الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

السيّد علي الحسيني الميلاني

الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

٤ ـ السيوطي المتوفّي سنة ٩١٠.

٥ ـ المنّاوي حيث قال شرح الحديث ناقلاً عن السيوطي : « قال : حديث متواتر » (١).

فظهر :

أولاً : إنّ الحديث صحيح ، وإنّ من حاول تضعيفه لا أطّلاع له في هذا العلم ، فكيف يصغى إلى من طعن فيه؟

وثانياً : إنّ الحديث متواتر وقوله « دعوى الضرورة ... مكابرة » مكابرة.

وثالثاُ : إنّ الحديث طرقه كثيرة ورواته كثيرون وقوله : « لم ينقله أكثر أصحاب الحديث » باطل.

وأمّا متناً فقد ذكر « إن علياً لم يكن يوم الغدير مع النبي فإنّه كان اليمن ».

وهذا كذب ، فقد ثبت قدوم علي عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخرجه أرباب الصحاح كلّهم ، ففي الحديث الذي اتفقوا على إخراجه : « عن أنس بن مالك قال : قدم علي النبي من اليمن ، فقال : بم أحللت ... » (٢).

كما نصّ على حضوره عليه‌السلام يوم الغدير مع الاستنكار على من نفي ذلك جماعة من أعلام القوم ، كالطحاوي وابن حجر المكي والقاري ...

وكأنّ الشارح التفت إلى بطلان هذه الدعوى فحاول إصلاحها بقوله : « وردّ هذا بأنّ غيبته لا تنافي صحة الحديث ... ».

وأمّا دلالةً

فالعمدة في كلامه قوله : ( لأن مفعل بمعنى أفعل لم يذكره أحد من أئمة

__________________

(١) التيسير في شرح الجامع الصغير ٢/٤٤٢.

(٢) صحيح البخاري ٢/١٧٢ ، صحيح مسلم ٤/٤٠ ، سنن الترمذي ٢/٢١٦ ، سنن أبي داود ٢/١٥٨ ، سنن النسائي ٥/١٥٧ ، سنن ابن ماجة ٢/١٠٢٤.

١٠١

العربية ، وقوله تعالى : ( ومأويكم النار هي مولاكم ) أي مقركم وما إليه مالكم وعاقبتكم ، ولهذا قال الله تعالى : ( وبئس المصير ... ) ).

فنقول : إذا ثبت مجيء « مفعل » بمعنى « أفعل » بنصّ أئمة العربية من أهل السنّة ، كان اللاّزم الإذعان بتمامية الإستدلال ، ورفع اليد عن الشبهات المترتّبة على إنكار مجيء الكلمة بالمعنى المذكور ...

لقد نصّ على مجيء « مفعل » بمعنى « أفعل » أكابر أئمة العربية ومشاهير المفسّرين ... ولنذكر منهم طائفةً :

١ ـ محمد بن السّائب الكلبي.

٢ ـ يحيى بن زياد الفراء.

٣ ـ أبو إسحاق الزجّاج.

٤ ـ أبو عبيدة معمر بن المثنى.

قال الرازي بتفسير : « هي مولاكم » : « قال الكلبي : يعني : أولى بكم. وهو قول الزجاج والفرّاء وأبي عبيدة » (١).

٥ ـ أبو العباس ثعلب. قال الزوزني بشرح شعر من المعلّقات : « وقال ثعلب : إن المولى في هذا البيت بمعنى الأولى بالشيء كقوله تعالى : ( مأواكم النار هي مولاكم ) أي هي الأولى بكم » (٢).

٦ ـ أبو نصر الجوهري ، فقد نص عليه بشرح شعر لبيد (٣).

٧ ـ الحسين بن مسعود الفراء البغوي بتفسير الآية : ( مأواكم النار هي مولاكم ) : « صاحبتكم وأولى بكم لما اسلفتم من الذنوب » (٤).

٨ ـ جار الله الزمخشري : « ومولاي : سيدي وعبدي ، ومولى بين الولاية

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٩/٢٢٧.

(٢) شرح المعلقات للزوزني ٩١.

(٣) صحاح اللغة « ولي ».

(٤) معالم التنزيل ٨/٢٩.

١٠٢

ناصر وهو أولى به » (١).

٩ ـ ابن الجوزي بتفسير الآية : « قوله : مولاكم ، قال أبو عبيدة : أي أولى بكم » (٢).

١٠ ـ البيضاوي : « مولاكم : هي أولى بكم ... » (٣).

وإن شئت المزيد فراجع بتفسير الآية : الكشاف ، غرائب القرآن ، البحر الحيط ، مدارك التنزيل ، تفسير الجلالين ، تفسير أبي السعود ... وغيرها من التفاسير المعتمدة عند القوم.

بل اعترف بذلك التفتازاني في ( شرح المقاصد ) والقوشجي في ( شرح التجريد ) فلاحظ.

بل إنّ « المولى » يجيء بمعنى « المتصرّف في الأمر » فتكون دلالة الحديث على المطلوب أوضح ، وقد نصّ على ذلك غير واحدٍ من المفسرين والمحدثين (٤).

فهل هذا القدر كاف؟!

فظهر :

١ ـ إنّ الحديث صحيح بل متواتر قطعي الصدور.

٢ ـ وإنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان حاضراً يوم الغدير.

٣ ـ وإنّ « المولى » فيه بمعنى « الأولى ».

بقي الكلام في قوله : ( وإن سلّم ان هذا الحديث صحيح فرواته لم يرووا مقدّمة الحديث ، وهي : ألست أولى بكم من أنفسكم. فلا يمكن أن يتمسّك بها في أنّ المولى بمعنى الأولى ).

فالماتن ينكر أن يكون رواة الحديث قد رووا مقدّمته ، لكن الشارح يلتفت

__________________

(١) أساس البلاغة « ولي ».

(٢) زاد المسير في علم التفسير ٨/١٦٧.

(٣) تفسير البيضاوي ٧١٦.

(٤) تفسير الرازي ١٣/١٧ ، ٢٣/٧٤ ، المرقاة في شرح المشكاة ٥/٥٦٨.

١٠٣

إلى كذب هذه الدعوى فيستدرك قوله ( فرواته ) الظاهر في الكلّ بقوله ( أي أكثرهم ) ولو سلّمنا أن الأكثر لم يرووا ففي رواية الأقل كفاية ... لكنّ الواقع رواية الاكثر للمقدّمة وهم أمثال : معمر بن راشد ، عبدالله بن نمير ، أبي نعيم فضل بن دكين ، عفان بن مسلم ، ابن أبي شيبة ، قتيبة بن سعيد الثقفي ، أحمد ابن حنبل ، ابن ماجة ، أبي بكر البزّار ، النسائي ، أبي يعلى الموصلي ، محمد بن جرير الطبري ، أبي حاتم البستي ، الطبراني ، الدار قطني ، أبي موسى المديني ، ابن كثير الدمشقي ... وغيرهم .. فارجع إلى : مسند أحمد ٤/٣٧٢ ، ٥/٣٤٧ ، كنز العمال ١٣/١٣١ ، ١٣٤/١٥٨ ، الخصائص : ٩٥ ، سنن إبن ماجة ١/٤٣ ، الرياض النضرة ٢/٢٢٣ ، تاريخ ابن كثير ٧/٣٤٨ ـ ٣٤٩ ...

حديث المنزلة

قوله (٣٦٢) :

( الثاني : قوله عليه‌السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ... والجواب ... ).

أقول :

قد ذكر للإستدلال بهذا الحديث وجهين ، فأجاب عنهما على تقدير صحته سنداً ، فالكلام يقع في جهتين :

الجهة الأولى في سند الحديث

قوله : ( الجواب : منع صحة الحديث » قال الشارح : « كما منعه الآمدي ، وعند المحدثين : أنّه صحيح وإن كان من قبيل الآحاد ).

وفيه : كيف يمنع صحة الحديث وهو في كتابي البخاري ومسلم (١) وهما

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، غزوة تبوك. صحيح مسلم ، الترمذي ، ابن ماجة ، أبي داود لاحظ جامع الأصول ٩/٤٦٩.

١٠٤

أصحّ الكتب عندهم بعدالقرآن؟ وكيف يقال بأنه « من قبيل الآحاد » وقد اشتهر بينهم قطعيّة صدور أحاديث الكتابين؟ (١) كيف وقد نصّ على ثبوت هذا الحديث وكثرة طرقه بل وتواتره غير واحدٍ من أكابر القوم؟ ... قال ابن عبدالبر : « هو من أثبت الأخبار وأصحّها ، رواه عن النبي : سعد بن أبي وقاص ـ وطريق حديث سعد فيه كثيرة جداً ، قد ذكره إبن أبي خيثمة وغيره ـ ورواه ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأم سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبدالله ، وجماعة يطول ذكرهم » (٢).

وقد كان على الماتن والشارح أن يجلاً أنفسهما عن متابعة مثل الآمدي الّذي كان عند الذهبي وغيره من المبتدعة ، وقد نفي من دمشق لسوء اعتقاده ، وصحّ عنه أنه كان يترك الصلاة (٣).

الجهة الثانية في دلالة الحديث

قوله (٣٦٣) : ( أو نقول على تقدير صحته لا عموم له في المنازل ، بل المراد استخلافه على قومه في قوله : اخلفني في قومي لا ستخلافه على المدينة ... كيف والظاهر متروك ، أي : وإنْ فرض أنّ الحديث يعمّ المنازل كلّها كان عامّاً مخصوصاً ، لأن من منازل هارون كونه أخاً نسبيّاً ونبيّاً ، والعام المخصوص ليس حجة في الباقي أو حجّيته ضعيفة ).

أقول : إنّ طريقة أصحابنا إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام من هذا الحديث إثبات عموم أفراد المنزلة لهارون ، ثم إثبات أن الإمامة من منازلة عن طريق استخلافه على بني إسرائيل وعدم العزل عن الخلافة تارةً ، وعن طريق شركته

__________________

(١) لاحظ : كلام الحافظ ابن القيسراني المقدسي في كتاب الجمع بين رجال الصحيحين وكلام النووي وشارحه السيوطي في تدريب الراوي ، وغيرهما.

(٢) الإستيعاب ترجمة أمير المؤمنين عليه‌السلام ٣/١٠٩٠.

(٣) ميزان الاعتدال للذهبي ، لسان الميزان لإبن حجر العسقلاني ٣/١٣٤.

١٠٥

لموسى عليه‌السلام في افتراض الطاعة تارةً أخرى.

فإنكار دلالة الحديث على عموم المنزلة عمدة الشبه المتعلّقة بهذا الإستدال ، فإذا ما اندفعت لم يبق لهم شيء يصغى إليه ، ولعلّ القوم على علم باندفاعها فيلجأون إلى تقليد الآمدي في الطّعن في سند الحديث ، مع بنائهم على عدم الطعن في شيءٍ أخرج في الصحيحين!!

أمّا العموم فالدالّ عليه قوله « بمنزلة هارون » فإنّه اسم جنس مضاف ، وهو من ألفاظ العموم كما نصّ عليه الماتن نفسه في ( شرح مختصر الأصول ) وكذا غيره من أئمة علم الأصول والعربية ، كما لا يخفى على من راجع مباحث العموم والخصوص في شروح ( منهاج الأصول ) للبيضاوي ، وشروح ( تلخيص مفتاح العلوم ) للسكاكي ، وشروح ( الكافية في النحو ) لابن الحاجب.

ويشهد بدلالة الحديث على عموم المنزلة استثناء النبوّة ، فإنّ صحة الإستثناء معيار العموم كما نصّ عليه البيضاوي في ( منهاج الأصول ) وشرّاحه كغيرهم من المحقّقين.

هذا ولايخفى أنه لم ينكر في الكتاب ظهور الحديث في العموم ، وإنما جاء فيه : ( المراد من الحديث إنّ علياً خليفة منه على المدينة في غزوة تبوك ، كما أنّ هارون كان خليفة لموسى في قومه حال غيبته ، ولا يلزم دوامه ... بل التبادر استخلافه مدة غيبته ) فهما يقولان بأن « المراد » كذا ، وغاية ذلك دعوى أنّ قول موسى « أخلفني » لدى خروجه إلى الطور قرينة على إرادة خصوص مدة غيبته من العموم ، وكذلك كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه قاله عند ما خرج إلى تبوك ... لكن يكفي في دفع هذا التوهّم ثبوت ورود حديث المنزلة في مواقع متعدّدة ـ كما لا يخفى على المطّلع بألفاظه وطرقه ـ فالحديث باقٍ على عمومه ، نذكر منها مورداً واحداً إتماماً للحجّة ونكتفي برواية أحمد بن حنبل :

قال المتقي : « مسند زيد بن أبي أوفى : لمّا آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه فقال علي : لقد ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت

١٠٦

بأصحابك ما فعلت ، غيري. فإن كان هذا من سخطّ عليَّ فلك العتبى والكرامة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : والذي بعثني بالحق ، ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبّي بعدي. وأنت أخي ووارثي. قال : وما أرث منك يا رسول الله؟ قال : ما ورثت الأنبياء من قبلي. قال : وما ورثت الأنبياء من قبلك؟ قال : كتاب ربّهم وسنّة نبيهم. وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي ، وأنت أخي ورفيقي.

حم. في كتاب مناقب علي » (١).

فهذا الحديث الذي رواه إمامهم أحمد بن حنبل وارد في مورد المواخاة ، وهو يدلّ على افضلية أمير المؤمنين وأعلميته وعصمته ... كما لا يخفى ... وكلّ ذلك مستلزم للإمامة والخلافة بلا فصل ...

فظهر : أن الحديث على عمومه المعترف به ، ولا موجب لرفع اليد عن ذلك ...

وأمّا رفع اليد عن ظهوره في العموم من جهة أن من منازل هارون كونه نبياً وكونه أخاً نسبياً ، وعلى عليه‌السلام لم يكن نبيّاً ولم يكن أخاً نسبيّاً لرسول الله ، ففيه :

أمّا أوّلاً : لقد ذكر التفتازاني في ( شرح المقاصد ) إشكال انتفاء الأخوة على الإستدلال وأجاب عنه بنفسه وهذه عبارته : « ليس الإستثناء المذكور إخراجاً لبعض أفراد المنزلة ، بمنزلة قولك : إلاّ النبوة ، بل هو منقطع ، بمعنى لكن ، فلا يدل على العموم كما لا يخفى على أهل العربية ، كيف؟ ومن منازله الاخوة في النسب ولم تثبت لعلي رضي الله عنه. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنها بمنزلة المستثنى لظهور إنتفائها ».

وتبعه القوشجي في ( شرح التجريد ).

__________________

(١) كنز العمال ، كتاب الفضائل ، فضائل الخلفاء ، فضل علي عليه‌السلام.

١٠٧

والحاصل عدم قدح انتفاء الأخوة النسبية بين علي والرسول عليهما‌السلام في عموم الحديث ، لكون الأخوة بمنزلة المستثنى لظهور انتفائها بينهما.

وأمّا ثانياً : فإنّ الإشكال بانتفاء النبّوة عن علي عليه‌السلام في غير محلّه لأنّ صريح الحديث استثناؤها ، ولذا لم يستشكل أحد بذلك ، وقال الشارح : ( ولو ترك قوله ( ونبيّاً ) لكان أولى ).

وأمّا ثالثاً : فإنّ العام المخصوص حجّة في الباقي بإجماع الصحابة والسلف ، وإنكار ذلك مكابرة ، نصّ على ذلك علماء الأصول ، قال البزدوي في أصوله : « إجماع السلف على الإحتجاج بالعموم » قال شارحه البخاري في ( كشف الأسرار ) : « أي : بالعام الذي خص منه ... الإحتجاج بالعمومات المخصوص منها مشهور بين الصحابة ومن بعدهم ، بحيث يعد إنكاره من المكابرة ، فكان إجماعاً ».

فظهر عموم الحديث ، فيثبت لعلي عليه‌السلام كلّ ما ثبت لهارون عليه‌السلام من المنازل من الخلافة والعصمة والأفضلية وفرض الطاعة وغيرها ... إلاّ النبّوة.

هذا ، ولايخفى أن الماتن يعترف بظهور الحديث في العموم ، إلاّ أنه يدعي ترك هذا الظهور ، لكنّ الشارح يغيّر معنى كلام الماتن فيقول بشرح : ( كيف والظاهر متروك. أي : وإنْ فرض أنّ الحديث يعمّ ... ) وهذا تعسّف واضح.

وأمّا الإشكال على دلالة الحديث على فرض الطاعة ـ كما في ثاني وجهي الإستدلال ـ وقوله (٣٦٣) :

( ونفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لنبوّته لا للخلافة عن موسى ... ).

فعجيب جداً ، لأنّ هارون كان خليفةً لموسى بنص القرآن الكريم إذ قال له ( اخلفني في قومي ) أي : « كن خليفتي في قومي ونافذ أمرك فيهم » كما ذكر المفسّرون بأجمعهم كالرّازي والزمخشري والبيضاوي والنّيسابوري والنسفي وابن كثير والخازن ... وهذا لا ينافي كونه نبيّاً.

١٠٨

وإذا كان من جملة المنازل الثابتة لهارون بخلافته فرض طاعته على الأمّة ، فعليّ عليه‌السلام المنزّل منزلة هارون مفترض الطاعة على الأمة كذلك ، فلو صرّح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا المعنى وقال : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى في فرض الطاعة على أمتي وإنْ لم تكن شريكي في النبوة » لكان كلاماً مستقيماً لا تنافي فيه أصلاً.

ويؤكّد ذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير واحد من الأحاديث المعتبرة ـ بإطاعة علي ، وأن من أطاع علياً فقد أطاعه ومن أطاعه فقد أطاع الله ... نكتفي هنا بحديثٍ واحد منها أخرجه الحاكم بسنده عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن عصى عليّاً فقد عصاني. هذا حديث صحيح الإسناد » (١).

هذا ولولا دلالة حديث المنزلة على حصول تلك المنازل لعلي عليه‌السلام لم يقل عمر بن الخطاب ـ فيما رواه جماعة منهم الحاكم وإبن النجّار .. كما في ( كنز العمال ) ـ « كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب ، فإني سمعت رسول الله يقول في علي ثلاث خصالٍ لئن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس : كنت أنا وأبوبكر وأبو عبيدة الجراح ونفر من أصحاب رسول الله ، والنبي متكئ على علي ابن أبي طالب ، حتى ضرب بيده على منكبه ثم قال : وأنت يا علي أول المؤمنين إيماناً وأوّلهم إسلاماً ثم قال : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى. وكذب عليّ من زعم أنّه يحبّني ويبغضك ».

ولم يقل مثله سعد بن أبي وقاص كما رواه إبن ماجة في ( سننه ) وغيره.

ولم يحتج به كبار الصحابة في موطن مختلفة ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام نفسه في احتجاجه على أهل الشورى.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣/١٢١.

١٠٩

أحاديث أخرى

قوله (٣٦٣) :

( الثالث من وجوه السنة : قوله عليه‌السلام : سلّموا على علي بإمرة المؤمنين. الجواب منع صحة الحديث للقاطع المتقدّم الدالّ عدم النصّ الجلّي. وكذا قوله : أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني. وقوله : إنّه سيد المسلمين وإمام المتّقين وقائد الغر المحجّلين ).

أقول :

هذه أحاديث رواها علماء طائفته في كتبهم بأسانيدهم المعتبرة ... ودلالاتها واضحة جدّاً ، وإذْ لم يقدح في أسانيدها فلا حاجة إلى ذكر مصادرها. وأمّا منعه صحّتها لِما ذكره فقد تقدم أنه مبني على حسن الظن بالصحابة ، وقد عرفت جوابه ، كما أنّ لنا بحثاً حول الصحابة في آخر الكتاب فانتظر.

تفنيد معارضة هذه النصوص

قوله (٣٦٣) :

( وبعد الأجوبة المفصلة على الوجوه المذكورة نقول : هذه النصوص التي تمسّكوا بها في إمامة علي رضي الله عنه معارضة بالنصوص الدالة على إمامة أبي بكر ).

أقول :

فيه : أوّلاً : لقد اعترف سابقاً ـ كغيره ـ بعدم النص الدال على إمامة أبي بكر ، فما دل على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام لا معارض له.

وثانياً : إنّ ما ذكره بعضهم نصّاً على إمامة أبي بكر فإنما استند إلى أخبار طائفته ، ومن المعلوم عدم جواز الإحتجاج والمعارضة بما اختصّوا بروايته لعدم كونه حجةً عند الإمامية.

١١٠

وثالثاً : مقتضى ما ذكره أنّه إذا أجيب عمّا جعل معارضاً لنصوص أمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام وسقط الإستدلال به هو التسليم بتلك النصوص والإلتزام بمفادها.

ورابعاً : إنّ جميع ما استدل به باطل كما سيتّضح.

قوله (٣٦٣ ـ ٣٦٤) :

( الأوّل : قوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) ) (١).

أقول : أوّلاً : لو كانت هذه الآية دالةً على خلافة أبي بكر لكانت خلافته مستندة إلى الله لقوله : « ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف ... » لكن خلافة أبي بكر لم تكن بنصبٍ من الله ، بل الخلافة عند القوم ليست بنصبٍ منه بل من الناس ، فالآية ليست دليلاً على خلافته ، بل المراد غيره وغير أتباعه.

وثانياً : إنّه لو كان المراد من الآية أبوبكر لما طعن عليه علي كما سيأتي تسمية نفسه « خليفة رسول الله » لكونه كذباً على رسول الله ، لأنّه لم يستخلفه ، بل أنّ مذهب القوم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات ولم يستخلف أحداً ، وهذا ما نص عليه عمر أيضاً فيما رووه عنه (٢).

وثالثاً : لقد قام الإجماع من أهل البيت عليهم‌السلام كما في ( مجمع البيان ) وغيره من التفاسير ـ على أنّ المراد من الآية هو الإمام المهدي عليه‌السلام وأنصاره وأتباعه ، وأجماع أهل البيت حجة بالأدلة القاطعة.

قوله (٣٦٤) :

( الثاني : قوله تعالى : ( قل للمخلّفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ) ) (٣).

__________________

(١) سورة النور : ٥٥.

(٢) الملل والنحل ١/٢٣ ، السيرة الحلبية ٢/٢٠٧ ، وغيرهما من المصادر.

(٣) سورة الفتح : ١٦.

١١١

أقول :

قد تعرّض شيخنا أبو جعفر الطوسي المتوفى سنة ٤٦٠ لاستدلال القوم بهذه الآية وأجاب عنه بالتفضيل ، فليت الماتن لاحظ كلامه ولم يكرّر الإستدلال. قال شيخنا رحمة الله بتفسير الآية : « واستدل جماعة من المخالفين بهذه الآية على إمامة أبي بكر ، من حيث أن أبابكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم ، وكانوا قد حرموا القتال مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله ( لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوًاً ).

وهذا الذي ذكروه غير صحيح من وجهين ، أحدهما : إنه غلط في التاريخ ووقت نزول الآية. والثاني إنه غلط في التأويل. ونحن نبيّن فساد ذلك أجمع. ولنا في الكلام في تأويل الآية وجهان : أحدهما : أن يُنازع في اقتضائها داعياً يدعو هؤلاء المخلّفين غير النبي ، ويبيّن أن الداعي لهم فيما بعد كان النبي على ما حكيناه عن قتادة وسعيد بن جبير في أن الآية نزلت في أهل خيبر وكان النبي هو الداعي إلى ذلك. والآخر : أن يسلّم ان الداعي غيره ويبيّن أنه لم يكن أبابكر ولا عمر ، بل كان أمير المؤمنين ... » (١) هذا أوّلاً.

وثانياً : إنه يمكن تسليم أن الداعي أبوبكر وعمر ، وأن يقال : ليس في الآية ما يدل على مدح الداعي ولا على إمامته ... (٢).

وثالثاً : إنه يكشف عن عدم دلالة هذه الآية على ما قالوا : استدلال المحصّلين من علمائهم لإمامة أبي بكر من جهة الأخبار ، لا من جهة الآية ، وعمدتهم حديث الإقتداء الآتي.

ورابعاً : إنّ أحاديث القوم أنفسهم في تفسير الآية مختلفة ، وكذا أقوال مفسّريهم كما لا يخفى على من راجع (٣).

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن ٩/٣٢٤ ـ ٣٢٦.

(٢) التبيان في تفسير القرآن ٩/٣٢٦.

(٣) لاحظ الدر المنثور ٦/٧٢.

١١٢

وخامساً : إنّ الذي فسّر الآية بأبي بكر وأن القوم المذكورين بنو حنيفة أصحاب مسيلمة هو محمد بن شهاب الزهري. وهذا الرجل مقدوح جدّاً وقد كان من المبغضين لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، فلا يعتمد على قوله. لا سيّما في مثل المقام.

قوله (٣٦٤) :

( الثالث : لو كانت إمامة أبي بكر باطلة لما كان أبوبكر معظّماً ممدوحاً عند الله ... ).

أقول :

وفيه : إنه أوّل الكلام.

قوله (٣٦٤) :

( الرابع : كانت الصّحابة وعلي يقولون : يا خليفة رسول الله ... ).

أقول :

أولاً : لا حجّية في قول الصحابة وفعلهم غير علي لعدم العصمة فيهم.

وثانياً : إنّ علياً عليه‌السلام لم يكن يرى أبابكر خليفةً ، ولذا لم يبايع مدّة حياة فاطمة الزهراء عليها‌السلام وهي ستة أشهر ، ولا حملها على البيعة وقد ماتت ولم تبايع أبابكر ، وهو يعلم بأن « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ».

وثالثاً : لا نسلّم أنّ علياً عليه‌السلام كان يخاطب أبابكر كذلك ، بل لقد روى المؤرخون كابن قتيبة أنه لما أرسل أبوبكر قتفداً مولاه إلى علي عليه‌السلام يدعوه « قال له علي : ما حاجتك؟ فقال : يدعوك خليفة رسول الله ، فقال علي : لسريع ما كذبتم على رسول الله!!».

ورابعاً : سلّمنا لكن هذا الخطاب ليس بأعلى من البيعة عن تقية ، فإنّه عليه‌السلام لمّا ماتت فاطمة الزهراء وانصرفت وجوه الناس عنه اضطر إلى البيعة ، ولو بقيت فاطمة لما بايع ولا بايعت.

قوله (٣٦٤) :

١١٣

( الخامس : لو كانت الإمامة حق علي ولم تعنه الأمّة عليه كما تزعمون لكانوا شرّ الأمم لكنّهم خير أمّة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كما دلّ عليه نصّ القرآن ).

أقول :

لقد دلّ حديث المنزلة على تنزيل علي عليه‌السلام بمنزلة هارون عليه‌السلام إلاّ في النبوّة ، ولا شك في أن هارون عليه‌السلام قد استضعفه القوم وكادوا يقتلونه كما دل عليه نصّ القرآن ، فكذلك علي عليه‌السلام ، ومن هنا خاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بيته قائلاً : « أنتم المستضعفون بعدي » (١) وقالت أروى بنت الحارث بن عبدالمطلب لمعاوية في كلام لها معه لمّا وفدت عليه : « فوثبت علينا بعده بنو تيم وعدي وأمية ، فابتزونا حقّنا ووليّتم علينا ، فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، وكان علي بن أبي طالب بعد نبيّنا بمنزلة هارون من موسى » (٢).

وأمّا أنّ الأمّة لم تعنه عليه فنعم ، لا بل غدرت به ، وقد أخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك من قبل ، فقد روي عنه أنه قال : « إن ممّا عهد إليّ النبي أنّ الأمّة ستغدر بي بعده » قال الحاكم بعد ما أخرجه : « هذا حديث صحيح الإسناد » (٣).

وحينئذٍ ، فلابدّ أن يكون معنى الآية الكريمة غير ما ذكر في الكتاب ، فراجع التفاسير.

قوله (٣٦٤) :

* ( السادس : قوله عليه‌السلام : إقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر وأقل مراتب الأمر الجواز. قالت الشيعة : هذا خبر واحد. قلنا : ليس أقل من

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٦/٣٣٩.

(٢) تاريخ أبي الفداء ١/١٨٨ وغيره من التواريخ ، في أخبار معاوية.

(٣) المستدرك ٣/١٤٠ ، ١٤٢ ورواه غيره أيضاً.

١١٤

خبر الطير المنزلة ).

أقول :

يعدّ هذا أقوى أدلّتهم دلالةً ، ولذا تراهم يهتمون به كثيراً ويستندون إليه قديماً وحديثاً ، حتى قال الحاكم النيسابوري : « هذا حديث من أجلّ ما روي في فضائل الشيخين » (١) ... ولكن ماذا نفعل وكبار أئمتهم المحققين ينصّون على أنّه « باطل » و « لا يصحّ » و « منكر » و « موضوع »؟

ذكر العلامة المناوي بشرحه : « أعلّه أبو حاتم ، وقال البزار كابن حزم : لا يصح » (٢).

وقال الترمذي بعد أنْ أخرجه : « هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود ، لا نعرفه إلاّ من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل ، ويحيى بن سلمة يضعّف في الحديث (٣).

وقال أبو جعفر العقيلي : « حديث منكر لا أصل له من حديث مالك » (٤).

وقال أبوبكر النقاش : « هو واه » (٥).

وقال الدار قطني : « لا يثبت » (٦).

وقال العبري الفرغاني : « إن الحديث موضوع » (٧).

وقال الذهبي ـ بعد أن أخرجه ـ مرةً « هذا غلط » (٨) وأخرى : « قال أبوبكر

__________________

(١) المستدرك ٣/٧٥.

(٢) فيض القدير ٢/٥٦.

(٣) صحيح الترمذي ٥/٦٧٢.

(٤) الضعفاء الكبير ٤/٩٥.

(٥) ميزان الإعتدال للذهبي ١/١٤٢.

(٦) لسان الميزان لابن حجر ٥/٣٣٧.

(٧) شرح المنهاج للبيضاوي ـ مخطوط.

(٨) ميزان الاعتدال ١/١٠٥.

١١٥

النقاش : هو واه » (١) وثالثةً : « سنده واه جداً » (٢).

وقال الهيثمي : « فيه من لم أعرفهم » (٣).

وقال ابن حجر العسقلاني بكلّ ما قال الذهبي (٤).

وقال الشيخ الإسلام الهروي : « باطل » (٥).

وأورد ابن درويش الحوت كلمات القوم ووافقهم (٦).

هذه طائفة من كلمات هؤلاء الأعلام الأثبات المرجوع إليهم عندهم في الجرح والتعديل ... حكموا كلّهم بسقوط هذا الحديث ... والحق معهم ... فأنّ جميع اسانيده وطرقه ساقطة ... وقد حققت ذلك في رسالة مفردة (*).

إذن ، لا نقول في الجواب : خبر واحد ، بل نقول : موضوع باطل ، وأما خبر الطّير والمنزلة ، فإنّهما معتبران باعتراف علماء أهل السنّة.

قوله (٣٦٥) :

* ( السابع قوله عليه‌السلام : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تصير ملكاً عضوضاً ... وذلك دليل ظاهر على صحة خلافة الخلفاء الأربعة ).

أقول :

وهذا أيضاً من أدّلتهم المعتمدة عندهم وهو حديث غير معتبر وغير مشهور كما نصّ على ذلك غير واحدٍ منهم كابن تيميّة (٧) وذلك لأنّه لم يروه إلاّ سفينة ولم

__________________

(١) ميزان الاعتدال ١/١٤.

(٢) تلخيص المستدرك ٣/٧٥.

(٣) مجمع الزوائد ٩/٥٣.

(٤) لسان الميزان ١/١٨٨ ، ١/٢٧٢ ، ٥/٣٣٧.

(٥) الدر النضيد : ٩٧.

(٦) أسنى المطالب : ٤٨.

* وهي مطبوعة في هذه المجموعة.

(٧) منهاج السنة ٢/٢٢٣.

١١٦

يخرجه إلاّ الترمذي وأبا داود (١) وأحمد (٢) وليس الراوي عنه إلاّ « سعيد بن جمهان ».

والكلام عليه أمّا سنداً فإنّ سعيداً مقدوح مجروح ، قال أبو حاتم : « يكتب حديثه ولا يحتج به » وعن أحمد « أنه سئل عنه فلم يرضه فقال باطل وغضب » وقال الساجي : « لا يتابع على حديثه » وقال ابن معين : « روى عن سفينة أحاديث لا يرويها غيره » وقال البخاري : « في حديثه عجائب » (٣).

وأمّا دلالةً فانّها تختلف في الكتاب التي ورد فيها ، لأنّ لفظه مختلف ولذا اختلف كلمات الشرّاح حوله.

ثم إنّه ظاهر في أن الخلافة تصير بعد الثلاثين ملكاً عضوضاً إلى الأبد ، إلاً أنهم يروون عن حذيفة أنها تصير بعد الملك العاض ملكاً جبرية ثم تعود خلافةً على منهاج النبوّة ، وقد طبّق بعضهم هذا على عمر بن عبدالعزيز (٤).

وهذا الحديث الأخير يدل على كون الخلفاء الراشدين عندهم خمسة! لكنّ حديث سفينة الذي عند أبي داود فيه أنّ بعضهم كان لا يرى عليّاً من الخلفاء الراشدين!

وعلى الجملة فأحاديثهم في هذا الباب مختلفة ... إلاّ أن الذي يهوّن الخطب إعراض البخاري ومسلم عنها ، بل الذي أخرجاه هما وسائر أصحاب السنن والمسانيد هو « حديث الإثنا عشر خليفة » وهذا هوالمعتمد والمعتضد بالأحاديث الكثيرة المعتبرة ، وهو لا ينطبق إلاّ على ما نذهب إليه من القول بالأئمة الإثنى عشر عليهم الصلاة ، أوّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وآخرهم المهدي ، ومن هنا أورد أبو داود هذا الحديث في كتاب المهدي من سننه جاعلاً إيّاه

__________________

(١) لاحظ : جامع الأصول ٤/٤٤٠.

(٢) مسند أحمد ٥/٢٢٠ ، ٢٢١.

(٣) لاحظ : تهذيب التهذيب ٤/١٣.

(٤) مسند أحمد ٤/٢٧٣.

١١٧

أوّل حديثٍ من احاديثه.

ولمّا كان هذا الحديث معتبراً سنداً وتاماً دلالةً على الحق الذي نذهب إليه فقد حار الشرّاح في كيفيّة تطبيقه وبيان معناه ، ولم يتوصّلوا إلى معنى يلتئم مع ما يذهبون إليه ، فاضطرّوا إلى الإعتراف بالعجز ، ومنهم : القاضي عياض ، وابن الجوزي ، وابن العربي المالكي ، وابن حجر العسقلاني ...

نعم إلتجأ بعضهم إلى المعارضة بينه وبين حديث سفينة. لكن عرفت عدم تمامية حديث سفينة ، لا سنداً ولا دلالةً ، والمعارضة فرع الحجّية.

وبالجملة : فحديث سفينة ساقط. والمعتمد ما اتفق الشيخان وغيرهما على إخراجه (١).

قوله (٣٦٥) :

( الثامن : إنه صلّى الله عليه وسلّم استخلف أبابكر في الصلاة ... )

أقول :

قد عرفت واقع الحال في هذ الصلاة. ولا يخفى أن الماتن لم يدع إلاّ إلإستخلاف ، لكن الشارح أضاف بعده « واقتدى به » وهذا أكذب من ذاك ، وقد بيّنا ذلك كلّه سابقاً ببعض التفصيل ولنا في المسألة رسالة مفردة مطبوعة *.

تذنيب في خلافة من بعد أبي بكر

قوله (٣٦٥) :

( إمامة الأئمة الثلاثة تعلم ما يثبت منها ببعض الوجوه المذكورة وطريقه في

__________________

(١) صحيح البخاري كتاب الأحكام ـ باب الإستخلاف ، صحيح مسلم كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش ، صحيح الترمذي باب ما جاء في الخلفاء ، سنن أبي داود كتاب المهدي ، مسند أحمد ٥/٨٦ ، ٨٩ ، ١٠٦ ، ١٠٨ ، وغير ذلك جامع الأصول ٤/٤٤٠ ـ ٤٤٢ ، المستدرك على الصحيحين ٣/٦١٨ معرفة الصحابة.

* تجدها أيضاً في هذه المجموعة.

١١٨

حق عمر نص أبي بكر. وفي عثمان وعلي البيعة ).

أقول : قد عرفت أن لا دليل على خلافة أبي بكر لا كتاباً ولا سنةً ، وهذا ما اعترف به سابقاً ، وزعم أنّ الدليل هو البيعة وقد عرفت ما فيها ...

وإذْ لا دليل على خلافة أبي بكر فلا اعتبار بنصّه على عمر ، بغضّ النظر عن كلّ ما هنالك من بحثٍ وكلام ، فإنّ اعتمادهم في استخلاف أبي بكر على النصّ ـ وهو الّذي أنكروه في استخلاف النبّي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ له مغزىً يعلمه أهله ، وبيانه بايجاز هو : انهم يعترفون بعدم النص على أبي بكر ، فلمّا رأو كثرته على أمير المؤمنين أنكروه ، فلجأوا الى دعوى الاجماع على خلافة أبي بكر وهم يعلمون بعدم تحققه. وفي خلافة عمر لا يدّعون الاجماع لثبوت مخالفة كبار الأصحاب في رواياتهم ، وحيث لم يمكنهم إنكار ذلك ودعوى الاجماع ولا دعوى شيء من الفضائل المؤهله للخلافة ، لجأوا إلى النص.

وأمّا خلافة عثمان فكانت مترتبةً على جعل عمر الأمر شورى بين جماعةٍ ، ثم انها كانت ببيعة عبدالرحمن بن عوف كما اعترف بذلك في الكتاب سابقاً.

أما جعل عمر الأمر شورى فموقوف على إمامته وولايته ، وقد عرفت ما فيها باختصار. وأمّا تحقق « البيعة » بمبايعة عبدالرحمن بن عوف وحده فقول باطل.

هذا بغض النظر عن قضايا الشورى وكيفية تعيين رجالها ، وما دار بينهم واحتجاج علي عليه‌السلام في ذلك اليوم ...

وأما خلافة علي عليه‌السلام فكانت ثابتة بالنص منذ اليوم الأول كما عرفت.

في أفضل الناس بعد رسول الله

قوله (٣٦٥) :

( هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة أبوبكر ، وعند الشيعة وأكثر متاخّري المعتزلة علي ).

١١٩

أقول :

إنّه لم يذكر « الأفضليّة » في الشروط المعتبرة في الإمام المذكورة سابقاً ، ولا يقول بقبح تقديم المفضول كما سيأتي ، فلماذا يتعب نفسه بإيراد أشياء لو تمّت فانّها من طريق أبناء طائفته وليست بحجة عند المناظرة؟ مع أن كلامه في نهاية البحث كالصريح في عدم جزمه بأفضلية أبي بكر ، بل إنّ قولهم بعدم قبح تقديم المفضول يشهد بعدم أفضليته وعدم تمامية ما استدل به لإثباتها ...! لكن أصحابنا إنما يستدلّون بالأحاديث الصحيحة المتفق عليها بين الفريقين ـ كما هو القانون المتّبع في البحث والمناظرة ـ على أفضلية علي ويقولون بقبح تقدّم المفضول.

ثمّ إنّ أئمة أهل البيت مجمعون على أنّ علياً عليه‌السلام أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإجماعهم حجّة ، وعلى ذلك أيضاً جماعة كبيرة من أعلام الصحابة كما ذكر ابن عبدالبر بترجمة الإمام عليه‌السلام من ( الإستيعاب ). فلننظر فيما أورده دليلاً على أفضلية أبي بكر :

ما استدل به لأفضليّة أبي بكر

قوله (٣٦٦) :

( الأوّل : قوله تعالى : ( وسيجنّبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ) قال أكثر المفسرين واعتمد عليه العلماء : إنما نزلت في أبي بكر ... ).

أقول :

الإستدلال بهذه الآية كذلك مذكور في بعض كتب المتقدّمين ، وقد أصرّ عليه في تفسير الرازي ، لكنّه موقوف على نزول الآية في شأن أبي بكر.

قوله : « قال أكثر المفسّرين » دالّ على عدم الإتفاق عليه فيما بينهم. هذا أوّلاً.

وثانياً : أنه ليس هذا القول إلاّ لآل الزبير ، وانحرافهم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام معروف.

مضافاً إلى أن سند الخبر غير معتبر ، قال الحافظ الهيثمي : « وعن عبدالله بن

١٢٠