الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

السيّد علي الحسيني الميلاني

الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

علي عليه‌السلام أقرب الناس إلى النبي

قوله (٣٧١) :

( السابع : نسبة وقربه ... ).

أقول :

هذا من فضائله الخارجية ، فإن أحداً لم يلحقه في شرف النسب ... والقرب الذي طالما تمنّاه عمر بن الخطاب ... فكان عليه‌السلام أقرب الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما اعترف بذلك أبوبكر أيضاً كما في الحديث المتقدم ... وهي تستلزم الإمامة والخلافة كما تقدم سابقاً.

شرف زوجته وأولاده

قوله (٣٧١ ـ ٣٧٢) :

( الثامن : اختصاصه بصاحبة كفاطمة وولدين ... ).

أقول :

فضائل فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وولديها الحسن والحسين عليهم‌السلام لا تعد ولا تحصى ، وهي ليست بفضائل تميّزوا بها في هذه الأمة فقط ، بل إنها أوجبت أفضليتهم حتى من الأنبياء ...

ثم إن الأئمة من ولد الحسين السّبط الشهيد عليه‌السلام كذلك ... مفضّلون على جميع الأنبياء بالأدلة العامة والخاصّة الواردة في كلّ واحد منهم ... بحيث لا يعدّ كون فلان سقاءً في داره وكون فلان بوّاباً لداره شيئاً في قبالها ...

خلاصة الكلام في هذا المقام :

أنه قد عرفت أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يقاس به أحد من الأولين والآخرين عدا رسول رب العالمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... فإنّه كان معصوماً جامعاً لجميع صفات الكمال النفسانية والبدنية والخارجية ... وعلى

١٤١

رأسها العلم والتقوى ، إذ كان أعلم الأمة وأتقالها بلا خلاف بين المسلمين ... وأما كمالاته وصفاته البدنية فقد استخدمها في تثبت الدين والدعوة اليه والدفاع عنه وعن رسوله ، فما خذل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم من الأيام ، وما ادّخر جهداً في حفظه وفي النكاية من عدوه وفي أعلاء كلمة الإسلام ...

وكل ذلك ـ بغض النظر عن النصوص ـ مستلزم لأن يكون الإمام بعد النبي عليه‌السلام ... ليستمر الأمر على يده كما كان في عهده.

وأما أبوبكر ... فما كان له شيء من تلك الصفات كما يعترف بذلك العلماء من أتباعه ، كما يعترفون بعدم النص عليه من الله ورسوله ... نعم هناك في بعض كتبهم : إن أبابكر لمّا أسلم إشتغل بالدعوة إلى الإسلام فأسلم على يده فلان وفلان ... وهذا لو ثبت لم يدل على شيء له ، إذ كان هذا شأن كل واحد من الصحابة ... ثم إن جهود كلّهم لو وضعت في كفة ووضعت جهود علي في كفة لرجحت كفته ، بل إن « ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين » كما في الحديث الصحيح الثابت المعترف به في الكتاب أيضاً.

فظهر أن أفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر ثابت ، وليس لغيره فضيلة ثابتة سنداً تامة دلالة كي يتوهم وقوع التعارض.

وعلى هذا يسقط قوله : ٣٧٢.

( والجواب عن الكلّ : إنّه يدلّ على الفضيلة وأمّا الأفضلية فلا ... ).

وقوله :

( واعلم أن مسألة الأفضلية لا مطمح فيها في الجزم واليقين ... ).

فإن الأفضلية ثابتة بالقطع واليقين ... ولا أثر بعد عين ...!

وقوله :

( وليست هذه المسألة يتعلق بها عمل فيكتفى فيها بالظن ، بل هي مسألة علمية يطلب فيها اليقين )

١٤٢

فإن اليقين حاصل.

وقوله :

( والنصوص المذكورة من الطرفين بعد التعارض لا تفيد القطع ... ).

فإن التعارض فرع الحجية ، ولم يتم شيء من أدلة القول بأفضلية أبي بكر وإمامته « كما لا يخفى على المنصف » ، فدعوى التعارض ساقطة ، والتشكيك في إفادة أدلة إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام للقطع ... مردود ، فإنه حتى الآحاد منها تفيد القطع لأنها أحاديث متفق عليها بين الفريقين ... فأمير المؤمنين عليه‌السلام هو أفضل الأمة ، والأفضل هو المتعين للإمامة كما ستعرف.

قوله : ( ولكنا وجدنا السلف قالوا ... ).

أقول :

أولاً : السلف لم يقولوا كذلك ، فإنهم اختلفوا ، منهم من فضّل أمير المؤمنين عليه‌السلام على أبي بكر وعمر وعثمان ، ومنهم من فضّله على عثمان ، ومنهم من توقف ... فلاحظ كتب تراجم الصحابة وفضائلهم ، ولو سّلمنا أن السلف قالوا كذلك فما الدليل على حجية قولهم؟

نعم يبقى شيء واحد ، وهو قوله :

( وحسن ظنّنا بهم ... )

وفيه أولاً : لا دليل على حسن الظن هذا.

وثانياً : سلمنا ، لكن ترفع اليد عنه إذا قام الدليل على خلافه.

وقوله :

( وتفويض ما هو الحق فيه إلى الله ).

ظاهر في عدم جزمه بالمطلب ... وكذلك بعض كلماته السابقة على هذه الجملة ...

وكذلك الشارح ... ولعلة لذا اضطر إلى زيادة وجه آخر معتمداً فيه على الآمدي الذي عرفته سابقاً!!

١٤٣

المقصد السادس

في أمامة المفضول مع وجود الفاضل

قوله (٣٧٣) :

( منعه قوم لأنه قبيح عقلاً ... وجوّزه الأكثرون ... وفصّل قوم ... ).

أقول :

الأدلة على عدم جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل كثيرة مذكورة في الكتب المفصّلة وقد ذكرنا بعضها سابقاً ، لا حاجة إلى إيرادها هاهنا بعد أن قال الشارح ٣٦٥ في توجيه جعل الشورى بين الستة :

« وانما جعلها شورى بينهم لأنّه رآهم أفضل ممّن عداهم وأنه لا يصلح للإمامة غيرهم ».

وقال ابن تيمية :

« تولية المفضول مع وجود الأفضل ظلم عظيم ... » (١).

وقال محبّ الدّين الطبري : « قولنا : لا ينعقد ولاية المفضول عند وجود الأفضل » (٢).

وكذا قال غيرهم.

فظهر أن القول بمنع إمامة المفضول متفق عليه بين الإمامية وغيرهم ، فيكون إمامته باطلةً بالكتاب والسنة والعقل والإجماع.

وحيث أن ظاهر الماتن والشارح هنا هو التوقف عن تجويز إمامة المفضول ، وقد كانا غير جازمين بأفضلية أبي بكر ، كان اللازم عليهما عدم الجزم بحقية خلافة

__________________

(١) منهاج السنّة ٣/٢٧٧.

(٢) الرياض النضرة ـ باب خلافة أبي بكر.

١٤٤

أبي بكر.

أما أصحابنا فقد أثبتوا من الكتاب والسنة المتفق عليها أفضلية أمير المؤمنين ن وقد ثبت عدم جواز إمامة المفضول مع وجود الافضل ، فتكون النتيجة إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

المقصد السابع

في الكلام حول الصحابة

قوله (٣٧٣) :

( يجب تعظيم الصحابة كلهم والكف عن القدح فيهم ، لأن الله عظّمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه ، والرسول قد أحبهم وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة ).

أقول :

لابدّ أولاً من تعريف الصّحابي ، فقد اختلفت كلماتهم في تعريفه ، والذي يهمّنا الآن رأي الماتن والشارح ، لنبني البحوث اللاحقة :

قال ابن الحاجب : « الصّحابي من رأى النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يرو ولم تطل ».

فقال الماتن في شرحه : « قد اختلف في الصحابي ، فقيل من رأى الرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يرو عنه حديثاً ولم تطل صحبته له ، وقيل : إن طالت الصحبة ، وقيل : إن اجتمعا أي طول الصحبة والرواية.

والحق : أنْ المسألة لفظية وإن ابتني عليها ما تقدم من عدالة الصحابة. لنا : إنّ الصحبة فعل يقبل التقييد بالقليل والكثير ... ».

فهو إذن موافق لابن الحاجب في أنه « من رأى النبي » فقط.

ووافقهما الشارح التفتازاني مع إضافة قوله : وإن كان أعمى ، وهذه عبارته : « قوله : الصحابي من رآه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي : مسلم رأي النبي يعني

١٤٥

صحبه ولو أعمى ، وفي بعض الشروح : أي رآه النبي عليه الصلاة والسلام » (١).

فالصحابي : « من رأى النبي أو رآه النبي ».

هذا هو الموضوع الذّي اختاره هناك.

والحكم الذي اختاره هنا هو : « يجب تعظيم الصحابة كلهم والكف عن القدح فيهم ».

فيكون الحاصل : يجب تعظيم كل من رأى النبي أو رآه النبي والكف عن القدح فيه ...

وهل يرضى بهذا أحد؟ وما الدليل عليه؟

ثم ما معنى « تعظيم الصّحابة كلهم والكف عن القدح فيهم »؟

أما « الكف عن القدح فيهم » فلا يختص بالصحابة ، لأنّه ان أريد من الكف عن القدح عدم الإتهام والرمي بالقوادح ، فالمسلم لا يجوز رميه والإفتراء عليه مطلقاً ، وإن أريد منه عدم ذكر المساوي والقوادح الموجودة فيهم ، فكلذ مسلم يجب الكف عن إشاعة معايبه والسّتر على نقائصه ، إلاّ إذا اقتضت الضرورة ، كما في أبواب الإخبارات والشهادات ، ومن هنا كان وضع علم الرجال والجرح والتعديل لهم.

وأما « تعظيمهم » فإنْ أريد منه حفظ حرمتهم ، فهذا لا يختص بهم بل يعمّ المسلمين جميعاً ، وإنْ أريد القول بعدالتهم كلّهم فهذا مختلف فيه ، والأولى أن نذكر عبارة الماتن في شرح المختصر :

قال ابن الحاجب : « مسألة : الأكثر على عدالة الصحابة ، وقيل كغيرهم ، وقيل : إلى حين الفتن فلا يقبل الداخلون لأن الفاسق غير معيّن. وقالت المعتزلة عدول إلاّ من قاتل علياً. لنا : والذين معه. أصحابي كالنجوم ، وما تحقق بالتواتر عنهم من الجد في الامتثال ، وأمّا الفتن فتحمل على اجتهادهم ، ولا إشكال بعد

__________________

(١) شرح مختضر الأصول ٢| ٦٧.

١٤٦

ذلك على قول المصوبة وغيرهم ».

قال الماتن بشرحه : « أقول : أكثر الناس على أن الصحابة كلهم عدول وقيل : هم كغيرهم فيهم العدل وغير العدل فيحتاج إلى التعديل ، وقيل : هم كغيرهم إلى ظهور الفتن أعني بين علي ومعاوية ، وأمّا بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً ، أي من الطرفين ، وذلك لأن الفاسق من الفريقين غير معيّن فكلاهما مجهول العدالة فلا يقبل. وأما الخارجون عنها فكغيرهم. وقالت المعتزلة : هم عدول إلا من علم أنه قاتل علياً فإنه مردود.

لنا ما يدلّ على عدالتهم من الآيات نحو قوله ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) أي عدولاً ، وقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) وقوله : ( والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم ).

ومن الحديث نحو قوله : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. وقوله : خير القرون قرني ثم من بعدهم الأقرب فالأقرب. وقوله في حقهم : لو أنفق أحد مثل الأرض ذهباً لما نال مدّ أحدهم. ولنا أيضاً ما تحقق عنهم بالتواتر من الجد في أمتثالهم الأوامر والنواهي وبذلهم الأموال الأنفس ، وذلك ينافي عدم العدالة ، وأما ما ذكروه من الفتن فيحمل على الإجتهاد (١) ».

أقول :

فالماتن يقول هناك بعدالة الصحابة كلّهم ، ويستدل لهذا القول بنفس الأدلة التي يستدل بها أو نحوها في هذا الكتاب على « وجوب تعظيم الصحابة كلّهم والكف عن القدح فيهم » فلماذا غيّر العبارة من العدالة إلى هذا القول؟

لا يبعد عدوله عن ذلك الرأي ، ولأنّ غاية ما تدل عليه تلك الأدلة ـ إنْ تمت سنداً ودلالة ـ هو وجوب إكرامهم وإحترامهم وعدم إشاعة قوادحهم ومطاعنهم ، فيكون حالهم كحال غيرهم من المسلمين ، « فيهم العدل وغير

__________________

(١) شرح المختصر في الأصول ٢/٦٧.

١٤٧

العدل ، فيحتاج إلى التعديل ».

كما أنه يجوز ـ بل قد يجب ـ ذكر ما صدر منهم مما يوجب الفسق إذا احتيج إلى ذلك ... فضلاً عن حمل ذلك على الإجتهاد أو غيره من المحامل ... وهذا هوالقول الثاني من الأقوال المذكورة ، وهو الحق.

فظهر أن غاية مدلول ما استدل به في الكتاب كتاباً وسنةً ، هو المدح فلو فرض تمامية تلك الأدلة سنداً ودلالةً فإنها تكون مخصّصةً بالأدلة الدالة على جواز ـ وأحياناً وجوب ـ الذم والطعن والقدح والجرح ، لئلا يقتدي أحد بهكذا أناس في عقائده وأفعاله ، ولا يرتّب الأثر على رواياتهم وأقوالهم وشهاداتهم.

نعم حديث « أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم » الذي استدل به الماتن تبعاً لابن الحاجب يدل على عدالة الصحابة جميعاً وجواز الاقتداء بكل واحد منهم في أقواله وأفعاله ... لكنه حديث « باطل » ، « منكر » ، « موضوع » كما نص على ذلك كبار الأئمة والحفاظ أمثال : أحمد بن حنبل ، البزار ، ابن عدي ، الدار قطني ، ابن حزم ، البيهقي ، ابن عبدالبر ، ابن عساكر ، ابن الجوزي ، ابن دحية ، الذهبي ، الزين العراقي ، ابن حجر العسقلاني ، السخاوي ، السيوطي ، المتقي ، القاري ، ... *.

فالعجب من الماتن كيف استدل به هناك ، ولقد أحسن إذ لم يستدل به هنا؟!

وكيف يكون كلّهم عدولاً؟ وفي القرآن المجيد آيات بنفاق بعضهم ، وفي السنّة الصحيحة تصريح بأن أكثرهم يذادون عن الحوض يوم القيام؟ ومن تأمل في سيرتهم ووقف على أحوالهم في الكتب الموثوق بها وجد كثيراً منهم ( لما يدخل الايمان في قلوبهم ).

فكما أن فيهم أناساً ثبت « جدّهم في الدين وبذلهم أموالهم وأنفسهم في

__________________

* تجد كلمات هؤلاء وغيرهم في رسالتنا حول الحديث ، وهي مطبوعة في هذه المجموعة.

١٤٨

نصرة الله ورسوله » كذلك فيهم أناس ثبت ارتكابهم الكبائر الموبقة الموجبة للقصاص والحدود ... كما لا يخفى على من راجع السير المعتبرة والتواريخ المتقنة ، « نحن لا نلوّث كتابنا بأمثال ذلك ، وهي مذكورة في المطولات ، وقد ذكرنا بعضها تبعاً للكتاب ».

فمن يليق بالتعظيم وبالإقتداء منهم القسم الأول ، وهم الذين بقوا بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هدية وسنته ، حافظين لشريعته ووصيته وهي :

« إني يوشك أن أدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي ، وإنهم لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ».

أللهم اجعلنا من الثابتين على التوحيد وشريعة خاتم النبيّين ، ومن المتمسكين بالكتاب والعترة الطاهرين ، والحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله المعصومين.

١٤٩

المراصد

على شرح المقاصد

١٥٠
١٥١

الإمامة

تعريف الإمامة

قال (٢٣٤) :

( والإمامة رياسة عامة في أمر الدّين والدنيا خلافةً عن النبي ... )

أقول :

لا خلاف ظاهراً في تعريف الإمامة.

والإمام هو المؤتمّ به ، أي المقتدى والمتّبع ، قال الله سبحانه لإبراهيم عليه‌السلام : ( إنّي جاعلك للناس إماماً ) (١).

وقال العلاّمة الحلّى رحمة الله بتعريف الإمامة : « الإمامة رياسة عامة في أمور الدّين والدنيا لشخصٍ من الأشخاص نيابةً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وقال المقداد السيوري رحمة الله بشرحه : « الإمامة رياسة عامة في أمور الدّين والدنيا لشخص إنساني. فالرياسة جنس قريب ، والجنس البعيد هو

__________________

(١) سورة البقرة : ١١٨.

١٥٢

النسبة ، وكونها عامة فصل يفصلها عن ولاية القضاة والنواب ، وفي أمور الدين والدنيا بيان لمتعلّقها فإنّها كما تكون في الدين فكذا في الدنيا ، وكونها لشخص إنساني فيه إشارة إلى أمرين :

أحدهما : أنّ مستحقّها يكون شخصاً معيّناً معهوداً من الله تعالى ورسوله ، لا أيّ شخص إتفق. وثانيهما : إنّه لا يجوز أن يكون مستحقها أكثر من واحد في عصر واحد.

وزاد بعض الفضلاء في التّعريف : بحقّ الأصالة ، وقال في تعريفها : الإمامة رياسة عامة في أمور الدّين والدنيا لشخص إنساني بحق الأصالة. واحترز بهذا عن نائب يفوّض إليه الإمام عموم الولاية ، فإنّ رياسه عامة لكن ليست بالأصالة.

والحق : إنّ ذلك يخرج بقيد العموم ، فإنّ النائب المذكور لا رياسة له على إمامه ، فلا تكون رياسته عامة. ومع ذلك كلّه : فالتّعريف ينطبق على النّبوة ، فحينئذٍ يزاد فيه : بحق النيابة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بواسطة بشر » (١).

قال :

( فإن قيل : الخلافة عن النبي إنّما تكون فيمن استخلفه النبي ، ولا يصدق التعريف على إمامة البيعة ونحوها ... قلنا : لو سلّم ، فالاستخلاف أعم من أن يكون بوسط أو بدونه ).

أقول :

لا نزاع في أنّ موضوع البحث هو الإمامة الحقّة التي وصفت في القرآن الكريم بعهد الله (٢) دون السلطنة والملوكيّة ، وهذه الإمامة لا تكون إلاّ لمن

__________________

(١) النافع يوم الحشر ـ شرح الباب الحادي عشر : ٤٤.

(٢) سورة البقرة : ١١٨.

١٥٣

استخلفه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو لا يفعل إلاّ بأمر من الله ، فمن ناله هذا العهد كان له الرئاسة العامة في أمور الناس الدّينيّة والدنيويّة نيابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن هنا يظهر أنّه لا بدّ من النصّ على الإمام ، فمن كان إماماً بالبيعة أو الشورى أو القهر والغلبة ... فتلك السّلطنة لا الولاية الإلهيّة ...

وقد التفت السّعد إلى هذا فأجاب بأنّ الاستخلاف ( أعم من أن يكون بوسط أو بدونه ).

فإنْ أراد مطلق الاستخلاف فهو صحيح لكنّ الكلام ليس فيه ، وإنْ أراد خصوص استخلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كم هو الظّاهر ـ توقّف الأمر على معرفة ( الوسط ) وثبوت الاذن منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في توسّطه ، فلا يجوز وصف ( إمامة البيعة ) بـ ( الخلافة عن النبي ) ما لم يقم الدليل المعتبر عنه في ذلك ، بحيث يكون الامام بالبيعة كالإمام المنصوص عليه من قبله مباشرة. وعلى فرض ثبوت ذلك بالنسبة إلى خصوص ( البيعة ) فهل أنّ ( القهر والغلبة ) أيضاَ ( وسط ) يتحقّق به استخلاف النبي؟ وهل يجوز تسمية من استولى بالقهر والغلبة بـ ( خليفة رسول الله ) و ( أمير المؤمنين ) كما عليه القوم؟

الإمامة من الأصول

قال (٢٣٢) :

( لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق ... ).

أقول :

لا نزاع ـ كما عرفت ـ في أنّ الإمامة خلافة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي لا تكون إلاّ لمن استخلفه ، فهي من توابع ( النبوّة ) وفروعها ، فهي

١٥٤

إذنْ من الأصول لا الفروع.

وأيضاَ : ففي الأحاديث المتفق عليها ما يدل على أنّ الإمامة من أصول الدين ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » هذا الحديث الذي أرسل بهذا اللفظ في الكتاب ٢٣٩ إرسال المسلّمات ، وأخرجه أحمد وغيره مسنداً بلفظ : « من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية » (١) والبيهقي وغيره بلفظ : « من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » (٢). وروي أيضاً بألفاظ أخرى.

وهذا هو الحق الذي عليه أصحابنا.

وأمّا القوم فالمشهور بينهم أنّها من الفروع ، بل ادّعى عليه القاضي العضد الاجماع في المواقف (٣) لكن عبارة السّعد : أنّ البحث عنها بالفروع أليق ، وعن القاضي البيضاوي القول بكونها من الأصول.

نصب الإمام

قال (٢٣٥) :

( واجب على الخلق سمعاً عندنا عامة المعتزلة ، وعقلاً عند بعضهم ، وعلى الله عند الشيعة ... لنا وجوه ... ).

أقول :

قد وقع الانفاق بيننا وبين القوم على وجوب نصب الإمام. خلافاً لمن نفاه مطلقاً أو في بعض الحالات ... لكنهم يقولون بوجوب نصبه على الخلق ، وقد استدل في الكتاب بوجوه.

__________________

(١) مسند أحمد ٤/٩٦.

(٢) سنن البيهقي ٨/١٥٦.

(٣) المواقف في علم الكلام ٨/٣٤٤.

١٥٥

قال (٢٣٦) :

( الأول وهو العمدة : إجماع الصّحابة ، حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات ، واشتغلوا به عن دفن الرسول ... )

أقول :

نعم ، ترك أبوبكر وعمر ومن تابعهما جنازة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأرض وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة حيث اجتمع الأنصار ... للنّظر في أمر الخلافة ... وهي عندهم من فروع الدين! ثم أقبلوا على بني هاشم وأتباعهم ... الذين بقوا حول الجنازة ... يطالبونهم البيعة لأبي بكر ...!

يقول السّعد ٢٣٦ : ( روي أنّه لمّا توفي النّبي خطب أبوبكر فقال : أيها الناس ... ).

فالذين « جعلوا ذلك أهم الواجبات » « حتّى قدّموه على دفن النبي » هم طائفة من الصحابة لا كلّهم ، بل تلك الطائفة أيضاً لم يتحقق بينها الاجماع ـ بعد الصّياح والنزاع ـ بل بقي رئيس الخزرج وأتباعه مقاطعين لأبي بكر وعمر إلى أن مات ، فأين الاجماع؟

هذا حال الاجماع المدعى في المقام « وهو العمدة » فلا حاجة إلى الكلام حول الوجوه الأخرى ...

وأمّا خطبة أبي بكر التي أوردها ٢٣٦ فلا ذكر لها في كتب الحديث والسير ، ولا ندري من الرّاوي لها ، وفي أيّ كتاب؟ ومن الذين خاطبهم بقوله : « فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم الله ، فتبادروا من كلّ جانب »؟ وأين؟ في السقيفة أو خارجها؟ وكأنّ السعد أيضاً لا يدري شيئاً من ذلك ولذا يقول : « روي ... »!.

ثم إنّه يرد على القول بوجوب نصبه على الخلق إشكال مبني على ما رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « الخلافة بعدي ثلاثون سنة » وعلى ما ذهبوا من أنّ الأمة لا تجتمع على ضلالة ، وذلك أنه لو وجب نصب الإمام على الأمة لزم إطباقها في أكثر الأعصار على ترك الواجب ، لأنهم لم ينصبوا الإمام

١٥٦

المتصف بما يجب من الصّفات بعد علي عليه‌السلام ، أي منذ ثلاثين سنة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى اليوم ، لكن الأمة لا تجتمع على الضلالة ، فالنصب غيرواجب عليها.

وقد تعرّض السّعد لهذا الإشكال فأجاب ٢٣٩ عن لزوم اجتماع الأمة على الضّلالة بأنه ( إنما يلزم الضلالة لو تركوه عن قدرة وأختيار لا عجز واضطرار ) وأما عن الحديث فبأنه : ( من باب آحاد ) و ( يحتمل الصرف إلى الخلافة على وجه الكمال ).

قلت : لكن فيه :

أولاً : إنه يقتضي تقييد وجوب النصب على الخلق بحال القدرة والاختيار ، والحال أنّ كلماتهم مطلقة ، فراجع المواقف وغيره من كتبهم.

وثانياً : إنه لم يتّفق في تاريخ الاسلام إجتماع الأمة على الامام الحق فاضطروا إلى متابعة غيره ، بل إنهم غدروا الحق وخذلوه كما كان في قوم موسى وغيره من الأنبياء ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المتفق عليه : « لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر ... » (١).

وثالثاً : إذا اجتمعت الأمة على إمامة الامام غير الحق فهل هذه ضلالة أو لا؟ لازم كلامه وجوب إطاعة هذا الامام وكونهم على حق!! بل صريح كلامهم في غير موضع إمامة الفاقد للشرائط بل إمامة من صار إماماً بالقهر الغلبة. ففي الكتاب ٢٥٧ ( ومن صار إماماً بالقهر والغلبة ينعزل بأن يقهره آخر ويغلبه ) فهل يريدون من هذه الإمامة ، نفس ما هو موضوع البحث ، أعني ( الخلافة عن النبي )؟ وهل يجعلون هكذا شخص مصداقاً لقوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من مات ولم يعرف

__________________

(١) هذا الحديث بهذا اللفظ ونحوه متفق عليه بين المسلمين ، ومن رواته من أهل السنة : أحمد والبخاري والترمذي ... أنظر : فيض القدير شرح الجامع الصغير ٥/٢٦١.

١٥٧

إمام زمانه مات ميتةً جاهلية » فيوجبون معرفته وطاعته؟

إن قالوا : لا بل نريد من إمامته الملوكية والسلطنة ، بل هو صريح الكتاب ٢٤٥ حيث قال : ( مبنى ما ذكر في باب الإمامة على الاختيار الإقتدار ، وأما عند العجز والإضطرار والستيلاء الظلمة والكفّار والفجّار وتسلّط الجبابرة الأشرار فقد صارت الرياسة الدنيوية تغلبيّة ، وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالامام ضرورة ، ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط ، والضرورات تبيح المخظورات ، وإلى الله المشتكى في النائبات ، وهو المرتحبى لكشف الملمات ).

قلنا : فذلك خارج عن البحث ، فلماذا يدخل فيه؟ ولماذا يستدل لوجوب معرفته وإطاعته بالآية والحديث كما في الكتاب ٣٢٩؟

وإن قالوا : نعم. قلنا : فما الفرق بين هذا الامام الفاقد للعلم والعدالة وغيرها من الصفات المعتبرة وبين الواجد لها؟ وأيّ ثمرة لذكر صفات الامام والقول باعتبارها؟

وأمًا الحديث فيردّ جوابه عنه بأنّه خبر واحد : استدلاله هو به تبعاً لشيخه العضد على إمامة أبي بكر ومن بعده ٢٦٦ ويردّ احتمال صرفه : أنه تأويل بلا دليل ، ولذا عبّر بالإحتمال ...

وأمّا أصحابنا فلا يتخطّون عن التّعريف ... فالإمامة نيابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلافة عنه في كلّ ما لأجله بعث ، فهي من توابع النبوة وفروعها ، وكلّ دليل قام على وجوب بعث النبي وإرسال الرسول فهو دال على وجوب نصب الامام النائب عنه والقائم مقامه في وظائفه ... واستدلّوا على ذلك بأدلةٍ كثيرة من الكتاب والسنة والعقل ... لم تذكر في الكتاب ...

أمّا في الكتاب فآيات منها قوله تعالى : ( وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ... ) (١).

__________________

(١) سورة القصص : ٦٨.

١٥٨

وأمّا من السنّة فأخبار منها : ما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لمّا عرض نفسه على بعض القبائل ، ودعاهم إلى الله والاسلام ، قال له رجل منهم : « أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء » (١).

وأمّا من العقل فوجوه :

منها : الوجوه الدالة على اعتبار العصمة والأفضلية في الامام ، لأن العصمة حالة خفية لا يطّلع عليها إلاّ الله سبحانه ، وكذا الأفضلية ، فيجب أن يكون النصب من قبله.

ومنها : قاعدة اللطف ، ولم يذكر في الكتاب إلاّ هذا الوجه ، وكذلك فعل القاضي العضد في المواقف ... ليوهم أن لا دليل لأصحابنا غيره ... ثم منع ـ تبعاً له ـ وجوب اللطف على الله ... ٢٤١.

أقول : اللطف عندنا : ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبّعده عن المعصية ولا حظّ له في التمكين ولا يبلغ الإلجاء ، لتوقف غرض المكلّف عليه ، وإنّ المريد لفعل من غيره إذا علم أنّه لا يفعله إلاّ بفعل يفعله المريد من غير مشقة لو لم يفعله لكان ناقضاً لغرضه ، وهو قبيح عقلاً (٢).

ولا ريب في أنّ ( الامام ) كذلك ، مثل ( النبي ).

فنصب الامام واجب على الله كبعث النبي ، لتكون ( الله الحجّة البالغة ) (٣) و ( لئلا يكون الناس على الله حجة ) (٤) و ( ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من

__________________

(١) السّيرة النبوية لابن هشام ٢/٦٦ ، السيّرة الحلبية ٢/١٥٤.

(٢) الباب الحادي عشر للعلامة الحلي : ٣٥.

(٣) سورة الأنعام : ١٤٩.

(٤) سورة النساء : ١٦٤.

١٥٩

حي عن بيّنة ) (١).

وحينئذٍ لا يقال بأن لا وجوب على الله ، ولا حكم للعقل في مثل ذلك ، لأنّ معنى هذا الوجوب العقلي درك العقل حسن إرسال الرسول ونصب الإمام ، إذ بذلك يعرف الله ويعبد ، وهذا هو الغرض من الخلقة حيث قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ) (٢).

فسقط منع وجوب اللّطف ... وتفصيل الكلام في كتب علمائنا الأعلام ، كالذخيرة والشافي وتلخيصه وتجريد الإعتقاد وشرحه وغيره من كتب العلامة الحلي وشروحها وغير ذلك.

ثم إنّ القاضي العضد لم يشكل في الاستدلال بهذا الوجه ـ بعد منع وجوب اللّطف ـ إلاّ بأنّ اللّطف الذي ذكرتموه إنّما يحصل بإمام ظاهر قاهرٍ (٣) وتبعه السّعد فأورده وتكلّم عليه ، وليته اقتدى بشيخه فلم يذكر غيره من الايرادات الباردة السخيفة ، كقوله ٢٤١.

( إنّ أداء الواجب وترك القبيح مع عدم الإمام أكثر ثواباً لكونهما أشق وأقرب إلى الإخلاص ، لاحتمال انتفاء كونهما من خوف الامام. وأيضاً : فإنّما يجب لو لم يقم لطف آخر مقامه كالعصمة مثلاً ، فلم لا يجوز أن يكون زمان يكون الناس فيه معصومين مستغنين عن الامام؟ ... ).

فإنّ الأوّل منهما مستلزم لرفع اليد عن أصل الوجوب ، لكنّ أصحابنا ذكروا في اللّطف أن لا يبلغ حدّ الإلجاء ... والثاني منهما محال ، وعلى فرضه فخروج عن البحث ، لأنّ الكلام في نصب الإمام ليقتدي به الأنام ، وإذا كان جميع الناس معصومين كانوا جميعاً أئمّة فمن المأموم؟

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤٢.

(٢) سورة الذاريات : ٥٦.

(٣) المواقف في علم الكلام ٨/٣٤٨.

١٦٠