جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٥١٧
الجزء ١ الجزء ٢

المقام! ، لأنّ الخير الكثير المشتمل على الشرّ وإن كان قليلا يمتنع صدوره عمّن هو محض الخير وصرف الوجود وواحد من جميع الجهات مناسب للخير ، بل عين الخير وصرفه ، فترك ذلك الخير ليس شرّا بل هو خير ، وكيف لا؟! وعلى قواعد الحكمة من لزوم المناسبة بين العلّة والمعلول لا يمكن أن يصدر المتقابلان عن واحد بسيط من جميع الجهات ؛ وإذا ناسب أحدهما وصدر عنه ـ كالخير فيما نحن فيه ـ لم يناسب الشرّ ولم يمكن صدوره عنه.

ويمكن أن يقال : من قال / ١٠١DA / بهذا الوجه واسند الشرّ القليل إليه ـ تعالى ـ لم يقل باستناده إليه بلا واسطة ليلزم ما ذكر من مبدئيته ـ تعالى ـ لأمرين متقابلين ، بل قال باستناده إليه ـ سبحانه ـ بالواسطة بمعنى انّ جميع الشرور الواقعة في العالم مع كونها شرورا قليلة مستندة إلى بعض الممكنات المستندة إليه ـ تعالى ـ ، فمن حيث استنادها إلى غيره ـ تعالى ـ لا تلزم المفاسد الّتي تترتّب على استناد الشرّ إليه ـ تعالى ـ من لزوم كون الخير المحض شرّيرا والواحد من جميع الجهات مبدأ لصدور المتقابلات ، ومن حيث كون هذا الغير الّذي يصدر منه تلك الشرور مخلوقا له ـ تعالى ـ وامكان صدورها منه ـ تعالى ـ بلا واسطة بالنظر إلى ( الذات ) (١) وإن لم يكن بالنظر إلى العلم والإرادة لا يلزم وهن على عموم قدرته وعظم سلطانه.

فان قيل : إذا كان الشرّ مستندا إلى غيره ـ تعالى ـ فلا يرد عليه ـ تعالى ـ نقص سواء كان قليلا أو كثيرا ـ ؛ فأيّ فائدة حينئذ في القول بأنّ الشرور الواقعة في العالم شرور قليلة؟! ، بل إذا كانت كثيرة ولم تقلب الخيرية لم يكن به حينئذ بأس! ؛

قلنا : لا ريب في أنّ هذا النظام بأسره صادر منه ـ تعالى ـ إمّا بلا واسطة أو أعمّ من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة ، والنظام الصادر منه ـ سبحانه ـ بأيّ طريق كان يجب أن يكون على أحسن الانحاء وأصلح الوجوه. ولا ريب في أنّه إذا وجد فيه شيء يكون شرّا محضا أو تكون شرّيته غالبة على خيريته أو تتساوي الشرية / ١٠٦DB / والخيرية لم يكن نظاما أصلح ، فيجب أن يكون ما يوجد فيه الشرّ بحيث يشتمل على

__________________

(١) لفظة الذات لم توجد في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

٤٦١

خير غلب على شرّه ، فمن حيث تخلّل الواسطة لا يلزم عدم المناسبة بين العلّة والمعلول ، ومن حيث غلبة خيره على شرّه لا يلزم وقوع غير الأصلح في النظام الأصلح ، لأنّه لا ريب في اصلحية ما يغلب خيره على شرّه.

ثمّ أصلحيه وجود هذا الشيء الّذي يغلب خيره على شرّه يتصوّر بوجهين :

أحدهما : أن يكون أصلحيته لأجل غلبة المنافع المترتّبة على وجوده بالنسبة إلى المضارّ المترتبة عليه مع كون تلك المضارّ مضارّا وشرّا بالنسبة إلى الأشخاص الّذي أصابهم هذا الشرّ وبالنسبة إلى النظام الكلّ أيضا ، إلاّ أنّا إذا قايسنا بين منافعه وبين مضارّه كان منافعه أكثر ، فمع اكثرية المنافع يتحقّق الأصلحية وإن اشتمل على المضارّ القليلة بالنسبة إلى النظام وبعض الافراد ؛

وثانيهما : أن يكون أصلحيته لأجل تلك المنافع العالية مع كون مضارّه الجزئية وشرّه القليل خيرا وصلاحا بالنسبة إلى نظام الكلّ وان كان شرّا ومفسدة بالنسبة إلى بعض الاشخاص ، مثلا علّة حدوث الطاعون في بعض البلاد حدوث رطوبة كثيرة وحرارة قليلة في الهواء يصير منشئا لعفونته وسمّيته ، وعلّة هذا الحدوث اسباب سماوية وأرضية ؛ ولا ريب انّ تلك الأسباب ـ بل نفس هذا الحدوث ـ يشتمل على خيرات كثيرة ضرورية في نظام الكلّ وتلك الخيرات غالبة على الشرّ المترتّب على هذا الحدوث من موت جمع من الحيوانات ، فهذا الموت يمكن أن يكون شرّا بالنسبة إلى الاشخاص الفانية وبالنسبة إلى نظام الكلّ أيضا ، إلاّ انّ هذا الحدوث لاشتماله على الخيرات الكثيرة الغالبة على فناء هذه الأشخاص يكون أصلح من عدمه في نظام الكلّ. ويمكن أن يكون هذا الموت والفناء خيرا وصلاحا بالنظر إلى النظام الأعلى وإن كان شرّا ومفسدة بالنسبة إلى هذه الأشخاص ؛ ولذا قال الحكماء : انّ الطاعون تنقية للعالم وحدوثه سبب لصلاح العالم. وقد ظهر ممّا ذكر انّه ما لم يتمسّك في هذا الوجه باستناد الشرّ القليل إلى الواسطة لم يتمّ ، بل مع ذلك ينبغي أن يقيّد أيضا بما ذكر في الوجه الأوّل من أنّ وقوعه في القضاء الإلهي بالعرض لا بالذات ، إذ لو كان هذا الشرّ القليل الواقع في النظام الأصلح ولو بالصدور عن الواسطة مقصودا له ـ تعالى ـ بالذات

٤٦٢

ـ كما انّ الخيرات الصادرة عنه تعالى بالواسطة وبدونها مقصودة له بالذات ـ لزم أن لا يكون خيرا محضا ، فيجب أن تكون مقصودة بالعرض ـ أي : من حيث أنّه تابع لخيرات كثيرة ، لا من حيث هو ـ. كما انّه ينبغي أن يقيّد الوجه الأوّل بكون الشرّ الواقع بالعرض شرّا قليلا ومستندا إلى واسطة لا إليه ـ تعالى ـ ؛ إذ لو وجد في نظام الكلّ موجود شرّه مساو لخيره أو غالب على خيره لم يكن النظام نظاما أصلح / ١٠١DB / ولو لم يكن هذا الشرّ مستندا إلى غيره ـ تعالى ـ ، بل كان مستندا إليه ـ تعالى ـ ولو بالعرض لزم مناسبة الخير المحض للشرّ. فاحراق شخص أو بلدة أو افناء خلق كثير بالطاعون أو غيره مع عدم كونه مقصودا بالذات في النظام يجب أن يكون فاعله القريب غيره ـ تعالى ـ ، ولا يجوز أن يكون الواجب ـ تعالى ـ فاعله القريب. وكونه تابعا ومقصودا بالعرض مع كون فاعله القريب هو الله ـ سبحانه ـ انّما يتصوّر بأن يصدر هذا الاحراق أو الافناء منه ـ تعالى ـ بلا واسطة وكان مشتملة على صلاح راجع إلى نظام الكلّ ويكون المقصود بالذات منه هذا الصلاح دون الشرّ الراجع إلى الاشخاص الفانية. وأمّا إذا جعل (١) الاحراق مستندا إلى النار والاماتة إلى الهواء وكيفياته وكان وجود النار والهواء مستندا إلى الله ـ سبحانه ـ وكان المقصود بالذات له ـ تعالى ـ من ايجادهما ما يلزمها من المنافع العظيمة والخيرات الجسيمة دون هذا الاحراق الموذي لبعض الاشخاص وهذه الاماتة الّتي هو شرّ لطائفة ، فحينئذ يكون وقوعها بالعرض ولا يكون فاعلهما القريب هو الله ـ تعالى ـ ، فلا يلزم كونه ـ تعالى ـ مناسبا للشرّ. فظهر انّ مجرّد القول بأنّ الشرور الواقعة في نظام الكلّ شرور اضافية واقعة في القضاء الإلهي بالعرض ـ كما هو ظاهر الوجه الاوّل ـ أو مجرّد القول بأنّها شرور قليلة خيراتها أو خيرات الأشياء المتبوعة لها كثيرة غالبة ـ كما هو ظاهر الوجه الثاني ـ ليس قامعا لشبهة الثنوية ؛ بل لا بدّ من القول بهما جميعا مع ضمّ انّ تلك الشرور / ١٠٧MA / القليلة الإضافية الواقعة بالعرض صادرة عن غيره ـ تعالى ـ من الوسائط الممكنة مع كون صدورها منه ـ تعالى ـ ممكنا بالنظر إلى ذاته تعالى ـ حتّى يندفع الشبهة ويثبت عموم القدرة. و

__________________

(١) في النسختين : أجل.

٤٦٣

سنشير إلى ذلك ببيان أوضح.

فقائل كلّ من الوجهين إن كان غرضه انّ مجرد ما ذكره دافع للشبهة ، فليس الأمر كما زعمه ـ على ما عرفت ـ ؛ وإن كان غرضه انّ ما ذكره بعلاوة ما أضيف إليه ممّا ذكره القائل الأخير وما ذكرناه دافع للشبهة إلاّ أنّه اكتفى بما ذكره وترك البواقي حوالة على الظهور ، فهو حقّ ، إلاّ انّ فيه مسامحة لا يجوز مثلها في المقام.

وثالثها : انّ جميع الشرور الواقعة في هذا العالم أعدام وليس امورا موجودة ، فانّ تصفّح الأمور وتتبّعها يعطى الجزم بأنّ جميع الشرور راجعة إلى الاعدام والموجود من حيث هو موجود ليس إلاّ خيرا ؛ وقد اشرنا قبل ذلك إلى كيفية رجوعها إلى الاعدام اجمالا.

والتفصيل : انّه لا ريب في أنّ جميع الشرور الواقعة في هذا العالم لا ينفكّ عن اعدام وسلب لأحد الخمسة الضرورية أو ما يتعلق بها ويحملها ـ أعني : الأديان والنفوس والعقول والفروج والاموال ـ. فانّ الكفر والشرك شرّ لرجوعها إلى سلب الايمان ونفي العقائد الحقّة المطابقة للواقع ؛ والقتل والاماتة والافناء شرور لايجابها سلب النفوس ؛ والقطع والجرح وامثالهما شرور لاستلزامها رفع الاتصال وتفرّقه ؛ والامراض والآلام شرور لاقتضائها رفع الصحّة وازالة صدور الأفعال على ما ينبغى ؛ والزنا شرّ لعدم انفكاكه عن هتك الستر وسلب البضع عن أهلها ؛ والسرقة والغصب والخيانة وأمثالها شرور لاستلزامها سلب الأموال عن أهلها ، وقس على ما ذكر ما لم يذكر من الضرب والشتم والحرق والغرق وغير ذلك.

وإذا تصفّحنا الشرور الواقعة في العالم وتجسّسناها لم يخرج شيء منها عمّا ذكرناه.

وإذا كان الأمر كذلك نقول : ليس شأنه ـ تعالى ـ إلاّ اعطاء الوجود ، فلا يصدر عنه ـ سبحانه ـ إلاّ الخير وانّما يصدر الشرّ ـ الّذي هو العدم ـ عن الممكنات المعلولة له ـ تعالى ـ ، فالعدم مستند إليه ـ تعالى ـ بالواسطة ؛ ولا محذور فيه.

هذا لو جوّز صدور العدم عن الممكنات بناء على أنّها ليست عين الوجود ، بل ماهيّات غير الوجود مخلوط بالوجود والعدم ، لامكانها. ولا استحالة في صدور العدم

٤٦٤

حينئذ ، انّما المحال صدوره عن الوجود المحض.

وأمّا لو لم يجز صدوره عن الوجود أصلا فالجواب بعد تسليم ذلك هو : انّ الشرّ إمّا شرّ حقيقي ـ وهو العدم الصرف والليس المحض ، كعدم ما لم يوجد ولا يوجد قطّ ـ ؛ أو شرّ اضافي ـ وهو الوجود المخلوط بالعدم ـ. والأوّل لا يحتاج إلى علّة موجودة ، إذ العدم المحض لا يصدر / ١٠٢DA / عن موجود أصلا بل علّته عدم مثله ـ أعني : عدم علّة الوجود ـ. والثاني وان احتاج إلى علّة موجودة إلاّ أنّ الاحتياج إليها من حيث جهة الوجود لا من حيث جهة العدم الّتي هي الشرّ ، فانّ القتل من حيث انّه قتل وجودى ـ أي : لا بدّ فيه من ايصال آلة قطّاعة محتاج إلى فاعل ـ. إلاّ أنّه من هذه الجهة ليس شرّا ، لأنّه لو كان مجرّد اتصال الآلة القطّاعة شرّا لكان ايصال السيف إلى الارض ضربة على الحجر والشجر شرّا ، وليس كذلك. ومن حيث انّه أمر عدمي ـ أي : يلزمه فقد الشخص وازهاق الروح ـ وإن كان شرّا إلاّ انّه من هذه الجهة لا يحتاج إلى علّة موجودة. وعلى هذا فدفع شبهة الثنوية انّ الشرّ الّذي هو العدم ليس صادرا عنه ـ تعالى ـ حتّى يلزم كون الواحد المحض خيّرا أو شرّيرا وكون الخير الصرف شرّيرا ؛ ولا يلزم وهن في عموم القدرة ، لأنّ المراد به انّ كلّ موجود يستند إليه. ولا يعتبر فيه استناد الاعدام أيضا إليه ـ سبحانه ـ ، كيف؟! والوجود المحض لا يناسب العدم مع انّ العدم يكفي في تحقّقه عدم علّة الوجود.

وأقول : لا ريب في أنّ أكثر ما يطلق عليه اسم الشرّ في العالم لا ينفكّ عن عدم ما بمعنى استلزامها لفقد وجود أو كمال ، وليست اعداما صرفة ونفيا محضا. لانّه لا يشكّ عاقل في انّ مثل القتل والضرب والغصب وحدوث الأمراض وغير ذلك أمور وجودية. نعم! عدم انفكاكها عن عدم لوجود أو فقد لكمال مسلّم واطلاق الشرّ عليها بهذه الجهة أيضا مسلّم ، إلاّ انّ عدم افتقار مثل هذا العدم من الأمر الوجودي وكفاية عدم علّة الوجود لتحقّقه ممنوع ، فانّه لا ريب في انّ ازهاق النفس وهتك الستر انّما ترتّب على اتصال الآلة القطّاعة واتصال عضو خاصّ بعضو خاصّ وهما وجوديان ، فاستند فقد الروح واعدام الستر إلى امرين وجوديين هما أيضا مستندان إلى علّة

٤٦٥

موجودة ، فالعدم المتحقّق في ضمن الشرور الاضافية لا بدّ له من علّة موجودة / ١٠٧MB / ولا يمكن أن تكون علّته عدما محضا ، فلا بدّ امّا أن يقال : انّ علّته الواجب ـ تعالى ـ ولكنّه وقع بالعرض لا بالذات ـ ليلزم مناسبة الخير المحض للشرّ ـ ، فيرجع حينئذ إلى الوجه الأوّل ؛ أو يقال : انّ علّته بعض الممكنات وليس علّته واجب الوجود بالذات بلا واسطة ـ ليلزم مناسبة الخير المحض للشرّ ـ ، بل جميع الموجودات مستندة إليه ـ تعالى ـ. إلاّ أنّ الشرور ليست مستندة إليه ـ تعالى ـ بلا واسطة لكونه خيرا محضا ، بل هي مستندة إلى بعض الممكنات الموجودة منه ـ تعالى ـ. وليس ايجاد هذا البعض من الممكنات شرّا ، بل هو خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا والشرّ انّما صدر عن هذا البعض لا منه ـ تعالى ـ.

ولا يخفى انّ هذا الوجه ـ أي : استناد الشرور إلى بعض الممكنات ـ لا يثبت به تمام المطلوب ما لم يقيّد بكون تلك الشرور شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة ، وبوقوعها في النظام بالعرض لا بالذات ، وبأنّ صدورها عنه ـ تعالى ـ ممكنة بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ وإن لم يكن بالنظر إلى علمه بالأصلح. إذ لو لم يقيّد بالأوّل وجوّز كونها شرورا وكانت شرّيتها غالبة على خيريتها أو مساوية لخيريتها لم يكن النظام نظاما أصلح ، ولو لم يقيّد بالثاني وجوّز وقوعها بالذات ـ أي : كونها مقصودة له تعالى بالذات ـ لزم مناسبته للشرّ وان صدر عنه بالواسطة ، بل لزم وقوع الظلم والجور في العناية الإلهية. ولو لم يقيّد بالثالث وجوّز عدم افتقاره ـ تعالى ـ على ايجاد الشرّ بالنظر إلى ذاته لزم نفي عموم قدرته بالمعنى المشهور على جميع الممكنات. فالحقّ ـ كما اشير إليه ـ أن لا يكتفى في الجواب عن شبهة الثنوية والاشكال الوارد في وقوع الشرور في القضاء الإلهي بمجرّد القول بكونها واقعة بالعرض ـ كما في الوجه الاول ـ ، أو كونها شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة ـ كما في الوجه الثاني ـ ، أو مستندة إلى بعض الممكنات المستندة إليه ـ تعالى ، كما في الوجه الثالث ـ. بل اللازم في الجواب أن يجمع بين الوجوه الثلاثة.

وحينئذ فالجواب الصحيح الّذي يندفع به الشبهة ويثبت به عموم القدرة والتحقيق التامّ الصريح الّذي يرتفع به الاشكال الوارد في وقوع الشرور في القضاء

٤٦٦

الإلهي هو أن يقال : الشرّ إمّا حقيقي وهو / ١٠٢DB / العدم المحض ؛ ولا ريب في عدم استناده إلى موجود أصلا ـ لا (١) الواجب ولا غيره ـ ، بل هو مستند إلى عدم مثله ـ أعني : عدم علّة الوجود ـ ؛

وإمّا شرّ اضافي ، وهو العدم المخلوط بالوجود ـ أي : الاعدام الاربعة التابعة لبعض الموجودات ، كفقد النفس التابع للقتل ، وتفرق الاتصال التابع للقطع وغير ذلك ـ. وجميع الشرور الواقعة في نظام الخير من هذا القبيل ـ كما اشرنا إليه ـ. وجميع تلك الشرور مستندة إلى غيره ـ تعالى ـ من الممكنات المعلولة له ـ سبحانه ـ ، فهي مستندة إليه ـ تعالى ـ بالواسطة ومع ذلك شرور قليلة تابعة لخيرات كثيرة وواقعة بالعرض بمعنى أنّها ليست مقصودة للواجب بالذات ـ أي : المقصود منها بالذات ما هو متبوع لها من الخيرات الكثيرة ـ ، وهي مقصودة له ـ تعالى ـ بالعرض. ومع ذلك كلّه هي مقدورة له ـ تعالى ـ بالقدرة بالمعنى المشهور ـ أي : ممكنة الصدور عنه تعالى بالنظر إلى ذاته تعالى ـ وإن لم تمكن بالنظر إلى العلم والإرادة من حيث كونها مستندة إلى غيره ـ سبحانه ـ. وعدم كونها مقصودة له ـ تعالى ـ بالذات لا يلزم مناسبة الخير المحض والوجود الصرف للشرّ والعدم. ومن حيث استنادها إلى الممكنات المعلولة له ـ سبحانه ـ لا يلزم اثنينية المبدأ ، فيثبت به عموم القدرة المستجمعة بالنسبة إلى جميع الممكنات بالواسطة. ومن حيث كونها شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة لا يلزم منافاتها لأصلحية النظام ، ومن حيث اقتداره ـ تعالى ـ على ايجادها بالنظر إلى الذات لا ينافي عموم القدرة على الكلّ بالمعنى المشهور بلا واسطة.

ثمّ توهم الايراد على هذا التفصيل انّما يتصوّر من وجوه :

منها : انّ الممكن لا يجوز أن يكون فاعلا للشرّ ، لأنّه من حيث الجهة المستندة إلى ذاته عدم صرف ولا شيء محض ، فلا يمكن أن يكون بهذه الجهة علّة لشيء اصلا سواء كان هذا الشيء وجودا أو عدما اضافيا. ومن حيث جهته المستندة إلى الواجب ـ تعالى ـ وجود محض ، فكيف تصير هذه الجهة علّة للشرّ الّذي هو العدم مع انّه

__________________

(١) الاصل : الا.

٤٦٧

لا مناسبة بين الوجود والعدم؟!.

والجواب : انّ الممكن من حيث جهته المستندة إلى الواجب ـ أي : الممكن الموجود ـ ليس وجودا محضا وخيرا صرفا ، فانّ محض الوجود ليس إلاّ الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، بل هو وجود مشوب بالعدم وأيس مخلوط بالليس ، فانّ وجوده وان صدر عن الواجب ملزوم / ١٠٨MA / للافتقار الذاتي والاحتياج الواقعي ، فلا يمكن أن ينفكّ عن العدم والشرور الواقعة في هذا العالم أيضا شرور إضافية ـ أي : اعدام مخلوطة بالوجود ـ. وليست اعداما صرفة ولا وجودات صرفة فيصير وجود مخلوطة بالعدم علّة وفاعلا لما هو مثله ـ أي : ما هو وجود مخلوط بالعدم ـ. إلاّ انّ جهة العدم في المعلول الّذي هو الشرّ أكثر. وهذا أمر كلّي بالنسبة إلى كلّ معلول ، فانّ جهة العدم والشرّية في كلّ معلول أكثر منها في العلّة ، وجهة الوجود والخيرية بالعكس من ذلك.

وتوضيح ذلك : انّ واجب الوجود بالذات وجود محض وخير صرف لا يتصوّر فيه شائبة من العدم والشرّ ، كما انّ العدم الصرف عدم محض وشرّ صرف لا يتصوّر فيه شائبة من الوجود والخيرية. ثمّ ما يصدر عنه ـ سبحانه ـ بلا واسطة كاد أن يكون وجودا محضا وخيرا صرفا ، إلاّ انّه ليس بهما لافتقاره الذاتي وتنزّله وبعده عن الوجود المحض والخير الصرف بمرتبة ، فله شوب من العدم.

ثمّ ما يصدر عن هذا الصادر يكون شوب العدم فيه أكثر ـ لبعده عن الوجود الصرف بمرتبتين وقربه بمرتبتين إلى العدم والشرّ ـ ، وهكذا كلّما تكثّر الوسائط ويصير المعلول أبعد عن الوجود المحض والخير الصرف يكون شوب العدم وجهة الشرّ فيه أكثر من سابقه إلى أن يصل إلى ما يحصل فيه نحو من العدم والشرّ بالفعل ويتميّز فيه جهتاهما وان كان مع ذلك جهة وجوده وخيريته غالبة ؛ فظهر انّ علّية الممكنات الموجودة للشرور الاضافية جائزة ، والمناسبة بينهما ثابتة.

ومنها : انّ النظام الأصلح بأي سبب تقع فيه تلك الشرور الاضافية؟! ، وبأيّ جهة لا بدّ من وقوعها فيه؟! ، ولم لا يمكن للواجب ـ تعالى ـ ايجاد هذا النظام كما هو بحيث لا يقع فيه تلك الشرور؟! ؛ فانّه لا شبهة في أنّ النظام إذا كان بحيث لم يقع فيه

٤٦٨

تلك الشرور يكون أصلح ؛

والجواب عنه : انّ وقوعها من لوازم وقوع الممكنات وايجادها ، فانّ الممكن لا يمكن أن ينفكّ حقيقته ومهيته ـ وإن صار موجودا ـ عن عدم ما ، فيحتوي على شر ما البتة ، إلاّ / ١٠٣DA / انّه لا يظهر الشرّية فيه لنا إلى أن ينحطّ عن الوجود المحض والخير الصرف بمراتب كثيرة ، فكلّما تنزّل سلسلة العلل والمعلولات عن الواجب الحقّ يكون ظهور العدم والشرّية أكثر إلى أن يصل إلى النهاية.

وايجاد تلك الممكنات بحيث لا تشتمل حينئذ على تلك الأعدام اللازمة لذواتها أمر ممتنع ، لأنّه قلب للحقيقة. وعدم إيجادها رأسا منع لافاضة الوجود الغالب على العدم ، فهو شرّ كثير.

ومنها : انّ اقتداره على ايجاد الشرّ بالنظر إلى ذاته يوجب مناسبة الوجود المحض للعدم والخير الصرف للشرّ ، وهو باطل ؛ إذ لو لا تلك المناسبة لم يتصوّر امكان ايجاده بالنظر إلى ذاته ، فانّ مجرّد الامكان المذكور ـ أي : امكان الوقوع بالنظر إلى الذات ـ وإن لم يقع عنه بالنظر إلى العلم والإرادة يوجب تحقّق المناسبة المذكورة ؛

والجواب عنه : انّ امكان الصدور انّما هو بالنظر إلى ذات العلّة فقط ـ أي : الواجب تعالى ـ ، لا بالنظر إلى ذات المعلول ـ أعني : الشرّ أيضا ـ حتّى يلزم المناسبة.

فانّ المطلوب انّ صدور كلّ ممكن حتّى الشرّ بالنظر إلى ذات الواجب ممكن ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ من حيث هي لا يأبى ولا يعجز عن ايجاد كلّ شيء. إلاّ انّ بعض الأشياء لخسّتها وانحطاطها في درجات الوجود لا يناسب ذاته المقدّسة ، فلا يمكن صدورها بالنظر إلى ذواتها عن الواجب ـ تعالى ـ وإن امكن صدورها عنه بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ.

ومنها : انّ تلك الشرور كثيرا ما يصيب بعض المظلومين من دون جرم وتقصير ، وهو ينافي الحكمة ولا يناسب العدل والرحمة ؛ ولهم أن يقولوا : بأيّ سبب اصابنا هذا الشرّ والظلم مع انّا عباد مطيعون لم يصدر منّا جرم وتقصير؟!.

وإن قيل لهم : هذا صلاح لنظام الكلّ! ؛

٤٦٩

فلهم أن يقولوا : ليس من الحكمة والعدالة أن يظلم ويزجر مسكين فقير ويبتلى بأنواع العذاب والبليّات لأجل انّه صلاح لغيره. مع أنّ هذا لا يناسب القدرة التامّة الكاملة ، لأنّ الفاعل حينئذ عاجز عن ايجاد نظام الكلّ بحيث لا تقع فيه تلك الشرور ، ولا يمكنه ايجاد ما يوجده إلاّ باصابة الظلم والشرور ببعض الضعفاء والمساكين. وأيّ عجز أشدّ من عدم اقتداره على ايجاد هذا النظام بدون تلك الشرور؟! ؛

على أنّ بعض الموجودات الممكنة كالشيطان وغيره منبع الشرور أبد الآباد ، فليس في وجوده خيرية اصلا!.

والجواب : انّ اصابة بعض الشرور ببعض المظلومين مع قطع النظر عن كونه صلاحا / ١٠٨MB / بالنسبة إلى نظام الكلّ إنّما هو خير وصلاح بالنسبة إلى هؤلاء الاشخاص المظلومين ، لأنّه إمّا متضمّن لخير غالب لهم عاجلا أو آجلا بالذات أو بعوض الله ـ تعالى ـ عنهم بما يجبر هذا الشرّ والظلم ـ كما هو مذهب العدلية ـ. ولو كان صدور الشرّ الّذي يصيب المظلومين عمّن يصدر عنه بالقدرة والاختيار لا من قبيل فعل الطبائع فالأمر أظهر.

وأمّا ما ذكر من انّه لو لم يخلق النظام بحيث لا يقع فيه تلك الشرور ؛ فجوابه ما مرّ من أنّ تلك الشرور من الأعدام اللازمة لطبائع الممكنات ولا يمكن انفكاكها عنها ، ولو فرض انفكاكها عنها لزم انقلاب حقائقها ، ولو كانت وجودات محضة وخيرات صرفة خرجت عن الامكان. فعدم وقوع تلك الشرور يتوقّف على عدم صدور الممكنات رأسا ، وهو يؤدّي إلى قطع الفيض والجود رأسا ؛ ولا ريب في انّه شرّ كثير.

وما ذكر من انّ بعض الموجودات منبع الشرور أبد الآباد ـ كالشيطان ـ وأيّ شرّ أشدّ مفسدة من ايجاد مثل هذا الموجود ؛

ففيه : انّه على قاعدة انّ الوجود خير مطلقا يمكن القول بأنّه لا محذور في ذلك ، إذ الصادر منه ليس إلاّ الوجود وهو خير. غاية الأمر وجوب العوض عليه ـ تعالى ـ لو أصاب شرّه مظلوما ـ كما اشير إليه ـ.

٤٧٠

مع انّه في ايجاده (١) فوائد عظيمة وخيرات جسيمة عائدة إلى النظام الأعلى ولا يعلمها أحد إلاّ خالقه.

وبما ذكر اندفعت شبهة الثنوية في اثنينية المبدأ مع ما يستنبط منها من لزوم نفي عدم قدرته ـ تعالى ـ من غير أن يلزم كونه ـ تعالى ـ فاعلا للشرّ ، لأنّه لمّا ثبت انّ الشرور مستندة إلى بعض الممكنات المخلوقة له ـ تعالى ـ مع كونها مقدورة له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته بلا واسطة أيضا ـ وبه يثبت كونها مقدورة له بالقدرة المستجمعة للشرائط بالواسطة وبالقدرة بالمعنى المشهور بلا واسطة ـ ، فيبطل اثنينية المبدأ ويثبت عموم القدرة بالمعنيين وإن كان العموم في احدهما بالواسطة ؛ ولا بأس فيه ـ كما تقدّم ـ.

ولمّا تقرر انّ تلك الشرور مع استنادها إلى غيره ـ تعالى ـ قليلة تابعة لخيرات كثيرة واقعة بالعرض فلا يكون الواجب ـ سبحانه ـ فاعلا بالذات / ١٠٣DB / لشرّ اصلا.

والعجب انّ الثنوية لمّا ارادوا تنزيهه ـ سبحانه ـ عن صدور الشرّ منه ارتكبوا ما هو أشدّ عنه وافضح! ـ أعني : اثبات اثنينية المبدأ ونفي عموم القدرة ـ ؛ هذا.

وقد اجاب بعض الأفاضل عن شبهة الثنوية بوجه آخر ؛ وهو : انّ الأمر الّذي يستندون إليه الشرّ لا يخلوا من أن يكون واجبا أو ممكنا ، فان كان واجبا بالذات فهو باطل ، لأنّ البرهان قائم على أنّ تعدّد الواجب بالذات ممتنع بالذات ؛ وإن كان ممكنا بالذات فلا يجوز أن يكون مفيضا لوجود ممكن آخر ، لانّه قد ثبت بالبرهان انّ مفيض الوجود لا يكون إلاّ الواجب بالذات.

فإن قيل : بناء على ما ذكرتم يلزم أن يكون وجود الشرّ من الله ـ تعالى ـ ، فيلزم أن يكون تعذيب العباد قبيحا! ؛

قلت : تعذيب العباد باعتبار انّ ارادتهم تكون جزء أخير من العلّة التامّة ، فمفيض الوجود هو الله ـ تعالى ـ وإرادة العبد شرط لافاضة وجود الشرّ.

هذا على تقدير كون الشرّ أمرا وجوديا.

أمّا على تقدير كون الشرّ عدما ـ كما نقل من الحكماء من أنّ الشرّ انّما هو العدم و

__________________

(١) الاصل : ايجاد.

٤٧١

الوجود من حيث هو وجود خير ـ ، فلا احتياج في استناد الشرّ إلى مبدأ موجود ، لأنّ العدم يجوز أن يستند إلى عدم آخر ؛ كما انّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة. فحينئذ ينهدم بنيان ما ذهب إليه الثنوية من انّ الشرّ لا بدّ له من مبدأ موجود ، لأنّ الشرّ إذا كان هو نفس العدم فلا يلزم أن يكون له مبدأ موجود ، لأنّ العدم يجوز أن يستند إلى عدم آخر كما انّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة ؛ انتهى.

وأنت بعد الاحاطة بما ذكرناه خبير بجلية الحال في هذا الكلام صحّة وسقما!.

ثمّ الظاهر انّ مراد كلّ من الطوائف الثلاث ـ أعني : المجوس والمانوية والديصانية ـ ليس ما هو ظاهر كلامهم من القول بتعدّد المبدأ والذهاب إلى إلهين اثنين ؛

وأمّا المجوس : فلما أشير إليه من انّهم يقولون : انّ اهرمن مخلوق ليزدان وايجاده ليس شرّا ، بل انّما الشرّ منه. فيزدان أوجد اهرمن والشرور بأسرها انّما يصدر من اهرمن. وهذا كما ترى لا يدلّ على كون اهرمن مبدأ قديما يكون وجوده منه.

وأمّا المانوية والديصانية : فانّهم صرّحوا بأنّ النور ـ الّذي هو فاعل الخير ـ حيّ قادر عالم سميع ؛ ( و) (١) كيف يتّصف النور في المعنى المشهور بتلك الصفات؟! ؛ وكيف / ١٠٩MA / يقول عاقل بأنّ النور والظلمة مبدءان قديمان مستقلاّن بالوجود مع أنّهما عرضان محتاجان إلى الجسم؟! ، فيلزم قدم الجسم وكون الإله محتاجا إليه. فالظاهر انّ غرضهم معنى آخر سوى المتعارف.

أمّا المجوس فظاهر كلامهم أيضا ـ على ما نقلناه ـ لا يستلزم المخالفة لأصل التوحيد واصل عموم القدرة ، لأنّهم يستندون الجميع إليه ـ تعالى ـ ، لكنّهم لم يجعلوا الشرور مستندة إليه ـ تعالى ـ بلا واسطة لكونه خيرا محضا ، بل اسندوها إلى اهرمن ، وقالوا : انّ ايجاد اهرمن ليس شرّا بل خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا وانّما صدر الشر عن اهرمن لا منه ـ تعالى ـ.

وما قيل : انّ أيّ شرّ أشدّ مفسدة من ايجاد موجود يكون منبعا للشرور أبد الآباد ؛ مدفوع : بأنّه على قاعدة انّ الوجود خير مطلقا يمكن القول بانّه لا محذور في

__________________

(١) لفظة ( و) لم توجد في النسختين.

٤٧٢

ذلك ، إذ الصادر منه ـ تعالى ـ ليس إلاّ اعطاء الوجود وهو خير. غاية الأمر وجوب العوض عليه ـ تعالى ـ لو أصاب شرّه مظلوما ـ كما هو مذهب العدلية ـ.

ثمّ لو كان صدور الشرّ عن ذلك الشرير بالقدرة والاختيار لا من قبيل فعل الطبائع فما ذكرناه يكون ظاهرا جدّا. نعم! لو لم يجعلوا اهرمن معلولا ليزدان بل واجبا لذاته لكان كفرا ، إلاّ انّه خلاف ما صرّحوا به. وأيضا لو قالوا : انّه ـ تعالى ـ لا يقدر ذاته بذاته على ايجاد تلك الشرور بلا واسطة لكانوا أيضا من المخالفين في عموم القدرة ، لكن ذلك أيضا لا يظهر من كلامهم. نعم! لو كان مرادهم بأهرمن هو الشيطان ـ كما هو المشهور منهم ـ لم يصحّ نسبة جميع الشرور إليه ؛ إذ لا شكّ في وجود شرور لا يمكن استنادها إليه. فالحقّ انّ الشرور مستندة إلى الممكنات الّتي هي مبادي لها ـ سواء كان شيطانا أو نارا أو غيرهما ـ. فقولهما بالتخصيص تحكّم باطل ؛ هذا.

وقيل : يمكن أن يكون مراد المجوس من « اليزدان » : الوجود الواجبي ، ومن « الاهرمن » : الامكان ؛ ويرجع قولهم إلى انّ فاعل الخير هو الوجوب وفاعل الشرّ هو الامكان. فانّك قد عرفت انّ الخيرات كلّها راجعة إلى الوجود ومنبع الوجود هو الواجب ـ تعالى ـ ، والشرور كلّها راجعة إلى العدم ومنبع العدم هو الامكان ، وحينئذ لا يلزم شرك اصلا. لأنّ الشرك انّما يلزم لو كان كلّ من المبدءين موجودا ومؤثّرا في الوجود ، / ١٠٤DA / ولكنّه ليس كذلك ؛ بل احدهما موجود مؤثّر في الوجودات ـ وهو الواجب تعالى ـ والآخر عدمي منشئا للأعدام ـ وهو الامكان ـ.

غاية ما في الباب أن يكون اطلاق المؤثّر والفاعل على العدم الّذي هو الامكان على التجوّز ـ كما يقال : علّة العدم عدم علّة الوجود ـ ؛ انتهى.

وأمّا المانوية والديصانية وإن كان ظاهر كلامهم دالا على تحقّق مبدءين ـ كما عرفت ـ إلاّ أنّه لمّا كان ظاهر كلامهم ممّا لا يقول به عاقل ـ وقد صرّحوا أيضا بأنّ النور الّذي هو فاعل الخير حيّ عالم سميع درّاك ـ أوّل جماعة كلامهم بأنّ مرادهم من النور هو الوجود ، ومن الظلمة هو الامكان حتّى يؤول مذهبهم إلى أنّ فاعل الخير هو الوجود الواجبى وفاعل الشرّ هو الامكان ، لما مرّ من أنّ الخيرات كلّها راجعة إلى

٤٧٣

الوجود والاعدام راجعة إلى العدم ، ومنبع الوجود هو الواجب ـ تعالى ـ ومنشأ الشرّ هو العدم ؛ ولا يلزم حينئذ شرك ـ كما مرّ في تأويل مذهب المجوس ـ. وعلى هذا يكون مرادهم من الخير والشرّ في شبهتهم : الوجود والعدم ومن الخيّر والشرّير : فاعل الوجود والعدم. فتقرير شبهتهم حينئذ : انّا نرى في العالم تحقّق الموجودات والاعدام والواحد لا يكون خيّرا شرّيرا ـ أي : فاعلا لهما ـ ، فيجب أن يتحقّق مبدءان. ثمّ لمّا وجب أن يكون فاعل الوجود وجودا وفاعل العدم عدما البتة فلو كان الفاعل لهما شيئا واحدا يلزم أن يكون خيرا محضا وشرّا محضا ، لأنّ الوجود خير محض والعدم شرّ محض. وبذلك يندفع ما لعلّه يقال : « انّه لمجرد تحقّق الوجودات والأعدام في العالم لا يلزم أن يكون شيء واحد ـ لو كان هو المبدأ ـ خيرا محضا وشرّا محضا ».

ثمّ كون الشيء الواحد خيرا محضا وشرّا محضا ـ أي : وجودا وعدما ـ بديهى البطلان ؛ ولذا قالوا : الواحد لا يكون خيّرا وشرّيرا ـ أي : خيّرا محضا أو شرّيرا محضا ـ. ولا يحمل الخيّر في شبهتهم على من يغلب خيره على شرّه ، والشرّير على من يغلب شرّه على خيره ـ كما ينبئ عنه ظاهر العبارة ـ. ولم يرد على هذا الحمل : انّ ذلك غير لازم ممّا ذكر ـ أي : لزوم كون الواحد بحيث يغلب خيره على شرّه وشرّه على خيره غير لازم من دليلهم ـ ، لأنّهم قالوا : نجد في العالم خيرا / ١٠٩MB / كثيرا وشرّا كثيرا ، وهذا لا يستلزم أن يكون كلّ واحد من الخير والشرّ غالبا ومغلوبا حتّى لو كان الفاعل لهما واحدا كان كلّ واحد من خيره وشرّه غالبا. لانّه يجوز أن يكونا متساويين في الكثرة أو أحدهما فقط غالبا. فلم يلزم من دليلهم ثبوت العلّية بهما معا حتّى يراد من الخير من يغلب خيره ومن الشرّ من يغلب شرّه على خيره. فتعيّن ـ كما اوردنا ـ أن يراد من الخير والشرّ : الخير المحض والشرّ المحض ـ بالتوجيه الّذي ذكرناه ـ. ولو لم يحمل الخيّر والشرّير على ذلك لتوجّه المنع على قولهم : الواحد لا يكون خيّرا وشرّيرا اذ لقائل أن يقول : يجوز أن يكون شيء واحد مبدأ للخير والشرّ ، إمّا بالتساوي أو مع غلبة أحدهما. وعلى ما ذكر من التأويل لكلامهم يكون كلامهم مرموزا ، فما يرد عليهم وإن كان متوجّها على ظاهر أقاويلهم الاّ أنّه لا يرد على

٤٧٤

مقاصدهم ؛ لانّه لا ايراد على الرمز (٥). والحمل على الوجوب والامكان مبنى قاعدة الاشراق في النور والظلمة الّتي كانت طريقة حكماء الفرس مثل جاماسب وبوزرجمهر وغيرهما ممّن كان قبلهما ، قال العلاّمة الشيرازي في شرح حكمة الاشراق : وعلى الرمز يبتنى قاعدة أهل الاشراق ، وهم حكماء الفرس القائلون بأصلين أحدهما نور والآخر ظلمة ، لانّه رمز على الوجوب والامكان. فالنور قائم مقام الوجود الواجبي والظلمة قائمة مقام الوجود الممكن ، لا أنّ المبدأ اثنان : أحدهما نور والآخر ظلمة ، لانّ هذا ممّا لا يقول به عاقل فضلا عن فضلاء فارس الخائضين غمرات العلوم الحقيقية ؛ ولذا قال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في مدحهم : لو كان الدين بالثريا لتناوله رجال من فارس (١). ثمّ قال : وهي ـ أي : قاعدة الاشراق في النور والظلمة ـ ليست قاعدة كفر المجوس القائلين بظهور النور والظلمة وأنّهما مبدءان ، لأنّهم مشركون لا موحّدون ، وكذا كلّ من يثبت مبدءين مؤثّرين في الخير والشرّ كالقدرية ـ وكانّه بهذا المعنى أشار بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : القدرية مجوس هذه الأمّة ـ (٢). وليست أيضا قاعدة الحاد ماني البابلي الّذي كان نصرانى الدين مجوسي الطين ، وإليه ينسب الثنوية القائلون بإلهين أحدهما إله الخير وخالقه ـ وهو النور ـ والآخر إله الشرّ وخالقه ـ وهو الظلمة ـ. وليست / ١٠٤DB / أيضا قاعدة ما يفضي إلى الشرك بالله ـ تعالى ـ كقواعد بعض المشركين من المليين وغيرهم (٣) ؛ انتهى.

وعلى ما ذكره العلاّمة ليس مذهب الثنوية والمجوس قابلا للتأويل عنده بحيث يخرج عن الشرك والالحاد. وقد عرفت انّه يمكن أن يكون رمزا ومؤوّلا بما أوّل به قاعدة الاشراق ؛ بل قال بعضهم : انّ تاويل كلام الثنوية بما ذكر لو لم يكن أقرب من تأويل حكماء الفرس فليس بأبعد منه ؛ هذا.

وقد عدّ بعضهم الفلاسفة والمنجّمين والجبائية والنظام والبلخي أيضا من المخالفين في أصل عموم القدرة ؛ قال بعض المشاهير : (٤) هذا ـ أي : عموم قدرة الله

__________________

(٥) الاصل : + على الرمز.

(١) راجع : شرح حكمة الإشراق ، ص ١٨.

(٢) راجع : بحار الأنوار ، ج ٥ ص ٦ ؛ سنن أبي داود ، ج ٤ ، ص ٢٢٢ ، الرقم ٤٦٩١.

(٣) راجع : شرح حكمة الاشراق ، ص ١٩.

(٤) هامش « د » : هو الفاضل السماكي.

٤٧٥

ـ تعالى ـ أصل عظيم خالف فيه كثيرون ؛

الأوّل : الفلاسفة القائلون بأنّه واحد حقيقي لا يصدر عنه شيء بلا واسطة واحد ، هكذا في المواقف. وقد عرفت انّ الفلاسفة يقولون بايجاب الواجب لا بكونه قادرا ، فهم ينفون اصل القدرة لا عمومها.

الثّاني : المنجّمون ، ومنهم الصائبة القائلون بأنّ الكواكب بحركاتها مؤثّرات في الحوادث السفلية والتغيرات الواقعة في جوف الفلك من اختلاف الفصول الأربعة وتأثيرات الطبائع في المواليد. وأنت خبير بأنّ هذا من متفرّعات ايجاب الواجب وانّه لا يصدر عنه بلا واسطة إلاّ واحد.

الثالث : الثنوية ، ومنهم المجوس القائلون بأنّه ـ تعالى ـ لا يقدر على الشرّ.

الرابع : النظام ومتابعوه ، حيث ذهبوا ـ كما في المواقف ـ إلى انّه ـ تعالى ـ لا يقدر على القبيح. وما نقل عنه في بعض الكتب انّه قال : انّ الله ـ تعالى ـ لا يقدر على القبيح وما نقل عنه في بعض الكتب انّه قال : انّ الله ـ تعالى ـ لا يفعل القبيح ، فبينهما فرق بيّن. ولك أن تقول : إذا لم يفعل القبيح لم يقدر عليه ، إذ القدرة على الشيء بالمعنى المذكور يقتضي صحّة صدور ذلك الشيء في وقت وصحّة عدم صدوره في وقت آخر.

الخامس : أبو القاسم البلخي ومتابعوه ، حيث قالوا : انّه لا يقدر على مثل فعل العبد.

السادس : الجبائية ، حيث قالوا : انّه لا يقدر على عين فعل العبد.

وتفصيل دلائلهم وما يتوجّه عليها مذكور في شرح المواقف وغيره. واثبات عموم قدرته ـ تعالى ـ يبطل المذاهب المذكورة ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ ما نسب هذا القائل إلى الحكماء ـ : من انّهم / ١١٠MA / ينفون اصل القدرة لا عمومها ـ ليس على ما ينبغي ، لما عرفت من أنّ الايجاب الّذي يقول به الحكيم لا ينفي القدرة بالمعنى الأوّل والقدرة بالمعنى المشهور ، لأنّ الايجاب عندهم انّما هو بعد العلم بالأصلح والإرادة لا مع قطع النظر عنهما ، والايجاب بالارادة لو كان منافيا للقدرة للزم مثل ذلك على المعتزلة وأكثر المحقّقين ـ كالمحقق الطوسي ـ ، والفرق بقدم الأثر و

٤٧٦

حدوثه لا دخل له في ذلك.

وأمّا ما نسب إلى ساير الطوائف فالحقّ ـ كما افاده بعض أهل التحقيق ـ انّ أحدا من العقلاء لم ينف قدرة الله ـ تعالى ـ على جميع الممكنات مطلقا على التحقيق ، بل أرادوا بأجمعهم تنزيه الله ـ تعالى ـ وتقديسه ، فمنعوا صدور ما يحيله العقل على زعمهم عنه ـ تعالى ـ ، كصدور الكثرة عن الواحد الحقيقي بلا ترتيب ـ عند الحكماء ـ ، وصدور الشرّ ـ عند الثنوية ـ ، وصدور القبائح مطلقا ـ عند النظام ـ ، وصدور مثل فعل العبد وعينه ـ عند البلخي والجبائية ـ. وعلى هذا فالمعنى : انّ صدور تلك الأشياء وإن كان ممكنا عنه ـ تعالى ـ بالنظر إلى قدرته العامّة لكن بالنظر إلى وحدته الحقيقية أو حكمته أو ارادته ومشيّته يمتنع أن يصدر عنه ـ تعالى ـ شيء منها.

وعلى هذا لا يكون أحد من الطوائف المذكورة من المنكرين لهذا الأصل.

٤٧٧
٤٧٨

الفهرس التفصيلي

لمحتويات الكتاب

المجلد الأوّل

مفتتح الكتاب................................................................. ٣

وجه تسمية الكتاب وبيان ترتيبه................................................. ٣

المقدّمة الأولى

في ابطال ترجّح المساوي والمرجوح وترجيحهما

رأي الأشاعرة بل أكثر المتكلّمين في قبال هذه المقدّمة................................ ٤

نقد المصنّف عليه.............................................................. ٤

احتجاج الأشاعرة على هذا المعنى ونقد المصنّف عليه................................ ٥

إشكال والجواب عنه........................................................... ٥

المقدّمة الثانية

في انّ طرفي المعلول ما لم يجب لم يقع

بيان هذه المقدّمة............................................................... ٥

المقدّمة الثالثة

في إبطال وجود الممكن بنفسه وبأولوية ذاتية أو خارجية

بيان قسمة عقلية لتبيين هذه المقدّمة............................................... ٦

ثلاثة ايرادات على هذه القسمة.................................................. ٦

الايراد الأوّل والجواب عنه.................................................... ٦

٤٧٩

الايراد الثاني................................................................ ٦

الجواب عنه................................................................... ٧

الايراد الثالث............................................................... ٧

جواب أجيب به عن هذا الايراد وتوضيح حول هذا الجواب......................... ٧

إيراد أورد على هذا الجواب والجواب عنه.......................................... ٩

إيراد على هذا الجواب......................................................... ١٠

الجواب عن هذا الايراد........................................................ ١١

استدلال الشيخ في الشفا لصحّة هذه المقدّمة...................................... ١٣

إيراد على هذا الاستدلال والجواب عنه.......................................... ١٣

اتّفاق جميع العقلاء على احتياج الممكن في وجوده إلى علّة خارجة إلاّ ذيمقراطيس...... ١٣

أدلّة ذيمقراطيس على قوله والجواب عنها......................................... ١٤

منها ( : دليله الأوّل )........................................................ ١٤

الجواب عن هذا الدليل........................................................ ١٤

منها ( : دليله الثاني )......................................................... ١٤

الجواب عن هذا الدليل........................................................ ١٥

منها ( : دليله الثالث )........................................................ ١٥

مقدّمة مهّدها المصنّف للجواب عن هذا الدليل.................................... ١٥

اعتراضات على هذه المقدّمة.................................................... ١٦

تحقيق حول هذا الاعتراض..................................................... ١٨

ايرادات للمصنّف على هذا التحقيق............................................. ٢١

تلخيص القول في بطلان مذهب ذيمقراطيس...................................... ٢٤

بطلان وجود الممكن بأولوية ذاتية.............................................. ٢٤

تفسيران للأولوية............................................................. ٢٤

إشكال والجواب عنه.......................................................... ٢٤

وجوه تدلّ على بطلان الأولوية................................................ ٢٥

منها ( : الوجه الأوّل )....................................................... ٢٥

إيراد على هذا الوجه والجواب عنه.............................................. ٢٥

٤٨٠