الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

السيّد علي الحسيني الميلاني

الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

وأمّا الاشكال بالنقض بالامام الغائب عن الأبصار فقال ٢٤١.

( وأيضاً : إنّما يكون منفعة ولطفا واجباً إذا كان ظاهراً قاهراً زاجراً عن القبائح ، قادراً على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء الاسلام وهذا ليس بلازم عندكم ، فالإمام الذي ادّعيتم وجوبه ليس بلطف ، والذي هو لطف ليس بواجب.

وأجاب الشيعة : بأن وجود الإمام لطف سواء تصرّف أو لم يتصرّف ...

وردّ : بأنّا لا نسلّم أن وجوده بدون التصرف لطف ... وثانياً : لأنه ينبغي أن يظهر لأوليائه ... ).

أقول :

ولا يخفي سقوط الوجهين :

أمّا الأول فإنّ منشأه توهّم أنّ الإمامة هي السلطنة الظاهريّة فحسب ، لكنّه عرّفها بأنّها رياسة في الدين والدّنيا ... وكذلك عرّفها غيره ، وقد عرفت أن لا خلاف هنا ... فهي منصب إلهي كالنبوة ، فكما أنّ النبوة قد تجتمع مع السلطة الدينوية والحكومة الظاهرية وقد تفترق عنها والنبوة باقية ، كذلك مع السلطة الدنيوية والحكومة الظاهرية وقد تفترق عنها والنبوة باقية ، كذلك الامامة ، و ( البعث ) و ( النصب ) من الله في جميع الأحال على حاله ، و ( النبي ) و ( الامام ) باقيان على النبوة والامامة. وعلى الناس الانقياد لهما والتسليم لأوامرهما ونواهيهما ، ولا إلجاء من الله كما عرفت. فإنْ فعلوا اجتمع الرياستان وتمّ اللطف ، وإلاّ افتراقتا ولم تبطل النبوة والامامة ، بل خسرت الأمة فوائد بسط اليد ونفوذ الكلمة منهما. على أن وجود النبي أو الامام الفاقد للسطنة الظاهرية ينطوي على بركاتٍ وآثار يفهمها أهلها ، حتى ولو كان غائباً عن الأبصار.

وأمّا الثاني : فإن ظهوره لأوليائه واقع ، وتلك كتبهم المؤلّفة في هذا الباب من السابقين والـلاّحقين ، فيها حكايات وقصص يروونها عن طريق الثقات المعتمدين ، فكم من مسألة علميّةٍ أجاب عنها ، ومشكلةٍ عامةٍ أو خاصةٍ حلّها ، وحاجةٍ مهمّةٍ قضاها ... لكنّه في أكثر الأحيان لا يعرف ، ولا يعرّف نفسه إلاّ لخواص أوليائه من عباد الله الصالحين ، الذين لا تخلو منهم الأرض في كلّ عصر وزمان ...

١٦١

ما يشترط في الإمام

قال (٢٢٤) :

( يشترط في الإمام أن يكون : مكلفاً ، حراً ، ذكراً ، عدلاً ... وزاد الجمهور : إشتراط أن يكون شجاعاً ... مجتهداً ... ذا رأي ... واتفقت الأمة على اشتراط كونه قرشياً ، أي : من أولاد نضر بن كنانة ، خلافاً للخوارج وأكثر المعتزلة. لنا : السنّة والاجماع ... ).

أقول :

قد عرفت في التعريف أن ( الامام ) إنّما هو ( خليفة النّبي ) ... والقوم لم يشترطوا فيه بالاتفاق إلاّ :

التكليف والحريّة والذّكورة والعدالة.

واختلفوا في شروط هي :

الشجاعة والاجتهاد والرأي

قال :

( واتفقت الأمة على اشتراط كونه قرشياً ) فادّعى الاتّفاق ، لكن قال :

( خلافاً للخوارج وأكثر المعتزلة )!!

ثمّ استدل لإشتراط القرشيّة بالكتاب والسنة ... وأصرّ عليها إصراراً ...

أقول :

أمّا التكليف والحريّة والذكورة ... فالواجدون لها من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآلاف ، وكذا ( العدالة ) لا سيّما بناء على المشهور بينهم من أصالة العدالة في الصّحابة ، وكذا ( الشجاعة ) و ( الرأي ) فإنهما ـ على القول باعتبارهما ـ كانا في كثير من الصحابة ، وكذا ( الاجتهاد في الأصول والفروع ) عند القوم ، وبه يوجّهون المخالفات الصريحة من الصّحابة ... فما الذي رجّح أبابكر وعمر وعثمان على غيرهم من الصّحابة فكانوا خلفاء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

١٦٢

وسلّم دونهم؟

بل في الصّحابة من هو خير منهم في ما عدا الصفات الثلاثة الأولى ، ولذا وقع الاختلاف بين القوم في اشتراط ما عداها!!

ثم إنّ الواجدين لهذه الصفات كلّها في قرش جمع غفير ... فما الذي ميّز الثلاثة عن غيرهم؟

على أنّ اعتبار القرشيّة ينافي مذهب عمر بن الخطّاب ... فإنّه تمنى حياة بعض الموالي ليجعل فيه الخلافة من بعده! فقد قال : « لو كان سالم حيّاً ما جعلتها شورى ) يعنى : سالم بن معقل مولى أبي حذيفة وكان من أهل فارس من اصطخر ، وقيل : إنّه من عجم الفرس من كرمد ، ذكر ذلك ابن عبدالبرّ ، وقال : كان من فضلاء الموالي ، ثمّ حمل كلام عمر على أنّه كان يصدر فيها عن رأيه (١) ولا يخفى بعده عن الكلام كلّ البعد ، وقد رووا كلامه بلفظ : « لو كان سالم حيّاً ما تخالجني فيه شك » وعنه « لو استخلفت سالماً مولى أبي حذيفة فسألني عنه ربي ما حملك على ذلك لقلت ربي سمعت نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول إنّه يجبّ الله تعالى حقاً من قبله » (٢).

بل رووا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ينافي اعتبار القرشية بصراحة ، فقد أخرج أحمد بسنده عن عائشة قالت : « ما بعث رسول الله زيد بن حارثة في جيش قط إلاّ أمرّه عليهم ولو بقى بعده استخلفه » (٣).

والواقع أنّهم يسعون في تقليل شرائط الإمامة وتهوينها كي يتمكنوا من إثبات إمامة أبي بكر وعمر وعثمان ... وإلاً فقد عرفت أنّ ( الامامة ) إنّما هي ( خلافة عن النبي ) ... فيعتبر في الإمام أن يكون كالنّبي ، أي إنّ الله ما نصب للإمامة أحداً إلاّ كان واجداً لصفات من نصبه نبياً ، بأن كان أفضل الناس

__________________

(١) الاستيعاب ٢/٥٦٧.

(٢) حلية الأولياء ١/١٧٧.

(٣) المسند ٦/٢٢٦.

١٦٣

وأعلمهم ، معصوماً من الخطأ والنسيان مطلقاً ... فما كان للقاضي العضد من جواب عن هذا إلاّ أن قال : « إنا ندلّ على خلافة أبي بكر ولا يجب له شيء ممّا ذكر » و « إنّ أبابكر لا تجب عصمته إتفاقاً » (١).

قال (٢٤٦) :

( واشترط الشيّعة أن يكون هاشمياً بل علوياً ، وعالماً بكلّ أمر حتى المغيّبات ، قولاً بلا حجة ، مع مخالفة الاجماع. وأن يكون أفضل أهل زمانه ، لأنّ تقديم المفضول قبيح عقلاً ، ونقل عن الأشعري ، تحصيلاً لغرض نصبه وقياساً على النبوة. وردّ بالقدح في قاعدة القبح ... وأن يكون معصوماً ... ).

أقول :

مذهب أصحابنا أن الصّفات المعتبرة في الإمام ، والتي لأجلها يكون النصب من الحكيم العلاّم ، لم تتوفّر إلاّ في أمير المؤمنين وأبنائه الأحد عشر عليهم الصلاة والسّلام ، فكانوا هو الأئمّة ، دون غيرهم من أفراد الأمة ... فإن أراد من قوله : ( اشترطت الشيعة أن يكون هاشمياً بل علويّاً ) هذا المعنى فهو صحيح.

وأمّا كونه ( عالماً بكلّ أمر حتى المغيّبات ).

فهو لازم مقام الامامة التي هي النيابة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوراثة له في كلّ شيء إلاّ الوحي ، فان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عالماً بكلّ أمرٍ حتّى المغيّبات ، كما هو صريح القرآن الكريم في غير واحدة من الآيات.

بل لقد ادّعى القوم العلم بالغيب لبعض الصحابة ، من ذلك ما رووه في صحاحهم في حذيفة بن اليمان أنّه : « أعلمه رسول الله بما كان وما يكون إلى يوم القيامة » (٢)

__________________

(١) المواقف في علم الكلام ٨/٣٥٠.

(٢) مسند أحمد ٥/٣٨٦ ، صحيح مسلم ـ كتاب الفتن ، الاصابة ١/٢١٨.

١٦٤

وبعد :

فإنّ الأئمّة الأثني عشر عليهم‌السلام كانوا كذلك ، وتلك خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام الدالّة على إحاطة علمه موجودة في الكتب ، وقد أذعن بها القاضي العضد والشريف الجرجاني (١) وبذلك تعرف ما في قول السّعد : « وهذه جهالة تفرد بها بعضهم ».

وأمّا كونهم أفضل أهل زمانهم ... فسيذكر بعض الأدلة على ذلك وتقديم المفضول قبيح عندنا وعند الأشعري وأتباعه ن بل جاء في الكتاب ٢٩٠ : ( ذهب معظم أهل السنّه وكثير من الفرقّ إلى أنه يتعيّن للامامة أفضل أهل العصر ).

ومن هذه العبارة يظهر ما في نسبة صاحب المواقف وشارحها القول بجواز تقديم المفضول إلى الأكثرين (٢).

ومنها ومن قول ابن تيمية : « تولية المفضول مع وجود الأفضل ظلم عظيم » (٣) يظهر أيضاً ما في ردّ بعضهم ( بالقدح في قاعدة القبح ).

هذا ، وإنّ عمدة الصّفات المستلزمة للأفضلية هي ( الأعلميّة ) و ( التقوى ) فقد قال الله تعالى : ( إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) (٤) وقال : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (٥) وكذا دلّت الأحاديث النّبوية ، ودلّ عليه العقل وقام الإجماع كما نص في الكتاب ٣٠١ ... وسيذكر بعض الأدلة على أنّ عليّاً عليه‌السلام أعلم الأمة وأتقاها بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

وعلى الجملة فإنّ الإمام منصوب من العليم الحكيم ، كما أنّ النبي مبعوث منه ، وكما يدلّ اختياره للنبوة على الأفضلية قطعاً كما نص عليه في الكتاب ٢٤٧

__________________

(١) شرح المواقف ٨/٣٧٠.

(٢) شرح المواقف ٨/٣٧٣.

(٣) منهاج السنة ٣/٢٧٧.

(٤) سورة الحجرات : ١٣.

(٥) سورة الزمر : ٩.

١٦٥

كذلك يدل اختياره للإمامة على الأفضلية ، ومن هنا أجاب في الكتاب عن وجوه القول بجواز تقديم المفضول بقوله ٢٤٧ : بأنّها لا تصلح للاحتجاج على الشيعة ( فإن الإمام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق ).

وأمّا العصمة ... فلا حاجة إلى إقامة الدليل على اشتراطها في الامام ، بعد أن عرفت أنّ ( الامامة ) إنّما هي ( خلافة عن النبي ) فيعتبر في الامام كلّ ما يعتبر في ( النبّي ) إلاّ النبوة ، ومنه العصمة ، وأنّه لمّا كانت العصمة أمراً خفيّاً لا يطّلع عليه أحد كان النص من الله تعالى هو الطّريق إلى معرفة الإمام وتعيينه ، بل كان على الخصم إقامة الدّليل على عدم وجوب العصمة ، فلذا جاء في الكتاب ٢٤٩ :

( إحتجّ أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالاجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان مع الإجماع على أنهم لم تجب عصمتهم...وقد يحتج كثير بأن العصمة ممّا لا سبيل للعباد إلى الإطّلاع عليه ، فإيجاب نصب إمامٍ معصوم يعود إلى تكليف ما ليس في الوسع ).

أقول :

ولا يخفى سقوط الوجهين ، أمّا الأول فالاجماع على إمامة القوم غير واقع. وأمّا الثاني ، فالأنّه موقوف على أن يكون النصب بيد الخلق وهوباطل ... ولذا اضطر السّعد إلى أن يقول ٢٤٩ :

( وفي انتهاض الوجهين على الشيعة نظر ).

ومع ذلك فقد استدل أصحابنا لا شتراط العصمة بوجوهٍ من الكتاب والسنة والعقل ... وقد ذكر بعضها :

قال (٢٤٩) :

( احتجّوا بوجوه : الأوّل : القياس على النبّوة ... وردّ بأنّ النبّي مبعوث من الله ، مقرون دعواه بالمعجزات الباهرة الدالة على عصمته ... ولا كذلك الإمام فإنّ نصبه مفوّض إلى العباد الذين لا سيبل لهم إلى معرفة عصمته ... ).

أقول :

١٦٦

ليس أمر الامامة مقيساً على النبوة ، بل هي من توابع النبوة وشئونها كما عرفت ، وكما أنّ النبي مبعوث من الله فكذلك الامام منصوب منه. وكما أنّ دعوى النّبي مقرونة بالمعجزات ، فكذلك الامام تظهر المعجزة على يده متى اقتضت المصلحة ، ولذا كان ظهور المعجزة على يده قائماً مقام النص ، كما نص عليه علماؤنا (١) ... والعجب من السّعد كيف يقول : « فإنّ نصبه مفوّض إلى العباد الذين لا سبيل لهم إلى معرفة عصمته » فانّه ليس إلاّ مصادرة ، مع أنّه يناقض كلامه السابق حيث اعترض على الاحتجاج بجواز تقديم المفضول بأنّ ( الأفضليّة أمر خفي ) قائلاً : بأنّ ( هذا وأمثاله لا يصلح للاحتجاج على الشيعة ، فإنّ الامام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق )!!

قال : (٢٥٠) :

( الثّاني : إنّ الامام واجب الطاعة. قال الله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (٢) ... والجواب : إنّ وجوب طاعته إنّما هو فيما لا يخالف الشّرع ... ).

أقول :

إن الأمر المطلق بالإطاعة المطلقة دليل العصمة ، لا سيّما في هذه الآية حيث عطف ( أولي الأمر ) على ( الرّسول ) ، ولذا اعترف إمامهم الفخر الرازي بدلالة الآية على العصمة (٣) وأمّا حمله ( أولي الأمر ) على غير ( الإمام ) فيردّه عدم إنكار السّعد الاستدلال من هذه الناحية.

قال : (٢٥٠) :

( الثالث : إنّ غير المعصوم ظالم ... والجواب ... ).

__________________

(١) تلخيص الشافي ١/٢٧٤ ، الباب الحادي عشر : ٤٨.

(٢) سورة النساء : ٥٩.

(٣) تفسير الفخر الرازي ١٠/١٤٤.

١٦٧

أقول :

قال تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) (١).

وإذا عرفنا ( الظالم ) و ( العهد ) ظهر وجه الاستدلال.

فأمّا ( الظالم ) فهو عند أهل اللغة وكثير من العلماء : واضع الشيء في غير موضعه (٢) وغير المعصوم كذلك كما هو واضح.

وأمّا ( العهد ) فالمراد منه ـ كما ذكر المفسّرون ـ (٣) هو ( الامامة ).

فمعنى الآية : إن غير المعصوم لايناله الإمامة.

هذا وجه الاستدلال ، ولا يخفى الإضطراب في كلمات السّعد لدى الجواب.

قال ( ٢٥١) :

( الرّابع : إنّ الأمة إنما يحتاجون إلى الإمام لجواز الخطأ عليهم في العلم والعمل ، ولذلك يكون الإمام لطفاً لهم ... والجواب : إنّ وجوب الإمام شرعي ، بمعنى أنه أوجب علينا نصبه ... )

أقول :

وفيه ، إنّه مصادرة ... وهذا أيضاً منه تناقض ظاهر.

قال : (٢٥١) :

( الخامس : إنه حافظ للشّريعة ، فلو جاز الخطأ عليه لكان ناقضاً لها ... والجواب : إنه ليس حافظاً لها بذاته ، بل بالكتاب والسنّة وإجماع الامة واجتهاده الصحيح ، فإن أخطأ في إجتهاده أو ارتكب معصية فالمجتهدون يردّون

__________________

(١) سورة البقرة : ١١٨.

(٢) قاله الراغب في المفردات ٣١٥.

(٣) الرازي ٣/٤٠ ، البيضاوي ٢٦ ، أبو السعود العمادي ١/١٥٦.

١٦٨

والآمرون بالمعروف يصدّون ... ).

أقول :

إنه حافظ للشريعة ـ أي ما في الكتاب والسنة ـ بذاته ، بأنْ يعلّمها المؤمنين بها ، ويدعو الآخرين إليها ، وينفي تحريفات المبطلين عنها ... كما أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك. وأمّا الكتاب والسنّة فلا يخفظان الشّريعة لأنّهما محتاجان إلى الإمام المبيّن لهما.

ثم إنّ الإمام ليس مجتهداً ، بل شأنه شأن النبي ووظيفته وظيفته كما ذكرنا ، فلا يجوز عليه الخطأ ألبتة فضلاً عن المعصية ... حتى يردّه المجتهدون ويصدّه الآمرون بالمعروف.

ثم من أين يؤمن المجتهدون ... والآمرون ... عن الخطأ والمعصية؟ ومن يكون الرّاد والصادّ لهم عن ذلك؟ وانْ كانوا لا يخطأون ولا يعصون كانوا هو الآئمّة ووجب على الإمام إطاعتهم!

قال (٢٥٢) :

( السادس : إنه لو أقدم على المعصية فإمّا أن يجب الإنكار عليه ، وهو مضاد لوجوب إطاعته ... والجواب : إن وجوب الطاعة إنما هو فيما لا يخالف الشّرع ... ).

أقول :

ومن المشخّص للمخالف للشّرع عن غير المخالف؟ إنْ كان غير معصوم فهو كالأول ، وإنْ كان معصوماً فهو الإمام.

قال : (٢٥٢) :

( السّابع : إنّه لابدّ للشرّيعة من ناقل ، ولا يوجد في كلّ حكمٍ حكم أهل التواتر معنعناً إلى إنقراض العصر ، فلم يبق إلاّ أن يكون إماماً معصوماً عن الخطأ. والجواب : إنّ الظنّ كافٍ في البعض...وأمّا القطعي فإلى أهل التواتر أو جميع الأمة ، وهم أهل عصمة عن الخطأ فلا حاجة إلى معصوم بالمعنى الذي

١٦٩

قصد. ثمّ ـ وليت شعري ـ بأيّ طريق نقلت الشّريعة إلى الشيعة من الإمام الذي لا يوجد منه إلاّ الاسم ).

أقول :

لو سلّمنا كفاية الظن في البعض ، فالرجوع في القطعي إلى أهل التواتر مع احتمال السّهو عليهم لا يفيد ، سلّمنا أنه لا يجوز عليهم السّهو فما المانع من عدولهم من النقل تعمّداً لبعض الأغراض والدواعي؟ وكذا الكلام في الرجوع إلى جميع الأمة ، ودعوى عصمتهم عن الخطأ ممنوعة ، لانّ ما جاز على آحاد الأمة جائز على جميعها.

وأمّا الشّريعة فقد انتقلت إلى الشّيعة عن الأئمّة السابقين على الغائب عليه‌السلام ، وهو حي موجود ينتفع به كالانتفاع بالشمس خلف السحاب.

هذا ، واعلم أنّ جميع هذه الشبهات التي طرحها السّعد حول هذه الأدلة إنّما هي مأخوذة من كتاب ( المغني في الإمامة ) للقاضي عبدالجبار بن أحمد المعتزلي ، فالقوم في الردّ على الشّيعة عيال على المعتزلة ، لكن أصحابنا أجابوا عنها بأجوبة كافية شافية ، كما لا يخفى على من راجع ( الشافي ) و ( تلخيصه ) وغيرهما.

ثم إنّه يدل على اعتبار العصمة في الإمام من السنّة أحاديث ، منها : حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ، وحديث : « علي مع القرآن والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض » (١) فإنّه يفيد ثلاثة أمور : أحدها : معنى العصمة وهو عدم التخطّي عن القرآن. والثاني : اشتراط هذا المعنى في الامام. والثالث : وجوده في علي عليه‌السلام.

قال (٢٥٢) :

( وأمّا اشتراط المعجزة والعلم بالمغيّبات ... فمن الخرافات ).

أقول :

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣/١٢٤ والذهبي في تلخيصه وصحّحاه.

١٧٠

دعوى أنّ ذلك كله خرافات لا دليل عليها ، والأصل في إنكار ظهور المعجزة على يد الامام هو القاضي عبدالجبار المعتزلي أيضاً ، وقد أجاب عنه الشريف المرتضى الموسوي في كتاب ( الشّافي ) فليت السّعد لاحظ كلامه ...

وممّا قال رحمه‌الله : « إنّ المعجزة هو الدال على صدق من يظهر على يده فيما يدّعيه ، أو يكون كالمدعي له ، لأنّه يقع موقع التصديق ، ويجري مجرى قول الله تعالى له : صدقت فيما تدّعيه عليّ. وإذا كان هذا هو حكم المعجز لم يمتنع أن يظهره الله تعالى على يد من يدّعي الإمامة ليدّل به على عصمته ووجوب طاعته والانقياد له ، كما لا يمتنع أن يظهره على يد من يدّعي نبوّته ... » (١).

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي : « فصل في إيجاب النص على الامام أو ما يقوم مقامه من المعجز الدال على إمامته » (٢).

وقال العلامة الحلّي : « الامام يجب أن يكون منصوصاً عليه ، لأن العصمة من الأمور الباطنة التي لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، فلابدّ من نصّ من يعلم عصمته عليه أو ظهور معجزة على يده تدل على صدقه » (٣).

وأمّا أحاطة علمه فلم ينكره القاضي العضد والشريف الجرجاني.

وأمّا علمه باللّغات وغير ذلك ... فلا دليل على منعه ، بل الدليل على ثبوته كما هو الحال في النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

طريق ثبوت الإمامة

مذهب أصحابنا أن لا طريق إلى ثبوت الإمامة إلاّ النّص أو ما يقوم مقامه وهو ظهور المعجز على يد المدّعي لها ، وذهب القوم إلى ثبوتها بالنصّ والبيعة.

__________________

(١) الشافي في الإمامة ١/١٩٦.

(٢) تلخيص الشافي ١/٢٧٥.

(٣) الباب الحادي عشر : ٤٨.

١٧١

قال (٢٥٥) :

( لنا على كون البيعة والاختيار طريقاً : إنّ الطريق إمّا النص وإما الاختيار ، والنص منتف في حق أبي بكر مع كونه إماماً بالاجماع ، وكذا في حق علي على التحقيق. وأيضاً : إشتغل الصّحابة بعد وفاة النبي ... فكان إجماعاً على كونه طريقاً ، ولا عبرة بمخالفة الشيعة بعد ذلك ).

أقول :

لقد أقرّ بانتفاء النص في حق أبي بكر.

وكونه إماماً دعوى تحتاج إلى إثبات ، والاجماع غير متحقق.

ونفي النص في حق علي عليه‌السلام لا يسمع ، لأنّ المثبت مقدّم على النافي.

ولا يخفى إختلاف تعبيره بين النّفيين.

هذا في الوجه الأول.

وفي الثاني : إنّ اشتغال ( الصحابة ) بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير حاصل ، بل المشتغلون بعضهم ، والاجماع بين هذا البعض غير حاصل فكيف بالكلّ؟ وإذ لم يتحقق الإجماع فلا عبرة بقوله ( لا عبرة بمخالفة الشيعة بعد ذلك ).

هذا كلّه بغضّ النّظر عن المفاسد المترتبة على الإختيار ، وبغض النظر عن عدم الدليل على اعتبار إجماع الصحابة بل الأمة ما لم يكن بينهم معصوم.

ومن العجب أنهم يقولون بتفويض أمر الإمامة إلى ( الأمّة ) ويزعمون أن إمامة أبي بكر كانت بالاجماع ، ثم يقولون بأنّه يتحقق ( باختيار أهل الحلّ والعقد وبيعتهم ) و ( من غير أن يشترط إجماعهم على ذلك ) ٢٥٤ ، ثم يقولون بأنّه ( ينعقد بعقد واحد منهم ) ٢٥٤!

فانظر كيف نزلوا من ( الخلق ) و ( الأمة ) و ( الإجماع ) إلى ( أهل الحلّ والعقد ) إلى ( الواحد )!

وكيف يحلّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر إيجاب إتباع من لم ينص الله عليه ولا

١٧٢

رسوله ، ولا اجتمعت الأمة عليه ، على جميع الخلق ، في شرق الدّنيا وغربها ، لأجل مبايعة واحد؟!

قال (٢٥٥) :

( احتجت الشيعة بوجوه :

الأول : إنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً أفضل من رعيّته ... وردّ بمنع المقدمتين ... ).

أقول :

قد ثبت تماميّة المقدّمتين ، وتقدّم أنّه لولا العصمة والأفضلية بالأعلمية وأمثالها من الصّفات لم يبق فرق بين الإمام والمأموم ، فالأمران معتبران في الإمام ، ولا سبيل إلى معرفة ذلك بالاختيار ، فانحصر الطريق في النص.

قال (٢٥٥) :

( الثاني : إنّ أهل البيعة لا يقدرون على تولية مثل القضاء ... وردّ بمنع الصغرى ... ولو سلّم فذلك لوجود من إليه التّولية وهو الإمام ... ).

أقول :

أمّا ما ذكره أوّلاً فلا يخفى ما فيه ، إذ لا ولاية لقاضي التحكيم وللشاهد على القاضي.

وأمّا ما ذكره ثانياً ـ ولعلّه إنّما ذكره لالتفاته إلى المغالطة في كلامه ـ ففيه : أنه خروج عن الكلام ، فإنّه في طريق تعيين الإمام ...

قال (٢٥٥) :

( الثالث : إنّ الإمامة لإزالة الفتن ، وإثباتها بالبيعة مظنّة إثارة الفتن ، لاختلاف الآراء ... وردّ بأنّه لا فتنة عند الانقياد للحق ... ).

أقول :

ولكنّ المشخّص للحق ما هو؟ هل البيعة أو النصّ؟ إن كان الأول ففيه المحذور ، فلا مناص من الثاني.

١٧٣

وقوله : ( نزاع معاوية لم يكن في إمامة علي بل في أنه هل يجب عليه بيعته قبل الاقتصاص من قتلة عثمان؟ ) باطل جداً :

أمّا أوّلاً : فلأنّه أخذ البيعة من أهل الشام لنفسه بالامامة.

وأما ثانياً : فلأنّه وصف هو وأتباعه بالفئة الباغية ، فلو كان توقفه عن البيعة للإمام عليه‌السلام لما ذكره لما وصفوا بذلك.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ الإمام عليه‌السلام بايعه فضلاء الصحابة وعظماء المسلمين من غير منازعة في شيء ، ومَن معاوية لينفرد بمنازعة الامام عليه‌السلام بما ذكر؟

لقد كان الأولى بالسّعد أن يجلّ نفسه عن الدفاع عن البغاة!!

وكذا قوله ( ولو سلّم فالكلام فيما إذا لم يوجد النص ... ) لأنّ الكلام في طريق ثبوت الإمامة ، وهو إمّا النص كما هو الحق وإمّا الاختيار كما يقولون ، وإذ كان الاختيار منشأ المفاسد فالرجوع إلى النصّ هو المتعيّن ، وفرض عدمه أوّل الكلام ...

قال (٢٥٦) :

( الرابع : إنّ الإمامة خلافة الله ورسوله ... وردّ بأنّه لمّا قام الدليل من قبل الشارع ـ وهو الاجماع ـ على انّ من اختاره الأمة خليفة الله ورسوله كان خليفة سقط ما ذكرتم ... ).

أقول :

أولاّ : إنّه لم تتحقّق صغرى هذا الإجماع.

وثانياً : لو سلّمنا تحقّقه ، فأين قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التام سنداً ودلالةً عنه الكلّ على أنّ الأمّة إذا أجمعت على اختيار شخص خليفة لله ورسوله كان خليفة؟

وثالثاً : لو سلّمنا وجود هكذا قول فقد عاد الأمر إلى النص.

ورابعاً : لو سلّمنا قيام الاجماع المذكور وكفايته عن النص فهو قائم ـ

١٧٤

بالفرض على أنّ من اختاره ( الأمة ) ... لا من اختاره ( الواحد ).

وهذا من موارد تناقضاتهم ...

قال ( ٢٥٦) :

( الخامس : إنّ القول بالاختيار يؤدّي إلى خلوّ الزمان عن الإمام ... وردّ بأنّه ... ).

أقول :

نعم إنّ القول بالاختيار يؤدّى إلى خلوّ الزمان عن الامام ، فيتسلّط الجبابرة الأشرار ويستولي الظلمة والكفّار ... ولمّا كانت هذه المفسدة مترتبة على الاختيار فانّه يسقط عن الطريقية ويتعيّن النّص. وهنا يلتجأ القوم إلى تقييد الاختيار بحال ( الاقتدار ) ويقولون بوجوب إطاعة الكفّار والفجّار ... عند ( العجز والاضطرار ) ولم يعبأ حينئذٍ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط ... ٢٤٥ ...!

وهذا كلّه للفرار عن الرجوع إلى النّص والإنكار له!!

قال (٢٥٦) :

( السّادس : إنّ سيرة النبّي وطريقته على أنّه كان لا يترك الاستخلاف على المدينة ... فكيف يترك الاستخلاف في غيبة الوفاة ...؟ والجواب : إنّ ذلك مجرّد استبعاد. على أن التفويض إلى اختيار أهل الحلّ والعقد واجتهاد أرباب الألباب نوع استخلاف ... ).

أقول :

هل إنّ ذلك مجرّد استبعاد حقاً؟ ليته لم يقله واكتفى بما ادّعاه من التفويض ... لكن فيه :

أولاً : أين الدليل التام المقبول على هذا التفويض؟

وثانياً : على فرض ثبوته فإنّه إلى ( إختيار أهل الحلّ والعقد ... ) كما ذكر ، لا إلى ( واحد ) منهم إن كان منهم.

وثالثاً : إنّ تفويض الأمر إلى الأصحاب محال ، لأنّه لا يخلو صلّى الله عليه

١٧٥

وآله وسلّم من أن يكون عالماً بما سيقع بين الأصحاب وسائر الأمة من الافتراق الاختلاف أو يكون جاهلاً بذلك ، فإن كان عالماً ففوّض الأمر إليهم مع ذلك فقد خان الله والاسلام والمسلمين ـ والعياذ بالله من ذلك ، وإن كان جاهلاً بما سيكون فهذا نقص كبير والعياذ بالله من نسبته إليه ... وإذا كان اللازم من الخيانة والجهل محالاً فالملزوم وهو التفويض محال.

قال ( ٢٥٧) :

( السابع : إنّ النبي كان لأمّته بمنزلة الأب الشفيق لأولاده الصّغار وهو لا يترك الوصيّة في الأولاد إلى واحد يصلح لذلك ، فكذا النبي في حق الأمة.

الثامن : قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) (١). ولا خفاء في أنّ الإمامة من معظمات أمر الدين ، فيكون قد بيّنها وأكملها ...

والجواب عنهما بمثل ما سبق ).

أقول :

توضيح الوجه السّابع هو : إن نسبة عدم الوصيّة إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيئة كبيرة لا تغفر أبداً ، فالوصيّة ممّا ندب إليه الكتاب والسنة والعقل والاجماع ، قال الله تعالى : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة ) (٢) وقال رسول الله : « ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيّته مكتوبة عنده » (٣).

وإذا كان هذا حكم الرّجل بالنسبة إلى أولاده ، وأمواله ، فالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يريد مفارقة أمّته وهو بالنسبة إليهم كالأب الشفيق كذلك بل أولى.

وهل هذا مجرّد استبعاد؟

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

(٢) سورة البقرة : ١٧٦.

(٣) راجع صحيحي البخاري ومسلم في كتاب الوصايا.

١٧٦

وتوضيح الوجه الثامن هو : إنّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم ، بعد أن خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصّ فيها على إمامة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وأوصى الأمة بالتمسّك بالثقلين وهما الكتاب والعترة ... وقد روى ذلك كبار الحفّاظ وأئمة الحديث والتفسير من أهل السنة في كتبهم ... فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مات بلا وصية ، بل أوصى ، وكانت وصيته بالكتاب وعترته أهل بيته ... (١) وكان النص ... ولا تفويض إلى الإختيار ...

قال (٢٥٧) :

( خاتمة ـ عقد الإمامة ينحلّ بما يخلّ بمقصودها كالرّدة ... ).

أقول :

هذه أحكام إمامة البيعة والاختيار ... ولا يخفى أنهم يقولون بانحلاله في حال ( الاقتدار ) وأما في حال ( الاضطرار ) فيقولون بإمامة ( المرتد ) ولكن ما هو ملاك ( الاقتدار ) و ( الاضطرار )؟ ومن المرجع في تشخيصه؟ ومن العجب أنّهم يشترطون في الامامة ( العدالة ) كما عرفت ، ثم يختلفون في انعزاله بالقسق ، قال : ( والأكثرون على أنّه ينعزل ، وهو المختار من مذهب الشّافعي وأبي حنيفة ، وعن محمد روايتان. ويستحق العزل بالاتفاق ).

وأيضاً : يشترطون العقل ثم يجوّزون إمامة المجنون غير المطبق كما هو مفاد التقييد بالمطبق.

ثم إنّ المتسلّط بالقهر والغلبة إمام عندهم ... ولذا ذكروا حكمه ( ومن صار إماماً بالقهر والغلبة ينعزل بأن يقهره آخر ويغلبه ). ولكن هل المراد من هذه الإمامة ( الخلافة عن النّبي )؟

__________________

(١) ذكر حديث الغدير وحديث الثقلين في الكتاب وتوضيح الاستدلال بكلّ منهما في موضعه. وأما نزول الآية المباركة يوم الغدير فرواه من أئمّة أهل السنة جماعة كما ستعلم.

١٧٧

هل نصّ النّبي على إمام بعده؟

أقول :

قد عرفت أن نصب الإمام بيد الله لا بيد الأنام ...

والطريق إلى العلم بنصبه منحصر في النّص عليه أو إظهار المعجز على يده ...

فلا بدّ من أن يوجد النّص عليه في الكتاب أو السنة المعتبرة أو كليهما ... فيجب النظر في الكتاب والسنّة المعتبرة.

أمّا النّص على أبي بكر ... فقد نصّ السّعد ٢٥٥ كالقاضي العضد (١) وغيره على أنه منتف في حق أبي بكر ... وامّا على علي عليه‌السلام فموجود في الكتاب والسنّة المعتبرة كليهما.

أمّا السنّة النبوية المعتبرة عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام ... فلا تعدّ وتحصى أخبارها في هذا الباب ... كما لا يخفى على من راجع كتب أصحابنا ... وبها الكفاية عندنا ... لكنّا لا نستدلّ في مقام البحث بتلك الأخبار ... بل نرجع إلى كتب أهل السنّة القائلين بإمامة أبي بكر ... فإنّ أدلّة مذهبنا موجودة في كتبهم أيضاً ... في التفسير والحديث والسّيرة ، فبها نستدلّ عليهم وبها نلزمهم ... وقد أورد السّعد في الكتاب شيئاً يسيراً من تلك النصوص والأدلة وتكلّم عليها ... ونحن نكتفي بدفع شبهاته عنها وإثبات دليليّتها ودلالتها ... والله المستعان.

قال (٢٥٩) :

( ذهب جمهور أصحابنا والمعتزلة والخوارج إلى أنّ النبي لم ينص على إمام بعده. وقيل : نص على أبي بكر ... وقيل : نص على علي وهو مذهب الشيعة ... )

__________________

(١) شرح المواقف ٨/٣٥٤.

١٧٨

أقول :

قد عرفت تنصيصه على أنّ النّص منتف في حقّ أبي بكر ، أمّا هنا فلم ينص على ذلك ، ولعلّه لئلاً يورد عليه في استدلاله ببعض النّصوص المزعومة في أبي بكر.

وهذه النصوص التي قد يستدلّ بها على إمامة أبي بكر هي من موضوعات شرذمةٍ من الناس عرفوا بـ ( البكرية ) ، وضعوا أحاديث في فضل أبي بكر ... نصّ على وضعها علماء أهل السنّة حتى المتعصّب منهم كابن الجوزي في كتابه ( الموضوعات ).

لكن لا يخفى أنها حتى لو تمّت سنداً ودلالةً لا تكون حجة على أصحابنا ، لانفراد أولئك بنقلها ... بخلاف اصحابنا فإنّهم لا يستدلّون إلاّ بما جاء في كتب أهل السنّة ، بالاضافة إلى وجوده عندنا بطرقنا.

وعلى الجملة فالقوم معترفون بعدم النّص على أبي بكر ، لكنهم يستدلّون لعدم النصّ من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلقاً بعمل الأصحاب بناء على حسن الظّن بهم.

قال ( ٢٥٩) :

( ثمّ استدلّ أهل الحق بطريقين :

أحدهما : ـ إنّه لو كان نص جلّي ظاهر المراد في مثل هذا الأمر الخطير المتعلّق بمصالح الدين والدنيا لعامّة الخلق لتواتر واشتهر فيما بين الصّحابة ... فإن قيل : علموا ذلك وكتموه لأغراضٍ لهم في ذلك ... كحبّ الرياسة والحقد على علي لقتله آباءهم وعشائرهم وحسدهم إيّاه. وترك علي المحاجّة به تقيةً وخوفاً ... قلنا : من كان له حظ من الديانة والإنصاف علم قطعاً براءة أصحاب رسول الله وجلالة أقدارهم عن مخالفة أمره في مثل هذا الخطب الجليل ، ومتابعة الهوى وترك الدّليل ...

الثاني : ـ روايات وأمارات تفيد باجتماعها القطع بعدم النص ، وهي كثيرة

١٧٩

جدّاً ، كقول العبّاس لعلي : أمدد يدك أبايعك ... ).

أقول :

النصّ الجلي الظّاهر المراد في مثل هذا الأمر الخطير ... موجود ، وقد رواه الرواة الثقات والعلماء الاثبات من القوم أنفسهم ... كما ستعلم ، حتى أنّ ظاهر السّعد نفسه الإقرار بالدلالة وعدم تمامية ما قيل في الجواب في بعض الموارد لو لا حسن الظن بالصّحابة ، فيقول في موضع مثلاً : ( ثم لا عبرة بالآحاد في مقابلة الاجماع ، وترك عظماء الصّحابة الاحتجاج بهما آية عدم الدلالة ، والحمل على العناد غاية الغواية ) ٢٧٢.

ويقول في آخر : ( لو كانت في الآية دلالة على إمامة علي لما خفيت على الصّحابه عامّة وعلى عليّ خاصة ، ولما تركوا الانقياد لها والاحتجاج بها ) ٢٧٢

ويقول في ثالث : ( لو صحّت لما خفيت على الصحابة والتابعين ... ) ٢٧٦.

لكن في الكتاب والسنّة الصحيحة وأخبار الصّحابة الموثوق بها وكلمات العلماء الكبار ما يدعو ـ في الأقل ـ إلى عدم حسن الظنّ بالصحابة ... ونحن نكتفي هنا بآيات من كلام الله وببعض الأحاديث الثابتة عن رسول الله ، وبكلمات بعض الأصحاب ، وبعبارة السّعد التفتازاني نفسه ...

قال الله تعالى :

( ومنهم الذين يؤذون النّبي ... ) (١).

( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ... ) (٢).

( منكم من يريد الدنيا ... ) (٣).

( واذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً ... ) (٤).

__________________

(١) سورة التوبة : ٦١.

(٢) سورة الاحزاب : ٥٣.

(٣) سورة آل عمران : ١٣٦.

(٤) سورة الجمعة : ١١.

١٨٠