جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٥١٧
الجزء ١ الجزء ٢

كذلك. بل الظاهر من كلام المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم : انّ علمه ـ تعالى ـ بالأصلح الّذي هو عين ذاته مرجّح لايجاد العالم في وقته ولا يحتاج إلى معنى آخر به يرجّح ذلك يسمّى « بالارادة ». وأمّا الإرادة المتعلّقة بخصوصيات الجزئيات المتغيّرة المتبدّلة من أفاعيله وأفاعيل عبيده فينبغي أن تكون زائدة متجدّدة. كيف لا؟! والعلم كذلك ، وذلك لا يوجب إلاّ التغير في الاضافات وفي الأمور المتباينة عن الذات. ولا يوهم التسلسل إذ يؤول الكلّ إلى الإرادة الأزلية / ٨١MA / والعلم الاجمالي كرجوع سلسلة الاسباب إلى ربّ الأرباب : قال الله ـ تعالى ـ : ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (١) ، وبذلك يرتفع المخالفة ؛ انتهى.

وحاصل كلامه تقسيم الإرادة إلى الاجمالية والتفصيلية ـ كالعلم ـ ، وكون القديمة هى الأولى ـ وهي الإرادة المتعلّقة بمطلق الفعل وبوجود العالم جملة ـ ، والحادثة هي الثانية ـ وهي المتعلّقة بخصوصيات الجزئيات المتغيّرة المتبدّلة من أفاعيله تعالى وأفاعيل عبيده ـ.

وأنت تعلم انّ صحّة ما ذكره موقوف على صحّة القول بالاجمال والتفصيل في علمه ـ تعالى ـ ، وسيجيء ـ إن شاء الله ـ الكلام فيه.

الشبهة الثانية : انّ القدرة على الأمر بمعنى التمكّن على فعله وتركه إمّا حال وجود الأثر ـ وحينئذ يجب وجوده ، فلا يتمكّن من الترك ـ ، وإمّا حال عدمه ، فلا يتمكّن من الفعل.

ولا يخفى انّ هذه الشبهة جارية في نفي القدرة بالمعنى الثاني ـ أعني : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات ـ لا بالمعنى الثالث الملزوم للحدوث. وأيضا لا اختصاص لهذه الشبهة لنفي قدرة الواجب ـ تعالى ـ ، بل يجري في نفي قدرة العبد أيضا.

ثمّ الظاهر انّ تلك الشبهة انّما تنتهض حجّة على من قال انّ نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء ـ كالمحقّق الطوسى وأكثر المعتزلة ـ ؛ وأمّا الأشاعرة القائلون بأنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بالطرفين بل تتعلّق بالطرف الواقع وانّ القدرة على الترك

__________________

(١) كريمة ٣٩ ، الرعد.

٣٦١

لا يكون حال الفعل وبالعكس ، فالظاهر عدم ورودها عليهم.

وجوابها : أمّا أوّلا : فباختيار الشقّ الأوّل ، يعني نختار انّ القدرة ـ أعني : التمكّن من الفعل والترك ـ حال وجود الأثر. قوله : « وحينئذ وجب وجود الأثر » يجاب عنه : بأنّ وجوب وجود الأثر بالارادة لا ينافي امكان الترك بالنظر إلى ذات القادر ، فانّ التمكّن من الفعل والترك انّما يكون بالنظر إلى ذات القادر من حيث هو قادر.

وأمّا ثانيا : فباختيار الشّق الثاني. والجواب عن قوله : « فلا يتمكّن من الفعل » : انّ وجوب الترك وعدم التمكّن من الفعل باعتبار الإرادة الموجبة لا ينافي امكان الفعل بالنظر إلى ذات القادر. وحاصل اختيار الشقّين انّ وجوب وجود المعلول حال وجوده وعدمه حال عدمه إنّما يكون بسبب الإرادة الموجبة لكلّ واحد منهما في حاله ، وذلك لا ينافي امكان الفعل والترك ولا يستلزم وجوبهما في حاليهما بالنظر إلى ذات القادر من حيث هو قادر من دون ملاحظة الإرادة وعدمها.

قال بعض الأعلام : هذا الجواب مبني على بناء الشبهة على الوجوب السابق الّذي قد يحصل بالارادة. وأمّا لو كان بنائها على الوجوب اللاحق ـ المعبّر بالضرورة بشرط المحمول ـ فالانسب في تقرير الجواب أن يقال : وجوب وجود المعلول حال الوجود بالنظر إلى الوجود لا ينافي امكانه بالنظر إلى الفاعل القادر وكذلك في حال العدم.

قيل : لمّا كانت علّة الترك هي ذات الفاعل وعلّة وجوب الاثر هي الإرادة وهما بالنسبة إلى ذاته ـ تعالى ـ متحدان بالذات ومتغايران بالاعتبار وقد ثبت انّ اتحاد العلّة يوجب اتحاد المعلول فينبغي أن يكون المعلولان هاهنا ـ أعني : ترك العالم ، أي : عدمه ووجوب وجوده ـ متحدين بالذات ومتغايرين بالاعتبار. مثل ما قال المحقّق الطوسى ـ رحمه‌الله ـ في شرح الاشارات في اثبات انّ علمه ـ تعالى ـ بالاشياء نفس ذاتها ما حاصله : انّ ذاته ـ تعالى ـ علمه للأشياء وعالم بذاته والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول ، وكما انّ العلّتين ـ أعني : ذاته تعالى وعلمه بذاته ـ متّحدان بالذات ومتغايران بالاعتبار فكذلك المعلولان ـ أعني : وجود الاشياء ومعلوليّتها ـ متّحدان بالذات ومتغايران بالاعتبار ، فعلمه بالاشياء / ٧٨DA / نفس الأشياء. وإذا كان ترك

٣٦٢

تأثير العالم مع وجوب وجوده متغايرين لمجرد الاعتبار فيلزم الايجاب الرافع للترك بحسب الواقع ، بل الترك حينئذ يكون لمجرد تحليل العقل بالنسبة إلى ماهية العالم الممكنة الوقوع في أيّ وقت كان ، فكيف يكون الاختيار الّذي يقول به المتكلّم ـ أي : الاختيار الّذي يوجب الترك بحسب الواقع (١) ـ.

وأنت تعلم / ٨١MB / انّ هذا الاشكال نظير ما تقدّم من أنّ الإرادة في الواجب ـ تعالى ـ إذا كانت عين ذاته فكيف يتحقّق امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات ، بل حينئذ يلزم وجوب الفعل بالنظر إلى الذات لوجوبه بالارادة الّتي هي عين الذات.

والجواب عن هذا الاشكال على نظير ما تقدّم من (٢) أن علّة صحّة ترك العالم هي ذات القادر من حيث هي وعلّة وجوب وجوده في وقت الحدوث ليس مجرّد الإرادة الّتي هي عين الذات ، بل أصلحية موجودية العالم بهذا النحو أو ذات الوقت ـ كما تقدّم ـ ، فالعلّتان متغايرتان ، فلا يلزم اتحاد المعلولين.

وقيل في الجواب (٣) : انّ امكان الترك الّذي هو من مقتضى القدرة بالنسبة إلى ماهية العالم بحسب الواقع لا يقتضي تخالف المعلولين في الواقع ، لأنّ الواقع وجب وجوده بعد العدم الواقعي اللائق له موصوف بصفة المتروكية له في الأزل ، وهو أيضا موصوف بصفة وجوب الوجود بالغير في مرتبة وجوده بالنظر إلى علم الله ـ تعالى ـ بوقوعه على أتمّ الوجه. فالترك والوجوب ـ اللذان وقعا صفتين للعالم ـ متحدان بالذات متغايران بالاعتبار ، لأنّ كون العالم متروكا في الأزل موجودا فيما لا يزال ليس أمرين متغايرين بالذات بالقياس إلى العالم ، بل تغايرهما بمجرّد الاعتبار ، لأنّ اعتبار تركه في الأزل بملاحظة مهيته الممكنة بالنسبة إلى قدرته ـ تعالى ـ واعتبار وجوب وجوده فيما لا يزال بملاحظة أصلحية هذا النحو من الوجود له بالنسبة إلى علمه ـ تعالى ـ بالأصلح الموجب لوجوده في هذا الوقت ؛ انتهى.

__________________

(١) راجع : شرح الاشارات ، المطبوع مع المحاكمات ، ج ٣ ، ص ٣٠٠ ؛ شرحي الاشارات ، ج ٢ ، ص ٧٠.

(٢) الاصل : ـ من.

(٣) هامش « د » : القائل آقا حسين التنكابني.

٣٦٣

وأنت تعلم انّ هذا الجواب لا يخلوا عن اختلال ما ـ كما لا يخفى ـ. مع أنّه مبني على كون الشبهة جارية في القدرة الملزومة للحدوث ، وقد عرفت أنّها ليست جارية فيها بل جارية في القدرة بالمعنى المشهور ؛ هذا.

وقيل في الجواب عن الشبهة : انّا نختار انّ القدرة حال عدم الاثر لكنها عبارة عن التمكن من الفعل في ثاني الحال ؛ فلا ينافيه العدم في الحال ، بل يجتمع معه.

وغير خفيّ انّه يمكن أن يحمل هذا الجواب على محملين :

أحدهما : هو انّا نختار انّ القدرة في حال العدم ، لكن معناها التمكّن على الفعل والترك بالنسبة إلى زمان واحد. وهو ثاني الحال. وعلى هذا الحمل يكون المراد من القدرة معناها الحقيقي المعتبر عند أهل التحقيق ـ أعني : التمكّن من الفعل والترك بالنسبة إلى زمان واحد وهو ثاني الحال ـ ، بمعنى انّه يصدق على القادر في حال العدم انّه قادر على كلا طرفي الفعل في الاستقبال ، لا على الوجود فقط. وكذا في حال الوجود يكون قادرا على كلا طرفي الفعل في الاستقبال ، لا على العدم فقط.

ويرد على هذا الحمل : انّ ثاني الحال لا يخلوا عن وجود الفعل وعدمه ، فيعود السؤال على التقديرين ـ أي : على تقدير وجود الفعل وعدمه ـ ، لأنّ ثاني الحال إن كان حال وجود الفعل فلا يتمكّن من الترك ، وإن كان حال عدم الفعل فلا يتمكّن من الفعل ، فلا يتحقّق القدرة على المستقبل. فلا بدّ لاتمام هذا الجواب حينئذ من التمسّك بالجواب الّذي ذكرناه أوّلا من أنّ وجوب أحد الطرفين وعدم التمكّن على الطرف الآخر بالارادة لا ينافي الامكان بالنظر إلى ذات القادر ، فيطول المسافة في الجواب. على أنّه لا تخصيص لاختيار الشقّ الثاني حينئذ ، إذ كما يمكن اختيار الشق الثاني باعتبار التمكّن من الفعل والترك بمعنى ابقاء الترك على ما كان في ثاني الحال كذلك يمكن اختيار الشقّ الأوّل باعتبار التمكّن على الترك والفعل بمعنى ابقاء الفعل على ما كان في ثانى الحال ، أو باعتبار التمكّن على الفعل والترك بمعنى ابقاء الترك على حاله قبل زمان الفعل.

وثانيهما : انا لا نعني بالقادر من يتمكّن من الفعل والترك كليهما في زمان واحد ،

٣٦٤

بل من له التمكّن من الترك في زمان ومن الفعل في زمان آخر وإن لم يتمكّن في كلّ من الزمانين على الطرف الآخر.

وهذا الحمل وإن لم يرد عليه ما يرد على الحمل الأوّل من عود السؤال إلاّ أنّه ظاهر الفساد ، إذ لا شكّ أنّ / ٨٢MA / القدرة إنّما تعتبر بالنسبة إلى الزمان / ٧٨DB / الواحد ومراد المحقّقين من القدرة ما يكون تعلّقها بالطرفين سواء ـ أي : التمكّن من كلّ منهما في زمان واحد ـ لا ما يتعلّق بأحد الطرفين ، ـ أي : يكون التمكّن من الوجود في زمان ومن العدم في زمان آخر ـ. قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الذات والصفات : قال المتكلّمون : انّ القدرة من الكيفيات النفسانية وهي مغايرة للطبيعة لمقارنة الشعور ـ أي : لمقارنة القدرة للشعور ـ. بخلاف الطبيعة ، فانّه لا يلزم مقارنتها له ومغايرة المزاج للمغايرة في التابع ـ أي : الأثر ـ ، فانّ أثر المزاج من جنس الكيفيات الّتي حصل من تفاعلها هذا المزاج ؛ بخلاف أثر القدرة ، فانّ شأنها التأثير على وفق الإرادة وهي ـ أي : القدرة ـ مصحّحة للفعل بالنسبة إلى الفاعل وتعلّقها بالطرفين سواء (١).

وقال بعض الأعلام : انّ المعتزلة ذهبوا إلى أنّ تعلّق القدرة بالطرفين على السواء ، واختاره المحقّق الطوسي كما قال في مبحث الاعراض من التجريد : وتعلّقها بالطرفين على السواء ، وتتقدّم الفعل (٢). ولا ريب في أنّه إذا كان تعلّق القدرة بالطرفين فلا يمكن أن يقال انّ التمكّن من أحد الطرفين في الحال ومن الآخر في ثاني الحال ، لأنّ الحال إذا كانت حال العدم فلا يتمكّن من الفعل فيها وإذا كانت حال الفعل فلا يتمكّن من الترك فيها ، فلا يكون نسبة تعلّق القدرة فيها بالطرفين على السواء. وبالجملة نسبة القدرة إلى الطرفين نسبة جوازية فلا يجتمع مع النسبة الوجوبية ، فلا بدّ من الجواب الّذي ذكرناه أوّلا ؛ هذا.

ويرد على هذا الحمل أيضا : انّه إذا كانت القدرة معتبرة بالنسبة إلى أحد الطرفين فلا وجه حينئذ لاختيار شقّ العدم ، بل كلا الشقّين حينئذ على السواء ، لأنّ التمكّن من الفعل والترك إذا لم يكن في حال واحد فكما يمكن اختيار الشّق الثاني باعتبار انّ التمكّن

__________________

(١) لم أعثر على تلك الرسالة ، والظاهر انّها لم تطبع بعد.

(٢) راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من مباحث الاعراض ؛ كشف المراد ، ص ١٩١.

٣٦٥

من الفعل في ثاني الحال والترك واجب حال العدم كذلك يمكن اختيار الشقّ الأوّل باعتبار أنّ الفعل واجب حال الوجوب ، والتمكّن من الترك يكون مقدّما على حال الوجود أو بعد ذلك بأن يترك الفعل ، فلا ينافي الوجود في الحال.

وتحقيق المقام انّ القدرة الّتي هي المتنازع فيها ـ وقال بها المحقّقون من المعتزلة وغيرهم ـ هي التمكّن من الفعل وتركه المقابل له ، والعدم في الحال ليس مقابلا للوجود في المستقبل فلا تتحقّق القدرة بالمعنى المقصود. ولم يذهب أحد إلى أنّ القدرة لا يكون تعلّقها بالطرفين على السواء ، إلاّ الأشاعرة القائلون بأنّ تعلّق القدرة انّما هو بطرف واحد ، وهو الطرف الواقع. وما يدلّ على بطلان ما ذهبوا إليه وعلى أنّ القدرة المتنازع فيها هي المتعلّقة بالطرفين سواء إنّ القادر عند القوم هو الّذي يصحّ منه الفعل والترك ، فيتساوى نسبته إليهما ، وإنّ المتكلّمين انّما نفوا الايجاب لزعمهم أنّ صدور الفعل عن الفاعل بحيث لا يتمكّن من امساك نفسه عنه نقص في حقّه ـ تعالى ـ ، فيجب تنزيهه ـ تعالى ـ عنه. فالقدرة الّتي تلائم غرضهم هي الحالة الّتي بها يتمكّن الفاعل من الترك حين الفعل ومن الفعل حين الترك بالنظر إلى الذات ، وإن وجب احد الطرفين بالنظر إلى الإرادة. وأمّا القدرة بمعنى وجوب العدم في وقت ووجوب الفعل في وقت آخر فلا تلائم مطلوبهم ؛ والفاعل بهذه القدرة لا يتمكّن من امساك نفسه عن الترك في حال العدم ومن الفعل في حال الوجود ، فيكون مضطرّا في كلّ واحد من الحالين. وهذه المفسدة أشدّ من مفسدة الايجاب المنفي ، إذ هي عدم تمكّن الفاعل عن امساك نفسه عن أحد طرفي المقدور ، وهذه عن كلا طرفيه!.

ثمّ ذهاب الأشاعرة إلى أنّ القدرة متعلّقة بطرف واحد مبنيّ على ما استقرّ رأيهم عليه من أنّ القدرة مع الفعل لا قبله ـ كما ذهب إليه المعتزلة على ما سيأتي ـ ، فلا يتعلّق بالضدين وإلاّ لزم اجتماعهما ، لوجوب مقارنتهما لتلك القدرة المتعلّقة. وسيأتي تحقيق القول في كون القدرة مع الفعل أو قبله ، ونشير إلى أنّ الحقّ كون ذلك النزاع ـ أي : كون القدرة قبل الفعل أو معه ـ بين / ٨٢MB / المعتزلة والأشاعرة راجعا إلى النزاع في أفعال العباد. فالحقّ انّ هذا النزاع بينهما ـ أي : كون القدرة متعلّقة بالطرفين على السواء

٣٦٦

أو متعلّقة بطرف واحد ـ أيضا راجع إليه ، ونشير إلى أنّ هذا الخلاف ان كان متحقّقا فلا بدّ أن يكون بين المعتزلة الّذين يثبتون لقدرة العباد تأثيرا ثمّ نشير إلى تحقيق الحقّ فيه.

وبيانه هنا : انّ القدرة قد يراد بها القوّة الّتي هي مبدأ التأثير ومصدر الأفعال المختلفة سواء كان مع جميع / ٧٩DA / شرائط التأثير في الفعل أو الترك أولا ، وقد يراد بها القوّة المستجمعة لجميع شرائط التأثير. ولا ريب في أنّ القدرة بالمعنى الأوّل تعلّقها بالطرفين سواء ، وبالمعنى الثاني تعلّقها انّما هو بالطرف الواحد ـ وهو الطرف الواقع ـ ؛ فالظاهر انّ مراد المعتزلة من القدرة المتعلّقة بالطرفين سواء هو المعنى الأوّل ومراد الأشاعرة من القدرة المتعلّقة بطرف واحد هو الثاني. وممّن تفطّن بذلك الامام الرازي حيث قال : القدرة تطلق على القوّة الّتي هي مبدأ الأفعال المختلفة بحيث متى انضمّت إليها إرادة أحد الضدين حصل ذلك الضدّ ومتى انضمّت إليها إرادة الضدّ الآخر حصل ذلك الآخر ، ولا شكّ انّ نسبة هذه القوّة إلى الضدين على السواء. ويطلق أيضا على القوّة المستجمعة لشرائط التأثير برمّتها. ولا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدين وإلاّ اجتمعا في الوجود ، بل هي بالنسبة إلى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ، سواء كانا متضادّين أو غير متضادين. وذلك ـ أي : تغاير القدرة بتغاير المقدورات ـ لاختلاف الشرائط المعتبرة في وجوب المقدورات المختلفة ، فانّ خصوصية كلّ مقدور لها شرط مخصوص به يتعيّن وجوده من بين المقدورات المشتركة. ألا ترى انّ القصد المتعلّق بها شرط لوجودها دون غيرها؟!.

ولعلّ الشيخ الأشعري أراد بالقدرة : القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، فلذلك حكم بأنّها لا تتعلّق بالضدين. ولعلّ المعتزلة أرادوا بالقدرة : القوّة ( الّتي ) (١) هي مبدأ الأفعال المختلفة ، فلذلك قالوا بتعلّقها بالضدّين ؛ هذا.

واعلم! أنّ قول المحقّق الطوسي في التجريد : « ويمكن اجتماع القدرة على المستقبل

__________________

(١) لفظة ( الّتي ) لم توجد في النسختين.

٣٦٧

مع العدم في الحال (١) » ، اشارة إلى الجواب الأخير مع احتماله للحملين المذكورين ، ومع اختيار الشقّ الثاني ؛ وقد عرفت ما في الحملين وعدم تعين الشقّ الثاني في الاختيار.

قال بعض الأفاضل : لا يخفى انّ جواب المحقّق الطوسي جواب على كلّ من شقّي الترديد ، إلاّ أنّه ذكر الجواب على أحد الشقين وترك الآخر قياسا عليه ، فانّ حاصله : انّ القدرة إمّا قدرة على الوجود ، وإمّا قدرة على العدم ؛ فان كانت قدرة يختار أنّها متحقّقة حال الوجود ، لكنّها عبارة عن التمكّن من العدم ثاني الحال. وأمّا القدرة بالنسبة إلى الطرفين معا فلا يمكن تحقّقها إلاّ في مرتبة الذات إلاّ في حال من الأحوال ، إذ لا يمكن تحقّق حال تكون خالية عن كلا طرفي وجود الممكن وعدمه ليتصوّر تحقّق القدرة بالنسبة إليها معا هناك : انتهى.

ولا ريب في أنّ ما ذكره انّما هو مبني على الحمل الثاني.

ويرد عليه : انّ مراد المحقّق من القدرة هي القدرة المتعلّقة بالطرفين ، لأنّ القدرة عنده هي المتعلّقة بالطرفين لا المتعلّقة بأحد الطرفين ، إذ هو لا يقول بها. وقد عرفت أيضا انّ المعتبر في القدرة حصول التمكّن من كلّ منهما في زمان واحد ، لا أن يكون التمكّن من الوجود في زمان ومن العدم في زمان آخر. وقد شنع هذا الفاضل نفسه في مقام آخر على بعض من اعتبر في القدرة التمكّن على أحد الطرفين ، فالواجب أن يحمل كلامه على أنّه يمكن اجتماع القدرة على المستقبل ـ أي : على الفعل فيه أو الترك كليهما ـ مع عدم الفعل أو الترك في الحال. على أن يكون أحد الشقّين محالا على المقايسة مع اعتبار وحدة زمان الطرفين بأن يصدق في حال العدم انّه قادر على كلا طرفي الفعل في الاستقبال ، لا على الوجود فقط. وكذا في حال الوجود يكون قادرا على كلا الطرفين في الاستقبال لا على العدم فقط.

والأظهر أن يحمل عبارته على أنّه يمكن اجتماع القدرة على المستقبل ـ أي : على الفعل والترك ـ فيه في حال عدم القدرة ، / ٨٣MA / وحينئذ لا يكون أحد الشقّين محالا

__________________

(١) راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الاولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢١٨.

٣٦٨

على المقايسة ، فلا يحتاج إلى عناية. نعم! يرد عليه على أيّ تقدير أنّ الاستقبال لا يخلوا عن الفعل أو الترك ، فلا يمكن تحقّق القدرة عليها فيه. فلا بدّ بأن يجاب بأنّ المراد أنّ قبل الاستقبال يتحقّق القدرة عليهما فيه بالنظر إلى ذات القادر ، فان القادر المختار من حيث هو قادر من شأنه ترجيح كل من الطرفين بالارادة المخصّصة بالداعي في ثاني الحال لا بالنظر إلى الإرادة الفعلية وشرائط التأثير ، فانّه لا يمكن تحقّق القدرة على الفعل والترك معا بالنظر إلى الإرادة وغيرها من شرائط التأثير ، لأنّه لا ريب في تعيّن أحد الطرفين بالنظر إلى شرائط التأثير.

وإذا أجيب بما ذكر وإن طال المسافة في الجواب نظرا إلى أنّه إذا اخذ التمكّن على الفعل والترك بالنظر إلى ذات القادر يمكن أن يقال : انّ كلاّ منهما مقدور / ٧٩DB / بالنظر إلى ذات القادر في كلّ وقت سواء كان ماضيا أو حالا أو استقبالا. ولا يفتقر إلى أن يقال بحصول القدرة في الحال بالايقاع في ثاني الحال ، إلاّ أنّ ارتكاب هذا التطويل اقلّ شناعة من الحمل على أنّ المراد تحقّق التمكّن على كلّ من الطرفين في زمان على حدة.

وقال بعض المشاهير في توجيه العبارة المذكورة : انّ تلك العبارة جواب عن قول من قال : انّ القدرة لا يتحقّق في حال العدم قبل الفعل ، لأنّ القدرة لا يمكن أن يجتمع مع العدم ؛ فأجاب المحقّق بأنّ القدرة على الفعل في المستقبل متحقّقة في الحال مع عدم الفعل في الحال ، فهو ردّ على الأشعرية في قولهم : انّ الفاعل لا يقدر على الفعل قبل وجوده ؛ انتهى.

قال بعض الأفاضل : هذا التوجيه يحتمل وجوها :

أحدها : أن يكون المراد أنّ العبارة المذكورة جواب لقول الأشعري : انّ القدرة الحادثة ـ أى : قدرة العبد ـ لا تتحقّق قبل الفعل مع العدم ، لأنّ في وقت العدم تحقّق شرائط التأثير في العدم ، فلا قدرة على الوجود حينئذ. فالقدرة على الوجود لا يكون إلاّ حين الوجود. وكذا الحال في القدرة على العدم. فاجاب المحقّق بأنّ القدرة على الفعل في المستقبل متحقّقة الحال. وهذا لا ينافي تحقّق شرائط التأثير في العدم في الحال.

نعم! ؛ لو تحقّق شرائط التأثير في العدم في الاستقبال لما تحقّق القدرة عليه. فهذا ردّ على

٣٦٩

الأشعري انّ القدرة لا تتحقّق قبل الفعل ، لا على من أنكر القدرة مطلقا.

ويرد على هذا التوجيه انّه لا يلائم لا يراد هذا في بحث قدرة الله ـ تعالى ـ ، وكذا لا يلائم لفظ الامكان.

وثانيها (١) : انّه جواب لمن انكر وجود القدرة قبل الفعل مطلقا للوجه الّذي ذكر بعينه. وحينئذ وإن لم يرد ما ذكر من الوجهين إلاّ أنّه يرد عليه : انّ هذا البحث قد تقدّم من المحقّق في مبحث الأعراض ، فلا وجه لا عادته هنا.

وثالثها : انّه جواب لمن انكر القدرة الأزلية بناء على ما تقرّر عند الأشعري : انّ القدرة لا تكون قبل الفعل ، فأجاب المحقّق بردّ مذهب الأشعري ـ كما سبق منه في مبحث الأعراض ـ حتّى يبطل مستمسك هذا المنكر.

ورابعها : انّه جواب أيضا لمن انكر القدرة الأزلية ؛ لكن لا يكون مأخذ انكاره ما تقدّم من أنّ القدرة لا تكون قبل الفعل ، بل يكون نظره إلى الاستدلال عليه بما ذكرنا من أنّ في وقت العدم تحقّق شرائط التأثير ، فأجاب المحقّق بردّ هذا الاستدلال على ما ذكر ؛ انتهى حاصل ما ذكره بعض الأفاضل.

وأنت تعلم انّ التوجيه المذكور باحتمالاته عبارة المحقّق ، فانّ تخلّل تلك العبارة في أجوبة شبه المنكرين لأصل القدرة ووجودها مطلقا شاهد صدق على أنّها أيضا جواب عن الشبهة المذكورة لنفي القدرة مطلقا ـ على ما قرّرناه ـ. وحملها على أنّه جواب عن انكار تحقّق القدرة في بعض الأوقات أو انكار تحقّق بعض أفراد القدرة غير ملائم لسوق الكلام ـ كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ـ.

وقد عرفت أيضا ما يرد على بعض احتمالاته.

وقيل : انّ تلك العبارة ردّ على الأشعري الّذي يقول بأنّ القدرة الحادثة لا تجتمع مع عدم الفعل ـ أي : في زمان عدمه ـ ، بل يوجد مع / ٨٣MB / الفعل. ومنشأ صدور هذا القول من الأشعري انّ العدم لا يجوز أن يكون متعلّقا للقدرة ، لأنّه ازلي والأزلى لا يكون مقدورا. وأيضا العدم نفي محض والمنفي المحض لا يقبل التأثير. فاجاب المحقّق

__________________

(١) الاصل : ثانيهما.

٣٧٠

بأنّه يمكن اجتماع القدرة مع العدم بأن تتعلّق في زمان عدم الفعل بايجاده في الزمان المستقبل ، فلا محذور. ولا يلزم من هذا كون العدم أثرا للقدرة ؛ انتهى.

وفيه : انّ أحدا من الأشاعرة لم يتمسّك في اثبات ما ذهبوا إليه من عدم تحقّق القدرة قبل الفعل بما جعله منشئا لقولهم ، بل لهم أدلّة اخر ـ كما يأتى ـ. وأيضا غرض الأشاعرة انّ القدرة على الفعل مع الفعل وعلى الترك مع الترك ، ولا تكون متقدّمة على شيء منهما ، لا أنّ القدرة على الفعل فقط مع الفعل. والوجه الّذي جعله منشئا لقول الاشعري انّما يجري في كون القدرة على الفعل فقط مع الفعل. ولا يجري في كون القدرة على الترك معه ، بل يدلّ على عدم كونها معه. نعم! كون العدم مقدورا أم لا نزاع آخر بين الأشاعرة والمعتزلة ، ولا دخل له بهذا النزاع.

ثمّ انّه يرد على هذا التوجيه ما ذكرناه سابقا ، وما نقلنا عن الايرادين عن بعض الأفاضل.

تتميم

اختلف المتكلّمون في أنّ القدرة هل هي مع الفعل أو قبله؟. فذهب المعتزلة إلى الثانى ؛ والاشاعرة إلى الأوّل.

ثمّ قيل : إنّ الخلاف انّما هو في القدرة الحادثة ـ أي : قدرة العبد المسمّاة بالاستطاعة ـ. وأمّا القدرة القديمة ـ أي : قدرة / ٨٠DA / الله تعالى ـ فلا خلاف في أنّها قبل الفعل وتعلّقاتها حادثة. وقيل : الظاهر من كلام المحقّق الطوسي في مبحث الكيفيات النفسانية من التجريد (١) انّ النزاع في مطلق القدرة حيث استدلّ على كون القدرة متقدّمة بادلّة ثلاثة :

منها : انّه لو لا تقدّمها على الفعل لزم أحد المحالين ـ يعني : قدم العالم أو حدوث قدرة الله تعالى ـ. لكن الشارح أجاب عنه بتخصيص النزاع بالقدرة الحادثة (٢). و

__________________

(١) راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من مباحث الاعراض ؛ كشف المراد ، ص ١٩٢.

(٢) راجع : الشرح الجديد ، ص ٢٧٤.

٣٧١

كأنّه تأويل لكلامهم وتعصّب من جانبهم! إذ أكثر ادلّتهم تجري في قدرة الله أيضا.

وقيل : النزاع ـ على ما يظهر من عبارة شارح المقاصد ـ في القدرة المتعلّقة ـ أي القدرة بوصف تعلّقها بالمقدور ـ ولا ريب أنّ تعلّق القدرة الأزلية حادث عند الأشعرية ، فيمكنهم تسليم حدوث قدرة الله ـ أي : حدوث تعلّقها ومنع محاليته ـ فعلى هذا يجري النزاع في قدرة الله ـ تعالى ـ أيضا ، ويكون حاصل النزاع : انّ القدرة بعد تعلّقها بالفعل ـ سواء كانت قدرة الله أو قدرة العبد ـ هل هي قبله أو معه؟.

وأنت خبير بأنّ المراد بالقدرة المتعلّقة إن كان ما هو ظاهر معناها ـ كما ذكرناه ـ فلا يعقل نسبة القول بكونها متقدّمة على الفعل إلى المعتزلة ؛ ولو كان المراد بها معنى آخر فانّها يظهر حقيقة الأمر بعد بيانه. ويأتي ـ إنشاء الله ـ في تحقيق المقام انّ النزاع ينبغي أن يكون في ما ذا؟.

ثمّ انّ للمعتزلة ادلّة ثلاثة :

اوّلها : انّ القدرة تنافي حقيقتها لكونها مع الفعل ، لأنّ القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها الفعل ، وكونها مع الفعل يلزمه أن يستغني عنها ، لأنّ الفعل عند الحصول لا يحتاج إلى القدرة.

وأجيب عنه : بأنّ حصول الفعل لا ينافي احتياجه إلى القدرة الّتي هى علّة ، فانّ حصول المعلول لا ينافي احتياجه إلى علّته.

وما يتوهّم من أنّه يلزم حينئذ تحصيل الحاصل واحداث الحادث وايجاد الموجود ؛ فجوابه : انّ المحال تحصيل الحاصل بتحصيل آخر لا بذلك التحصيل ، واحداث الحادث باحداث آخر لا بذلك الاحداث ، وايجاد الموجود بايجاد آخر لا بذلك الايجاد ـ وسيأتي توضيح ذلك ـ.

وقيل في الجواب : انّ عدم احتياج الفعل بعد حصوله إلى القدرة ينافي ما ثبت من حاجة المعلول حال البقاء أيضا إلى علّة الوجود. وكونها مثل استعداد القائل أوّل المسألة!. وجعل الدليل مبنيا على قول من قال بعدم الحاجة بعد الحدوث مع بعده لا يفيد ، إذ النزاع في حال الوجود مطلقا ؛ انتهى.

٣٧٢

وأورد عليه : بانّه لا ربط لحديث البقاء هاهنا ، إذ النزاع في حال الوجود ـ أي : الحدوث ـ. ولئن سلّم انّه في حال / ٨٤MA / الوجود مطلقا فلا وجه أيضا لهذا الايراد ، بل لا يرد على هذا الدليل شيء غير ما أجيب به عنه أوّلا.

وقد وجّه بعض الفضلاء الدليل المذكور بأنّ وجوب كون القدرة مع الفعل ينافي مفهومها ومعناها الّذي هو التمكّن من الفعل والترك المقتضي لصحة تعلّق القدرة المتعلّقة بالفعل من حيث هي قدرة عليه بالترك أيضا ، الموجب لامكان كونها في الحالين واحدة.

وثانيها : انّه لو لم تكن القدرة قبل الفعل ـ بل كانت مقارنة له غير مفارقة عنه ـ لزم أحد المحالين : إمّا قدم العالم ؛ أو حدوث قدرة الله ـ تعالى ـ ضرورة عدم انفكاك كلّ من القدرة والفعل حينئذ عن الآخر ، والتالي بقسميه باطل.

وأجيب عنه : بأنّ كلامنا في قدرة العبد ، ولم ندّع انّ القدرة على الاطلاق مقارنة للفعل ليرد علينا قدم العالم أو حدوث قدرة الله ، بل قدرة الله ـ تعالى ـ قديمة ولها تعلّقات حادثة مقارنة للأفعال الصادرة عنّا. وسيأتي ما يرشدك إلى أنّ المتنازع فيه ما ذا؟.

وثالثها : انّه لو لم تتحقّق القدرة قبل الفعل لم يكن الايمان حال الكفر مقدورا للكافر ، فيكون تكليف الكافر بالايمان تكليف غير القادر ، ولم تكن الطاعة حال العصيان مقدورة. فيكون عذر العاصى ترك المأمور به مقبولا ، بل يلزم عدم تحقّق عصيان أصلا!.

وأجيب عنه : بأنّ تكليف الكافر في الحال بايقاع الايمان في ثاني الحال والقدرة انّما يحتاج إليها حين الفعل ، لا حين التكليف.

وفيه : انّ هذا الالتزام آن تخيير المكلف ليس ثابتا قبل الفعل ـ أي : حال الكفر ـ.

ولا شكّ في بطلانه ، إذ ظاهر انّ الكافر في كلّ آن مكلّف منجّزا بالاسلام بدلا عن كفره في هذا الآن ، ويأثم بتأخيره إلى الآن الآخر. وهذا ظاهر والمانع مكابر مقتص عقله.

وأيضا حاصل الجواب المذكور : انّ الكافر في آن كفره مكلّف بأن يقع عنه الإيمان

٣٧٣

في الآن اللاحق بذلك الآن ، فلا ينافي عدم مقدورية / ٨٠DB / الايمان له حال التكليف فيثبت التكليف في بعض الأزمنة بدون القدرة. ولا ريب في أنّه مستلزم لتقدّم المشروط على الشرط بالزمان ، وهو غريب.

وأيضا : يلزم على الجواب المذكور أن لا يكون الكافر مكلّفا بالاسلام في أوّل زمان بلوغه ؛ والتزامه مشكل إذ كلّ تكليف على هذا يكون بايقاع الفعل في ثاني الحال. ففي أوّل زمان البلوغ لا يكون مكلّفا بالاسلام فيه ، بل في ثاني الحال. ولا تكليف قبل البلوغ حتّى يكون تكليفا بالاسلام في أوّل زمان البلوغ. والقول بأنّ قبل البلوغ يجوز مثل هذا التكليف وإن لم يجز التكليف التنجّزي فيه لا يخلوا عن اشكال!

وقيل : يمكن أن يقال : انّ بعد آن انتهاء زمان عدم البلوغ لا يمكن فرض آن آخر متّصل به حتّى يمكن أن يقال ليس مكلّفا بالاسلام فيه وكلّف فيه بالاسلام بعده ، أو كلّف قبل البلوغ بالاسلام فيه بل كلّ آن يفرض بعده فبينه وبين الآن المفروض زمان. وحينئذ فنقول : كلّ آن فرض في زمان البلوغ وقع التكليف فيه بايقاع الاسلام فيه ، فلم يتحقّق إن لم يكن مكلّفا بالاسلام فيه. نعم! لو كان لزمان البلوغ آن أوّل لزم أن لا يكون مكلّفا بالاسلام فيه ، وليس فليس ؛ فالمراد بأوّل زمان البلوغ ان كان هو الآن الحدّ المشترك بين زمان البلوغ وعدمه ففيه : انّه لا اسلام فيه اصلا ؛ وإن كان هو أوّل آن يكون الاسلام فيه فليس آن كذلك ؛ وإن كان هو قطعة من الزمان الّتي في ابتداء البلوغ أو الآنات المفروضة فيها فنقول : أنّه قد تحقّق التكليف بالاسلام فيها ، لأنّ التكليف بالاسلام في كلّ جزء وقع سابقا عليه ؛ انتهى.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاختلال!. لأنّه لا ريب في امكان فرض آن متّصل بآن انتهاء زمان عدم البلوغ وهو آن أوّل البلوغ. وليت شعري ما العلّة لعدم امكان فرض هذا الآن!. فان كانت العلّة هي أنّ تحقّق الآن موقوف على حدوث أمر دفعى يمتاز به جزء غير منقسم من الزمان وبعد انتهاء زمان عدم البلوغ لا يتصوّر مثل ذلك فلا يتحقّق آن متّصل به ، / ٨٤MB / ففيه : انّ حصول البلوغ أمر دفعي مصحّح لغرض

٣٧٤

الآن ؛ وإن كانت العلّة غير ذلك فلا بدّ من بيانها حتّى ننظر في صحّتها وفسادها!.

وبذلك يظهر فساد ما في كلامه الّذي فرع على ما توهّمه من عدم امكان فرض آن متّصل بآن انتهاء زمان عدم البلوغ.

ثمّ أورد على الجواب المذكور أيضا : بأنّه إن استمرّ الكفر في ثاني الحال فلا قدرة فيه على الايمان ، لأنّ المفروض انّ القدرة لا يكون إلاّ مع الفعل ، وإن تبدّل بالايمان لم يكن مكلّفا بالايمان فيه ـ لاستحالة التكليف بتحصيل الحاصل ـ فيتحقّق التنافي بين التكليف والقدرة الّتي هي شرطه ، إذ ما لم يحصل الايمان لم يكن مقدورا ؛ وإذا حصل لم يكن مكلّفا به ، فيستحيل اجتماعهما. بل يجتمع دائما عدم القدرة مع التكليف ، لأنّ قبل الفعل لا قدرة والتكليف ثابت ، ومع الفعل لا تكليف والقدرة ثابتة.

وغير خفيّ انّه لو اكتفى بالشقّ الأوّل من الترديد لكفى في ردّ الجواب المذكور ، لأنّه إذا لم تكن قبل الايمان قدرة عليه فما دام يستمرّ كفر كافر لا يكون مكلّفا بالايمان أصلا ، فيبقى العقاب رأسا على مطلق الكفر ، ولا يتوجّه ذم ولوم على أحد من الكفار!.

قيل في دفع هذا الايراد : انّ التكليف لا يتعلّق إلاّ بما هو مقدور على تقدير وجوده ، واللازم منه أن يكون المكلّف به مقدورا في أيّ زمان فرض ، ولا يشترط كون القدرة مجامعة للتكليف. وتوضيحه : انّ شرط القدرة اجتماعها مع الفعل لا اجتماعها مع التكليف ، لأنّه يجوز عند الأشاعرة أن يكون التكليف مقدّما على القدرة ويكفي في كون المكلّف به مقدورا عندهم صلاحية تعلّق القدرة به ـ أي : كونه بحيث إذا فعل وقع مقارنا للقدرة ـ. ولا شكّ في تحقّق هذا المعنى حال عدم الفعل ، إذ يصدق أنّ التكليف قد تعلّق بما هو مقدور على تقدير وجوده. ولم يعتبر المقدورية بالفعل حتّى يرد الاشكال على أنّ التكليف بتحصيل الحاصل إنّما يستحيل إذا كان حاصلا بتحصيل آخر ، لا بذلك التحصيل ؛ وحينئذ جاز أن يستمرّ التكليف حال القدرة. فاندفع تشنيع المعتزلة على الأشاعرة بلزوم عدم العصيان ، إذ لا تكليف قبل الفعل لعدم القدرة ، فلا عصيان. ومع الفعل لا عصيان أيضا ، لأنّهم لا يسلّمون عدم التكليف قبل القدرة.

ثمّ / ٨١DA / قيل : هذا الدفع دفع للايراد بتغيير الجواب!. إذ لا اختصاص لهذا

٣٧٥

الكلام بالزمان الثاني ولا احتياج حينئذ إلى التزام أنّ التكليف وقع في الحال بايقاع الفعل في ثانى الحال ، اذ يصحّ التكليف بايقاع الفعل في الحال أيضا ، إذ في زمان العدم يكون الفعل مقدورا بالمعنى المذكور ، إذ لو كان فعله في هذا الزمان لوقع الفعل مقارنا للقدرة. والحاصل : انّ في زمان العدم كان الفعل ممكنا وليس المقدورية المذكورة إلاّ هذا الامكان. نعم! بشرط العدم ليس بممكن ، ولا كلام فيه. وأمّا العلاوة المشار إليها بقوله : على أنّ التكليف بتحصيل الحاصل ـ ... إلى آخره ـ ، فليس جوابا ثانيا باختيار الشقّ الثاني مختصّا بتقدير تبديل الكفر بالايمان مبنيا على منع لزوم تحصيل الحاصل ، نظرا إلى أنّ التكليف حال الفعل ليس فيه تحصيل الحاصل المحال ، إذ مع فرض صحّة هذا الجواب عن الشقّ الثاني لا يندفع الايراد ، لأنّ الشقّ الأوّل كاف لتحقّق المفسدة ـ كما اشرنا إليه ـ. فان قول المورد : انّ استمرّ فكذا وإن تبدّل فكذا ، ترديد وتقسيم للحكم بحسب الواقع ، لا استفسار وسؤال حتّى يوجّه الجواب باختيار أحد الشقين ، إذ مع تحقّق المفسدة للشقّين في الواقع إذا وقع مفسدة أحد الشقّين يبقي مفسدة الشقّ الآخر بحاله. فهي ـ أي : العلاوة المذكورة ـ تتمّة لما تقدّمها من الدفع على أن يكون ما تقدّم جوابا تامّا للايراد يندفع به الشقّان وتكون تلك العلاوة زيادة مختصّة بالشقّ الثاني يكون مفادها منع أن لا تكليف مع الفعل لأنّ ذلك ليس تحصيل الحاصل المحال. ويكون حاصل الدفع بعلاوته إنّا لا نسلّم أنّ شرط تعلّق التكليف بالفعل المقدورية بالفعل حتّى يتأتّى المنافاة ويستغرب التأخّر ، بل / ٨٥MA / هو المقدورية على تقدير الاطاعة وفي وقتها. فلو مات على الكفر كان الايمان مقدورا له كذلك ، وهو مكلّف به إلى آن موته ، ولو آمن كان التكليف بالايمان إلى أوّل حدوثه وفعليته مقدوريته. على أنّه يمكن استمراره في حال الايمان أيضا ، ولا منافاة بناء على جواز تحصيل الحاصل بنفس ذلك التحصيل وجواز التكليف به ؛ انتهى ما قيل في دفع الايراد المذكور على الجواب الّذي ذكره الأشاعرة من دليل المعتزلة مع تنقيحه وتوضيحه.

وأنت تعلم انّ مناط هذا الدفع منع كون المقدورية بالفعل شرطا لتعلّق التكليف بالفعل. وهو مكابرة صرفة ، كيف! ولو لم تعتبر المقدورية الفعلية فعدم العصيان لازم

٣٧٦

أمّا قبل الفعل فلعدم القدرة بالفعل ، وأمّا حال الفعل فللامتثال ، وإذا لم يتحقق القدرة بالفعل فأيّ فائدة لإمكانها؟ ، وما يفيد التمسّك بتحقّق هذا الامكان؟. فانّ الكافر في الآن الّذي بقي على كفره ولم يؤمن إن كان الايمان ممكنا له فيه وكان من شأنه وفي تمكينه وقوّته أن يؤمن فيه فكان له قدرة بالفعل فيه ، وإن لم يكن ذلك ممكنا له ولم يكن ذلك في قوّته وتمكّنه فيلزم التكليف بما لا يطاق لو كان مكلفا بالايمان فيه ، فلا يفيد القول بتحقّق امكان المقدورية. بل التحقيق انّه لا معنى للقول بتحقّق امكان المقدورية دون تحقّق المقدورية بالفعل ، فانّ معنى امكان المقدورية ـ على ما هو الظاهر ـ أن لا تكون القدرة حاصلة بالفعل للفاعل ولكن يمكن له احداث القدرة في ذاته. فالكافر في زمان كفره وإن لم تكن له قدرة بالفعل على الايمان فيه إلاّ أنّه كان من شأنه وفى قوّته أن يحدث القدرة في نفسه ثمّ يؤمن فيه بتلك القدرة المحدثة. ومعلوم على كلّ عاقل انّ التمكّن والقوّة على احداث القدرة في الزمان المذكور ليس إلاّ القدرة الفعليّة ، لان القدرة على احداث القدرة لو كان لها معنى محصّل هو عين القدرة ؛ وإن لم يكن من شأنه احداث القدرة فيه بل كان احداث القدرة على الفعل وايجادها من جانب الله ـ تعالى ـ فأيّ معني لامكان القدرة له. وحمل الامكان على امكان أن يفاض عليه القدرة من جانب الله ـ تعالى ـ ما يفيد في دفع التكليف بما لا يطاق ـ على تقدير عدم الإفاضة ـ ؛ فلزوم التكليف بما لا يطاق حينئذ لازم.

وبذلك يظهر أن صيرورة القدرة فعلية في آن الفعل يتوقّف على سبق قدرة أخرى تكون منشئا لفعليتها ، لأنّ تلك القدرة المقارنة للفعل صفة حادثة محتاجة إلى فاعل ؛ فنقول : فاعلها إن كان هو العبد فلا بدّ له في احداثها من قدرة أخرى ، فتكون له قدرة متقدّمة على الفعل البتة ، وبه يثبت المطلوب ، وإن كان هو الله ـ تعالى ـ فلا يكون لامكان مقدورية الفعل للعبد معنى ، و/ ٨١DB / حمل الامكان على ما ذكر غير مفيد ـ كما عرفت ـ ، فالتكليف بما لا يطاق لازم على كلّ حال.

وبما ذكرناه يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعلام : بانّه يمكن أن يقال من قبل الأشعري : انّ التكليف بغير المقدور بالفعل مع امكان كونه مقدورا لا فساد فيه ، و

٣٧٧

لا شكّ في حال العدم يمكن كونه مقدورا بأن يجعله موجودا بدل كونه معدوما ، وهذا الامكان كاف في عدم كونه تكليفا بما لا يطاق. والحاصل : انّ للأشعري أن يقول : انّا لا نسلّم أنّ التكليف نقيض فعليّة القدرة ، بل يكفى امكانه ، وهي ممكنة في حال العدم وان لم يتمكّن بشرط العدم ، انتهى.

ووجه ضعفه واندفاعه قد ظهر ممّا ذكرناه في غاية الظهور ؛ فلا نطيل الكلام باعادته.

وعلى ما حقّقناه وقرّرناه لا ريب في ورود ما أورده بعض الفضلاء على الدفع المذكور من انّه لو لم يتعلّق التكليف الاّ بما هو مقدور على تقدير وجوده ، يلزم على تقدير استمرار الكافر وموته على الكفر وقوع تكليف غير القادر ؛ وهو باطل بالإجماع.

بيان اللزوم : انّه لو كان حصول القدرة من الكافر على فعل الايمان حين اتصافه بالايمان ـ الّذي لم يحصل له قطّ ـ يلزم أن يكون مكلّفا بما لا يكون موصوفا بالمقدورية ، وما هو إلاّ / ٨٥MB / التكليف بما لا يطاق. وهو واقع ، لكون الكافر مكلّفا. وليس للأشاعرة أن يقولوا : يكفي في عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الصورة المذكورة إن فعل الايمان ممّا لو صدر عن الكافر لكان مقرونا بالقدرة ، لأنّه بناء على هذه الشرطية ينبغي أن لا يكون الكافر مكلّفا إلاّ حين حصول الفعل المقدور ، لا وقت عدمه ؛ إذ لو كان في جميع مدّة عدم فعل المكلّف به ـ أي : الايمان ـ مكلّفا بالاتيان به لكان مكلّفا بما لا يقدر عليه. ومثله مثل أن يقال لزيد : انت مكلّف بالطيران إلى السماء ، ولو طرت لكان لك جناح! ؛ ومع هذا لم يسقط عنه التكليف ولم يحصل له الجناح اصلا. ولا ريب في أنّه تكليف بما لا يطاق!.

ثمّ انّه أورد على ما ذكر في العلاوة أيضا : بأنّ تكليف الفاعل حال الفعل بتحصيل ذلك الفعل الحاصل بذلك التحصيل وإن لم يكن محالا لكن لا طائل تحته.

وأجيب عنه : بأنّه يكفى في فائدته كونه سببا لذلك التحصيل ، فانّه اثره ، ففائدة استمرار التكليف حينئذ أنّه سبب للايمان والسبب تحت وجوده حال وجود المسبب

٣٧٨

مع انّه يحفظ الايمان عن ورود الضدّ. وأمّا الفائدة المشهورة للتكليف ـ أعني : الابتلاء ـ فهي منتفية على هذا التقدير ـ أي : على تقدير تحقّق الفعل ـ ، فانّها تتصوّر عند التردّد في الفعل وتركه ، أمّا عند تحقّق الفعل فلا. إلاّ أنّه لا مانع منه ، لأنّ الابتلاء انّما يكون فائدة حدوث التكليف لا فائدة استمراره ، فيكون للتكليف فائدتان : إحداهما بالنظر إلى استمراره ـ وهي كونه سببا للتحصيل ومانعا عن ورود الضدّ ـ ؛ وأخراهما بالنظر إلى حدوثه ـ وهي الابتلاء والامتحان ـ. يعني لمّا حدث التكليف قبل القدرة على الفعل واستمرّ إلى حين القدرة وبقي معها فيكون له اعتباران : أحدهما الحدوث ؛ وثانيهما : الاستمرار ؛ فبالنظر إلى كلّ اعتبار تكون له فائدة. وغير خفيّ انّ تحصيل الحاصل بنفس ذلك التحصيل وإن كان جائزا وبه ثبت جواز استمرار التكليف بالايمان حال وجود الايمان ، إلاّ أنّ ذلك التحصيل يتوقّف على سبق قدرة ، لأنّ التحصيل فرع القدرة. فهذا التحصيل إن كان من العبد فلا بدّ له من تقدّم قدرة له عليه ـ وإلاّ لزم تحقّق المشروط بدون الشرط ـ ، وإن كان من الله لزم التكليف بما لا يطاق.

فان قيل : القدرة مقارنة لذلك التحصيل ؛

قلنا : تقدّم الشرط على المشروط لازم.

ثمّ ما قيل في الجواب عن لزوم عدم الفائدة في تحقّق التكليف بعد حصول المكلّف به : بأنّ الفائدة بعد التحصيل كون التكليف سببا لذلك التحصيل ، يرد عليه : انّ مجرّد التكليف إن كان سببا تامّا للتحصيل لزم أن يكون التكليف في زمان عدم الفعل أيضا سببا تامّا فكان اللازم عدم انفكاك الفعل عن التكليف ؛ وإن لم يكن سببا تامّا بل كان جزء من اجزاء العلّة التامّة لحدوث الفعل بأن يكون مع القدرة الموجودة في الفاعل والإرادة الحادثة فيه لغرض من الأغراض سببا تامّا ، فثبت المطلوب ـ أعني : تقدّم القدرة على الفعل ـ.

وما قيل : انّ الابتلاء إنّما يكون فائدة حدوث التكليف لا استمراره ؛

ففيه : انّه إذا لم تكن القدرة متقدّمة على الفعل لم تتحقق هذه الفائدة للحدوث أيضا ، لأنّ زمان التكليف إذا كان خاليا عن القدرة فكيف يتحقّق الابتلاء المستلزم

٣٧٩

للتردّد / ٨٢DA / بين طرفى المقدور؟!.

فظهر ممّا ذكرناه انّ الايراد المذكور لا يندفع بما ذكروه لدفعه ، وبه يظهر فساد الجواب الّذي ذكروه من جانب الأشعري للدليل المذكور للمعتزلة. مع أنّك قد عرفت اندفاع ذلك الجواب بوجوه آخر لا مدفع لها.

ثمّ جميع ما أوردناه من الفحص والتطويل إنّما كان للجرح والتعديل في ما أورده جماعة في هذا المقام من القال والقيل ؛ ولو شئت تحقيق الحقّ في هذا الخلاف ـ بحيث يطرح به ما أورده خلف قاف ـ فاستمع لمّا يتلى عليك بسمع الانصاف.

اعلم! أنّ الاشعرية لمّا قالوا انّ افعال العباد مستندة إلى الله ـ تعالى ـ لا إليهم ، وليس لهم قدرة على الفعل ولكن عادة الله جارية بايجاد قدرة لهم مقارنة لفعل العبد / ٨٦MA / ـ سموّ ذلك بالكسب ـ ، لزمهم القول بعدم تقدّم القدرة على الفعل ومقارنتها لفعله ، ولكن ليس لتلك القدرة المقارنة تأثير لفعله ، بل هو مخلوق من الله ـ تعالى ـ ، فالظاهر انّ مرادهم من عدم كون القدرة متقدّمة على الفعل هو ما استقرّ رأيهم عليه من عدم قدرة العبد قبل الفعل اصلا ، ومرادهم من معية القدرة للفعل هو مقارنة تلك القدرة الغير المؤثّرة له ، فهذا الخلاف منهم مبنى على الخلاف المشهور منهم في افعال العباد ، فما يدلّ على بطلان ذلك الخلاف ـ : من لزوم الجبر ، والتكليف بما لا يطاق لعدم قدرة للعباد قبل الفعل اصلا وعدم تأثير لقدرتهم الّتي تكون مع الفعل ـ يدلّ بعينه على بطلان هذا الخلاف أيضا.

فالعجب من جماعة تثبّتت اقدامهم في معركة الفكر والنظر مع انكارهم الأصول الأشعرية ولما اختاروه في أفعال العباد من عدم قدرة لهم سوى القدرة الكاسبة ـ الّتي لا فرق بين وجودها وعدمها في عدم التأثير ـ ، توجّهوا هنا لتصحيح كلام الأشعرية بتحقّق امكان القدرة للعباد قبل الفعل وثبوت القدرة المؤثّرة معه ؛ وهل هذا إلاّ توجيه كلام الخصم بما لا يرضى به ويقول بخلافه؟!. فانّ من الأصول المشهورة للأشعرية قولهم بعدم قدرة مؤثّرة للعبد مطلقا واستناد جميع افعاله إلى الله ـ تعالى ـ وكونه مجبورا في افعاله ، ومع ذلك كيف يوجّه كلامهم هذا بما لا يلزم منه الجبر والتكليف

٣٨٠