جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٥١٧
الجزء ١ الجزء ٢

والحقّ أنّ معرفة وجود صانع العالم فطريّة بديهية ، لكن معرفة وجود الواجب بالذات ومعرفة صفاته الكمالية نظرية.

ثمّ إنّ للعقلاء في اثبات واجب الوجود لذاته مسالك (١) ؛

الأوّل

مسلك الحكماء

القائلين بانّ علّة الحاجة هي الامكان ، وهو الاستدلال من جهة الامكان والتغيّر.

ولمّا لم يكن مجرّد الامكان الذاتي للممكن من دون أن يصير موجودا كافيا في الاثبات ، فالالهيون منهم استدلّوا عليه بالنظر إلى الموجود من حيث هو ، أو من حيث افراده ، أو فرد منه ؛

وبعضهم استدلّوا بالامكان الوقوعي ـ كما يأتي ـ.

والطبيعيون منهم استدلّوا عليه بوجود خاصّ وطبيعته ـ أعني : الحركة ـ ؛

وبعض الحكماء استدلّوا عليه بالنظر إلى حال النفس الناطقة.

فللحكماء أربعة مناهج ؛

المنهج الأوّل

منهج الإلهيّين منهم

وهو الاستدلال بالنظر إلى الوجود. ويمكن الاستدلال على هذا المنهج بوجوه

__________________

من الجزء الأوّل من هذا الكتاب لبيان الدلائل الاقناعية لاثبات واجب الوجود. وفي مفتتح الباب حكى هذا البرهان عن سيّدنا ومولانا أبي عبد الله الصادق ـ عليه وعلى آبائه وأولاده آلاف التحية والثناء ـ.

(١) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للرازى ـ ج ١ ص ١٠٣. تلخيص المحصّل ص ٢٤٢.

٦١

بعضها يتوقّف على ابطال الدور والتسلسل ، وبعضها لا يتوقّف على ابطالهما ، أو يتوقّف على ابطال الدور فقط.

أمّا الأوّل فتقريره : إنّ الموجودات لو انحصرت في الممكنات ولم يستند إلى واجب بالذات لزم الدور ، أو التسلسل ، أو وجود الممكن بنفسه من غير علّة ، أو الانتهاء إلى الواجب. ووجه اللزوم والحصر ظاهر. وبطلان اللوازم بأسرها سوى الأخير ـ الّذي هو المطلوب ـ قد تقدّم.

ومثل هذا الدليل الّذي يوجد فيه طبيعة الموجود أو افراده أو فرد منتشر منه ويستدلّ على الواجب بلزوم الدور أو التسلسل أو وجود الممكن بنفسه يمكن أن يقرّر بوجوه.

اوّلها : ما ذكر.

وثانيها : لا ريب في وجود ممكن ، فنقول : يجب استناده إلى مؤثّر موجود ـ لبطلان وجود الممكن بدون علّة ـ ، فإن كان واجبا ثبت المطلوب والاّ ننقل الكلام إليه. فامّا يلزم الدور أو التسلسل / ١٤MA / أو الانتهاء إلى الواجب بالذات (١).

وثالثها : انّ للموجود افرادا بالضرورة ، فإن كان واحد منها واجب الوجود ثبت المطلوب ، وإن لم يتحقّق فيها واجب الوجود وانحصرت في الممكنات لزم أن يتحقّق فيها واجب الوجود. بيان اللزوم : انّه لو لم يوجد فيها واجب الوجود امّا أن تكون موجودة بعضها ببعض ـ امّا دائرة أو متسلسلة ـ ، أو تكون موجودة لا بعلّة ، والكلّ باطل ؛ فيجب أن يوجد فيها واجب الوجود بالذات.

ورابعها : أن يقال في الشق الثانى : إن كان كلّ افراد الموجود / ١٤DA / ممكنا فلهذا الكلّ ـ لكونه ممكنا ـ مؤثّر موجود بالضرورة ، فننقل الكلام إليه ، فيجب الانتهاء إلى الواجب لاستحالة الدور والتسلسل ووجود الممكن بدون علّة.

وخامسها : أن يقال فيه : لو لم يوجد في افراد الموجود واجب الوجود وانحصرت في الممكنات لزم الدور أو التسلسل أو وجود الممكن بدون علّة ـ لانّه إمّا أن تكون في

__________________

(١) راجع : تلخيص المحصّل ص ٢٤٥.

٦٢

بعضها موجودة ببعض وجد ذلك البعض به فهو الدور ، أو ببعض وجد بآخر وهو بآخر وهلمّ جرّا فهو التسلسل ـ ؛ أو تكون موجودة بنفسها بأولوية ذاتية أو بدونها ، فهو الموجودية بدون علّة (١).

وسادسها : انّه لا شكّ في تحقّق طبيعة الموجود من حيث هي مع قطع النظر عن خصوصيات الأفراد وان لم ينفك تحقق الطبيعة والعلم بها عن تحقّق الافراد والعلم بها ، فان كانت هذه الطبيعة واجبة ثبت المطلوب ، وإلاّ لزم أحد المفاسد المذكورة في الشقّ الثاني من الأدلّة المتقدّمة.

وسابعها : إنّ الموجود إمّا ثابت وبالفعل في وجوده وصفاته دائما أو لا ، بل متغيّر وبالقوة ولو من بعض الوجوه (٢) وفي بعض الأحيان ؛ والأوّل هو الواجب ، والثانى هو الممكن. ثمّ إن وجد الأوّل في افراد الموجود ثبت المطلوب والاّ لزم أحد المفاسد المذكورة في الشقّ الثاني من الادلّة المتقدّمة ، لأنّ كلّ متغير وبالقوّة لا بدّ له من مغيّر ومخرج غير ذاته يخرجه من قوّته إلى الفعل فيجب الانتهاء إلى مغيّر غير متغير ومخرج يكون بالفعل من جميع الوجوه دائما لئلاّ يخرج إلى مخرج آخر ، دفعا للدور والتسلسل ولزوم الخروج من القوّة بلا سبب.

وأمّا الثانى ـ أعني ـ البراهين الّتي لا تتوقّف على ابطال الدور والتسلسل أو لا يتوقف على ابطال التسلسل ـ فكثيرة.

منها : لو انحصرت الموجودات في الممكنات ولم يتحقّق فيها واجب الوجود لذاته لكان مجموعها معلولات مع عللها الّتي هي مثلها في الامكان والمعلولية ، سواء وجد كلّ واحد بآخر على سبيل الدور والتسلسل. ومثل هذا المجموع وان كان عدم كلّ واحد من افراده مع بقاء علّته محالا ـ لاستلزامه تخلف المعلول عن علّته ـ ، لكن يجوز عدم المجموع لأنّه لا يمتنع عدم المعلول مع عدم علّته الممكنة الغير المستندة إلى الواجب ، وإن ذهبت سلسلة المعلولات والعلل إلى غير النهاية ؛ ولا ريب (٣) في أنّ هذه الجملة

__________________

(١) راجع : الأربعين في أصول الدين ـ للرازي ـ ، ج ١ ، ص ١٠٣.

(٢) الاصل : ـ وصفاته ... الوجوه.

(٣) الاصل : ـ وان ذهبت ... لا ريب.

٦٣

بأسرها مركّبة عن مثل هذا المعلول ومثل هذه العلّة ولا يوجد فيها غيرهما ، فالعدم لا ينسدّ عن هذه الجملة بنفسها ولا بشيء من آحادها ـ لكون جميعها ممكنة محتاجة في انسداد اعدامها إلى غيرها ـ ، فكلّما دار الامر أو تسلسل رجع إلى الاوّل. وإذا جاز عدم هذه الجملة فلا يجوز وجودها ، لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ـ كما مر ـ والممكن لا يجب له الوجود ما لم يمتنع عليه جميع انحاء العدم ، إذ لو وجب وجوده مع امكان نحو ما من العدم ويكون هذا العدم مساويا للوجود أو مرجوحا ـ لظهور شناعة راجحيته ـ لزم امكان المرجوح أو المساوى. وقد تقدّم بطلانهما. وإذا لم يجز وجود هذه الجملة بنفسها ولا بشيء من آحادها مع كونها موجودة وجب استنادها إلى موجود خارج عنها ، والموجود الخارج عن جميع الممكنات انّما هو الواجب بالذات ، وهو المطلوب ، وهذا البرهان لا يتوقّف على ابطال الدور والتسلسل ، بل انّما يتوقّف على ابطال وجود الممكن بنفسه بدون أولوية الوجود أو معها ، وبطلانه أوضح من كلّ واضح ـ كما تقدم ـ

ويمكن أن يقرّر هذا البرهان بوجه أخصر وأوضح ؛ وهو : انّ الممكن لمّا كان بالنظر إلى ذاته غير موجود فلو انحصرت الموجودات في الممكنات لكان جميعها كذلك ـ اي : غير موجود بالنظر إلى ذواتها ـ ، لان جميعها في حكم ممكن واحد في جواز طريان العدم عليها رأسا ، وكلّما دار الامر أو تسلسل رجع إلى الاقلّ ، فلا بدّ لها من موجد خارج يوجدها كما لممكن الواحد.

ومنها : إنّ جميع الممكنات من حيث هو مجموع موجود واحد ـ كما يأتي بيانه بعد ذلك ـ ، فلو انحصرت الموجودات في الممكنات لكان مجموعها شخصا واحدا لا بدّ له من علّة بالذات وعلى الاطلاق (١) ويمتاز عمّا سبقه من الوجه الأخصر بأخذ كون جميعها من حيث هو مجموع شخصا واحدا ، ولا يلزم هذا الأخذ والفرض في الوجه الأخصر السابق عليه ، لأنّه لم يؤخذ فيه الهيئة الاجتماعية / ١٤MB / بل أخذ فيه كون جميع الآحاد في حكم واحد لا كونها واحدا.

__________________

(١) راجع : الحكمة المتعالية ج ٦ ص ٣٠.

٦٤

ومنها : ما أورده بعض الأذكياء ، وهو يتوقّف على مقدّمتين واضحتين ، إحداهما : إنّ الممكن لا يكون إلاّ معلولا / ١٤DB / ـ وقد تبيّن ذلك من بعض المقدّمات السالفة ـ ،

وثانيتهما : انّ حاجة المعلول إلى العلّة انّما هي لأجل انّه معلول فقط ، ولا مدخلية في باقي صفاته وخصوصيّاته من كونه هذا وهذا في ذلك ، وهي بديهية واضحة في نفسها.

وبعد تمهيدهما نقول : لو انحصرت الموجودات في الممكنات لكانت بأسرها معلولات بحكم المقدّمة الأولى ، وإذ نقصنا وحذفنا عنها جميع الصفات واللوازم والخصوصيات الّتي لا دخل لها في كونها معلولات وموجودات من كونها هذه وهذه وكذا وكذا وبالجملة أسقطنا في الملاحظة العقلية كلّما هو لا دخل له في احتياجها إلى العلة وكونها معلولات وموجودات تبقى منها جميعا طبيعة الموجودة ، والمعلول بما هو موجود معلول فقط ، فيلزم أن يكون المعلول بما هو معلول موجودا من غير علّة ، لأنّ كلّما كان في هذه الجملة كان معلولا ونقصنا عنه جميع الخصوصيات الّتي لم تكن لها مدخلية في كونه معلولا (١) وفي احتياجه إلى علّة وأخذناه حتّى يحصل لنا موجود واحد هو معلول ولم يبق في هذه الجملة موجود آخر لا يكون معلولا فقط حتّى يجوز أن يكون علّة ؛ وليس خارج هذه الجملة أيضا موجود ممكن يجوز أن يكون علّة لها ـ لأنّ المفروض دخول كلّ الممكنات فيها ـ ، فيتحقّق لزوم كون المعلول بما هو معلول موجودا من غير علّة ، وهو باطل بحكم المقدّمة الثانية. لانّه إذا احتاج المعلول إلى العلّة في مجرّد كونه معلولا دون ساير الخصوصيات فكيف يتحقّق مجرّد المعلول من حيث هو معلول من دون شيء آخر ، ولا يتحقّق احتياجه إلى العلة ، فيجب أن يوجد خارج هذه الجملة موجود واجب لذاته حتّى تستند المعلولات إليه.

ومنها : انّه لو انحصرت الموجودات في الممكنات لزم الدور ، إذ تحقّق مجموع الموجودات من حيث هو مجموع يتوقّف على هذا التقدير على ايجاد ما ، لأنّ وجود الممكنات انّما يتحقّق بالايجاد لكونها في حكم ممكن واحد في الاحتياج إلى مؤثّر

__________________

(١) الاصل : ـ معلولا.

٦٥

موجود ، وتحقّق ايجاد ما يتوقّف أيضا على تحقّق هذه الموجودات ، لانّ الغرض عدم موجود خارج عنها حتّى يكون موجدا لها.

وقال المحقّق الخفري في بيان لزوم الدور : لانّ تحقّق موجود ما يتوقّف على هذا التقدير على تحقّق ايجاد ما وبالعكس.

ولا يخفى انّه لو اراد من « موجود ما » مجموع الموجودات من حيث هو مجموع ليرجع إلى ما ذكرناه ، ولو أراد ما هو الظاهر منه فقال الفاضل السمّاكي : فاللازم منه لزوم التسلسل لا الدور ، إذ على تقدير عدم تحقّق الواجب يكون تحقّق موجود ما متوقّفا على ايجاد سابق عليه ـ أي : على وجود علّته ـ ، ويكون تحقّق ذلك الايجاد متوقّفا على تحقّق موجود آخر لا على ذلك الموجود المتوقّف على ذلك الايجاد ، فيلزم التسلسل ، لا الدور.

وقال سيّد الحكماء في تصحيح لزوم الدور لا التسلسل والجواب عن ايراد السمّاكي (١) : انّ طبيعة الايجاد متأخّرة عن طبيعة الوجود تاخّرا ذاتيا ، لأنّها طبيعة ناعتية يستحيل قيامها بذاتها ، فهي انّما يكون وصفا لشيء والوصف الايجابى سواء كان في الموجبة المحصّلة أو الموجبة المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول متأخّر عن وجود الموضوع ، فيقتضى محلاّ موجودا يقوم به ـ لأنّ ثبوت صفة لشيء فرع ثبوت الموصوف في نفسه ـ فطبيعة الوجود متقدّمة على طبيعة الايجاد. وعلى تقدير عدم وجود الواجب اتصاف طبيعة الممكن بطبيعة الوجود لا يكون إلاّ بعد تعلّق الايجاد بها وقيامه بها ، فهي يحتاج إلى طبيعة الايجاد وتتأخّر عنها ، فالدور لازم بين الطبيعتين. بخلاف ما لو كان الواجب موجودا ، فانّ طبيعة الوجود حينئذ لا يتوقّف على طبيعة الايجاد لقيام فرد من الوجود بذاته من دون افتقاره إلى طبيعة الايجاد ، وهو الوجود الواجب.

ثمّ قال : لا يقال : على ما ذكرتم يلزم توقّف طبيعة الوجود أيضا على نفسها ، لأنّ اتصاف شيء بها يتوقّف على وجود ذلك الشيء بعين ما ذكر ؛

لانّا نقول : لا يتمّ ذلك في طبيعة الوجود مطلقا ، لانّها ليست طبيعة ناعتية حتّى

__________________

(١) الاصل : ـ والجواب عن ايراد السمّاكي.

٦٦

يلزم كونها وصفا للماهية ، بل قد تكون طبيعة الوجود قائمة بنفس ذاتها ـ كما في طبيعة واجب الوجود ـ. وان أورد في طبيعة المطلق العامّ البديهي فنختار أنّها متأخّرة عن طبيعة الوجود الخاصّ الواجبي القائم بنفس ذاته ؛ انتهى.

وأورد العارف الشيرازي على الجواب المذكور : بأنّ الدور في الطبيعة ـ أي : توقّف الطبيعة على نفسها ـ غير محال ، لجواز كون طبيعة ما باعتبار حصولها في ضمن فرد / ١٥AM / متقدّمة على نفسها باعتبار حصولها في ضمن فرد آخر ـ كما في طبيعة الافراد المتوالدة ـ. وذلك لانّ مفسدة الدور هو تقدّم الشيء على نفسه ـ أي : اجتماع النقيضين ـ ، / ١٥DA / والوحدة المعتبرة في التناقض هي الوحدة الشخصية لا النوعية ، فالشخص الواحد لا يجوز أن يكون متقدّما ومتأخّرا معا. وامّا النوع الواحد فلا يستحيل ذلك فيه اصلا ـ كما لا يخفى ـ. والحاصل انّ احكام الوحدة العددية قد لا يثبت للوحدة النوعية الابهامية ولذا اتصاف ماهية الانسان مثلا بالعلم والجهل لا يقتضي ثبوت التناقض لعدم كون الموضوع واحدا بالوحدة العددية ، بخلاف اتصاف زيد بهما ، فانّه يقتضي ثبوت التناقض ، لكونه ذاتا شخصيا.

وأجاب عنه الفاضل اللاهيجى : بانّ كون الطبيعة في ضمن فرد متقدّمة على نفسها في ضمن فرد آخر انّما يصحّ في الإعداد لا في الايجاد ، فانّ الطبيعة يجوز أن تكون في ضمن فرد معدّة لحصولها في ضمن فرد آخر ، ولا يجوز كونها في ضمن فرد موجدة نفسها في ضمن فرد آخر ، فانّ ايجاد الطبيعة (١) هو جعلها واقعة في متن الاعيان. فاذا وقعت هي في نفس الأمر و (٢) الواقع لا يجوز أن يجعل نفسها واقعة موقعها مرّة أخرى فيها.

وبعبارة أخرى : لا يجوز أن يكون وقوعها في نفس الأعيان متقدّما على وقوعها في نفس الأعيان ، لكن يجوز حينئذ ـ أي : إذا وقعت في نفس الواقع في ضمن فرد ـ أن يصير معدّة لحصول نفسها في ضمن فرد آخر ، إذ معنى كونها في ضمن فرد انّها محفوفة

__________________

(١) في النسختين : الطبقة ، بدلا من : الطبيعة.

(٢) الاصل : ـ الأمر و.

٦٧

بعوارض مشخّصة معيّنة ، ويجوز أن يكون هي في ضمن تلك العوارض المشخّصة معدّة ـ لكونها محفوفة بعوارض مشخّصة أخرى ـ ، ولا امتناع في ذلك اصلا.

والحاصل : إنّ الطبيعة النوعية يجوز أن تكون متقدّمة ومتأخّرة بحسب الزمان ، ولا يجوز أن تكون متقدّمة ومتأخّرة بحسب الذات ، فانّ الوحدة النوعية وحدة ابهامية بحسب الحصول في ضمن افرادها الواقعة كلّ منها في جزء من أجزاء الزمان ، وليست ابهامية بحسب وقوعها في نفس الدهر ؛ بل هي وحدة ابهامية زمانية ووحدة شخصية دهرية ، فكيف يجوز كونها بحسب وقوعها في نفس الأمر متقدمة ومتأخّرة؟! ؛ انتهى.

اقول : إن شئت تحقيق الحقّ في هذا المقام فاستمع لما يتلى عليك من الكلام!. ولا بدّ أوّلا من تحرير مذهب الحكماء والمتكلّمين في الوجود ثمّ تلخيص مطلب هؤلاء الفضلاء من الموردين والمجيبين ، ثمّ الاشارة إلى ما هو الحقّ.

فنقول : مذهب الحكماء في الوجود ـ كما حرّره بعض الاذكياء (١) ـ : انّ للوجود مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات الخاصّة ، والوجودات الخاصّة حقائق مختلفة متكثّرة بأنفسها لا بمجرّد عارض الاضافة ـ ليكون متماثلة متّفقة الحقائق ، ولا بالفصول ـ ليكون الوجود المطلق جنسا لها ـ ، بل هو عارض لازم لها كنور الشمس ونور السراج ، فانّهما مختلفان بالحقيقة واللوازم مشتركان في عارض النور ؛ وكذا بياض الثلج والعاج ، بل كالكمّ والكيف المشتركين في العرضية ، بل الجوهر والعرض المشتركين في الامكان والوجود. إلاّ انّه لمّا لم يكن لكلّ وجود اسم خاصّ ـ كما في أقسام الممكن واقسام العرض ـ توهّم انّ تكثّر الموجودات وكونها حصّة حصّة انّما هو بمجرّد الاضافة إلى الماهيّات المعروضة بها ـ كبياض هذا الثلج وذاك ونور هذا السراج وذاك ـ ، وليس كذلك ، بل هي حقائق متخالفة متغايرة مندرجة تحت هذا المفهوم العارض لها الخارج عنها واذا اعتبر تكثّر ذلك المفهوم وصيرورته حصّة حصّة باضافته إلى المهيات فهذه الحصص أيضا خارجة عن تلك الوجودات المتخالفة الحقائق ؛ فهناك أمور ثلاثة :

__________________

(١) راجع : الدرّة الفاخرة ص ٢ ، تجد العبارة حرفيا فيه.

٦٨

(١) : مفهوم الوجود ، و (٢) : حصصه المتعينة باضافته إلى الماهيّات ، و (٣) : الوجودات الخاصّة المتخالفة الحقائق. فمفهوم الوجود ذاتيّ داخل في حصصه وهما ـ أيّ المفهوم وحصّته ـ خارجان عن الوجودات الخاصّة ؛ والوجود الخاصّ عين الذات في الواجب ـ تعالى ـ وزائد خارج فيما سواه.

ومذهب المتكلّمين : انّ للوجود مفهوما واحدا مشتركا بين الأشياء وذلك المفهوم الواحد يتكثّر ويصير حصّة حصّة باضافته إلى الأشياء ـ كبياض هذا الثلج وذاك ـ ، ووجودات الأشياء هي هذه الحصص. وهذه الحصص مع ذلك المفهوم الداخل فيها خارجة عن ذوات الأشياء زائدة عليها ذهنا فقط عند محقّقيهم ، وذهنا وخارجا عند آخرين.

وإذ عرفت ذلك فاعلم : انّ حاصل إيراد السمّاكي انّ توقّف موجود ما على ايجاد ما وبالعكس لا يستلزم الدور ، بل التسلسل ؛ لانّه على تقدير عدم الواجب / ١٥DB / يتوقّف / ١٥MB / موجود ما على ايجاد سابق عليه ـ أي : ايجاد صادر عن علّته ـ ، وهذا الايجاد يتوقّف على موجود ما هو هذه العلّة لا على الموجود الاوّل. ووجود هذه العلّة يتوقّف على ايجاد صادر من علّة سابقة عليها ، وهكذا ؛ فلا يلزم دور.

وحاصل جواب السيّد : انّ مراد الخفري أنّ طبيعة الايجاد متوقّفة على طبيعة الوجود ، وعلى تقدير عدم الواجب يتحقّق العكس أيضا ، فيلزم الدور بين الطبيعتين وان توقّف كلّ فرد على فرد آخر إلى غير النهاية.

وحاصل ايراد العارف الشيرازي على هذا الجواب : انّ فساد الدور بين الطبيعتين هو لزوم توقّف كلّ واحدة من الطبيعتين على نفسها ، وهذا ليس بمحال ـ لجواز أن تكون طبيعة ما باعتبار حصولها في ضمن فرد آخر ـ ، فطبيعة الايجاد المتحقّقة في ضمن افراد الممكنات متقدّمة على طبيعة الوجود المتحقّقة في ضمنها باعتبار ومتأخّرة عنها باعتبار ، ولا مانع منه.

وحاصل جواب الفاضل اللاهيجى عن هذا الايراد : انّ تقدّم الطبيعة باعتبار حصولها في ضمن فرد على نفسها باعتبار حصولها في فرد آخر انّما يصحّ في الإعداد

٦٩

بان يكون في ضمن فرد معدّة لحصولها في ضمن فرد آخر ، لا في الايجاد بان يكون حصولها في ضمن فرد موجدة لنفسها في ضمن فرد آخر ، وفيما نحن فيه يلزم التوقّف في الايجاد لأنّ توقّف طبيعة الوجود في ضمن فرد على نفسها من حيث أنّها في ضمن فرد آخر انّما يكون من حيث افتقارها في حصولها في ضمن أحد الفردين إلى نفسها من حيث أنّها حاصلة في ضمن الفرد الآخر ، وهذا محال.

وإذ تقرّر ذلك فاعلم : انّ المراد من « طبيعة الايجاد » هنا الإيجاد الاضافي ، وهو أمر اعتباري ؛ وليس المراد به الايجاد الحقيقي ـ أعني : حقيقة الذات ـ ، وهو ظاهر. والمراد « بطبيعة الوجود » هو الوجود المطلق العامّ المشترك بين جميع الأشياء ، لأنّ المراد بالطبيعة ما كان مشتركا بين جميع الافراد متحقّقا فيها ؛ وقد عرفت في تحرير مذاهب الحكماء والمتكلّمين (١) أنّ المشترك بين الوجودات الخاصّة أو مهيات الاشياء ليس إلاّ الوجود المطلق ، وليس بين الوجودات الخاصّة عند الحكيم وبين مهيات الأشياء عند المتكلّم وجود مشترك آخر غير الوجود المطلق ، وهو واضح.

وحينئذ نقول : إن كان مراد السيّد ـ رحمه‌الله ـ انّ كلا من الطبيعتين موجود في الخارج ويلزم الدور بينهما ، ففيه : انّ الوجود المطلق والايجاد الاضافي ليسا بموجودين في الخارج ، بل هما اعتباريان منتزعان ، فلا يوجد أفرادهما في الخارج فضلا عن طبيعتهما ، ولو سلّم كونهما محصّلين ـ كالانسانية ـ فلا نسلّم وجود طبيعتهما في الخارج بوجود على حدة سوى وجود أفرادهما ، إذ محلّ الخلاف في وجود الكلّي الطبيعيّ ـ كما حرّره المحقّقون ـ انّ الطبيعة هل هي موجودة في الخارج بوجود افرادها حتّى تكون الطبيعة موجودة والفرد موجودا آخر ووجودهما واحد ، أو هي غير موجودة في الخارج اصلا ، بل الموجود فيه أفرادها فقط وهي موجودة في الذهن لا غير ، فعلى هذا لو كانت الطبيعة موجودة يكون وجودها بوجود افرادها ، فهي حينئذ موجودة بوجود كلّ فرد ، فيكون لها وجودات متعدّدة بحسب تعدّد الأفراد ، وما هذا شأنه لا يمتنع أن يتوقّف باعتبار أحد وجوداته على نفسه باعتبار وجود آخر ، وحينئذ

__________________

(١) في الاصل : المتألّهين.

٧٠

يلزم التسلسل ويتوقّف تمامية الاستدلال على ابطاله ، ولا يلزم الدور.

وما ذكره الفاضل اللاهيجي ـ رحمه‌الله ـ من عدم جواز توقف الطبيعة باعتبار وجودها في ضمن فرد على نفسها باعتبار وجودها في ضمن فرد آخر في الايجاد ، مدفوع بأنّ عدم جواز كون الطبيعة بأحد الاعتبارين علّة موجدة لنفسها بالاعتبار الآخر مسلّم ، إلاّ انّه لا يلزم ذلك فيما نحن فيه على تقدير عدم الواجب ، لانّ العلّة (١) ليست إلاّ الفرد الّذي هو ماهية مع الوجود الخاصّ والوجود المطلق أمر عرضي تابع منتزع منه ، فانّ الوجود الواجبي الّذي هو علّة الأشياء ليس ما ينتزع منه من الوجود المطلق ، بل وجوده الخاصّ الّذي هو عين حقيقته. وإن كان مراده انّ كلاّ من الطبيعتين غير موجودة في الخارج بل هما اعتباريان ولكن الدور متحقّق بينهما والدور محال ـ سواء كان بين موجودين في الخارج أو بين اعتباريين منتزعين ـ ، فلا يحتاج في الاستدلال إلى التمسّك بوجود الطبيعة في الخارج ، بل يتمّ على تقدير أخذ الطبيعة مطلقا ، أو طبيعة الايجاد ـ أي : المفهوم المشترك سواء كان موجودا في الخارج أو مفهوما انتزاعيا اعتباريا محضا ـ لها تقدّم على طبيعة الوجود كذلك ، فلطبيعة الايجاد حصول / ١٦DA / في مرتبة من مراتب نفس الأمر ليس فيها حصول لطبيعة / ١٦MA / الوجود ، وكذا طبيعة الوجود ـ أي : المفهوم المشترك سواء كان موجودا في الخارج أو مفهوما انتزاعيا اعتباريا محضا ـ لها تقدّم على طبيعة الايجاد كذلك ، فيلزم الدور وهو باطل مطلقا.

ففيه : انّ الدور بين الاعتباريين وإن كان باطلا أيضا إلاّ أنّه لا يمكن الاستدلال به هنا ، لأنّه لو اخذت الطبيعة غير موجودة في الخارج فلا ريب في أنّه لا يتصوّر حصولها في مرتبة من مراتب نفس الأمر منفكّة عن ثبوتها لأفرادها ، فيكون لها حصولات متعدّدة في نفس الأمر بحسب تعدّد الافراد ، وما هذا شأنه يمكن توقّفه باعتبار أحد وجوداته على نفسه باعتبار وجود آخر ؛ واندفاع جواب الفاضل اللاهيجي هنا أظهر.

__________________

(١) في الاصل : ... مدفوع بان عدم الجواز لو سلّم انّما هو إذا كانت الطبيعة بأحد الاعتبارين علّة موجدة لنفسها بالاعتبار الاخر العلّة.

٧١

فظهر ممّا ذكرنا أنّ في صورة الاستدلال على الواجب يتوقّف كل من الايجاد والموجود على الآخر ، وإن لم يوجد فيه مجموع الموجودات لم يتم بدون ابطال التسلسل سواء اخذ توقّف كلّ فرد على آخر إلى غير النهاية أو اخذ طبيعتهما ؛ فايراد السماكي وارد.

ويمكن أن يقال : لو أخذ التوقّف على آخر (١) يمكن اتمام الاستدلال بلزوم الدور من دون توقّف على ابطال التسلسل. بيانه ـ كما افاده بعض الأفاضل ـ : انّه إذا لم يكن في الوجود واجب بالذات وذهبت السلسلة إلى غير النهاية فتحصل سلسلتان ، إحداهما : سلسلة الوجودات ، وثانيهما : سلسلة الايجادات ، قلنا ملاحظة الايجادات الغير المتناهية بعنوان الاجمال بحيث لا يشذّ عنها شيء من الإيجادات ؛ ونقول : هذه السلسلة بأسرها لها تأخّر عن سلسلة الموجودات بناء على أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فلا ايجاد في تلك السلسلة ما لم يكن لها تأخّر ، فلو كانت لسلسلة الوجودات بحيث لا يشذّ عنها شيء تأخّر أيضا لزم الدور ، فيجب أن يكون في سلسلة الوجودات وجود لا يتأخّر عن الايجاد ، وهو الواجب ، فثبت المطلوب ؛ انتهى.

والحقّ انّ هذا الاستدلال تمام وإن وقع فيه التمسّك بمجموع الوجودات أيضا.

وما أورده عليه بعض الفضلاء بأنّ الواقع توقّف واحد واحد من آحاد احدى السلسلتين الغير المتناهيتين على واحد واحد من آحاد الأخرى وتأخّره عنها على التوزيع ، فلا نسلّم انّه يستلزم ذلك تلك التوقّفات والتأخّرات الموزّعة على أجزاء السلسلة الغير المتناهية توقّف تلك السلسلة على ما يتوقّف عليه وتأخّرها بأسرها عنه حتّى يلزم الدور ؛ مدفوع بأنّ الضرورة العقلية حاكمة بانّه إذا كان لكلّ واحد واحد من الايجادات تأخّر عن كلّ واحد واحد من الوجودات يصدق في الواقع انّ لمجموع هذه الايجادات تأخّر ، فانّ توقّف آحاد على آحاد أخرى لا يختلف بتوزّعها أو تشابكها مع غيرها أو تواليها ، فما يثبت لها من التوقّف والتأخّر لا يتخلّف عنها على أحد التقديرين ؛ ألا ترى انّك لو فرضت توالي كلّ من الايجادات والوجودات بأن يخرج آحاد واحد منها من بين آحاد الأخرى حصلت سلسلتان محقّقان متواليتا الآحاد؟!.

__________________

(١) الاصل : ـ إلى غير النهاية ... على آخر.

٧٢

فلو كان واحد واحد من آحاد إحداهما متوقّفا على واحد واحد من آحاد الاخرى لكان مجموع آحاد كلّ منهما متوقّفا على مجموع آحاد الأخرى.

ومنها : انّ مجموع الممكنات من حيث هو مجموع له مبدأ ، كما مرّ من أنّ مجموع الممكنات الصرفة ـ سواء كانت متناهية أو غير متناهية ـ في حكم ممكن واحد في امكان طريان العدم عليها ، ومجموع الموجودات من حيث هو ليس له مبدأ بالذات ـ أي : مبدأ خارج يكون مبدأ لجميعها ـ ، اذ لا خارج عن جميع الموجودات.

وأيضا : لو كان للمجموع من حيث هو مجموع مبدأ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لانّه لو كان للمجموع من حيث هو مجموع مبدأ فذلك المبدأ من حيث كونه موجودا يكون داخلا في المجموع ، فلا يمكن تقدّمه عليه ومن حيث انّه مبدأ له يكون متقدّما عليه ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه من هذه الجهة أيضا.

وما قيل : من إنّ علّية بعض الموجودات للمجموع من حيث هو مجموع لا يقتضي علّيته لنفسه اصلا ، ومن أنّ علّة المجموع لا يلزم أن يكون علّة لكلّ جزء منه ، كلام سطحي خال عن التدبّر. وإذا ثبت أنّ مجموع الموجودات من حيث هو مجموع ليس له مبدأ ومجموع الممكنات من حيث هو مجموع له مبدأ ، فيجب أن يكون في جملة الوجودات موجود يكون واجبا لذاته ، ليكون مصحّحا للفرق ، وهو المطلوب.

ثمّ قرّر هذا البرهان بوجه آخر اخذ فيه بدل « مجموع الموجودات » : « طبيعة الموجود » ، وبدل « مجموع الممكنات » : « طبيعة الممكن ». فقيل : طبيعة الممكن بما هي لها مبدأ ، وطبيعة الموجود بما هي موجودة ليس له مبدأ والاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لانّ / ١٦MB / ذلك المبدأ / ١٦DB / موجود لا محالة فتكون طبيعة الوجود متحقّقة في ضمنه ، فيلزم كون طبيعة الموجود علّة لطبيعة الموجود متقدّمة عليها بالذات ؛ وهو باطل.

وفيه : ما تقدّم سابقا من أنّ المراد بطبيعة الوجود يجب أن يكون الموجود العامّ وتحقّقه في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر وهلمّ جرّا. فاللازم منه التسلسل لا الدور.

٧٣

فان قيل : المتحقق في ضمن الفردين شيء واحد ، فيلزم أن يكون باعتبار وجوده في ضمن أحد الفردين متوقّفا على نفسه باعتبار وجوده في ضمن الفرد الآخر ، فيلزم الدور ؛

قلنا : لا ضير فيه ـ كما تقدّم مفصّلا ـ.

وبعضهم أخذ فيه بدل « طبيعة الموجود » : « الموجود المطلق » ، وبعضهم أخذ « الموجود بما هو موجود ».

قال بعض الأفاضل : هذا البرهان مستفاد من كلام الشيخ في « إلهيات الشفاء » ، وبيانه بعبارة أخرى : انّ الموجود بما هو موجود مع قطع النظر عن خصوصيته سوى الوجود لا يحتاج في تحقّقه في الخارج إلى موجب أوجب تحقّقه ، وإلاّ لاحتاج جميع الموجودات إليه ضرورة ، فاحتاج هذا الموجب أيضا إلى نفسه لدخوله في جميع الموجودات وذلك تقدّم الشخص على نفسه. فطبيعة الموجود بما هو موجود واجبة التحقّق ممتنعة العدم لا لعلّة ، ولو لم يكن فرد يجب وجوده بالذات كان عدم الجميع ممكنا ـ لجواز طريان العدم على جميع الممكنات الصرفة ـ ، فينعدم الطبيعة بانعدام الكلّ ، هذا خلف.

ثم قال : وأنت تعلم انّ المراد بالوجود المشتقّ منه الموجود هاهنا ليس الوجود العامّ البديهي الاعتباري الانتزاعي الّذي ليس له تحقّق في الخارج أصلا ، بل هو من المعقولات الثانية بالمعنى الأعمّ وهو زائد على جميع الموجودات معلّل بها في الذهن ، بل المراد هو الوجود الحقيقيّ الّذي هو منشأ الآثار ومحقّق الحقائق ، وهو الموجود بالحقيقة ومعلوم بوجه ما ؛ انتهى.

وعبارة الشيخ الّذي أشار إليه هو هذا : « ثمّ المبدأ ليس مبدأ للموجود كلّه ، ولو كان مبدأ للموجود كلّه لكان مبدأ لنفسه ، بل الموجود كلّه لا مبدأ له ، انّما المبدأ مبدأ للموجود المعلول ، فالمبدأ هو مبدأ لبعض الموجود (١) » ؛ انتهى.

وأقول : إن كان مراده بالوجود الحقيقيّ الّذي حمل الموجود عليه هو ما يشمل

__________________

(١) راجع : الشفا / الالهيات ج ١ ص ١٤.

٧٤

جميع الوجودات الخاصّة ، ففيه : انّ ما يشمل جميع الوجودات الخاصّة ويشترك بينها ليس إلاّ الوجود العامّ الاعتباري ، وإن كان مراده به مجموع الوجودات الخاصة من حيث المجموع فيرجع إلى ما ذكرناه أوّلا من أخذ مجموع الموجودات ، وهو لا يلائم كلام هذا القائل كما لا يخفى على من راجع إليه. وان كان مراده به الوجود الصرف الّذي هو حقيقة الواجب ، ففيه : انّ التعبير عنه بطبيعة الوجود غير ملائم ، نعم! التعبير عنه بالوجود المطلق أو الموجود بما هو موجود وإن لم يكن به بأس إلاّ أنّ ما ذكره في استدلاله المنقول عنه لا يلائمه ، بل يخالفه! ، وعلى تقدير هذا الحمل لا يكاد يتمّ استدلاله ولا ينطبق عليه ، لأنّ الوجود الحقيقي الّذي هو الواجب أمر واحد شخصي ، وليس طبيعة كلية يكون له افراد متحقّقة في الممكنات ؛ وما ذكره هذا الفاضل في الاستدلال لا ينطبق إلاّ على فرض أن يكون الوجود طبيعة كلية يكون له افراد متحقّقة في الممكنات ـ كما لا يخفى ـ (١). نعم! يمكن الاستدلال على اثبات الواجب بأخذ الوجود الحقيقي الصرف بأن يقال (٢) : يجب أن يتحقق في جملة الموجودات موجود هو صرف الوجود ومحضه بسيط من جميع الجهات ، وإلاّ لم يتحقّق موجود اصلا ، لأنّ كلّ موجود وجوده زائد على ذاته يفتقر في اتصافه بالوجود إلى علّة تنتهى إلى ما هو صرف الوجود ـ دفعا للدور والتسلسل ـ ، وصرف الوجود وحقيقته هو القائم بنفسه الواجب لذاته موجد الكلّ وقيومه ، لانّ افتقاره إلى ما هو وجوده زائد على ذاته بديهى الفساد ، وإلى ما هو مثله في كونه صرف الوجود يخرجهما معا عن الصرفية ويحوجهما إلى علّة أخرى وإلى نفسه يوجب كون الشيء علّة لنفسه.

وأنت تعلم انّ الدليل هنا أيضا طبيعة الموجود أو افراده ، والمدلول هو صرف الوجود ، فيلزم منه سوى ثبوت الواجب لنفسه لذاته اثبات بعض صفاته الكماليّة وتقدّسه عن سمات النقصان ـ كبساطته وتجرّده وعينية صفاته وعدم كونه جسما وجسمانيا وغير ذلك من الصفات اللازمة لصرف الوجود ـ. نعم! يمكن الاستدلال بالوجود الحقيقيّ على ما أورده بعض المحقّقين ، واعتقد أنّ الوجود الحقيقيّ معنى واحد ،

__________________

(١) الاصل : ـ كما لا يخفى.

(٢) الاصل : ـ بأن يقال.

٧٥

وأنّ تحقّق جميع الموجودات انّما هو باعتباره ، وادّعى بداهته وقال : انّه اظهر من الشمس عندى. فيقال حينئذ : انّ ذلك الموجود لا مبدأ له ، إذ لو كان له مبدأ لكان مبدئه / ١٧MA / موجودا البتة ، فيكون إمّا عين هذا الوجود ـ فيلزم تقدّم الشيء على نفسه ـ ، أو يكون هو موجودا باعتباره ـ فيلزم الدور ، وبذلك يثبت وجود الواجب / ١٧DA / لذاته. لأنّ الوجود الحقيقيّ الّذي لا مبدأ له ـ ويقال له الوجود المطلق أيضا ـ إن هو إلاّ الواجب بالذات.

وأنت تعلم إنّ هذا الاستدلال لا يلائم طريقة أهل البحث والنظر ؛ فتأمّل!.

ثمّ هذا الطريق الّتي يلاحظ فيها الموجود المطلق أو الموجود من حيث هو موجود أو الوجود الحقيقيّ حقيق بأن يكون طريقة الصدّيقين والشهداء ـ : الّذين يستشهدون بالحقّ لا عليه ـ. لانّ المراد بهم هم الالهيون الّذين قصّروا أنظارهم على نفس الوجود وتوجّهوا بشراشرهم إلى ذات الحقّ ـ تعالى ـ وأعرضوا عمّا سواه من الموجودات ، ولا يلتفتون في مشاهداتهم إلاّ إلى الوجود المطلق والإنّية الصرفة الحقّة ، ولا يرون في الوجود الحقيقيّ إلاّ الوجود القائم بذاته ، ولا في الأنوار إلاّ النور الغنيّ الثابت بنفسه ، وهو الله نور السماوات والأرض. وغيره من الموجودات والأنوار لمعات نازلة من نور ذاته ورشحات صادرة من شئوناته وتجلّياته ، فاللائق بامثالهم أن لا يتعدّوا في استدلالهم إلى غير حقيقة الوجود والموجود ، ولا يلتفتوا فيه إلى الأغيار من المهيات والأفراد ، ولا يستشهدوا على الحقّ ـ عزّ وجلّ ـ إلاّ به.

فان قيل : الاستشهاد بالوجود الحقيقيّ ـ كما نقلته عن بعض المحقّقين ـ مسلّم ، فانّه استشهاد بالحقّ على الحقّ. وأمّا الاستشهاد بالوجود والموجود سواء أخذا من حيث الإطلاق أو الطبيعة استشهاد بغير الحقّ عليه ، لانّ الموجود أو الوجود من حيث هو ليس عين ذاته الأقدس ؛

قلت : لمّا كان الوجود أو الموجود من حيث هو منتزعا عن حاقّ ذاته ووجها من وجوهه وهو ـ جلّ وعزّ ـ فرد منه ، فلا يكون الاستشهاد به عليه استشهادا

٧٦

عليه (١) بغيره ، فكأنّه يكون به ؛ بخلاف الطرق الأخرى ، فانّه استدلّ فيها بالموجودات الممكنة وأحوالها ، ففيها استشهاد بغيره ـ تعالى ـ عليه.

وقيل : لأنّ الوجود والموجود عين بالنسبة إلى الواجب وزائد بالنسبة إلى الممكن ، فلم يستدلّ بغيره ـ تعالى ـ عليه.

وهو كما ترى! ؛ فانّ الوجود أو الموجود الّذي يستدلّ به على الواجب ليس عينه ـ تعالى ، كما لا يخفى! ـ.

قال بعض أهل التحقيق في سبب كون هذا الاستدلال من طريقة الصديقين : انّه نظر في الوجود المطلق والوجود المطلق المعرّى عن جميع القيود ، وهم جعلوه عين ذاته ـ تعالى ـ والموجود المطلق الّذي نظرنا فيه وإن لم يكن معرّى عن القيود بل هو لا بشرط القيود وفرق ما بينهما ، إلاّ انه من ذاته ـ تعالى ـ بذاته ، فهو وجه من وجوهه إلى حقيقته ، فكأنّما استشهد بانّه عليه ، إذ وجه الشيء هو الشيء بوجه. وبه يندفع ما قيل ، ويتقوّى ما قلناه.

ومنها : انّ مجموع الممكنات من حيث هو مجموع يجوز أن يصير شيئا محضا ـ لما مرّ من انّ جميعها في حكم ممكن واحد في جواز طريان العدم عليها رأسا ـ. ومجموع الموجودات من حيث هو موجود يمتنع أن يصير لا شيئا محضا ، امّا لأنّه لو جاز عدمه راسا للزم في صيرورته موجودا من سبب موجود يوجده فيلزم أن يكون موجودا قبل كونه موجودا ، وهو الدور ، فيجب وجود الواجب لذاته حتّى يمكن وجود غيره منه.

وما أورد عليه : بانّه إن اريد انّ مجموع الموجودات لا يجوز أن يكون معدوما مطلقا ـ أي : سواء جاز خروجه بعده إلى الوجود أم لا ـ ، فممنوع.

قوله : « وإلاّ لزم في خروجه إلى الوجود الدور » ؛

قلت : لعلّه جاز عدم جميع الموجودات رأسا ، لكن حينئذ لا يجوز خروجه إلى الوجود حتّى يلزم الدور. وإن اراد بانّه لا يجوز عدمها رأسا مع خروجها إلى الوجود ، فممنوع ؛ لكن نقول : انّ الممكنات أيضا تكون كذلك ـ أي : يمتنع عدمها راسا مع

__________________

(١) الاصل : ـ عليه.

٧٧

خروجها إلى الوجود ـ ، وكون جميعها في حكم واحد في طريان العدم لا يثبت إلاّ جواز عدمها راسا في الجملة لا مع خروجها إلى الوجود انتهى ؛ مردود باختيار الشقّ الأخير ومنع عدم امتناع (١) الممكنات رأسا مع خروجها إلى الوجود ، لان امتناع عدم الممكنات رأسا مع خروجها إلى الوجود إمّا أن يكون لذاتها ـ فيلزم انقلاب الحقيقة من الامكان الذاتي إلى الوجوب الذاتي ـ ؛ وامّا أن يكون بسبب الجاعل الخارج ـ فيثبت الواجب لذاته ـ. وبالجملة امتناع عدمها مع خروجها / ١٧MB / إلى الوجود ليس لذاتها ، بل بملاحظة الخارج وهو الواجب لذاته. ولأنّ الشيء باعتبار الوجود لا ينفكّ عن الوجوب السابق والوجوب اللاحق ، فكل موجود يتوقّف على الوجوبين. أمّا توقفه على الوجوب السابق فلأنّه عبارة عن ارتفاع جميع انحاء العدم قبل الوجود ، ومعلوم بالضرورة انّه ما لم ينسدّ جميع انحاء العدم عن الشيء قبل وجوده لم يمكن أن يصير موجودا ، وأمّا توقّفه على الوجوب اللاحق فلأنّه عبارة عن الظهور بشرط المحمول / ١٧DB / ـ اي : ارتفاع جميع انحاء العدم عن الشيء وقت الوجود ـ ، والبديهة قاضية بأنّه ما لم يرتفع جميع انحاء العدم عن الشيء وقت وجوده لم يوجد ، وإذا توقّف الوجود على الوجوبين فالوجوبان ثابتان للموجودات. وإذا ثبت الوجوب امتنع عدمها ، ولا يمكن أن يصير لا شيئا محضا. وامتناع عدمها رأسا يتوقّف على وجود واجب بذاته ، لأنّ الموجودات لو انحصرت في الممكنات واستند بعضها إلى بعض وان وجب كلّ معلول بعلّته إلاّ أنّه لمّا جاز ارتفاع ذلك العلّة فيجوز أن يرتفع المعلول بارتفاعها ، ويجري ذلك في جميع سلسلة الممكنات وإن تسلسلت إلى غير النهاية.

فيبقى نحو واحد من انحاء عدم ذلك المعلول ولم ينسدّ بعد وهو ارتفاع المعلول مع العلّة ، فانّ عدم العلّة من انحاء عدم المعلول بمعنى انّه يجوز انّ يرتفع المعلول مع علّته ـ لأنّ الفرض انّ علّته ليست بحيث يمتنع عليه العدم ـ ، فيجب أن توجد علّة واجبة بالذات لينسدّ بها جميع انحاء العدم عن الموجودات.

و (٢) على ما قرّرنا البرهان المذكور بالتعليلين يندفع ما أورد عليه : بأنّ

__________________

(١) الاصل : ـ امتناع.

(٢) النسختين : ـ و.

٧٨

الاستدلال بهذا النحو مسلك آخر سوى طريق الاستدلال والمباحثة ، إذ على هذه الطريقة نقول : إن اراد بقوله « مجموع الموجودات ... إلى آخره ـ » : انّ المجموع المذكور بشرط كونه موجودا يمتنع أن يصير لا شيئا محضا فهو ممنوع ، ولكن جميع الممكنات الموجودة بشرط الوجود أيضا كذلك بلا فرق. وإن أراد أنّ جميع الموجودات المقيّدة بالوجود يمتنع أن يصير لا شيئا محضا فممنوع وانّما يصحّ ذلك على تقدير وجود الواجب بالذات لا مطلقا ، ومن لم يسلّم وجود الواجب كيف يسلّم ذلك؟! ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع : أمّا على التعليل الأوّل فظاهر. وأمّا على التعليل الثاني فلأنّ البرهان المذكور دلّ على أنّ الممكنات الموجودة لها اعتباران ، أحدهما : اعتبار أنّها ماهيّات وثانيهما : اعتبار أنّها موجودات ؛ وبالاعتبار الأوّل لا يأبى عن الوجود والعدم ، فلا يمتنع أن يصير لا شيئا محضا ؛ وبالاعتبار الثاني يجب أن يكون لها وجوب ، لأنّ الوجود لا ينفكّ عنه ، والوجوب ينافي صيرورتها لا شيئا محضا وهو لا يحصل إلاّ من الواجب بالذات ـ لما تقرّر ـ.

وحمل بعض الأفاضل امتناع انعدام مجموع الموجودات على انعدامه بالمرّة ، وقال : امتناع صيرورة مجموع الموجودات لا شيئا محضا بالمرّة معلوم بالضرورة ـ كما هو المشهور ـ ، ومجموع الممكنات لا يمتنع عليه ذلك ، لأنّ مجموعات الممكنات في حكم ممكن واحد في جواز طريان الانعدام عليها.

وأنت تعلم انّ هذا كلام شعري!. فانّ من لا يسلّم وجود الواجب كيف يسلّم امتناع انعدام مجموع الموجودات بالمرّة. ودعوى البداهة غير مسموعة.

فان قلت : قد صرّح المعلّم الأوّل في أثولوجيا بامتناع انعدام الحقائق حيث قال في اثبات بقاء النفس بعد خراب (١) البدن : « انّ النفس حقيقة والحقيقة لا تبيد (٢) » ، فيعلم منه أنّ الحقائق الموجودة لا تنعدم بالمرّة ؛

قلت : لو سلّم ذلك لدلّ على عدم انعدام الحقائق بعد صيرورتها موجودة ، سواء

__________________

(١) الاصل : ـ خراب.

(٢) ما وجدت هذه العبارة المنقولة عن هذا الكتاب حرفيا فيه ، بل يوجد : فامّا النفس فانّها قائمة ثابتة على حالة واحدة لا تفسد ولا تبيد. راجع : أثولوجيا ، الميمر التاسع ص ١٢٢.

٧٩

استندت إلى الواجب لذاته أم لا ؛ هذا.

ثمّ انّ بعض الافاضل أخذ في الاستدلال بدل « مجموع الموجودات » : « طبيعة الوجود بما هو موجود » ـ اي : لا بشرط شيء ـ ، وقال : طبيعة الموجود بما هو موجود لا بشرط شيء يمتنع أن يصير لا شيئا محضا وإلاّ يلزم صيرورة الوجود عدما ، فيلزم قلب الحقيقة وهو محال. وطبيعة الممكن بما هو ممكن لا بشرط شيء لا يمتنع أن يصير لا شيئا محضا لا محالة ، فلو كانت طبيعة الموجود بما هو موجود قائمة بطبيعة الممكن من حيث هو ممكن لا قائمة بذاتها ولا بفرد قائم بذاته يلزم جواز صيرورتها لا شيئا محضا ـ كما / ١٨MA / لا يخفى ـ ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الكلام لا محصّل له! ، لأنّ انعدام طبيعة الوجود ليس من باب القلب ، لانّ القلب أن يصير عين شيء عين شيء آخر ، ومعلوم أنّ طبيعة الموجود إذا انعدمت بانعدام افرادها لا تصير نفس العدم ، بل يتبدّل ظهورها العينى بالخفاء في الأعيان.

ومنها : انّ موجد جميع الممكنات الصرفة المتصلة إلى غير النهاية يجب أن يكون خارجا عنها ، وإلاّ كان موجدها إمّا عينها أو جزئها ؛ والأوّل باطل ضرورة ، لايجابه علّية الشيء لنفسه ؛ والثاني أيضا باطل ، لاستلزامه كون الشيء علّة لنفسه ولعلله ، وهو باطل ؛ فيبقى أن تكون علّتها شيئا خارجا عنها وهو واجب الوجود لذاته.

وأورد عليه شبهة ما قبل المعلول الأخير. وتقريرها : انّ السلسلة الغير المتناهية نفصّلها إلى جزءين ، أحدهما : المعلول الأخير ، وثانيهما : جميع ما قبل المعلول الأخير ، وجميع ما قبل المعلول الاخير امر موجود / ١٨DA / غير خارج عن السلسلة وعلة للمعلول الاخير. ثمّ نفصّل (١) جميع ما قبل المعلول الأخير إلى جزءين : أحدهما الجزء الّذي هو فوق المعلول الأخير ، وثانيهما جميع ما قبل هذا الجزء ـ وجميع ما قبل هذا الجزء أمر موجود غير خارج عن السلسلة وعلّة لهذا الجزء ، وهكذا ـ ؛ وحينئذ تكون

__________________

(١) في النسختين : تفصيل.

٨٠