فإنكار أصل القضيّة يشهد بأن لا توجيه صحيح له ، لكن الإنكار لا يجدي فالقضية من المسلّمات ، والمصادر الناقلة لها كثيرة معتبرة ، وإلاّ لم احتاج الآخرون إلى تلك التوجيهات الفاسدة الباردة ...

وفوق ذلك كلّه ... كلام أبي بكر في آخر حياته ... الدالّ على ثبوت القضيّة وسقوط كلّ التوجيهات : « وددت أني لم أكن حرّقت الفجاءة السلمي ... ».

قطع يسار السارق

قوله (٣٥٧) :

( وأمّا قطع البيسار فلعلّه من غلط الجلاّد ، أو رآه في المرة الثالثة من السرقة ، وهو رأي الأكثر من العلماء ).

أقول :

في هذه العبارة اعترف بأمرين أحدهما : وقوع أصل القضية. والآخر : كون العمل خلاف الشرع ، وهل يكفي في الدفاع أن يقال : « ليت » و « لعلّ »؟!

أمّا قوله : « فلعلّه من غلط الجلاّد » فاحتمال سخيف لا يصغى إليه ...

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجي : ٣٧٩.

(٢) التحفة الإثنا عشرية : ٢٨٣.

٨٠