جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٥١٧
الجزء ١ الجزء ٢

قديم لكان دائم الافتقار إلى المؤثّر مع دوام وجوده. فالممكن في حدّ ذاته فقر محض وعدم صرف. وانّما يصير موجودا واجبا بالغير ، كما قال كبير الفلاسفة : « الممكن في حدّ ذاته ليس ولعلته أيس ». ولا ريب في انّ الوجوب بالغير لا يخرجه عن الافتقار الذاتى لانّ ما بالذات لا يزول وما يقتضيه الذات مقدّم على ما يقتضيه الغير ، فسلب الاحتياج عن الممكن ـ حادثا كان أو قديما ـ محال.

قال الشيخ في المبدأ والمعاد ما حاصله : « انّه لا يجوز ان يكون الحادث ثابت الوجود بذاته من دون افتقار إلى العلّة ، لانّا نعلم بالضرورة انّه لم يجب ثبوته ووجوده لذات الممكن ومهيته ، فيمتنع أن يصير واجبا بالحدوث الّذي ليس واجبا لذاته ولا ثابتا لذاته ، فالحقّ ـ جلّ وعزّ ـ قيوم الكلّ كما هو موجد الكلّ ».

ثمّ لا يخفى انّ من قال علّة الاحتياج إلى المؤثّر هو الحدوث وحده أو الامكان مع الحدوث ـ شطرا أو شرطا ـ يلزمه أن يكون الممكن حال بقائه مستغنيا عن المؤثّر ، اذ لا حدوث حال البقاء فلا احتياج ، وقد التزمه جماعة منهم ؛ كما قال اليهود : « انّ الممكنات تفتقر إلى المؤثّر في اخراجها من العدم إلى الوجود وبعد اخراجه منه إليه لا تبقى لها حاجة إليه حتى لو جاز العدم على المؤثّر ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! ـ لما ضرّ العالم ».

وتمسّكوا في ذلك ببقاء البناء بعد فناء البنّاء (١) ، ولم يعلموا انّ الكلام / ١٠DA / في العلّة الموجدة ، وليس البنّاء موجدا للبناء وانّما هو علّة لحركات الآلات واللبنات والأخشاب بحركة يده ، وتلك الحركات علل عرضية معدّة لاوضاع مخصوصة بين تلك الآلات والاخشاب وتلك الاوضاع مفاضة من علل فاعلية غير تلك الحركات المستندة إلى حركة البنّاء (٢).

فان قيل : تأثير المؤثّر في الباقي محال ، لانّه إن افاد الوجود الّذي كان حاصلا فيلزم تحصيل الحاصل ؛ وإن افاد / ١٠MA / امرا آخرا متجدّدا لم يكن التأثير في الباقي ،

__________________

(١) راجع : الشرح الجديد ص ٧٠. التحصيل ص ٥٢٦.

(٢) راجع : شوارق الالهام ص ١٣٩ ، نقلا عن المحقّق الشريف.

٤١

بل في هذا الأمر المتجدّد (١) ؛

قلنا : تاثير المؤثّر في استمرار الوجود وبقائه ، فانّ الحاصل بالحدوث ليس إلاّ الوجود في زمانه وحصول شيء في زمان لا يوجب حصول استمراره وبقائه ، فابقاء الوجود وادامته من المؤثّر ، وهو غير حصول نفس الوجود. والحاصل : انّ اتصاف الماهية الممكنة بالوجود في زمان حدوثه كما لم يكن مستندا إلى ذاته بل إلى المؤثّر الخارج عن ذاته ـ لاستواء نسبة ذاته إلى الوجود والعدم ـ كذلك اتصافها به في الزمان الثاني والثالث وما بعدهما من الازمنة ليس مستندا إلى ذاتها ، بل إلى علّة خارجة ، لانّ استواء نسبة ذاتها إلى وجودها وعدمها أمر لازم لذاتها لا ينفكّ عنها في جميع الاوقات والحالات ، واتصافها بالوجود في زمان الحدوث هو اتصافها باصل الوجودات واتصافها به في الازمنة الّتي بعده هو اتصافها بالبقاء ، فهو في وجودها ابتداء وفي استمرارها وبقائها محتاجة إلى العلّة الّتي تعطيها الوجود ويديمه لها ، وحاجتها إليها في الابتداء والبقاء سواء. فلو فرض انقطاع تاثير المؤثّر عن العالم في آن لصار معدوما ، كما انّ المستضيء بمقابلة الشمس إذا حجب عنها زال ضوئه وصار مظلما (٢).

المقدّمة الخامسة

في ابطال الدور والتسلسل

أما « الدور » فهو أن يكون أحد الشيئين متوقّفا على الآخر ومعلولا له ، ويكون الآخر أيضا متوقّفا عليه ومعلولا له ، إمّا بلا واسطة ويسمّى « دورا مصرّحا » أو بواسطة ويسمّى « دورا مضمرا ».

والدليل على بطلانه انّ ما هو المتوقّف والمعلول يجب أن يكون متأخّرا عن

__________________

(١) راجع : الشرح الجديد ص ٧٠. شوارق الالهام ص ١٣٨. تلخيص المحصّل ص ١٢١.

كشف المراد ص ٥٦.

(٢) راجع : المصدرين الاوّلين من المصادر المذكورة في التعليقة السالفة.

٤٢

المتوقّف عليه والعلّة وما هو المتوقّف عليه ، والعلّة يجب أن يكون مقدّما على المتوقّف والمعلول. فلو كان شيء متوقّفا على ما يتوقّف عليه ومعلولا لما هو معلول له لزم أن يكون متوقّفا على نفسه وعلّة لها ، وهو يوجب تقدّمه على نفسه ـ أي : كونه موجودا حين كونه معدوما ـ ؛ وهو باطل (١).

وأيضا معنى المحتاج من حيث هو محتاج غير معنى المحتاج إليه ومقابله ، فلو كان شيء متوقّفا على نفسه وعلّة لها من جهة واحدة لزم أن يكون غير نفسه ومقابلا له ، وبطلانه من أجلى البديهيات.

وأمّا « التسلسل » فهو أن يكون شيء معلولا لشيء آخر وهو معلولا لثالث وهو لرابع ... ، وهلمّ جرّا إلى غير النهاية.

ويدلّ على بطلانه وجوه من البراهين القاطعة.

منها : « برهان التطبيق (٢) ». وتقريره : انّه لو تسلسلت العلل إلى غير النهاية لكان كلّ واحد من آحاد السلسلة معلولا لسابقه وعلّة للاحقه ، إلاّ المعلول الأخير ، فانّه ليس علّة ، وهذه السلسلة وان كانت واحدة بالذات إلاّ أنّها تنحلّ في الواقع وعند العقل إلى سلسلتين إحداهما مركّبة من العلل والأخرى من المعلولات ، وعدد آحاد السلسلة الأخيرة أزيد من آحاد السلسلة الاولى بواحد هو المعلول الأخير ـ لأنّه معلول وليس علة ـ. ولنا أن نطبق بين السلسلتين بان نطبق الجزء الأوّل من إحداهما من الطرف المتناهي على الجزء الأوّل من الأخرى والجزء الثاني على الجزء الثاني وهكذا ؛ بل لا حاجة إلى فرض التطبيق ، إذ الجزء الأوّل من إحداهما بإزاء الجزء الأوّل من الأخرى والجزء الثاني بإزاء الجزء الثاني وهكذا في الواقع ونفس الأمر. فالانطباق حاصل عند العقل وبحسب الواقع وإن لم نفرض التطبيق ، فان لم تتناه السلسلتان من

__________________

(١) راجع : الحكمة المتعالية ، ج ٢ ، ص ١٤٢ ؛ شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ١١١.

(٢) هذا البرهان هو العمدة في اثبات ابطال التسلسل. قال القوشجى : ... وعليه التعويل في كلّ ما يدّعى تناهيه. راجع : الشرح الجديد ، ص ١٢٢ ؛ وبنفس العبارة : شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ١١٢. وقال صدر المتألّهين : ... وعليه التعويل في كل عدد ذي ترتيب موجود سواء كان من قبيل العلل والمعلولات أو من قبيل المقادير ... راجع : الحكمة المتعالية ، ج ٢ ، ص ١٤٥.

٤٣

الطرف الآخر ولم تصر السلسلة الاخيرة ـ اعنى : الزائدة ـ متناهية في ذلك الطرف ووقع بإزاء كلّ جزء من الزائدة جزء من الناقصة لزم تساوي الزائد والناقص ، وهو يوجب تساوي الكلّ والجزء وهو محال ؛

وإن لم يقع بإزاء كلّ جزء من الزائدة جزء من الناقصة ـ ولا يتصوّر ذلك إلاّ بان يوجد جزء من الزائدة لا يكون بإزائه جزء من الناقصة ـ لزم تناهى الناقصة بالضرورة والزائدة لا تزيد عليها الاّ بمقدار متناه ، فيلزم تناهيها أيضا لأنّ الزائدة على المتناهى بمقدار متناه متناه (١) ـ. / ١٠DB /

واعترض عليه : بانّا نختار انّه يقع بإزاء كلّ جزء من الزائدة جزء من الناقصة ويمتنع لزوم تساويهما ، فانّ وقوع التوازي بين كلّ جزءين من جملتين كما يكون للتساوي فقد يكون لعدم التناهى ؛

وجوابه : انّ الضرورة قاضية بانّ كلّ جملتين امّا متساويتان أو متفاوتان بالزيادة والنقصان ، وإذا لم تتساويا وتتفاوتا بالزيادة والنقصان لزم / ١٠MB / الناقصة الانقطاع (٢).

فان قيل : هذا البرهان منقوض بالأعداد وبالأمور المتعاقبة في الوجود من الحوادث الّتي لا أوّل لها ـ كالحركات الفلكية وأمثالها ـ ؛

وبالأمور الّتي توجد معا ولكن لا ترتيب بينها ـ كالنفوس الناطقة فان جميعها غير متناهية عند الحكماء ـ مع أنّ هذا البرهان جار فيه (٣) ؛

والجواب عن النقض بالاعداد : أنّها من الأمور الاعتبارية وكلّ ما يدخل منها في الوجود متناه ، فانّ عدم التناهى يكون بمعنيين أحدهما أن توجد في الخارج أو الذهن امور مفصّلة غير متناهية ، وثانيهما أن يعتبر العقل مفهوما كلّيا يصلح لان يصدق

__________________

(١) راجع : الشرح الجديد ص ١٢٢. وانظر : ما افاده المحقق الطوسى بشأن هذا البرهان فى فوائده الملحقة بتلخيص المحصّل ص ٥١٦. المطالب العالية ج ١ ص ١٥١. الحكمة المتعالية ج ٢ ص ١٤٥.

(٢) راجع : الشرح الجديد ص ١٢٢. الحكمة المتعالية ج ٢ ص ١٤٦.

(٣) راجع : الشرح الجديد ص ١٢٢. وانظر : المطالب العالية ج ١ ص ١٤٣. الحكمة المتعالية ج ٢ ص ١٤٥. شرح المقاصد ج ٢ ص ١٢٢.

٤٤

على كثيرين ، وكلّما اعتبر العقل له افرادا مفصّلة امكنه اعتبار افراد اخر ولكن الموجود في الخارج أو العقل ليس إلاّ افراد متناهية والعدد من هذا القبيل (١). وقوله : « عدم التناهى » بمعنى لا يقف. وعن النقض بالبواقى انّ المتكلّمين متّفقون على امتناع عدم تناهيها واجراء برهان التطبيق وغيره من براهين ابطال التسلسل فيها ؛ وامّا الحكماء فلما اشترطوا في بطلان عدم التناهى شرطين : أحدهما أن يكون الأمور الغير المتناهية موجودة وحكموا بجواز التسلسل في المتعاقبات ؛ وثانيهما أن يقع بينها ترتيب وجوّزوا اللاتناهى في الأمور المجتمعة في الوجود معا ـ كالنفوس الناطقة وكالصبرة المشتملة على الاجزاء الغير المتناهية ـ ، وقالوا : انّ برهان التطبيق وغيره من البراهين لا تجري في المتعاقبات وفي الأمور المجتمعة في الوجود (٢). واحتجّوا على عدم جريانه في الأوّل بأنّ الآحاد إذا لم يكن موجودة في الخارج معا لم يتمّ التطبيق لأنّ وقوع آحاد احدى الجملتين بإزاء احاد الأخرى ليس حينئذ في الوجود الخارجيّ ، اذ ليست المتعاقبات مجتمعة في الوجود بحسب الخارج في زمان أصلا وليس في الوجود الذهنى أيضا ـ لاستحالة وجودها مفصّلة في الذهن دفعة ، لعدم اقتدار الذهن على احاطته بالأمور الغير المتناهية دفعة ـ ؛ ومن المعلوم انّه لا يتصوّر وقوع آحاد إحدى الجملتين بإزاء آحاد الأخرى إلاّ إذا كانت موجودة معا إمّا في الخارج أو الذهن. والحاصل : انّ الفساد المترتّب على وجود ما لا يتناهى انّما يكون فيما عرض له صفة عدم التناهى وهذا فرع تحقّقه ، وتحقّقه إمّا في الخارج أو الذهن والذهن لا يحيط به ، بل إذا احاطه بجملة متناهية يعجز عن ادراك الباقى ولذا قالوا : انّ التسلسل في الاعتباريات جائز ، لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، فالمتعاقبات الغير المتناهية لا يحيط بها الذهن وليست موجودة في الخارج ، فلا يبطل التسلسل فيها.

وقد اكّد ذلك عندهم بأمرين : أحدهما : انّهم احتاجوا إلى ربط الحوادث بالثابتات وهو لا يتأتّى على أصولهم إلاّ بعدم تناهى الزمان والمتعاقبات ؛ وثانيهما :

__________________

(١) راجع : الشرح الجديد ص ١٢٢.

(٢) راجع : الحكمة المتعالية ج ٢ ص ١٤٧. شرح المقاصد ج ٢ ص ١٢٣.

٤٥

انّهم ذهبوا إلى تشابه هيولى العناصر فيحتاج إلى مخصّص في قبول الصور ، وهو أيضا على رأيهم موقوف على عدم تناهى الزمان والمتعاقبات. واحتجّوا على عدم جريانه في الثاني بانّ الآحاد إذا كانت موجودة معا ولم تكن مرتّبة لم يتمّ التطبيق أيضا ، إذ لا يلزم من كون الأوّل بإزاء الأوّل كون الثاني بإزاء الثاني والثالث بإزاء الثالث وهكذا ، فيجوز أن تقع آحاد كثيرة من إحدى الجملتين بإزاء واحد من الأخرى ، إلاّ أن يلاحظ العقل كلّ واحد من الأولى واعتبره بإزاء واحد من الأخرى. لكن العقل غير قادر على الاحاطة بما لا يتناهى مفصّلا لا دفعة ولا في زمان متناه ، حتّى يتصور تطبيق ويظهر الخلف ؛ بل ينقطع التطبيق بانقطاع اعتبار العقل والوهم ويتّضح ذلك بتوهم التطبيق بين حبلين ممتدّين على الاستواء وبين اعداد المحصى ، فانّه إذا اطبق طرف أحد الحبلين على طرف الاخرى كان ذلك كافيا في وقوع كلّ من أحدهما بإزاء جزء من الثانى ؛ وليس الحال كذلك في أعداد المحصى ، لانّه لا بدّ في التطبيق من اعتبار تفاصيلها.

فان قلت : هل الحقّ عندكم في هذه المسألة قول المتكلّمين ـ من بطلان عدم التناهى وجريان التطبيق في الجميع ، أعني : الأمور المجتمعة المرتبة وغير المجتمعة المتعاقبة والمجتمعة الغير المرتبة ـ ، أو قول الحكماء ـ من تخصيص البطلان وجريان التطبيق في الاولى دون الآخرين ـ؟ ؛

قلنا : المختار عندنا قول المتكلمين وبطلان عدم التناهى وجريان / ١١DA / التطبيق بل غيره من الادلّة في الأخيرتين أيضا ، أمّا جريانه في غير المجتمعة المتعاقبة فلانّه لا ريب في أنّها صارت موجودة على التدريج بعد جمعها في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ، واحاط بها بحيث لم يشذّ منها صغيرة ولا كبيرة وان لم يكن في الوجود عادّ ولا فارض ولا معتبر ، وجميع العلل المعدّة موصوفة بالعدد في نفس الأمر. فانّا نعلم قطعا أنّ سلسلة / ١١MA / من المعدّات كزيد مثلا وجدّه وابيه وهلمّ جرّا إلى غير النهاية اذا كانت موجودة على التعاقب تتّصف بالعدد الّذي يتصف به إذا فرض وجودها على الاجتماع من دون تفاوت ، وكذا جميع الازمنة الماضية لها نوع صحّة وتحقّق في

٤٦

نفس الأمر ويقبل العدّ والانقسام إلى الأعوام والشهور والأيّام والساعات وغير ذلك ، وكلّ ذلك احكام صحيحة لها تحقّق في الواقع ونفس الأمر وبها يحصل الاعداد الواقعية في الخارج ، فلو كانت المتعاقبات من المعدّات والزمان غير متناهية لحصل الأعداد الغير المتناهية في الواقع ونفس الأمر ، فيجري فيه التطبيق وغيره من براهين ابطال التسلسل. ولا مدخلية لحصول الاجتماع في الوجود وجريان التطبيق ، بل المناط فيه حصول الوجود في الخارج بحيث أمكن فرض التطبيق ، ولا ريب في صحّته مع حصول الوجود التدريجى.

فان قيل : إذا اجتمعت الآحاد في الوجود مع ترتّبها وتطبيق أوّل جزء من إحدى الجملتين على أوّل جزء من الجملة الاخرى يحصل الانطباق بين بقية آحاد الجملتين ، اذ المراد بالتطبيق عند التحقيق توافق الأفراد في المراتب وهو يحصل بمجرّد انطباق الجزءين الاوّلين من الجملتين في نفس الأمر عند وجود الآحاد مجتمعة مع الترتّب ، وأمّا إذا لم تكن مجتمعة بل كانت متعاقبة في الوجود فعند تطبيق بعضها على بعض لا يحصل الانطباق بين البواقى ، لانتفائها ، إذ هو انّما يكون في الأمور الموجودة لأنّ تعيّن كلّ واحد بمرتبة خاصّة من مراتب العدد في نفس الأمر انّما هو بعد وجودها في الخارج أو في مدرك من المدارك ، والمتعاقبات في الخارج منتفية ؛ وكذا في العقل ، لانّه لا يقدر على استحضارها مفصّلة.

قلنا : إذا فرضنا جملتين متعاقبتين موجودتين على التدريج كزيد وأبيه وجدّه ـ وهكذا إلى غير النهاية ـ ثمّ طبقنا بين زيد وعمرو فلا نشكّ في انّه يحصل التطبيق النفس الأمري بين البواقى وإن لم تكن موجودة في الخارج ، لانّ كلّ جزءين من اجزاء السلسلتين لمّا وجدا توافقا في المراتب فيحصل بينهما التطبيق في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر وإن لم يكونا موجودين في الحال ، وهذا ظاهر لا ريب فيه. وأمّا جريانه في المجتمعة الغير المرتّبة فلأنّ وقوع كلّ واحد من آحاد إحدى الجملتين بإزاء آحاد الجملة الاخرى إذا كانت الجملتان موجودتين معا من الأمور الممكنة وإن لم يكن بين آحادهما ترتّب ، والعقل يفرض ذلك الممكن واقعا حتّى يظهر الخلف ، ولا يحتاج في ذلك

٤٧

الفرض إلى استحضار آحادهما مفصّلة ، بل يكفى في فرض وقوع هذا الممكن ملاحظتهما اجمالا ، فالتطبيق يجري فيها كما يجري في المجتمعة المرتّبة من دون فرق. على انّا نقول : لو وجد أمور غير متناهية دفعة وان لم تكن مرتّبة توقّف مجموعها على ما يبقى منه بعد اسقاط واحد ، وتوقّف مجموع الباقي على ما يبقى منه بعد اسقاط واحد ، وهكذا ، فيلزم وجود مجموعات غير متناهية يحصل منها التوقّف والترتّب فيجري فيها التطبيق.

فإن قيل : الموجود في الخارج انّما هو الأمور المتفرّقة الكثيرة ولا وجود المجموع من حيث الوحدة إلاّ بعد أن يعتبر العقل وحدته ، والعقل لا يقدر على اعتبار المجموعات الغير المتناهية واستحضارها ، فلا يلزم الترتّب الواقعى الكافي للتطبيق بين جميع المجموعات ، ونظير هذا الترتّب هو الترتّب بين الاعدام الغير المتناهية ؛

قلنا : إذا وجد كثرة كالالف مثلا وجد فيه سبعمائة وخمسمائة ومائتان ومائة ، وهكذا ، ولكلّ منها جهة وحدة وإن لم يعتبرها العقل اصلا ، فيحصل التطبيق الواقعى.

فإن قيل : المسلّم توقّف مجموع الغير المتناهى على الآحاد الّتي تبقى بعد اسقاط واحد منها وتوقّف مجموع الباقى على الآحاد الّتي تبقى بعد اسقاط واحد منها وهكذا ، ولا يلزم من توقّف امر على آحاد توقّفها على مجموعها من حيث هو مجموع ، فانّ كلّ كلّ يتوقّف على كلّ واحد من اجزائه ولا يتوقّف على مجموعها من حيث هو مجموع ، اذ هو عينه فلا يحصل بين المجموعات توقّف وترتّب حتّى يجري فيها التطبيق ؛

قلنا : لا يتوقّف التطبيق على كون آحاد السلسلة بحيث تكون عليّة كلّ واحد منها للآخر من حيث انّه واحد وله جهة وحدة هى تكون / ١١DB / علّة واحدة له ، بل لزم أن تكون علة له سواء كان علة واحدة أو عللا كثيرة ، اذ المقصود تحصيل الانتظام وهو يحصل بالشقّين. فاذا سلّم توقّف كلّ واحد من المجموعات على ما يبقى منه بعد اسقاط واحد يحصل المطلوب سواء توقّف على مجموع الثاني من حيث الوحدة أو / ١١MB / على الآحاد الّتي يتضمنها مجموع الباقي. على انّ الترتيب حاصل بين المجموعات المفروضة وإن لم يكن بينها توقّف في الوجود ، اذ بينها ترتّب من حيث

٤٨

المراتب العددية ومجرّد الترتّب يكفى لاجراء التطبيق ، وهو ظاهر ؛ هذا.

واعلم! انّه يمكن تقرير برهان التطبيق بوجه آخر لا يتوقّف على تحليل السلسلة الغير المتناهية إلى سلسلتى العلل والمعلولات والتطبيق بين آحادهما ؛ بل نقول : لو وجدت سلسلة غير متناهية فان كانت غير متناهية من طرف واحد نسقط عدّة متناهية من الطرف المتناهي ، ولو كانت غير متناهية من الجانبين فسقطناها من البين واعتبرنا كلّ قطعة على حدة ، ثمّ نسقط العدّة المتناهية من المبدأ فالباقى في الصورتين أيضا سلسلة غير متناهية ناقصة عن السلسلة الاولى بتلك العدّة ؛ فاذا طبّقنا التامّة على الناقصة بان فرضنا الجزء الأوّل من التامّة بإزاء الجزء الأوّل من الناقصة والثاني بإزاء الثاني وهكذا فامّا تذهب هذه المساوات حتى تستغرق السلسلتين ، فيلزم مساواة الكلّ لجزئه ، بل يزيد الكلّ على جزئه وهو باطل ؛ أو تنتهى الناقصة فتنتهى التامّة أيضا لزيادتها عليها بعدد متناه ، وقد فرضت غير متناهية ؛ هذا خلف!.

ومنها : انّه لو تسلسلت العلل إلى غير النهاية اسقطنا المعلول المحض من السلسلة ولا يضاف كلّ واحد من الآحاد الّتي فوقه بعد وصفي العلية والمعلولية تنحلّ السلسلة إلى جملتين متغايرتين بالاعتبار إحداهما مركّبة من العلل والأخرى من المعلولات ، وإذا طبّقنا بين آحاد الجملتين ـ اعني كلّ واحد من المعلولات على كلّ واحد من العلل ـ لزم زيادة وصف العلية على وصف المعلولية ، لانّه لا ينطبق حينئذ كلّ علة على معلولها لخروج المعلول الاخير ـ بل على معلول علّتها المتقدّمة عليها بمرتبة ، وذلك المعلول هو نفس تلك العلّة الّتي تنطبق عليه ، فالعلة والمعلول ـ اللّذان يحصل بينهما الانطباق ـ شيء واحد وإنّما يتغايران باعتبار وصفي العلية والمعلولية ، وبهذا الاعتبار يتصوّر الانطباق بينهما. فكلّ علة ومعلول منطبقين لا بدّ ان تكون قبلهما علّة ، لانّه إذا اجتمعت العلّيّة والمعلولية المنطبقتين في واحد واستندت معلوليته إلى علة مقدّمة عليه وجب أن تتقدّم علّة على كلّ منطبقين من العلة والمعلول ، فإذا انطبقت افراد المعلولات بأسرها ـ بحيث لم يبق منها واحد غير منطبق ـ كان هناك علّة متقدّمة على جميع المنطبقات لم ينطبق عليها شيء من افراد المعلولات ـ وإلاّ لزم أن ينطبق معلول من تلك المعلولات على علّته

٤٩

لا على علّة المعلول المتأخّر عنه الّتي هي نفس ذلك المعلول ـ ، وإذا انطبق على علّته فلا تكون علّته متقدّمة عليه ، بل واقعة في مرتبته وهو خلاف المفروض ، فتتحقّق هناك علّة متقدمة على جميع المنطبقات فتزيد سلسلة العلل على سلسلة المعلولات بواحدة ، فيلزم انقطاع سلسلة المعلولات ، ومنه يلزم انقطاع سلسلة العلل ؛ هذا لو فرضت السلسلة متناهية من جانب المعلولات غير متناهية من جانب العلل. ولو فرضت متناهية من جانب العلل غير متناهية من جانب المعلولات تسقط العلّة المحضة ويلزم عند التطبيق بين الجملة التامة والناقصة زيادة وصف المعلولية على وصف العلية ، اذ كلّ معلول حينئذ لا ينطبق على علّته بل على عليّة معلوله المتاخّر عنه ، وتلك العلّة هى نفس ذلك المعلول. فبمثل ما مرّ تبين انّ كلّ معلول وعلّة منطبقين لا بدّ أن يكون بعدهما معلول. وعلى قياس ما تقدّم يلزم زيادة سلسلة المعلولات على سلسلة العلل ، فتنقطع السلسلتان (١).

ومنها « برهان التضايف ». وتقريره : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لكان كلّ واحد من آحادها معلولا لسابقه وعلة للاحقه إلاّ العلّة الاولى إن كان عدم التناهى من جانب المعلولات دون العلل فانها علّة محضة ، إذ المعلول الأخير إن كان بالعكس فانّه معلول محض فيتصف كلّ واحد من آحادها بالمتضايفين ـ أعني : العلّية والمعلولية ـ ، إلاّ العلّة المحضة أو المعلول المحض ـ فان كلاّ منهما يتصف بإحداهما ـ ، فيزيد عدد أحد المتضايفين على الآخر بواحد ؛ لكنّه محال لانّ المتضايفين متكافئان في الوجود ـ أي : يجب تساويهما في العدد ـ ، فيلزم ان يكون بإزاء كلّ علية معلولية حتّى يتساويا / ١٢DA / في العدد ولا يتصوّر ذلك إلاّ بان تكون السلسلة من الطرف الآخر متناهيا لتحقّق معلول محض أو علّة محضة يكون بإزاء ما فرض في الطرف المتناهى من المعلول المحض أو العلّة المحضة. ولو فرضت السلسلة غير متناهية من / ١٢MA / الطرفين قطعناها من البين واعتبرنا كلّ قطعة على حدة. وهذا البرهان كما ثبت منه بطلان

__________________

(١) راجع : الشرح الجديد ، ص ١٢٣. وانظر : الحكمة المتعالية ، ج ٢ ، ص ١٦٣ ؛ شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ١٢٥.

٥٠

التسلسل ثبت منه وجود الواجب بالذات ، لانّه إذا وجد في أحد طرفي السلسلة ما هو المتصف بالعلّية دون المعلولية باعتبار وجوده في نفسه كان واجبا بالذات لا بالغير من الواجب بالذات إلاّ ما هو علّة الاشياء وليس معلولا لغيره (١).

قال بعض الأفاضل : « هذا الدليل ممّا عوّل عليه الفحول وتلقّوه بالقبول ؛ وفيه نظر ، لانّه إن اريد بزيادة عدد أحد المتضايفين على الآخر لزوم الزيادة في الخارج ، فهو انّما يصحّ لو كان لهذين المتضايفين ـ أي : العلّية والمعلولية ـ وجود في الخارج ، وهو ممنوع ؛ لانّهما من المعقولات الثانية. وإن أريد به لزوم الزيادة في الذهن فهو انّما يصحّ إذا قدر الذهن على الاحاطة بجميع المراتب الغير المتناهية ، وانّى له ذلك؟!. وان توهّم انّه يلزم زيادة عدد المعلول على عدد العلّة فنقول : لا محذور فيه ، ولا بدّ لنفيه من دليل ». انتهى.

وجوابه : انّا نختار أوّلا انّ لزوم الزيادة انّما هو في الواقع ونفس الأمر ، فانه لو وجدت الآحاد الغير المتناهية في الخارج لاتّصف كلّ منها بالعلّية والمعلولية في الخارج وكانتا ثابتتين له في نفس الأمر والواقع ، وإن لم يكن الخارج ظرفا لوجودهما بل ظرفا لاتصاف تلك الآحاد بهما ؛ فانّ الضرورة قاضية بانّ لها نوع تحقّق ونحو ثبوت لتلك الآحاد في نفس الأمر وإن لم يوجد فارض ومعتبر ، فانّ للمعلولات الثانية أيضا نحو تحقّق في نفس الأمر. على انّا نقول : لا ريب في أنّ اتصاف كلّ واحد من تلك الآحاد بالعلّية والمعلولية متحقّق في الخارج ، وما يدلّ على تساوي عدد المتضايفين يدلّ بعينه على تساوي عدد الاتصاف بهما ؛ مع انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية من أحد الطرفين يلزم أن يكون عدد الاتصافات بأحد المتضايفين زائدا على عدد الاتصافات بالآخر بواحد.

ونختار ثانيا انّ لزوم الزيادة انّما هو في عدد العلل والمعلولات. وما ذكره من انّه لا محذور فيه مدفوع بأنّ ما يقتضي وجوب التكافؤ بين العلّية والمعلولية يقتضي وجوبه

__________________

(١) راجع : الشرح الجديد ، ص ١٢٥. وانظر أيضا : الحكمة المتعالية ، ج ٢ ، ص ١٦٢ ؛ شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ١٢٤.

٥١

بين العلّة والمعلول أيضا ؛ كيف وقد ذكروا انّ المتضايفين إمّا حقيقيّان ـ كالأبوّة والبنوّة ـ ، أو مشهوريان ـ كالأب والابن ـ ، وقد صرّحوا بثبوت التكافؤ في كلّ من القسمين.

ونختار ثالثا : انّ لزوم الزيادة في الذهن وعدم اقتداره على الاحاطة بالآحاد الغير المتناهية غير قادح ، لأنّ الملاحظة الاجمالية كافية في ذلك الحكم والذهن قادر عليها. على انّ الحكماء مصرّحون بانّ المدارك العالية قادرة على ملاحظة الأمور الغير المتناهية مفصّلة ، فيلزم الزيادة في مداركهم وإن لم يلزم في المدارك القاصرة.

فان قيل : التكافؤ اللازم بين العلّة والمعلول أن تكون بإزاء معلولية المعلول علّة قائمة بعلّة ذلك المعلول ، وهذا المعنى ثابت للمعلول الأخير ؛ فانّ العلّية المتضايفة لمعلوليته هي الّتي قائمة بعلّية ، وكذا حال كلّ معلولية في تلك السلسلة. فإن ادّعى في البرهان انّه يلزم زيادة المعلولية المتضايفة على العلّية أو بالعكس لواحدة فهو ممنوع ، لانّ كلّ معلولية يكون بإزائها العلّية القائمة بعلّة ذلك المطلوب المتصف بالمعلولية ، وكلّ علية تكون بإزائها المعلولية القائمة بمعلول تلك العلّة المتصفة بالعلية ؛ وإن ادّعى انّه يلزم زيادة المعلولية على العلّية أو بالعكس بواحدة مطلقا ـ أي : سواء كانت تلك المعلولية متضايفة أم لا ـ ، فهو ممنوع ، ولكن لا نسلّم استحالته ، ولا بدّ لانكاره من دليل.

قلنا : العقل كما يحكم بامتناع تحقّق احد المتضايفين بدون الآخر كذلك يحكم بامتناع زيادة عدد أحد المتضايفين على عدد الآخر. وتوضيحه : انّه لا يكون بإزاء مضايف حقيقى واحد إلاّ مضايف حقيقى واحد. فلا يكون بإزاء علّية واحدة إلاّ معلولية واحدة. فلو تكثّرت العلّية تكثّرت المعلولية بحسب تكثّر العلية ، فيتساوى عددهما. وفي صورة التسلسل يلزم زيادة عدد إحداهما على عدد الأخرى.

فان قيل : لا يلزم زيادة عدد المعلولية على عدد العلّية ولا العكس كما ذكرتم ، لأنّ علّة المعلول الآخر ليس الواحد الّذي فوقه ، لانّه علة ناقصة له بل علّته التامة مجموع ما فوقه من السلسلة ، وكذلك ما فوق المعلول الأخير ينحلّ إلى جزءين احدهما معلول

٥٢

والآخر علّته وهو مجموع ما فوقه ـ وهكذا إلى غير النهاية ـ ، فلا يلزم الزيادة المذكورة ؛

قلنا : إذا انحلّت السلسلة إلى المعلول الأخير وإلى / ١٢DB / مجموع ما فوقه ويكون / ١٢MB / مجموع ما فوقه علّة له ثمّ فصّلت تفصيلا ثانيا وثالثا وهكذا لزم زيادة العدد المعادّ له على عدد العلّة على هذا التقدير أيضا ، لانّ جميع ما فوق المعلول الأخير يتّصف بالعلّية والمعلولية معا ، والمعلول الأخير يتّصف بالمعلولية فقط ، وهو ظاهر. على انّا نقول : لا كلام في ذلك ، بل المطلوب انّه لمّا كانت سلسلة الآحاد ترتيبية فتكون تلك الآحاد بحيث يكون كلّ سابق منها علّة للاحق ، وان كان السابق علّة ناقصة بالقياس إلى اللاحق إلاّ المعلول الأخير فانّه ليس علّة ناقصة لشيء ، فيلزم الزيادة المذكورة بهذا الاعتبار لا مطلقا. ثمّ لا يخفى انّ هذا البرهان يجري في المتعاقبات وفي المجتمعات الغير المترتبة أيضا ؛ امّا جريانه في الأولى فلأنّ الحصول في الخارج ولو على التدريج يوجب حصول العدد في الواقع ونفس الأمر ، فيقبل التساوي والزيادة ، وامّا جريانه في الثانية فلانّه إذا اسقطنا واحدا من مجموع تلك الآحاد الغير المتناهية بقى أقلّ عدد منها ، وإذا اسقطنا واحدا من الباقى بقى عدد اقلّ من هذا الباقى وازيد ممّا لو اسقط منه واحد أيضا ، وهكذا إلى غير النهاية ؛ فلكلّ مجموع اقلّيّة واكثرية سوي المجموع الاوّل ، فانه لكونه اكثر من الجميع له اكثرية فقط ، فيزيد عدد الاكثرية على عدد الاقلّية مع أنّهما متضايفان. فان قيل : يجب أن يوجد ما هو الأقلّ من الكلّ وهو الواحد ، فله اقلّية فقط ؛ قلنا : محال يوجد بين هذه الاقلية والاكثرية الّتي للكلّ أو بين الأقل والأكثر مراتب غير متناهية محصورة بين حاصرين ، وهو باطل.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية فهي لا محالة اسقطنا منها واحدا ، فيبقي الباقي أقلّ منها ، والاتصاف بالأقلية يستلزم التناهي ، لأنّ معنى أقلية الشيء أن يكون له حدود مرتبة لا يجاوزه ، وإذا كان متناهيا كانت السلسلة أيضا متناهية ، لانّه لا يزيد عليه إلاّ بواحد.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية فهي لا محالة تنحلّ على آحاد وعشرات و

٥٣

مئات وألوف وهكذا ، فعدّة الآحاد مثلا امّا أن تكون مساوية لعدّة الالوف أو اقلّ منها أو أكثر ، والكلّ باطل. امّا بطلان الأوّلين فلأنّ عدّة الآحاد يجب أن يكون أزيد من عدّة الالوف بتسعمائة وتسع وتسعين ، لأنّا نأخذ في عدّة الآحاد كلّ واحد واحد وفي عدّة الألوف نأخذ كلّ الف واحدا ، فيكون عدّة الآحاد في ألف مائة ألف مائة وعدّة الألوف فيها مائة ، فكيف يمكن مساواة عدّة الآحاد لعدّة الالوف أو نقصانها عنها؟!. وامّا بطلان الثالث فلأنّه لو كان عدّة الألوف اقلّ لكانت متناهية ـ لما تقدم من أنّ الاقلّية لا ينفكّ عن التناهي ، لانّ معناها أن يكون له حدّ ومرتبة لا تجاوز عنه ـ ، والضرورة قاضية بانّه لا معنى لكون غير متناه اقلّ أو أكثر من غير متناه آخر وإذا كانت عدّة الألوف متناهية كانت عدّة الآحاد أيضا متناهية ، اذ هى لا يزيد عليها إلاّ بقدر متناه ـ وهو تسع مائة وتسع وتسعون ـ ، فيلزم تناهى السلسلة لتناهي اجزائها عدّة وآحادا (١).

فان قيل : نحن نمنع المنفصلة القائلة بانّ عدد الآحاد إمّا مساو لعدد الالوف أو اقلّ أو أكثر لانّ التساوي والتفاوت من خواصّ المتناهى (٢) ؛

قلنا : الضرورة قاضية بانّ كلّ جملتين سواء كانتا متناهيتين أو غير متناهيتين إمّا متساويتان أو متفاوتتان في الواقع ، ومنعه مكابرة!.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لاشتملت على آحاد غير متناهية وعشرات غير متناهية ومئات غير متناهية وألوف غير متناهية وهكذا ، فيجب ان يكون العادّ لكلّ واحد من تلك العدد أيضا اعداد غير متناهية ، فتكون العادّ لكلّ منها واحدا وهو تمام الآحاد ـ لأنّ الاعداد العادية في جميع تلك العدد يستوعب تمام الآحاد وإلاّ لم يكن معنى لعدم تناهى تلك العدد ـ ؛ فيلزم أن يكون كلّ عددين متناهيين كالواحد والعشر والعشرة والمائة والمائة والألف متساويين لتساوي ما بعدهما.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لاستلزمت لان يكون عدد واحد هو مجموع آحاد السلسلة زوجا وفردا ؛ وهو محال. بيان اللزوم : انّه لو وجدت سلسلة

__________________

(١) راجع : الشرح الجديد ، ص ١٢٥. وانظر : الحكمة المتعالية ، ج ٢ ، ص ١٦٤ ؛ شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ١٢٩.

(٢) انظر : الحكمة المتعالية ، ج ٢ ، ص ١٦٥ ؛ شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ١٣١.

٥٤

كذلك فان كان أحد طرفيها متناهيا فذاك ، وإلاّ قطعناها من البين ونقول : العدد الّذي وقع مبدأ لتلك السلسلة متّصف بالاوّلية وعلية المتقدّمة عليه بمرتبة متصفة بالثانوية وعلّة تلك العلة متصفة بالثالثية ـ وهكذا كلّ واحد من آحاد تلك السلسلة على الترتيب ـ له مرتبة معيّنة كالرابعية والخامسية إلى غير النهاية ؛ ولا ريب في انّ نصف تلك الآحاد تقع في المراتب الفردية كالاوّل والثالث والخامس ، ونصفها الآخر يقع / ١٣MA / في المراتب / ١٣DA / الزوجية كالثانى والرابع والسادس وكلّ منهما يذهب إلى غير النهاية فيكون بإزاء كلّ واحد من المراتب الفردية واحد من المراتب الزوجية وبالعكس ؛ ولا يجوز أن يقع فردان أو زوجان ولاء ـ بل يقع بعد كلّ فرد زوج وبالعكس ـ ، فيكون عدد الآحاد الفردية مساويا لعدد الآحاد الزوجية ، فتنقسم السلسلة إلى قسمين متساويين أحدهما الأفراد والآخر الازواج ، فيكون مجموع آحاد السلسلة زوجا ـ لانّا لا نريد من الزوج إلاّ المنقسم بمتساويين ـ. ثمّ نقول : مجموع آحاد تلك السلسلة بعينها فرد ، لأنّا إذا اسقطنا واحدا منها بقيت سلسلة أخرى غير متناهية وناقصة منها بواحد ، وتبيّن بما تقدم انّ آحاد تلك السلسلة الناقصة أيضا زوج ، فيلزم أن تكون السلسلة التامة فردا ، لانها كانت زائدة على الناقصة بواحد. وإذا زيد واحد على زوج يحصل فرد ، لأنّ الواحد إذا انضمّ إلى احد النصفين يزيد على الآخر ولا يصلح للتنصيف ، فيثبت لزوم ما ادّعيناه من كون آحاد السلسلة زوجا وفردا وهو باطل. وهذا المحال لزم من فرض وجود غير المتناهى ، فيجب أن يكون الطرف الّذي فرض غير متناه متناهيا لئلاّ يلزم هذا التناقض.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لكان نصفها آحادا زوجية ونصفها آحادا فردية ـ كما تقدّم آنفا ـ ، فيوجد النصف لتلك السلسلة ، ولكن آحاد كلّ من النصفين منتشرة في مجموع السلسلة بمعنى أنّ بعد كلّ فرد زوج وبالعكس إلى غير النهاية. ثمّ نقول : لا ريب في انّه يمكن اعتبار التنصيف وتعينه من أحد الطرفين على التوالى والترتيب ، بان نقول : نصف الآحاد الزوجية مع نصف الآحاد الفردية في كلّ من الطرفين نصف أعداد السلسلة على التوالى والترتيب. وإذا وجد للسلسلة نصف

٥٥

على الترتّب والتوالى نقول : لا يخفى على كلّ عاقل انّ كلّ عدد مؤلّف من آحاد مترتّبة له نصف يجب أن يحصل نصفه أوّلا ثمّ يحصل كلّه ، وما لم يحصل في الخارج نصفه لا يمكن أن يحصل كلّه ، ولا ريب في انّ النصف إذا وجد كان محصورا بين الحاصرين ـ أعني : مبدأ السلسلة ومبدأ النصف الآخر ـ ، فيكون متناهيا ؛ وإذا كان النصف متناهيا كان الكلّ متناهيا.

ومنها : انه لو وجدت سلسلة غير متناهية من جانب واحد لاشتملت على آحاد فردية غير متناهية وآحاد زوجية كذلك ، فتوجد فيها أوّلا سلسلتان غير متناهيتين من جانب واحد ويلزم أن لا ينقص مجموع آحادهما عن آحاد الغير المتناهي في الجانبين بمقدار غير متناه ، لانّ الضرورة قاضية بانّ كلّ سلسلتين غير متناهيتين من جانب واحد لا ينقص مجموع آحادهما عن آحاد غير المتناهى من الجانبين بمقدار غير متناه ، بل امّا يتحقّق بينهما التساوي أو الزيادة أو النقصان بقدر متناه. ثمّ نقول : لا ريب في انّ كلّ سلسلة غير متناهية من جانب واحد ينقص آحادها عن آحاد السلسلة الغير المتناهية من الجانبين بمقدار غير متناه ، لأنّا إذا طبّقنا الأولى على أحد قسمي الثانية لكانت مساوية ومطابقة له ، ويبقى منها قسم آخر غير متناه ، فيلزم منه أن تكون السلسلة الّتي فرضت أوّلا غير متناهية من جانب واحد أنقص من الغير المتناهية من الجانبين بمقدار غير متناه وإن اشتملت على آحاد فردية غير متناهية وآحاد زوجية كذلك ، مع انّه يثبت أوّلا أنّها لا تنقص عنها بمقدار غير متناه ، فيجتمع فيها النقيضان ، وهو محال.

فان قيل : المحال انّما لزم من فرض وجود السلسلة الغير المتناهية من الجانبين ، ويجوز أن يكون وجود مثل تلك السلسلة محالا ولم يكن وجود السلسلة الغير المتناهية من جانب واحد محالا! ؛

قلنا : إن جاز وجود الغير المتناهي جاز وجود السلسلتين وإن لم يجز وجودهما ، والفرق تحكّم!.

فان قيل : المسلّم انّ السلسلتين الغير المتناهيتين من جانب واحد إذا تعدّدا

٥٦

بالاثنينية الخارجية وامتاز إحداهما عن الأخرى وتوالت آحادهما لا ينقص مجموعهما عن الغير المتناهي في الجانبين لا إذا لم يتمايزا بالاثنينية وتشابكت آحادهما ـ كما في ما نحن فيه ـ ، فانّهما بالحقيقة سلسلة واحدة صارت اثنتين باعتبار العقل ؛

قلنا : لا شبهة في أنّ عدد السلسلتين لا يتفاوت بتشابك / ١٣MB / آحادها مع غيرها أو تواليها ، فما يثبت لها من الأحكام من حيث العدد لا يتفاوت بالتشابك والتوالي ، فانّك لو فرضت توالى كلّ واحد من الآحاد الفردية والزوجية بأن يخرج واحد منهما من بين آحاد الاخرى حصلت سلسلتان محقّقان ممتازتان متواليتا الآحاد ، وهما كانتا موجودتين بعينهما في السلسلة الأولى. فبالتشابك والتوالى لا يختلف حكمها ولا يزيد عددها ولا ينقص على احد التقديرين دون الآخر.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة مركبة / ١٣DB / من آحاد غير متناهية لكان لها في حاقّ الواقع ومتن الخارج مرتبة من العدد البتة ، لانّ كلّ جملة موجودة في الخارج متعينة الآحاد يجب أن يعرضها مرتبة عددية ويوجد مراتب أخر ناقصة عنها بواحد واثنين وثلاثة ، وهكذا يوجد طبقات مترتّبة متنازلة إلى أن ينتهى إلى الواحد ، وكلّما يوجد من المراتب المتوسّطة بين المرتبة الأولى والمرتبة الأخيرة ـ أعني : الواحد ـ محصور بينهما ، فلو كانت تلك المراتب غير متناهية لزم كون الغير المتناهي محصورا بين حاصرين وهو باطل (١)

وأنت تعلم انّه لو قطع النظر عن الانصاف واستقامة القريحة يمكن للمناظر المجادل أن يمنع أوّلا وجود مرتبة عددية معينة لآحاد الغير المتناهي ؛ ويمنع ثانيا استحالة انحصار الغير المتناهي بين مثل هذين الحاصرين (٢) ـ أعني ـ المرتبة الّتي لغير المتناهي والمرتبة الواحدية ـ ، إلاّ أنّ بعد الرجوع إلى الانصاف والوجدان السليم والحدس الصائب يحكم العقل بأنّ الآحاد الموجودة المتعينة في الخارج لا بدّ أن يعرضها مرتبة معينة من العدد ولا يمكن انحصار غير المتناهي بينها وبين الواحد (٣).

__________________

(١) انظر : الحكمة المتعالية ، ج ٢ ، ص ١٦٦ ؛ شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ١٢٧.

(٢) راجع : الحكمة المتعالية ، ج ٢ ، ص ١٦٧.

(٣) وهناك ادلّة اخرى لابطال الدور والتسلسل وابحاث قيّمة مبثوثة في الكتب الحكمية و

٥٧

* * *

__________________

الكلامية. ولعلّ من أنفسها ما ذكره الإمام الرازى ، راجع : المطالب العالية ، ج ١ ، ص ١٣٦ / ١٥٧.

٥٨

المقالة الأولى

في اثبات الواجب الوجود لذاته

٥٩

المقالة الاولى

في اثبات الواجب الوجود لذاته

اعلم! أنّ هذا المطلب مع كونه من أعلى المطالب الالهية وأسنى المقاصد الحكمية وأصل كلّ السعادات وأفضلها ومبنى جميع الخيرات وأشرفها والغاية العظمى للناظرين في حقائق الملك والملكوت والوجهة الكبرى للمسافرين إلى صقع عالم الجبروت ، قد امتاز عن جميعها بالوضوح والجلاء ؛ بحيث لا يخفى على الأغبياء فضلا عن العقلاء ، كيف لا؟! وكلّ من يرقى من حضيض الحيوانية وأعطى حظّا من الانسانية يعلم أنّ هذه الموجودات الكثيرة العظيمة لم توجد بنفسها ولا بما هو محتاج مثلها ؛ بل انّما وجدت من صانع غنىّ عن غيره ، ولذا لو تصفّحت فرق الأنام من الخاصّ والعامّ واطّلعت على بواطنهم وعقائدهم وجدتهم متّفقين على الاقرار بإله العالم وصانعه : بل علمت أنّ منكره انّما ينكر باللسان وقلبه مطمئنّ بالايمان ـ كما قال امير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين : فهو الّذي تشهد له أعلام الوجود على اقرار قلب ذي الجحود ـ (١) ؛ وهذا يدلّ على أنّ معرفة الله فطرية. ويؤكّده اضطرار الناس في المضايق والمصائب إلى التوجّه والفرار إلى إلههم وخالقهم (٢).

__________________

(١) من كلام له ـ عليه‌السلام ـ وفيه جملة من صفات الربوبية والعلم الالهى. راجع : نهج البلاغة ، الخطبة ٤٩ ص ٨٨.

(٢) راجع : المطالب العالية ، ج ١ ص ٢٤٠ ، حيث انعقد الرازي الفصل الثاني من القسم الثاني

٦٠