الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

السيّد علي الحسيني الميلاني

الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

والراوي عنه ولده « هشام » في رواية البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة ... وهو أيضاً من المدلّسين ، فقد قالوا : « كان ينسب إلى أبيه ما كان يسمعه من غيره ، وقد ذكروا أنّ مالكاً كان لا يرضاه ، قال ابن خراش : بلغني أنّ مالكاً نقم عليه حديثه لأهل العراق ، قدم الكوفة ثلاث مرّات ، قدمةً كان يقول : حدّثني أبي ، قال : سمعت عائشة. وقدم الثانية فكان يقول : أخبرني أبي ، عن عائشة. وقدم الثالثة فكان يقول : أبي ، عن عائشة » (١) وهذا الحديث من تلك الأحاديث.

وأمّا الحديث عن عبيدالله بن عبدالله عن عائشة :

فإنّ الرّاوي عن « عبيدالله » عند البخاري ومسلم والنسائي هو « موسى بن أبي عائشة » وقد قال ابن أبي حاتم سمعت أبي (٢) يقول : « تريبني رواية موسى بن أبي عائشة حديث عبيدالله بن عبدالله في مرض النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم » (٣).

وعند أبي داود وأحمد هو : الزهري ـ لكن عند الأول يرويه عن عبيدالله ، عن عبدالله بن زمعة ـ والزهري من قد عرفته سابقاً.

هذا مضافاً إلى ما في عبيدالله بن عبدالله نفسه ... فقد روى ابن سعد ، عن مالك بن أنس ، قال : « جاء عليّ بن حسين بن عليّ بن أبي طالب إلى عبيدالله ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود يسأله عن بعض الشيء!! وأصحابه عنده وهو يصلّي ، فجلس حتّى فرغ من صلاته ثمّ أقبل عليه عبيدالله.

فقال أصحابه : أمتع الله بك ، جاءك هذا الرجل وهو ابن ابنة رسول الله

__________________

(١) تهذيب التهذيب ١١/٤٤.

(٢) هو : محمّد بن إدريس الرازي ، أحد كبار الأئمّة الحفّاظ المعتمدين في الجرح والتعديل. توفّي سنة ٢٠٧ هـ تقريباً. توجد ترجمته في : تذكره الحفّاظ ٢/٥٦٧ ، تاريخ بغداد ٣/٧٣ وغيرهما من المصادر الرجالية.

(٣) تهذيب التهذيب ١٠/٣١٤.

٣٢١

صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وفي موضعه ، يسألك عن بعض الشيء!! فلو أقبلت عليه فقضيت حاجته ثمّ أقبلت على ما أنت فيه!

فقال عبيدالله لهم : أيهات! لابدّ لمن طلب هذا الشأن من أن يتعنّى!! » (١).

وأمّا الحديث عن مسروق بن الأجدع عن عائشة :

ففيه :

١ ـ « أبو وائل » وهو « شقيق بن سلمة » يرويه عن « مسروق » وقد قال عاصم ابن بهدلة : « قيل لأبي وائل : أيّهما أحبّ إليك : عليّ أو عثمان؟ قال : كان عليّ أحبّ إليّ ثم صار عثمان!! » (٢).

٢ ـ « نعيم بن أبي هند » يرويه عن « أبي وائل » عند النسائي وأحمد بن حنبل. و« نعيم » قد عرفته سابقاً.

ثمّ إنّ في أحدى طريقي أحمد عن « نعيم » المذكور : « شبابة بن سوار » وقد ذكروا بترجمة أنّه كان يرى الإرجاء ويدعو إليه ، فتركه أحمد وكان يحمل عليه ، وقال : أبو حاتم : لا يحتجّ بحديثه (٣) وقد أورده السيوطي في الفائدة المذكورة ، وحكى ابن حجر في ترجمته ما يدلّ على بغضه لأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

هذا ، ويبقى الكلام في عائشة نفسها ...

فقد وجدناها تريد كلّ شأن وفضيلةٍ لنفسها وأبيها ومن تحبّ من قرابتها وذويها ... فكانت إذا رأت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلاقي المحبّة من إحدى زوجاته ويمكث عندها تارث عليها ... كما فعلت مع زينب بنت

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٥/٢١٥.

(٢) تهذيب التهذيب ٤/٣١٧.

(٣) تهذيب التهذيب ٤/٢٦٤ ، تاريخ بغداد ٩/٢٩٥.

(٤) تهذيب التهذيب ٤/٢٦٥.

٣٢٢

جحش ، إذ تواطأت مع حفصة أن أيتهما دخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلتقل : « إنّي لأجد منك ريح مغافير حتّى يمتنع عن أن يمكث عند زينب ويشرب عندها عسلاً » (١).

وإذا رأته يذكر خديجة عليها‌السلام بخير ويثني عليها قالت : « ما أكثر ما تذكر حمراء الشدق؟! قد أبدلك الله عزّ وجلّ بها خيراً منها » (٢).

وإذا رأته مقدماً على الزواج من إمرأةٍ حالت دون ذلك بالكذب والخيانة ، فقد حدّثت أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلها لتطلّع على امرأةٍ من كلب قد خطبها فقال لعائشة : « كيف رأيت؟ قالت : ما رأيت طائلاً! فقال : لقد رأيت خالاً بخدّها اقشعرّ كلّ شعرةٍ منك على حدة فقالت : ما دونك من سرّ » (٣).

ولقد ارتكبت ذلك حتّى بتوهّم زواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... فقد ذكرت : أنّ عثمان جاء النبي في نحر الظهيرة. قالت : « فظننت أنّه جاءه في أمر النساء ، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه » (٤).

أمّا بالنسبة إلى من تكرهه ... فكانت حرباً شعواء ... من تلك مواقفها من الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ... فقد « جاء رجل فوقع في عليّ وفي عمّار رضي الله تعالى عنهما عند عائشة. فقالت : أمّا عليّ فلست قائلةً لك فيه شيئاً. وأمّا عمّار فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم يقول : لا يخيّر بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما » (٥).

بل كانت تضع الحديث تأييداً ودعماً لجانب المناوئين له عليه‌السلام ... فقد قال النعمان بن بشير : « كتب معي معاوية إلى عائشة قال : فقدمت على عائشة

__________________

(١) هذه من القضايا المشهورة فراجع كتب الحديث والتفسير بتفسير سورة التحريم.

(٢) مسند أحمد ٦/١١٧.

(٣) طبقات ابن سذعد ٨/١١٥ ، كنز العمّال ٦/٢٦٤.

(٤) مسند أحمد ٦/١١٤.

(٥) مسند أحمد ٦/١١٣.

٣٢٣

فدفعت إليها كتاب معاوية. فقالت : يا بُني ألا أحدّثك بشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم؟

قلت : بلى.

قالت : فإنّي كنت وحفصة يوماً من ذاك عند رسول الله.

فقال : لو كان عندنا رجل يحدّثنا.

فقلت : يا رسول الله ، ألا أبعث لك إلى أبي بكر؟ فسكت.

ثمّ قال : لو كان عندنا رجل يحدّث.

فقالت : حفصة : ألا أرسل لك إلى عمر؟ فسكت.

ثمّ قال : لا. ثم دعا رجلاً فسارّه بشيء ، فما كان إلاّ أقبل عثمان ، فأقبل بوجهه وحديثه فسمعته يقول له : يا عثمان ، إنّ الله عزّ وجلّ لعلّه أن يقمصك قميصاً ، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه ، ثلاث مرار.

فقلت : يأ أُمّ المؤمنين ، فأين كنت عن هذا الحديث؟!

فقالت : يا بني ، والله لقد أُنسيته حتّى ما ظننت أنّي سمعته » (١).

قال النعمان بن بشير : « فأخبرته معاوية بن أبي سفيان. فلم يرض بالذي أخيرته ، حتّى كتب إلى أُمّ المؤمنين أن اكتبي إليّ به. فكتبت إليه به كتاباً » (٢).

فانظر كيف أيّدت ـ في تلك الأيّام ـ معاوية على مطالبته الكاذبة بدم عثمان! وكيف اعتذرت عن تحريضها الناس على قتل عثمان؟ولا تغفل عن كتمها اسم الرجل الذي دعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد أن أبي عن الإرسال خلف أبي بكر وعمر ـ وهو ليس إلاّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ... ولكنّها لا تطيب نفساً بعليّ كما قال ابن عبّاس ، وسيأتي.

فإذا كان هذا حالها وحال رواياتها في الأيّام العادية ... فإنّ من الطبيعي أن تصل هذه الحالة فيها إلى أعلى درجاتها في الأيام والساعات الأخيرة من حياة

__________________

(١) مسند أحمد ٦/١٤٩.

(٢) مسند أحمد ٦/٨٧.

٣٢٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن تكون أخبارها عن أحواله في تلك الظروف أكثر حسّاسية ... فتراها تقول :

« لمّا ثقل رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم قال رسول الله لعبد الرحمن ابن أبي بكر : إيتني بكتف ولوحٍ حتّى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه. فلمّا ذهب عبدالرحمن ليقوم قال : أبى الله والمؤمنون أن يُختلف عليك يا أبابكر » (١).

وتقول :

« لمّا ثقل رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم جاء بلال يؤذنه بالصلاة. فقال : مروا أبابكر فليصلِّ بالناس ».

وتقول :

« قبض رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ورأسه بين سحري ونحري » (٢).

تقول هذا وأمثاله ...

لكن عندما يأمر صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم بأنْ يدعى له عليّ لا يمتثل أمره ، بل يقترح عليه أنْ يدعى أبوبكر وعمر! يقول ابن عبّاس :

« لمّا مرض رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة ، فقال : ادعوالي عليّاً. قالت عائشة : ندعو لك أبابكر؟ قال : ادعوا قالت حفصة : يا رسول الله ، ندعو لك عمر؟ قال ادعوه. قالت أُمّ الفضلّ : يا رسول الله ، ندعو لك العبّاس؟ قال : ادعوه. فلمّا اجتمعوا رفع رأسه فلم ير عليّاً فسكت. فقال عمر : قوموا عن رسول الله ... » (٣).

وعندما يخرج إلى الصلاة ـ وهو يتهادى بين رجلين ـ تقول عائشة : « خرج

__________________

(١) مسند أحمد ٦/٤٧.

(٢) مسند أحمد ٦/١٢١.

(٣) مسند أحمد ١/٣٥٦.

٣٢٥

يتهادى بين رجلين أحدهما العبّاس » فلا تذكر الآخر. فيقول ابن عبّاس :

« هو عليّ ولكن عائشة لا تقدر على أن تذكره بخير » (١).

فإذا عرفناها تبغض عليّاً إلى حدٍ لا تقدر أن تذكره بخير ، ولا تطيب نفسها به ... وتحاول إبعاده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وتدّعي لأبيها ولنفسها ما لا أصل له ... بل لقد حدّثت أمّ سلمة بالأمر الواقع فقالت :

« والذي أحلف به ، إن كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم. قالت : عدنا رسول الله غداة بعد غداة فكان يقول : جاء علي؟!! ـ مراراً ـ قالت : أظنّه كان بعثه في حاجة قالت : فجاء بعدُ ، فظننت أنّ له إليه حاجة ، فخرجنا من البيت ، فقعدنا عند الباب ، فكنت أدناهم إلى الباب ، فأكبَّ عليه عليُّ فجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ قبض رسول الله ... (٢).

إذا عرفنا هذا كلّه ـ وهو قليل من كثير ـ استيقنّا أنّ خبرها في أنّ صلاة أبيها كان بأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج فصلّى خلفه ـ كما في بعض الأخبار عنها ـ ... من هذا القبيل ... وممّا يؤكّد ذلك اختلاف النقل عنها في القضية وهي واحدة ... كما سنرى عن قريب ...

* * *

__________________

(١) عمدة القاري ٥/١٩١.

(٢) مسند أحمد ٦/٣٠٠ ، المستدرك على الصحيحين ٣/١٣٨ ، ابن عساكر ٣/١٦ ، الخصائص : ١٣٠ وغيرها.

٣٢٦

(٣)

تأمّلات في متن الحديث ومدلوله

قد عرفت أنّ الحديث بجميع طرقه وأسانيده المذكورة ساقط عن الإعتبار ...

فإنْ قلت : إنّه ممّا اتّفق عليه أرباب الصحاح والمسانيد والمعاجم وغيرهم ، ورووه عن جمع من الصحابة ، فكيف تقول بسقوطه بجميع طرقه؟

قلت : أولاً : لقد رأيت في « النظر في الأسانيد والطرق » أنّ رجال أسانيده مجروحون بأنواع الجرح ولم نكن نعتمد في « النظر » إلاّ على أشهر كتب القوم في الجرح والتعديل ، وعلى كلمات أكابر علمائهم في هذا الباب.

وثانياً : إنّ الذي عليه المحقّقون من علماء الحديث والرجال والكلام أنّ الكتب الستّة فيها الصحيح والضعيف والموضوع ، وإنّ الصحابة فيهم العدل والمنافق والفاسق ... وهذا ما حقّقناه في بعض بحوثنا (١).

نعم ، المشهور عندهم القول بأصالة العدالة في الصحابة ، والقول بصحّة ما أخرج في كتابي البخاري ومسلم ...

أمّا بالنسبة إلى حديث « صلاة أبي بكر » فلم أجد أحداً يطعن فيه ، لكن لا لكونه في الصحاح ، بل الأصل في قبوله وتصحيحه كونه من أدلّة خلافة أبي بكر عندهم ، ولذا تراهم يستدلّون به في الكتب الكلامية وغيرها :

من كلمات المستدلّين بالحديث على الإمامة :

قال القاضي عضد الدين الايجي ـ في الأدلّة الدالّة على إمامة أبي بكر ـ :

__________________

(١) راجع الفصل الأخير من كتابنا « التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف »

٣٢٧

« الثامن : إنّه صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم استخلف أبابكر في الصّلاة ومان عزله فيبقى إماماً فيها : فكذا في غيرها ، إذا لا قائل بالفصل ، ولذلك قال عليّ رضي الله عنه : قدّمك رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم في أمر ديننا ، أفلا نقدّمك في أمر دنيانا؟! (١).

وقال الفخر الرازي ـ في حجج خلافة أبي بكر ـ :

« الحجّة التاسعة : إنّه عليه‌السلام استخلفه على الصلاة أيّام مرض موته وما عزله عن ذلك ، فوجب أن يبقى بعد موته خليفةً له في الصلاة ، وإذا ثبت خلافته في الصلاة ثبت خلافته في سائر الأمور ، ضرورة أنّه لا قائل بالفرق » (٢).

وقال الأصفهاني :

« الثالث : النبي استخلف أبابكر في الصلاة أيّام مرضه ، فثبت استخلافه في الصلاة بالنقل الصحيح ، وما عزل النبي أبابكر عن خلافته في الصلاة ، فبقي كون أبي بكر خليفةً في الصلاة بعد وفاته ، وإذا ثبت خلافة أبي بكر بعد وفاته في الصلاة ثبت خلافة أبي بكر بعد وفاته في غير الصلاة لعدم القائل بالفصل » (٣).

وقال النيسابوري صاحب التفسير ، بتفسير آية الغار :

« استدلّ اهل السُنّة بالآية على أفضليّة أبي بكر وغاية اتّحاده ونهاية صحبته وموافقة باطنة وظاهره ، وإلاّ لم يعتمد عليه الرسول في مثل تلك الحاجة. وإنّه كان ثاني رسول الله في الغار ، وفي العلم لقوله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ما صبَّ في صدري شيء إلاّ وصببته في صدر أبي بكر (٤). وفي الدعوة إلى الله ، إنّه عرض

__________________

(١) هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين عليه‌السلام قطعاً ، والذي جاء به ... مرسلاً كما في الاستيعاب ٣/٩٧١ هو الحسن البصري المعروف بالإرسال والتدليس والانحراف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام!!

(٢) الاربعين : ٢٨٤.

(٣) شرح طوالع الأنوار ، في علم الكلام : مخطوط.

(٤) هذا من أحاديث سلسلتنا في ( الأحاديث الموضوعة ).

٣٢٨

الإيمان أولاّ على أبي بكر فآمن ، ثمّ عرض أبوبكر الإيمان على طلحة والزبير وعثمان ابن عفّان وجماعة أخرى من أجلّة الصحابة ، وكان لا يفارق رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم في الغزوات وفي أداء الجماعات وفي المجلاس والمحافل.

وقد أقامه في مرضه مقامه في الإمامة ... » (١).

وقال الكرماني بشرح الحديث :

« فيه فضيلة لأبي بكر ، وترجيحه على جميع الصحابة ، وتنبيه على أنّه أحقّ بخلافة رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم من غيره » (٢).

وقال العيني :

« ذكر ما يستفاد منه ، وهو على وجوه : الأول : فيه دلالة على فضل أبي بكر. الثاني : فيه أنّ أبابكر صلّى بالناس في حياة النبي ، وكانت في هذه الإمامة التي هي الصغرى دلالة على الإمامة الكبرى. الثالث : فيه أنّ الأحقّ بالإمامة هو الأعلم » (٣).

وقال النووي :

« فيه فوائد : منها : فضيلة أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة وتفضيله وتنبيه على أنّه أحقّ بخلافة رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم من غيره ، وأنّ الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلّي بهم ، وإنّه لا يستخلف إلاّ أفضلهم. ومنها : فضيلة (٤) عمر بعد أبي بكر لأنّ أبابكر لم يعدل إلى غيره » (٥).

__________________

(١) تفسير النيسابوري ، سورة التوبة.

(٢) الكواكب الدراري ـ شرح البخاري ٥/٥٢.

(٣) عمدة القاري ـ شرح البخاري ٥/١٨٧ ـ ١٨٨.

(٤) وذلك لأنّ أبابكر قال لعمر : صلّ للناس ... وكأنّ أقوال أبي بكر وأفعاله حجّه؟! على أنّهم وقعوا في إشكال في هذه الناحية ، كما ستعرف!

(٥) المنهاج ، شرح صحيح مسلم ، هامش ارشاد الساري ٣/٥٦.

٣٢٩

وقال المناوي بشرحه :

« تنبيه : قال أصحابنا في الأُصول : يجوز أنْ يجمع عن قياس ، كإمامة أبي بكر هنا ، فإنّ الصحب أجمعوا على الخلافته ـ وهي الإمامة العظمى ـ ومستندهم القياس على الإمامة الصغرى ، وهي الصلاة بالناس بتعيين المصطفى » (١).

وفي « فواتح الرحموت ـ شرح مسلَّم الثبوت » في مبحث الإجماع :

« مسألة : جاز كون المستند قياساً. خلافاً للظاهرية وابن جرير الطبري ، فبعضهم منع الجواز عقلاً ، وبعضهم منع الوقوع وإن جاز عقلاً. والآحاد أي أخبار الآحاد قيل كالقياس اختلافاً. لنا : لا مانع ... وقد وقع قياس الإمامة الكبرى وهي الخلافة العامة على إمامة الصلاة ... والحقّ أنّ أمره إيّاه بإمامة الصلاة كان إشارة إلى تقدّمه في الإمامة الكبرى على ما يقتضيه ما في صحيح مسلم ... » (٢).

لكنّك قد عرفت أنّ الحديث ليس له سند معتبر في الصحاح فضلاً عن غيرها ، ومجرّد كونه فيها ـ وحتّى في كتابي البخاري ومسلم ـ لا يغني عن النظر في سنده ... وعلى هذا فلا أصل لجميع ما ذكروا ، ولا أساس لجميع ما بنوا ... في العقائد وفي الفقه وفي علم الأصول ...

لا دلالة للاستخلاف في إمامة الصلاة على الخلافة :

وعلى فرض صحّة حديث أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبابكر بالصلاة مقامه ... فإنّه لا دلالة لذلك على الإمامة الكبرى والخلافة العظمى ... لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا خرج عن المدينة ترك فيها من يصلّى بالناس ... بل إنّه استخلف ـ فيما يروون ـ ابن أُمّ مكتوم للإمامة وهو

__________________

(١) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ٥ ٥٢١.

(٢) فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت ، في علم الأُصول ٢/٢٣٩ هامش المستصفى للغزّالي.

٣٣٠

أعمى ، وقد عقد أبو داود في ( سننه ) باباً بهذا العنوان فروى فيه هذا الخبر ... وهذه عبارته : « باب إمامة الأعمى حدّثنا محمّد بن عبدالرحمن العنبري أبو عبدالله ، ثنا ابن مهدي ، ثنا عمران القطّان ، عن قتادة ، عن أنس : أنّ النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم استخلف ابن أُمّ مكتوم يؤمّ الناس وهو أعمى » (١) ... فهل يقول أحد بإمامة ... ابن أُمّ مكتوم لأنّه استخلفه في الصلاة؟!

ولقد اعترف بما ذكرنا ابن تيميّة ـ الملقب بـ « شيخ الإسلام » ـ حيث قال : « الاستخلاف في الحياة نوع نيابة لابدّ لكلّ وليّ أمر ، وليس كلّ من يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمّة يصلح أنْ يستخلف بعد الموت ، فإنّ النبي استخلف غير واحد ، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته ، كما استعمل ابن أُمّ مكتوم الأعمى في حياته وهو لا يصلح للخلافة بعد موته ، وكذلك بشير بن عبدالمنذر وغيره » (٢).

بل لقد رووا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلف عبدالرحمن بن عوف وهو ـ لو صحّ ـ لم يدلّ على استحقاقه الخلافة من بعده ، ولذا لم يدّعها أحد له ... لكنّه حديث باطل لمخالفته للضرورة القاضية بأنّ النبي لا يصلّي خلف أحد من أُمّته ... فلا حاجة إلى النظر في سنده.

وعلى الجملة ، فإنّه لا دلالة لحديث أمر أبي بكر بالصلاة ، ولا لحديث صلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلفه حتّى لو تمّ الحديثان سنداً ...

وأمّا سائر الدلالات الاعتقادية والفقهية والأُصولية ... التي يذكرونها مستفيدين إياّها من حديث الأمر بالصلاة في الشروح والتعاليق ... فكلّها متوقفة على ثبوت أصل القضية وتماميّة الأسانيد الحاكية لها ... وقد عرفت أنْ لا شيء من تلك الأسانيد بصحيح ، فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه أبابكر بالصلاة في موضعة غير ثابت ...

__________________

(١) سنن أبي داود ١/٩٨.

(٢) منهاج السنة ٤/٩١

٣٣١

وجوه كذب أصل القضيّة :

بل الثابت عدمه ... وذلك لوجوه عديدةٍ يستخرجها الناظر المحقّق في القضيّة وملابساتها من خلال كتب الحديث والتاريخ والسيرة ... وهي وجوه قويّة معتمدة ، تفيد ـ بمجموعها ـ أنّ القضيّة مختلقة من أصلها ، وأنّ الذي أمر أبابكر بالصلاة في مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيّام مرضه ليس النبي بل غيره ...

فلنذكر تلك الوجوه باختصار :

١ـ كون أبي بكر في أن جيش أسامة :

لقد أجمعت المصادر على قضية سرية أُسامة بن زيد ، وأجمعت على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر مشايخ القوم : أبابكر وعمرو ... وبالخروج معه ... وهذا أمر ثابت محقّق ... وبه اعترف ابن حجر العسقلاني في ( شرح البخاري ) وأكّده بشرح « باب بعث النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم أُسامة بن زيد رضي الله عنهما في مرضه الذي توفّي فيه « فقال : « كان تجهيز أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم بيومين ... فبدأ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه في اليوم الثالث ، فعقد لأُسامة لواءً بيده ، فأخذه أسامة فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف ، وكان ممّن انتدب مع اُسامة كبار المهاجرين والانصار منهم أبوبكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم ، فتكلّم في ذلك قوم ... ثمّ اشتدّ برسول الله وجعه فقال : أنفِذوا بعث أُسامة.

وقد روي ذلك عن الواقدي وابن سعيد وابن إسحاق وابن الجوزي وابن عساكر ... » (١).

__________________

(١) فتح الباري ٨/١٢٤.

٣٣٢

فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمربخروج أبي بكر مع أُسامة ، وقال في آخر لحظةٍ من حياته : « أنفِذوا بعث أُسامة » بل في بعض المصادر « لعن الله من تخلّف عن بعث أُسامة » (١).

هذا أوّلاً :

وثانياً : لقد جاء في صريح بعض الروايات كون أبي بكر غائباً عن المدينة. ففي ( سنن أبي داود ) عن ابن زمعة : « وكان أبوبكر غائباً ، فقلت : يا عمر ، قم فصلّ بالناس ».

وثالثاً : في كثير من ألفاظ الحديث « فأرسلنا إلى أبي بكر » ونحو ذلك ، ممّا هو ظاهر في كونه غائباً.

وعلى كلّ حال فالنبي الذي بعث أُسامة ، وأكّد على بعثه ، بل لعن من تخلفّ عنه ... لا يعود فيأمر بعض من معه بالصلاة بالناس ، وقد عرفت أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا غاب أو لم يمكنه الحضور للصلاة استخلف واحداً من المسلمين وإنْ كان ابن أُمّ مكتوم الأعمى.

٢ ـ التزامه بالحضور للصلاة بنفسه ما أمكنه :

وكما ذكرنا فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يستخلف للصلاة إلاّ في حال خروجه عن المدينة ، أو في حالٍ لم يمكنه الخروج معها إلى الصلاة ... وإلاّ فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملتزماً بالحضور بنفسه ... ويدّل عليه ما جاء في بعض الأحاديث أنّه لَمّا ثقل قال : « أصلّى الناس؟ قلنا : لا ، هم ينتظرونك. قال : ضعوا لي ماءً ... » فوضعوا له ماءً فاغتسل ، فذهب لينوء

__________________

(١) شرح المواقف ٨/٣٧٦ الملل والنحل ١/٢٩ لأبي الفتح الشهرستاني ، المتوفّى سنة ٤٥٨ هـ ، توجد ترجمته والثناء عليه في : وفيات الأعيان ١/٦١٠ ، تذكرة الحفّاظ ٤/١٠٤ طبقات الشافعية للسبكي ٤/٨٧ ، شذرات الذهب ٤/١٤٩ ، مرآة الجنان ٣/٢٨٩ وغيرها.

٣٣٣

فأُغمي عليه (١) وهكذا إلى ثلاث مرّات ... وفي هذه الحالة صلّى أبوبكر بالناس ، فهل كانت بأمرٍ منه؟!

بل في بعض الأحاديث أنّه كان إذا لم يخرج لعارضٍ حضره المسلمون إلى البيت فصلّوا خلفه :

فقد أخرج مسلم عن عائشة ، قالت : « اشتكى رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه ، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم جالساً فصلّوا بصلاته قياماً » (٢).

وعن جابر : « اشتكى رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فصلّينا وراءه وهو قاعد وأبوبكر يُسمع الناس تكبيرة » (٣).

وأخرج أحمد عن عائشة : « أنّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم صلّى في مرضه وهو جالس وخلفه قوم ... » (٤).

ويشهد لما ذكرنا ـ من ملازمته للحضور إلى المسجد والصلاة بالمسلمين بنفسه ـ ما جاء في كثير من أحاديث القصّة من أنّ بلالاً دعاه إلى الصلاة ، أو آذنه بالصلاة ، فهو كان يجيء متى حان وقت الصلاة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعلمه بالصلاة ، فكان يخرج بأبي هو وأُمّي بنفسه ـ وفي أيّ حالٍ من الأحوال كان ـ إلى الصلاة ويصلّي بالناس.

٣ ـ استدعاؤه عليّاً عليه‌السلام :

فأبو بكر وغيره كانوا بالجرف ... الموضع الذي عسكر فيه أسامة خارج

__________________

(١) في أنّ النبّي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغمى عليه ـ بما للكلمة من المعنى الحقيقي ـ أو لا ، كلاماً بين العلماء لا نتعرّض له لكونه بحثاً عقائديّأ ليس هذا محلّه.

(٢) صحيح مسلم بشرح النووي ، هامش إرشاد الساري ٣/٥١.

(٣) صحيح مسلم بشرح النووي ، هامش إرشاد الساري ٣/٥١.

(٤) مسند أحمد ٦/٥٧.

٣٣٤

المدينة ...

وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي بالمسلمين ... وعليٌّ عنده ... إذ لم يذكر أحد أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره بالخروج مع أُسامة ...

حتى اشتدّ به الوجع ... ولم يمكنه الخروج ... فقال بلال : « يا رسول الله ، بأبي وأُمي من يصلّي بالناس؟ » (١) ... هنالك دعا عليّاً عليه‌السلام ... قائلاً : « أدعوا لي عليّاً » قالت عائشة : « ندعو لك أبابكر؟ » وقالت حفصة : « ندعوا لك عمر؟ » ... فما دُعي عليّ ولكن القوم حضروا أو أُحضروا!! « فاجتمعوا عنده جميعاً. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انصرفوا. فإنْ تك لي حاجة أبعث إليكم ، فانصرفوا » (٢).

إنّه كان يريد عليّاً عليه‌السلام ولا يريد أحداً من القوم ، وكيف يريدهم وقد أمرهم بالخروج مع أُسامة ، ولم يعدل عن أمره؟!

٤ ـ أمره بأنْ يصلّي بالمسلمين أحدهم :

فإذْ لم يحضر عليّ ، ولم يتمكّن من الحضور للصلاة بنفسه ، والمفروض خروج المشايخ وغيرهم إلى جيش أُسامة ، أمر بأن يصلّي بالناس أحدهم ... وذاك ما أخرجه أبو داود عن ابن زمعة فقال :

« لما استعزّ برسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وأنا عنده في نفرٍ من المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة. فقال : مروا من يصلّي بالناس ».

وفي حديث أخرجه ابن سعد عنه قال : « عدت رسول الله في مرضه الذي توفّي فيه ، فجاءه بلال يؤذنه بالصلاة فقال لي رسول الله : مر الناس فليصلّوا.

قال عبدالله : فخرجت فلقيت ناساً لا أكلّمهم ، فلمّا لقيت عمر بن الخطّاب

__________________

(١) مسند أحمد ٣/٢٠٢.

(٢) تاريخ الطبري ٢/٤٣٩.

٣٣٥

لم أبغ من وراءه ، وكان أبوبكر غائباً ، فقلت له : صلِّ بالناس يا عمر. فقام عمر في المقام ... فقال عمر : ما كنت أظنّ حين أمرتني إلاّ أنّ رسول الله أمرك بذلك ، ولولا ذلك ما صلّيت بالناس.

فقال عبدالله : لمّا لم أر أبابكر رأيتك أحقّ من غيره بالصلاة » (١).

وفي خبر عن سالم بن عبيد الأشجعي قال : « إنّ النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم لمّا اشتدّ مرضه أُغمي عليه ، فكان كلّما أفاق قال : مروا بلالاً فليؤذّن ، ومروا بلالاً فليصلّ بالناس » (٢).

وقد كان من قبل قد استخلف ابن أُمّ مكتوم ـ وهو مؤذّنه ـ في الصلاة بالناس كما عرفت.

٥ ـ قوله : إنّكنّ لصويحبات يوسف :

وجاء في الأحاديث أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعائشة وحفصة : « إنّكنّ لصويحبات يوسف! » وهو يدلّ على أنّه قد وقع من المرأتين ـ مع الإلحال الشديد والحرص الأكيد ـ ما لا يرضاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... فما كان ذلك؟ ومتى كان؟

إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا عجز عن الحضور للصلاة بنفسه ، وطلب عليّاً فلم يُدْع له ـ بل وجد الإلحال والإصرار من المرأتين على استدعاء أبي بكر وعمر ـ ثمّ أمر من يصلّي بالناس ـ والمفروض كون المشايخ في جيش أُسامة ـ أُغمي عليه ـ كما في الحديث ـ وما أفاق إلاّ والناس في المسجد وأبوبكر يصلّي بهم

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٢/٢٢٠.

(٢) بغية الطلب في تاريخ حلب ، مخطوط. الورقة ١٩٤ ، لكمال الدين ابن العديم الحنفي ، المتوفّى سنة ٦٦٠ هـ.

ترجم له الذهبي واليافعي وابن العماد في تواريخهم وأثنوا عليه. وقال ابن شاكر الكتبي : « كان محدّثاً فاضلاً حافظاً مؤرّخاً صادقاً فقيهاً مفتياً منشئاً بليغاً كتاباً محموداً » فوات الوفيات ٢/٢٢٠.

٣٣٦

... فعلم أنّ المرأتين قامتا بما كانتا ملحّتين عليه ... فقال : « إنّكنّ لصويحبات يوسف » ثمّ بادر إلى الخروج معجّلاً معتمداً على رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض ... كما سيأتي.

فمن تشبيه حالهنّ بحال صويحبات يوسف يعلم ما كان في ضميرهن ، ويستفاد عدم رضاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعلهن مضافاً إلى خروجه ...

فلو كان هو الذي أمر أبابكر بالصلاة لما رجع باللوم عليهنّ ، ولا بادر إلى الخروج وهو على تلك الحال ...

ولكن شرّاح الحديث ـ الّذين لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة ـ اضطربوا في شرح الكلمة ومناسبتها للمقام :

قال ابن حجر : « إنّ عائشة أظهرت أنّ سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه ، ومرادها زيادة على ذلك هو أن لا يتشاءم الناس به ، وقد صرّحت هي فيما بعد بذلك. وبهذا التقرير يندفع إشكال من قال : إنّ صواحب يوسف لم يقع منهنّ إظهار يخالف ما في الباطن » (١).

قلت : لكنّه كلام بارد ، وتأويل فاسد.

أمّا أوّلاً : ففيه اعتراف بأنّ قول عائشة : « إنّ أبابكر رجل أسيف فمر عمر أن يصلّي بالناس » مخالفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّ عليه منها ، بحيث لم يتحمّله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال هذا الكلام.

وأمّا ثانياً : فلأنّه لا يتناسب مع فصاحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكمته ، إذ لم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشبّه الشيء بخلافة ويمثّله بضدّه ، وإنّما كان يضع المثل في موضعه ... ولا ريب أنّ صويحبات يوسف إنّما عصين الله بأنْ أرادت كلّ واحدة منهنّ من يوسف ما أرادته الأُخرى وفُتنت به كما فُتنت به صاحبتها ، فلو كانت عائشة قد دفعت النبي عن أبيها ولم ترد شرف ذلك المقام

__________________

(١) فتح الباري ٢/١٢٠.

٣٣٧

الجليل له ، ولم تفتتن بمحبّة الرئاسة وعلوّ المقام ، لكان النبي في تشبيهها بصويحبات يوسف قد وضع المثل في غير موضعه ، وهو أجلُّ من ذلك ، فإنّه نقص ... وحينئذٍ يثبت أنّ ما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما كان لمخالفة المرأة وتقديمها بالأمر ـ بغير إذن منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لأبيها ، لأنّها مفتونة بمحبّة الاستطاعة والرغبة في تحصيل الفضيلة واختصاصها وأهلها بالمناقب كما قدّمناه في بيان طرف من أحوالها.

وأمّا ثالثاً : فقد جاء في بعض الأخبار أنّه لمّا قالت عائشة : « إنّه رجل رقيق فمر عمر » لم يجبها بتلك الكلمة بل قال : « مروا عمر » (١) ومنه يظهر أنّ السبب في قوله ذلك لم يكن قولها : « إنّه رجل أسيف ».

وقال النووي بشرح الكلمة :

« أيّ : في التظاهر على ما تردن وكثرة إلحاحكنّ في طلب ما تردنه وتِملْن إليه ، وفي مراجعة عائشة : جواز مراجعة وليّ ألأمر على سبيل العرض والمشاورة والإشارة بما يظهر أنّه مصلحة وتكون المراجعة بعبارة لطيفة ، ومثل هذه المراجعة مراجعة عمر في قوله : لا تبشّرهم فيتّكلوا. وأشباهه كثيرة مشهورة » (٢).

قلت : وهذا أسخف من سابقه ، وجوابه يظهر ممّا ذكرنا حوله ، ومن الغريب استشهاده لعمل عائشة بعمل عمر ومعارضته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواقف كثيرة!!

وممّا يؤكّد ما ذكرناه من عدم تماميّة ما تكلّفوا به في بيان وجه المناسبة ، أنّ بعضهم ـ كابن العربي المالكي ـ التجأ إلى تحريف الحديث حتّى تتمّ المناسبة ، فإنّه على أساس تحريفه تتمّ بكلّ وضوح ، لكنّ الكلام في التحريف الذي ارتكبه ... وسنذكر نصّ عبارته فانتظر.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢/٤٣٩.

(٢) المنهاج بشرح صحيح مسلم ، هامش القسطلاني ٣/٦٠.

٣٣٨

٦ ـ تقديم أبي بكر عمر :

ثمّ إنّه جاء في بعض تلك الأحاديث المذكورة تقديم أبي بكر لعمر ـ بل ذكر ابن حجر أنّ إلحاح عائشة كان بطلبٍ من أبيها أبي بكر (١) ـ ... وقد وقع القول من أبي بكر ـ قوله لعمر : صلّ بالناس ـ موقع الإشكال كذلك ، لأنّه لو كان الآمر بصلاة أبي بكر هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف يقول أبوبكر لعمر : صلّ بالناس؟ فذكروا فيه وجوهاً :

أحدها : ما تأوّله بعضهم على أنّه قاله تواضعاً.

والثاني : ما اختاره النووي ـ بعد الردّ على الأوّل ـ وهوأنّه قاله للعذر المذكور ، أي كونه رقيق القلب كثير البكاء ، فخشي أن لا يُسمع الناس!

والثالث : ما احتمله ابن حجر ، وهو : أن يكون فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى ، وعلم ما في تحمّلها من الخطر ، وعلم قوّة عمر على ذلك فاختاره (٢).

وهذه الوجوه ذكرها الكرماني قائلاً : « فإن قلت : كيف جاز للصدّيق مخالفة أمر الرسول ونصب الغير للإمامة؟ قلت : كأنّه فهم أنّ الأمر ليس للإيجاب. أو أنّه قال للعذر المذكور ، وهو أنّه رجل رقيق كثير البكاء لا يملك عينه. وقد تأوّله بعضهم بأنّه قال تواضعاً » (٣).

قلت : أمّا الوجه الأوّل فتأويل ـ وهكذا أوّلوا قوله عند ما استخلفه الناس وبايعوه : « ولّيتكم ولست بخيركم » (٤) ـ لكنّه ـ كما ترى ـ تأويل لا يلتزم به ذو

__________________

(١) فتح الباري ١/١٢٣.

(٢) فتح الباري ١/١٢٣.

(٣) الكواكب الدراري ـ شرح البخاري ٥/٧٠.

(٤) طبقات ابن سعد ٣/١٨٢.

٣٣٩

مسكة ، ولذا قال النووي : « وليس كذلك ».

وأمّا الوجه الثاني فقد عرفت ما فيه من كلام النبي.

وأمّا الوجه الثالث فأظرف الوجوه ، فإنّه احتمال أن يكون فهم أبوبكر!! الإمامة العظمى!! وعلم ما في تحمّلها من الخطر؟! علم قوة عمر على ذلك فاختاره!! ولم يعلم النبي بقوّة عمر على ذلك فلم يختره!! وإذا كان علم من عمر ذلك فعمر أفضل منه وأحقّ بالإمامة العظمى!!

لكنّ الوجه الوجيه أنّه كان يعلم بأنّ الأمر لم يكن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعمر كان يعلم ـ أيضاً ـ بذلك ، ولذا قال له في الجواب : « أنت أحقّ بذلك » ، وقوله لعمر : « صلّ بالناس » يشبه قوله للناس في السقيفة : « بايعوا أيّ الرجلين شئتم » يعني : عمر وأبا عبيدة ...

٧ ـ خروجه معتمداً على رجلين :

إنّه وإن لم يتعرّض في بعض ألفاظ الحديث لخروج النبي إلى الصلاة أصلاً وفي بعضها إشارة إليه ولكن بلا ذكرٍ لكيفيّة الخروج ... إلاّ أنّ في اللفظ المفصّل ـ وهو خبر عبيدالله عن عائشة ، حيث طلب منها أن تحدّثه عن مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ جاء : « ثمّ إنّ النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وجد من نفسه خفّةً ، فخرج بين رجلين أحدهما العبّاس ».

وفي حديث آخر عنها : « وخرج النبي يهادي بين رجلين ، كأنّي أنظر إليه يخطّ برجليه الأرض ».

وفي ثالث : « فلمّا دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفّةً ، فقام يهادي بين رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض حتّى دخل المسجد ».

وفي رابع : « فوجد رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم من نفسه خفّةً ، فخرج وإذا أبوبكر يؤمّ الناس ».

وفي خامس : « فخرج أبوبكر فصلّى بالناس ، فوجد رسول الله من نفسه

٣٤٠