جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٥١٧
الجزء ١ الجزء ٢

صدورها / ٦٨DB / من دون افتقار إلى أمر خارج أيضا أنّه يلزم حينئذ دوام صدور كلّ فعل صدر عنه مرّة بحيث لا يكون في لحظة واحدة فارغا عنه ، لأنّ ما يكون من مقتضيات الماهية ولوازمها لا يمكن أن يتخلّف عنها ، لكونها علّة مستقلّة.

فان قيل : الإرادة جزء للعلّة ومجرّد الماهية من دون انضمام الإرادة ليست علّة مستقلّة لصدور الفعل ، وبعد انضمامها يصدر الفعل البتة ، فلو دام إرادة فعل لدام صدوره ؛

قلنا : ننقل الكلام في الإرادة وعلّة حدوثه من شخص دون شخص في وقت دون وقت ، فامّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى الواجب أو إلى ماهية العبد وذاته. والأوّل بديهيّ البطلان ؛ والثاني مستلزم للجبر ؛ والثالث يوجب دوام الإرادة ، فيلزم دوام الفعل أيضا.

وأيضا : لا ريب في صدور الأفعال المتناقضة المتعارضة من العبد ـ كالقيام والقعود والنوم واليقظة وغير ذلك ـ ، فلو كان ذاته علّة لصدورها باعتبار واحد أو باعتبارات متعدّدة لزم اجتماعها في الصدور واتصاف العبد بجميعها في آن واحد ، وبطلانه ظاهر. والقول بأنّ الذات علّة بشرط الإرادة فلا يلزم ما ذكر ، قد عرفت حاله.

وقد ثبت ممّا ذكرناه أنّ تصحيح الأمر بين الأمرين بكون الفعل صادرا من العبد وهو الفاعل بالحقيقة ولكن اسبابه ـ كالقوّة والقدرة والهداية وإرادة الخير والشر وغير ذلك ممّا له مدخلية في صدوره من ارسال الرسل وإنزال الكتب ـ من الله ، فلكلّ فعل جهتان : جهة إلى العبد ـ وهو كونه صادرا عنه وكونه فاعلا بالحقيقة ـ ، وجهة إلى الله ـ سبحانه ، وهو خلق ما يتوقّف عليه الفعل من الأمور الداخلية والخارجية ـ لا يخفى ضعفه وعدم تماميته. لأنّه لو توقّف فعل العبد على أمر منته إلى الله لم يكن في قوّة العبد ولم يمكن صدور هذا الفعل من العبد بدونه ، وبعد حصوله لم يمكن له التخلّف ، لزم فساد الجبر وإن كان الفاعل حقيقة هو العبد ، لأنّه إذا كان تمامية العلّة بما هو من جانب الله ، وبعد حصوله حصلت العلّة المستقلة فحينئذ يجب صدر والفعل ولا يمكن للعبد تركه ، لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة ، فيلزم الجبر.

٣٢١

فان قيل : انّما يلزم الجبر إذا كان وجوب صدور خصوص فعل الطاعة أو المعصية من جانب الله ومستندا إلى الاسباب الصادرة عن الله ، وليس كذلك ؛ لأنّ نسبة الأسباب المذكورة إلى السعيد والشقيّ والمطيع والعاصي على السواء وما أعطى منها لأحدهما أعطى بعينه للآخر فهما في اعطاء الأسباب وافاضة (١) الشروط والآلات سواء ، فهو ـ أي : وجوب صدور خصوص فعل الطاعة أو المعصية ـ مستند إلى ذات العبد ومهيته ، وجودة طينته وخباثته. فالمحسن لجود ذاته اختار الطاعة واستحقّ الثواب والعاصي لخبث مهيته اختار المعصية واستحقّ العذاب. فما افيض من الله من الوجود والقدرة والإرادة وارائة الطريق وغير ذلك يعمّهما على السواء ، وتفاوتهما في اختيار الطاعة والمعصية مستند إلى ذاتهما ؛

قلنا : حينئذ يعود الاشكالات المتقدّمة الواردة على القول باستناد الأفعال إلى ماهية العبد وذاته من كون ذاته محض القوّة والعدم ، فكيف يصير منشئا لصدور / ٧٢MA / خصوص الافعال واختلافها؟!. ولا يمكن أن يقال : اختلافها مستند إلى اختلاف القابليات في المهيات ، لأنّ محض القوّة والعدم ليس له في نفسه قابليّة فضلا عن اختلافها ؛ ومن لزوم دوام صدور فعل صدر عنه مرّة ؛ ومن وجوب صدور الأفعال المتناقضة المتقابلة عنه في آن واحد ، ومن لزوم الجبر وبطلان الثواب والعقاب ، لأنّ مقتضى الذات لا يمكن انفكاكه والعبد غير متمكّن من تركه.

فان قيل : لا ريب في أنّ المهيات الامكانية في حدّ ذواتها مع قطع النظر عن موجدها وتأثيره فيها محض القوّة وصرف العدم ليس لها اقتضاء ولا قابلية ، إلاّ أنّه إذا أوجدها الواجب ـ تعالى شأنه ـ كان لكلّ منها في حدّ ذاته خصوصية ولوازم لا يوجد في غيره ، فان الانسان ماهية وحقيقة إذا وجد في الخارج كان بمحض حقيقته ومعناه ناطقا سميعا بصيرا ـ إلى غير ذلك من خواصّ الانسانية ولوازمها ـ ، والجسم حقيقة إذا وجد في الخارج كان لصرف ماهيّته ومعناه قائما بذاته ، والعرض ماهيّة إذا

__________________

(١) الاصل : + و.

٣٢٢

وجد في الخارج كان في حد ذاته قائما بغيره ، والنار حقيقة إذا وجدت في الخارج كانت في حدّ نفسها حارّة ، والماء بمحض ذاته بارد ، والأربعة عدد إذا وجدت في الخارج كانت بمحض ذاتها زوجا ، وهكذا الحال في غير ذلك من المهيات. فالصانع / ٦٩DA / الحكيم ـ جلّ شأنه ـ أوجد كلّ شيء بخواصّه ولوازمه وبالخصوصيّات الّتي تقبلها ، فلا يمكن أن يوجد انسان كان ناهقا وحمار كان عاقلا ونار كانت باردة وأربعة كانت فردا ولا عشرة كانت أزيد من عشرين ، بل ما أوجد ناهقا يكون حمارا وما اوجد عاقلا يكون انسانا إلى غير ذلك. إذ الانسان بنفس حقيقته ومعناه لا يمكن أن يكون ناهقا والنار بنفس ماهيتها لا يمكن أن تكون باردة والأربعة بصرف حقيقتها لا يجوز أن تكون فردا والعشرة بنفس معناها لا يمكن أن يكون أزيد من العشرين ، وقس عليها غيرها. فوجودات الأشياء وقابلياتها وخواصّها ولوازمها فائضة من عند الله ـ تعالى ـ ، إلاّ انّ اختلافها في القابليات واللوازم وخصوصياتها مستندة إلى ذواتها ومن عند انفسها من حيث أنّها موجودة لا من حيث أنّها معدومة ، إذ من حيث هي لذواتها من حيث ذواتها مع قطع النظر عن وجوداتها معدومة صرفة والعدم لا يمكن أن يصير منشئا للأثر. والحاصل انّ وجوب صدور خصوص كلّ فعل من شيء ـ كوجوب صدور خصوص الطاعة من زيد والمعصية من عمرو ـ ليس مستندا إلى مهيته المعدومة أو مهيته من حيث هي لرد انّ القوّة والعدم لا يصير منشئا لشيء ، بل هو مستند إلى ماهيّته الموجودة بشرط الوجود ، وهي ليست محض القوّة والعدم.

ولو شئت بيانا أوضح واتمّ نقول : لا ريب في أنّ جميع الموجودات والماهيّات مستندة إليه ـ تعالى ـ ، ولو لا افاضته وايجاده ـ تعالى ـ ما شمّ شيء رائحة الوجود.

والمهيات مع قطع النظر عن تأثيره وايجاده ـ تعالى ـ لا شيء محض ، لأنّها في حد ذاتها ليست إلاّ صرف العدم وعدم الصرف ، لكنّها إذا وجدت في الخارج كان لكلّ منها خواصّ ولوازم على حدة ، لا بأن تكون تلك الخواصّ واللوازم مستندة إلى المهيات ، فانّ هذا بديهي البطلان. لأنّ العدم الصرف في حدّ ذاته كيف تقتضي خاصية ولازما ، بل تلك الخواصّ واللوازم أيضا مستندة إلى جاعل الماهية ، فانّ الماهية بلوازمها

٣٢٣

وخواصّها وأفعالها وتشخّصها مستندة إلى جاعلها الحقّ بمعنى أنّ الجميع فائضة منه ـ تعالى ـ ومستندة إليه ـ سبحانه ـ ، فهو كما خلق ماهية الانسان خلق نطقه وشعوره وجميع ما يلزمها من الآثار والصفات. إلاّ أنّ ماهية الانسان لا تتحقّق بدون تلك الصفات واللوازم بمعنى أنّه لو لا تلك الآثار والصفات لم يكن انسانا ، فانّ حقيقة الانسان هو أن تكون بتلك اللوازم والآثار. فالانسان الغير الناطق والحيوان ليس انسانا ، والحمار الغير الناهق ليس حمارا. فكلّ ماهية في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر حقيقتها أن تكون على النحو الخاصّ ومع الصفات واللوازم المعيّنة ، لا بأن يكون لها تحقّق وثبوت بل بمعنى أنّه لو وجد داهن وفارض يحكم بأنّ حقيقة الانسان كذا وحقيقة الفرس كذا وبعد ما يوجد في الخارج يكون على ما هو مقتضى طبيعته وحقيقته ـ أي : يكون معه ما يلزمه من الآثار والصفات ـ. وكذا حقيقة كلّ شخص من الأشخاص أن يكون بالآثار والمشخّصات المعيّنة بعد وجوده ، فجميع الموجودات بلوازمها وصفاتها وشخصياتها مستندة إليه ـ تعالى ـ. إلاّ / ٧٢MB / أنّ كلّ ماهية موجودة بعد وجودها يكون على النحو الخاصّ المشاهد ، لأنّ حقيقتها كذا ولا يمكن أن يوجد بغير هذا النحو ، ومع ذلك يكون تلك الحقيقة. فالمراد ممّا يقال : انّ المهيات ليست مجعولة بالجعل المركب هو هذا المعنى ـ أي : لا يجوز أن يجعل الفاعل الانسان انسانا ، بل هو خلق الانسان بلوازمه وخواصّه وأوجده ، وبعد وجوده يكون حقيقته كذا ـ.

وإذا ثبت ذلك فنقول : انّ كلّ فعل يصدر عن عبد فمن حيث انّ وجود العبد ووجود افعاله منه ـ تعالى ـ يمكن استناد الفعل من هذه الجهة إليه ـ تعالى ـ ، ومن حيث أنّ حقيقة هذا العبد بشخصه المعيّن بعد وجوده يكون بهذا النحو الخاصّ يمكن استناده إلى العبد من هذه الجهة ، لا بأن تكون ماهية هذا العبد مؤثّرة في الفعل ، لأنّ التأثير ليس إلاّ من عند الله ، بل من حيث أنّ حقيقته إذا وجدت لزم أن تكون بهذا النحو. وعلى هذا فيكون للفعل نسبة إلى لواجب وهو تأثّره منه ـ تعالى ـ وتأثيره ـ تعالى ـ فيه ، ونسبته إلى ماهية العبد وهو اقتضاء حقيقته على فرض وجوده لايجاد هذا الفعل فيه.

فإيجاد الذات والصفات والأفعال كلّها مستند إليه ـ تعالى ـ ولا يستند وجود

٣٢٤

الشيء إلى العبد مطلقا. ولكن كون مهيته وحقيقته بحيث لا بدّ من اقترانها بعد وجودها ببعض الصفات / ٦٩DB / ـ وهي الصفات والأفعال الّتي تحقّق تلك الحقيقة موقوف عليها ـ أوجب صحّة استناد تلك الأفعال إليها أيضا. وبذلك يتصحّح معنى الأمر بين الأمرين.

ثمّ إنّه لمّا أمكن الاختلاف في اقتضاء المهيات بعد وجودها من أجل انضمام الأشياء الخارجية وعدمه ، فجاز أن تكون حقيقة زيد الموجودة بانضمام شيء كارشاد أو موعظة أو غير ذلك من التأييدات والتوفيقات من عند الله مقتضية للايمان والسعادة ، وبدونه غير مقتضية لهما ، وجاز أيضا أن يكون بعض المهيات مع انضمام الأشياء المذكورة كلاّ أو بعضا غير مقتضية لهما أوجب العناية الإلهية ارسال الرسل وانزال الكتب وافاضة التأييدات والتوفيقات ليصل إلى الكمال والسعادة من في شأنه الوصول ويتمّ الحجّة على من ليس من أهل الزلفى والصعود ، لئلاّ يتحقّق بخل من المبدأ الفيّاض بالنسبة إلى الأوّلين وينقطع العذر من الآخرين ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (١).

قلنا : لا ريب انّ الماهية الموجودة بشرط الوجود من عند الله ، فما يستند إليها يكون مستندا إلى الله أيضا ، فحينئذ تكون

الخصوصيات أيضا مستندة إلى الله ، فيلزم الجبر في التكاليف الشرعية. والحاصل انّ ما يمكن أن يستند إليه الأثر الموجود سواء كان ذاتا أو صفة حقيقية أو اعتبارية نفس أمرية أو خصوصية راجع إلى الوجود وهو من عند الله ـ سبحانه ـ ، وما ليس من عنده راجع إلى العدم المحض والليس الصرف ، فلا يمكن أن يستند إليه الأثر بوجه. مع أنّه لو امكن أن يستند إليه شيء وكان صدور خصوص المعصية من جهة اقتضاء خصوصية الذات وقابلية الماهية ولأجل ما يرجع إلى الماهية ـ أعني : لابدية اقترانها ببعض الصفات والافعال ـ لتحقّق حقيقتها. فأيّ تقصير للعبد؟! ، لأنّ تغيير الذات وتبديل مقتضاها محال!.

وما قيل : انّ تبديل الذات وإن كان محالا ولكن الذاتيات على قسمين : أحدهما

__________________

(١) كريمة ٤٢ ، الأنفال.

٣٢٥

ما لا يمكن تغييره للذات (١) كالزوجية للاربعة ؛ وثانيهما : ما يمكن تغييره وتبديله وإن كان ذاتيا ومناسبا للذات ومقتضى للماهية وقابليتها كالبرودة للماء. وما تعلّق به التكليف من الأفعال والصفات جميعا من القسم الثاني ولم يتعلّق التكليف بشيء يكون من القسم الأوّل ؛

يرد عليه : انّا سلّمنا انّ الأمور الّتي تعلّق بها التكليف يمكن تبديلها ، ولكن نقول : لا بدّ لكم من بيان وجه التخصيص والترجيح في صدور تلك الأمور وعدم صدورها من شخص دون آخر في وقت دون آخر ، وفي صدور بعض تلك الأمور دون بعض آخر منها. فإمّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى الواجب أو إلى الماهية ، فيصير الأمر كما كان.

وبذلك يظهر ضعف القول بأنّ الأمر بين الأمرين كون الأمور التكليفية مفوّضة إلى العبد ، وكون غيرها من عند الله.

وقيل : هو ـ أي : الأمر بين الأمرين ـ هو كون الفعل واقعا بقدرة العبد واختياره ، وكون قدرته واختياره مستندين إلى الله ـ تعالى ـ.

وقيل : هو كون الأسباب القريبة للفعل والترك بقدرة العبد والبعيدة ـ كالجوارح والقوى والاختيار ـ بقدرة الله ـ تعالى ـ ، فالفعل يقع بالقدرتين معا. والعبد / ٧٣MA / ليس بمجبور في فعله ولا مستقلّ فيه بأن يكون الأسباب كلّها مستندة إليه.

وقيل : هو عدم كون العبد مختارا أو مجبورا في جميع الأفعال المتعلّقة به ، بل يكون في بعضها ـ كالمعاصى والطاعات ـ مختارا وفي بعض آخر ـ كالموت والحياة ـ مجبورا.

وممّا ذكرنا يعلم ضعف الكلّ وعدم تماميته.

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الجواب الّذي قاله المحقّق الطوسى وغيره من الشبهة المشهورة للجبرية غير صحيح. إذ حاصل شبهتهم : انّ العبد لو كان قادرا مختارا ـ والقادر من يصحّ منه الفعل والترك ـ لتوقّف ترجيح فعله على تركه على مرجّح

__________________

(١) في النسختين : كالذات.

٣٢٦

لا يكون صادرا عنه باختياره ، وإلاّ لزم التسلسل بنقل الكلام إلى صدوره عنه ويكون الفعل مع ذلك المرجّح واجب الصدور عنه ؛ إذ لو لم يجب لجاز أن يوجد معه تارة ويعدم أخرى. فتخصيص أحد الوقتين بالوجود يحتاج إلى مرجّح آخر. ولا يتسلسل ، بل ينتهى إلى مرجّح يجب معه صدور الفعل عنه ، فيكون اضطراريا لا اختياريا.

وحاصل جواب المحقّق وغيره عنها : انّ القادر من يصحّ عنه الفعل والترك قبل تحقّق الداعي إلى أحدهما ـ وهو الإرادة ـ ، وأمّا بعده فيجب الطرف الّذي تعلّق به الإرادة ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يحقّقه.

والوجه في عدم صحّة هذا الجواب أنّ / ٧٠DA / الإرادة أيضا من المرجّحات الّتي يتوقّف تعلّقها بأحد الطرفين دون الطرف الآخر إلى مرجّح آخر ، وإذا نقلنا الكلام إلى ذلك المرجّح أيضا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى مرجّح ويكون صادرا منه باختياره.

والقول بانّ ترجيح المختار أحد المتساويين جائز ـ كما في طريق الهارب وقدحي العطشان ـ قد عرفت فساده.

والعجب انّ الأشاعرة مع قولهم بذلك ـ أي : ترجيح أحد المتساويين بل المرجوح أيضا ، ولذا قالوا بكفاية الإرادة في فعل الواجب تعالى من دون احتياج إلى مرجّح آخر ـ لم يقولوا به في قتل العبد. ولذا يرد عليهم النقض بفعل الواجب ـ تعالى ـ بأن يقال : لو تمّ دليلكم هذا لدلّ على انّ الواجب ـ تعالى ـ أيضا لا يكون موجدا لفعله بالقدرة والاختيار ، لأنّ ما ذكرتموه جار بعينه في حقّه ـ تعالى ـ أيضا. وما أجيب عنه بأنّ إرادة العبد محدثة فافتقرت إلى مرجّح آخر حتّى ينتهى إلى مرجّح يكون من عند الواجب بلا إرادة واختيار من العبد فيه دفعا للتسلسل في الارادات والمرجحات الّتي فرض صدورها منه ، وإرادة الله قديمة لا يفتقر إلى إرادة أخرى مدفوع بأنّه لا يدفع لزوم التسلسل المذكور. إذ نقول : لو لم يمكن الترك مع الإرادة القديمة كان الواجب موجبا لا قادرا مختارا ، وإن امكن فان لم يتوقّف فعله على مرجّح استغنى ما جاز فعله وتركه في اختيار أحد طرفيه عن المرجّح وإن توقّف عليه ننقل الكلام إليه.

٣٢٧

فلا بدّ من الانتهاء إلى مرجّح يكون الفعل معه واجبا ـ دفعا للتسلسل ـ ، فيكون الفعل اضطراريا.

والظاهر انّ عدول الأشعري عن أصله من جواز الترجيح بلا مرجّح في فعل العبد وعدم اكتفائه بمجرّد الإرادة فيه مع قوله بذلك في فعل الواجب لجموده على الظواهر الواردة من الشريعة الدالّة على أنّ كلّ شيء مخلوق من الله ـ تعالى ـ ؛ وهي معارضة بمثلها ـ كما لا يخفى ـ.

وللأشاعرة شبهة أخرى اندفاعها ظاهر ، وهي انّ العلم علّة للحادث ومفيد لوجوبه ، فافعال العباد معلولة لعلم الواجب وواجبة باقتضائه.

ووجه الاندفاع : انّ الله ـ تعالى ـ كان عالما في الأزل بما يفعله العبد فيما لا يزال ، ولكن علمه به لا يخرجه عن كونه اختياريا للعبد ، كما انّ من أعطى عبده سيفا وهو يعلم ما يصنع به العبد والعبد صرفه في قتل نفس مثلا لا يخرج فعل العبد هذا بعلم سيّده به من كونه اختياريا للعبد ، لأنّ معنى الاختيار أن تكون للعبد قوّة فاعلية صالحة للفعل والترك يقال لها : القدرة ، وقوّة أخرى علمية مدركة للنفع والضرّ والنفع والشرّ في جانبي ما يقدر عليه ، وقوّة أخرى ارادية باعثة يطيعها في فعل العبد القوّة المسمّاة بالقدرة بحيث متى انبعثت الإرادة لفعل أو ترك بحسب ما ادركته النفس بقدرتها الادراكية اطاعتها تلك القوة ففعلت أو تركت. ومعلوم انّ ذلك أمر لا ينافيه علم الله ـ تعالى ـ بما يقع أو لا يقع من الطرفين ؛ فان حصل وجوب بعد تصوّر نفع محروم أو مظنون وانبعاث إرادة عازمة فذلك وجوب عارض لاحق لا ينافيه امكان سابق.

وهذا الجواب صحيح عند المعتزلة ، لأنّ العلم عندهم تابع للمعلوم.

وأمّا عند الحكماء فالظاهر عدم صحّته ، / ٧٣MB / لأنّهم قالوا : انّ تعقّل الواجب لنظام الخير وبمثله وعلمه علّة لايجاده ، فوجود كلّ شيء عندهم معلول للعلم الواقعي الّذي عين ذاته ؛ فتأمّل!.

وممّا ذكرناه يعلم انّ حال تلك المسألة عجيبة ـ كما قاله فخر الدين الرازي ـ و

٣٢٨

التفصي عمّا يرد على كلّ من المذاهب الّتي قيلت فيها مشكل ، إلاّ أنّا نعلم انّ ما هو الحقّ ويجب الاذعان به انّ المؤثّر بالذات ليس إلاّ الواجب بالذات ، لأنّ كلّ قدرة وقوّة حيثما كانت فائضة منه ـ تعالى ـ ، وهو ( الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) (١) والآثار كلّها تابعة للوجود وهو تابع للماهية وهي تابعة لجاعلها خارجة به من الليس إلى الأيس. فالوجود والشروط والأسباب والآلات و ـ بالجملة كلّما يتوقّف عليه وجود المعلولات عن الأفاعيل والحركات والسكنات وأصل القدرة والقوّة على كلّ فعل حتّى قوّة التخيل والتفكّر ونفس الإرادة كلّها ـ فائضة من مبدأ الموجودات. إلاّ أنّ القدرة لمّا كان شأنها ترجيح أحد الطرفين بمجرّد الإرادة بدون مرجّح آخر لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح بل مع مرجّح آخر وهو تصوّر / ٧٠DB / نفع محروم أو مظنون ناش عن القوّة العلمية المدركة للنفع والضرّ. ومثل هذا المرجّح لا يفتقر حدوثه إلى مرجّح آخر ، لكونه حسنا في نفسه أو باعتقاد العبد وأصلح له في الواقع أو باعتقاده يكون هذا الاختيار ـ أي : اختيار أحد الطرفين ـ مع مرجّحه الّذي هو التصوّر المذكور من العبد. فلو قيل له : لم اخترت الايمان دون الكفر؟ ، فله أن يقول : لكون الايمان حسنا وأصلح ؛ ولو قيل له : لم اخترت الحسن والأصلح؟ ، فله أن يقول : لأنّ ذات الحسن والأصلح يقتضي ذلك ، إذ العاقل لا يختار القبيح وغير الأصلح. ولو قيل للكافر : لم اخترت الكفر؟ ، فله أن يقول : لأنّ نفسي لا يرضى بالتابعية والانقياد لغيري!. فلأن قيل : لم لا ترضى بذلك؟ ، فله أن يقول : لأنّ عدم التابعية مطلوب عندي ؛ وهنا ينقطع الكلام. ولو قيل للزاني : لم اخترت الزنا؟ ، فله أن يقول : لالتذاذ نفسي ، ولو قيل : لم اخترت الالتذاذ؟ ، فله أن يقول : لانّه مطلوب في نفسه. ولو قيل لتاركه : لم اخترت الترك؟ ، فله أن يقول : لأنّي خفت من العذاب. فالوجوب واللزوم انّما يحصل بحسن الفعل وصلاحه في ذاته أو باعتقاد العبد. فينقطع التسلسل ولا ينتهي إلى ما هو من عند الله ليلزم الجبر ، ولا إلى ما تقتضيه الماهية ليلزم الاشكالات الضعيفة المذكورة المشهورة. فثبت انّ جميع الأسباب والشرائط وبالجملة غير اختيار أحد الطرفين من

__________________

(١) كريمة ٥٠ ، طه.

٣٢٩

عند الله ـ تعالى ـ ومجرّد الاختيار المذكور مع تخيّل ما تخيله من النفع أو الضرّ باختياره بعد حصول التمكّن والتملّك له بتمكين الله ـ تعالى ـ وتمليكه ايّاه. فلا جبر لتمكّنه وتملّكه ولا تفويض لتمكّنه وتمليكه.

وإلى ما ذكر نظر من قال : انّ الاسباب البعيدة كلّها من الله والقريبة من العبد ، كما اختاره المحقق الطوسى في شرح رسالة العلم حيث قال : الّذي ينظر إلى الاسباب الأوّل ويعلم أنّها ليست بقدرة الفاعل ولا بإرادته يحكم بالجبر ، وهو غير صحيح مطلقا ؛ لأنّ السبب القريب للفعل هو قدرته وارادته. والّذي ينظر إلى السبب القريب يحكم بالاختيار والتفويض ، وهو أيضا غير صحيح ؛ لأنّ الفعل لم يحصل باسباب كلّها مقدورة ومرادة له. فالحقّ ما قال بعضهم : لا جبر ولا تفويض ولكنّه أمر بين أمرين (١).

وإلى هذا يشير أكثر الظواهر الواردة من الشريعة ؛ ففي نهج البلاغة قال ـ عليه‌السلام ـ بعد ما سئل عن معنى « لا حول ولا قوّة إلاّ بالله » : انّا لا نملك مع الله شيئا ولا نملك إلاّ ما ملّكنا ، فمتى ما ملكنا هو ما املك به منّا نهضنا ومتى أخذه منّا وضع تكليفه عنّا (٢). فمراده ـ عليه‌السلام ـ : انّ حصر الحول والقوّة فيه ـ تعالى ـ باعتبار أصل التمكين والتمليك ، وإلاّ فللعبد حول وقوّة بحوله وقوّته واقداره وتمكّنه ؛ فلا جبر لتملّكه ولا تفويض لتمليكه وقدرته على ما اخذ ما ملكه لكونه أملك به منه.

وفي بعض الأدعية المعصومية : اللهم أنت كلّفتني من نفسي ما أنت املك به منّي وقدرتك عليه وعلى الاغلب من قدرتي (٣).

وفي الصحيفة السجادية : اللهم ومن الضعف خلقتنا وعلى الوهن نشأتنا ومن ماء مهين ابتدأتنا ، فلا حول لنا إلاّ بقوّتك ولا قوّة لنا إلاّ بقوّتك (٤) ؛

ويظهر منه معنى قوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ

__________________

(١) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص ٤٥.

(٢) راجع : نهج البلاغة ، الحكمة ٤٠٤ ، ص ٥٤٧ ، مع اختلافات يسيرة.

(٣) راجع : بحار الانوار ، ج ٩٨ ، ص ٥٠.

(٤) راجع : الصحيفة السجادية ، الدعاء التاسع ، الفقرة ٥ ، ص ٨٧ ، مع اختلافات يسيرة.

٣٣٠

اللهُ ) (١).

بقي الكلام في أنّه لم يختار / ٧٤MA / بعض الناس مرجّح الفعل ويتصوّره نفعا وبعض آخر مرجّح الترك ويتصوّره نفعا. ولم يختار بعضهم ما هو الخير والصلاح لهم في الواقع ويختار الآخرون ما هو الشرّ والفساد لهم في نفس الأمر؟ ، ولم يتصوّر هذا ما يدعوا إلى اختيار هذا ويتخيّل ذاك ما يدعوا إلى اختيار ذاك؟! ، وما الباعث في أنّ المؤمن يتصوّر حسن الايمان وصلاح التابعية والكافر يتصوّر قبح التابعية وحسن الطغيان؟ ، والزاني يختار لذّة العاجل وتارك الزنا يختار سعادة الآجل؟. ولا يخفى أنّ هذا شيء لا يمكن لنا علمه وليس لنا سبيل إلى دركه ، ولكن بحسب الاعتقاد انّه مستند إلى اسباب وأمور لا يوجب الجبر في التكليف وان لم نتمكّن من اثبات ذلك بالعقل.

وقد ظهر من ذلك أنّ المناط والحجّة في استناد حركات العباد إليهم بوجه آخر هو الضرورة والنقل ، دون البرهان والعقل.

وبذلك يظهر ضعف ما قيل : انّ البرهان العقلي قائم بأنّ الجواهر والاعراض المفارقة لذات الموجد ممّا هو مختصّ بالمبدإ الأوّل ـ تعالى ـ وهذا لا ينافي كون حركات العباد صادرة عنهم ، لأنّ مراده عن البرهان العقلي هو البرهان المنقول من بهمنيار ، وهو لو تمّ كان دالاّ على أنّ ايجاد كلّ موجود افاضة ـ أي : وجود كائن جوهرا أو عرضا مفارقا أو ماديا ـ مختصّ بالواجب بالذات وليس في منّته بما هو ممكن ما من الممكنات افاضة / ٧١DA / الوجود على ممكن آخر. وقد تقدّم أيضا في ادلّة اثبات الواجب انّ ممكنا من الممكنات لا يمكن أن يكون منشئا لوجوب الممكنات.

ثمّ إنّ بعض الأعلام قد علّل تقييد الاعتراض بالمفارقة وجواز ايجاد غير الواجب للاعراض الغير المفارقة لذاته ليترتّب عليه صحّة صدور أفعال العباد عنهم ، بأنّ المطلوب استثناء الحركة وجواز كون موجدها غير الواجب ممّا له معنى بالقوّة ، لأنّ مبدأ الحركة ليس مفيدا لوجود أمر بالفعل حتّى يجب أن يكون بريئا عن معنى ما بالقوّة ، فانّ الحركة ـ بمعنى كون الشيء بين المبدأ والمنتهى ـ على ما استقرّ عليه رأي

__________________

(١) كريمة ١٨٨ ، الاعراف.

٣٣١

المحصلين : كمال أوّل لما بالقوّة من جهة ما هو بالقوة ، إذ المتحرّك ما دام في أوّل المسافة ساكن فهو متحرّك بالقوّة وواصل إلى القوّة بالغاية ، فاذا تحرّك حصل له كمال وفعل أوّل وبه يتوصّل إلى كمال وفعل ثان هو الوصول إلى الغاية ، لكن ما دام له ذلك الكمال فهو بعد بالقوّة. فهي حالة ما بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل. ولذلك لا يكون فاعلها القريب إلاّ شيء فيه قوّة من جهة وفعلية من جهة ، كما أنّ موضوعها أيضا يجب أن يكون كذلك. وامّا الأمر المتّصل المعقول المتحرّك بين المبدأ والمنتهى المسمّى بالحركة بمعنى القطع فذلك لا وجود له البتة بالفعل إلاّ في الذهن. هذا محصّل ما قال بهمنيار في التحصيل في فصل تحديد الحركة (١).

وبه يظهر معنى ما قيل : انّ البرهان الدالّ على أن لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله لا ينافي كون حركات العباد صادرة عنهم ، ويندفع ما قيل : انّه لو تمّ لدلّ على أنّ فاعل حركات العباد أيضا هو الله. لأنّه قد ثبت انّ مبدأ الحركة لا يلزم أن يكون بريئا من معنى ما بالقوة ، لأنّ اللازم أن لا يكون ما فيه معنى ما بالقوّة علة لوجود أمر له فعلية الوجود ، والحركة ليست ما له فعلية الوجود لكونها حالة بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل فعليّتها لا يلزم أن يكون بريئة من معنى ما بالقوّة من جميع الجهات ـ كما هو معلوم من حال المتحرّك من ثبوت قوّة له ما لم يبلغ إلى المنتهى ـ. وكلّ فعل يصدر عن العباد نوع حركة ، فيجوز أن تكون أفعال العباد صادرة عنهم ، فما دلّ عليه البرهان من أنّه لا يجوز أن يكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوة مخصوص بعلّة وجودها ، وما سوى الحركة من الجواهر والاعراض المفارقة الّتي لها فعلية الوجود ؛ انتهى.

وهذا القائل ادّعى انّ ما ذكره مستفاد من كلام الشيخ الرئيس في أوّل سادسة إلهيات الشفاء حيث قال : انّا نعني بالفاعل العلّة الّتي تفيد وجودا مباينا لذاتها ، أي : لا تكون ذاتها بالقصد الأوّل محلاّ لمّا يستفيد منها وجود شيء يتصوّر حتّى يكون في ذاته قوّة وجوده. وذلك لأنّ الإلهيين ليسوا يعنون بالفاعل مبدأ التحريك فقط ـ كما

__________________

(١) راجع : التحصيل ، الفصل الثاني عشر من المقالة الثانية من الكتاب الثاني ، ص ٤١٨.

٣٣٢

يعنيه الطبيعيون ـ ، بل مبدأ الوجود ومفيده مثل الباري للعالم. وأمّا العلّة الفاعلية الطبيعية فلا تفيد وجودا غير التحريك بأحد انحاء التحريكات ، فيكون مفيد الوجود / ٧٤MB / في الطبيعيات مبدأ حركة (١) ؛ انتهى.

ووجه استفادة ما ذكر من الكلام المنقول من الشيخ انّه قال : انّا نريد من الفاعل العلّة الّتي تفيد وجودا مباينا لذاتها ، فلا يجوز أن تكون العلّة محلاّ لشيء يستفيد ذلك الشيء من تلك العلّة وجوده ويتصوّر تلك العلّة بذلك الشيء ـ أي : يكون ذلك الشيء صورة لها ـ. فيكون لفظ « شيء » بدلا عن الضمير الراجع إلى كلمة « ما ».

وقوله : « يتصوّر به » صفة لقوله : « محلاّ » وزيادة توضيح له. ويكون الحاصل : انّ العلّة لا يجوز أن تكون محلاّ لفعلها ومعلولها إذا كان هذا المعلول مستفيدا وجوده منها ، والمحلّ يتصوّر بهذا المعلول. وعلّل عدم الجواز بأنّ كون العلّة محلاّ لفعلها الّذي يصير صورة لها يوجب أن يكون في ذات العلّة والمعلول قوّة وجود نفسه ، لأنّ هذا المعلول من حيث هو صورة للعلّة يكون جزء لها ، فيكون للعلّة قوّة وجود جزئها وللمعلول الّذي هو هذا الجزء قوّة وجود نفسه من حيث انّه جزء العلّة. وعلى هذا يكون غرض الشيخ أنّ الفاعل لا يجوز أن يكون محلاّ لفعله بشرط أن يكون هذا الفعل صورة له لا عرضا ، فلا مانع من كون الفاعل محلاّ لما هو عرض له. ويمكن ان يكون يتصوّر به ويتحقّق به ويكون الفاعل هو الشيء الّذي هو عبارة عن الفعل ؛ والضمير المجرور راجعا إلى العلّة.

وفي بعض النسخ : « يتصور / ٧١DB / بها » ـ بتأنيث الضمير ـ ، فيكون هذا التوجيه أظهر.

وعلى هذا يكون مراد الشيخ : انّ الفاعل لا يجوز أن يكون محلاّ لفعله مطلقا سواء كان هذا الفعل صورة له أو عرضا يتحقّق هذا الفعل به ، فلو كان محلاّ له يلزم أن يكون في ذاته قوّة وجوده ، فيجب أن يكون الفاعل مفيدا لوجود مباين عن ذاته. ثمّ صرّح بأنّ الفاعل في عرف الإلهيين كذلك ـ أي : مبدأ للوجود المباين ومفيده ـ. وأمّا الطبيعيون فالفاعل عندهم هو مبدأ الحركة والحركة ـ لكونها قائمة بمبدئها ـ ليست أمرا مبائنا عنه ، ففي عرف الطبيعيين تكون الحركة معلولة للمتحرّك ؛ فيظهر منه جواز استناد الحركات

__________________

(١) راجع : الشفاء / الالهيات ، ج ٢ ، ص ٢٥٧.

٣٣٣

بانحائها إلى غير الواجب من المتحرّكات. وعلى التوجيه الأوّل يظهر من عبارته الأولى أيضا جواز كون المحلّ فاعلا لما هو عرض له ، لا صورة له. وعلى أيّ حال يثبت من كلام الشيخ استناد الحركات والأعراض ممّا يثبت من البرهان من أنّه لا يجوز أن تكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوّة.

هذا هو توضيح كلام الشيخ ووجه استفادة ما ذكره القائل من كلامه.

وقد أورد على ما ذكره هذا القائل أبحاث :

الأوّل : انّ الاستشهاد بكلام الشيخ هنا ممّا لا وجه له ، لأنّ مراده ليس استثناء الحركة ؛ بل غرضه : انّ المراد بالفاعل ليس مبدأ التحريك فقط ـ كما هو اصطلاح الطبيعيين ـ ، بل مبدأ الوجود مطلقا. وتقييد « الشيء » في تعريف الفاعل بكونه مبائنا لذاتها بالمعنى الّذي ذكره انّما هو لاخراج الموضوع عن تعريف الفاعل من حيث هو موضوع ، وإلاّ فالفاعل للحركة من حيث هو فاعل لها داخل في الفاعل عنده. كلّ ذلك يظهر بالتأمّل في كلامه ممّا نقل وممّا لم ينقل.

والحاصل انّ مراد الشيخ : انّ الفاعل عند الإلهيين اعمّ من الفاعل عند الطبيعيين ، لأنّ الإلهيين يعنون بالفاعل مفيد الوجود سواء كان وجود الحركة أو وجود غيرها ، وتقييد الوجود المفاد بالمبائن ليخرج الهيولى والموضوع من حيث أنّهما هيولى وموضوع. وأمّا عند الطبيعيين مخصوص بمبدإ التحريك. ولا يدلّ كلامه على أنّ مبدأ الحركة يجوز أن يكون فيه معنى ما بالقوّة ، بل هو مثل سائر الفاعلين من عدم جواز كونه ممّا له معنى ما بالقوّة ، فهو إمّا الواجب ـ تعالى ـ أو الجهة المستندة إليه ، الّتي ليس فيها شائبة العدم والقوّة.

والثانى : انّ ما ذكره من أنّ الحركة ليست أمرا بالفعل الوجود (١) حتّى يجب أن يكون فاعلها بريئا من معنى ما بالقوّة غير صحيح ، بل الحركة التوسطية أمر يتحقّق في كلّ آن فرض في اثناء الحركة بالفعل. نعم! يتوصّل به إلى كمال آخر هو الوصول إلى الغاية ، وهو بالقوّة. وإذا كان امرا بالفعل فلا يجوز أن يكون فاعله أمرا بالقوّة.

__________________

(١) كذا في النسختين.

٣٣٤

والثالث : انّه إذا جاز أن يكون فاعل ما فيه جهة فعلية وجهة قوّة أمرا مثله ، فيجوز أن يكون الممكن أيضا فاعلا لممكن آخر من الجواهر والأعراض / ٧٥MA / المفارقة أيضا ، إذ في كلّ منها جهة قوّة وجهة فعلية.

والرابع : انّ ما ذكره من أنّ الحركة القطعية لا وجود لها إلاّ في الذهن ممّا لا دليل عليه ، بل الحقّ جواز كونها موجودة في الخارج ، لكنّها على سبيل التدريج ، ولا وجه لانكار وجودها في الخارج ، والقول بوجودها في الذهن ؛ إذ في شيء من الذهن والخارج لا يمكن أن يوجد دفعة ، فلو جاز الوجود على سبيل التدريج لجاز في الخارج أيضا ، وإلاّ فلا يعقل في الذهن أيضا. نعم! ما ذكره في الحركة التوسطية من كونه أمرا بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل لو قيل في الحركة القطعية لكان له وجه.

والحقّ إنّ هذا الايراد خلاف التحقيق ، لأنّ وجود الحركة القطعية غير محقّق ؛ والحقّ عدم وجودها ـ كما ذهب إليه اساطين الحكمة ـ. وتحقيق ذلك موكول إلى موضع آخر.

والخامس : انّه إذا جاز أن يكون موجد الحركة هو الممكن فلا يندفع حديث الواسطة ، إذ يجوز حينئذ أن يوجد الواجب على سبيل الايجاب مجرّدا قديما اختار هذا المجرّد بقدرته وارادته وعلمه الحركة في وقت معيّن واختار هذا الوقت وقتا للحركة لتكون تلك الحركة شرطا لايجاد الواجب العالم على سبيل الايجاب ، فلا يثبت اختيار الواجب.

وأنت تعلم إنّ هذا الاحتمال ضعيف ، لأنّ الحركة لا يمكن وجودها بنفسها ، بل لا بدّ لها من محلّ جوهريّ يقوم به ، فاختيار مجرّد تلك الحركة في وقت خاصّ إن كان لمجرد تعلّق علمه وارادته بأن يوجدها الواجب في ذلك الوقت بمحلّها فيكون مجرّد علم / ٧٢DA / الغير شرطا لتأثير الواجب ، وقد تقدّم هذا الاحتمال مع ما فيه. مع أنّه لا يتوقّف على جواز صدور الحركة من الممكن وقد علّق عليه هنا.

وإن كان المراد باختياره الحركة هو ايجادها بمحلّها ، ففيه : انّ الفرض عدم جواز صدور غير الحركة من الممكن. وإن كان الواجب يوجد المحلّ وهذا المجرّد يوجد فيه

٣٣٥

الحركة ، ففيه : انّ الفرض كون تلك الحركة شرطا لايجاد الواجب ؛ وعلى هذا التقدير يكون المحلّ متقوّما. وبذلك يظهر انّ تسليم جواز استناد الحركات والأفعال إلى الممكن لا يصير منشئا لثبوت الواسطة المذكورة ، إذ من يدّعي ثبوتها يدّعي استناد العالم الجسمانى إليها وهو مركّب من الجواهر والأعراض المادية المباينة بالنسبة إلى تلك الواسطة المجرّدة. فاذا كان مجرّد عدم جواز صدور الجواهر والاعراض المباينة عن الممكن مسلّما بطل حديث الواسطة وإن جاز صدور الاعراض الغير المباينة عنه. وبالجملة بطلان الواسطة المفروضة ممّا لا ريب فيه ؛

ولو سلّم عدم تمامية الوجه الأخير الّذي عوّل عليه الأكثر لما أورد عليه من جواز استناد المعلول إلى الجهة المستندة إليه ـ تعالى ـ ، لتمامية باقي وجوه السابقة. وبه يظهر صحّة الاستدلال بحدوث العالم الجسماني على قدرة الواجب ـ تعالى ـ بأيّ معنى كان من المعانى الثلاثة.

تتميم

قول الحكيم الطوسي في التجريد : والواسطة غير معقولة (١) ، اشارة إلى نفي تلك الواسطة كما صرّح به في نقد المحصّل ، فانه قال فيه بعد نقل الاعتراض الّذي ذكرناه على الاستدلال بالحدوث على القدرة من امكان الواسطة المعروضة : والمعتمد في ابطالها أنّ الواسطة يمتنع أن يكون واجبة الوجود لامتناع أن يكون الواجب أكثر من واجب ، فاذن هي ممكن وهي من جملة العالم ـ لأنّ المراد من العالم ما سوى المبدأ الأوّل ـ ، فاذن وقوع الواسطة بين الواجب الوجود لذاته وبين العالم محال (٢) ؛ انتهى.

وتوجيه الشارح الجديد لتلك العبارة (٣) موافق لمّا في نقد المحصّل. وقد ذكروا لها توجيهات أخر مذكورة في بعض الحواشي بعيدة عن الحقّ غير مستحقّة للذكر. وما لا بأس منها نذكره :

__________________

(١) راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الاولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢١٧.

(٢) راجع : نقد المحصّل ص ٢٧٥.

(٣) راجع : الشرح الجديد ، ص ٣١٠.

٣٣٦

ما ذكره بعض المتأخّرين من أنّ المراد بالواسطة هي الحركة السرمدية الّتي جعلها الفلاسفة واسطة في صدور الحوادث. فالمحقّق لمّا استدل بحدوث العالم على نفي الايجاب أشار إلى ابطال ما استند به الخصم في تصحيح الايجاب والقدم ـ أعني : الحركة القديمة وكونها واسطة بين الواجب والحوادث ـ.

وإذ ظهر ثبوت القدرة بالمعانى الثلاثة للواجب ـ تعالى شأنه ـ فاعلم! : انّ للمنكرين لها شبها على نفيها ، فلنذكرها ولنشير إلى كلّ شبهة تنفي القدرة بأيّ معنى ، ثمّ تأتي بالجواب على وجه لا تبقى شبهة ولا ارتياب!.

الشبهة الاولى : انّ القدرة على الشيء بمعنى صحّة الفعل والترك محال ، لأنّها يقتضي امكان صدور الأثر عن المؤثّر ، لكن صدور الأثر عن المؤثّر إمّا واجب أو ممتنع لا يخلوا عن أحدهما قطّ ، لأنّ المؤثّر إن استجمع جميع شرائط التأثير وجب صدور الأثر ـ لامتناع تخلّف / ٧٥MB / الأثر عن المؤثر التامّ ـ ، وإن لم يستجمع جميع شرائط التأثير امتنع وجود الأثر. وأنت تعلم انّ هذه الشبهة انّما تناسب نفى الاختيار بالمعني الثاني ـ أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات ـ ، ونفي الاختيار بالمعنى الرابع الّذي تفرّد باثباته الأشعري ـ أعني : امكان الفعل والترك ولو في آن الحدوث وعند تحقّق الداعي ـ ، ولا يبقي الاختيار بالمعنى الأوّل ـ أي : صدور الفعل بالمشية والعلم ـ وهو ظاهر. ولا الاختيار بالمعنى الثالث ، إذ وجوب التأثير عند استجماع الشرائط وامتناعه عند عدمه لا ينافي حدوث العالم الّذي يرجع إليه معنى الاختيار بالمعنى الثالث ، إذ لعلّ وقت الحدوث استجمع الشرائط ووجب الحدوث وقبله ليس يستجمع وامتنع.

فان قيل : القدرة الملزومة للحدوث ـ أعني : القدرة بالمعنى الثالث المختصّة بالمتكلّم ـ اخصّ من القدرة بالمعنى الثاني الّذي هو متّفق عليه بين المتكلّم والحكيم ، فاثبات القدرة بالمعنى الثالث ملزوم اثبات المعنى المتّفق عليها ، ونفيها لازم نفيه. فان كانت تلك الشبهة نافية للقدرة بالمعنى المتّفق عليه ـ أي : الامكان بالنظر إلى الذات ـ كانت نافية للقدرة بالمعنى الثالث ، إذ نفى الأعمّ يستلزم نفي الأخصّ ؛

٣٣٧

قلنا : انّ القدرة بالمعنى الثالث ليس أخصّ مطلقا من المعنى الثانى ، بل من وجه ـ كما لا يخفى ـ ؛ فلا يلزم من / ٧٢DB / نفي المعنى الثاني نفي المعنى الثالث أيضا ؛ وهو ظاهر.

ثمّ هذه الشبهة غير مختصّة بنفي قدرة الباري ـ تعالى شأنه ـ ، بل هي جارية في أفعال الانسان أيضا ـ كما لا يخفى ـ ؛ وغير مختصّة بالقول بعينيّة الصفات ، بل هي ترد على القائلين بزيادة الصفات أيضا. لانّه اذا كان الواجب قديما وكانت الإرادة أيضا قديمة لزم قدم المراد ، فيلزم نفي القدرة بالمعنى الثالث. والجواب الجواب. نعم! ، على القول بزيادة الصفات لا تناسب تلك الشبهة لنفي القدرة بالمعنى الثاني ـ كما لا يخفى ـ.

والجواب عن تلك الشبهة : بأنّ الإرادة وإن كانت قديمة إلاّ أنّ التعلّق حادث ، ضعيف لأنّه مستلزم للتسلسل في التعليقات أو الترجيح بلا مرجّح. نعم! ، يمكن أن يقال في الجواب : انّه على تقدير زيادة الإرادة إن قيل بحدوثها ـ كما هو مذهب بعض المعتزلة والكرامية ـ فلا اشكال ؛ وإن قيل بقدمها ـ كما هو مذهب الأشاعرة ـ فلا يرد عليهم ايراد ، لأنّهم لا يقولون بالوجوب حتّى يرد عليهم لزوم القدم ، فالايراد مختصّ بالقائلين بالعينية.

وجوابها : انّ امكان صدور الأثر باعتبار القدرة وحدها مع قطع النظر عن اعتبار الإرادة ، ووجوبه باعتبار الإرادة ، وهذا ما يقال : انّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحقّقه ، لان الوجوب بالاختيار فرع الاختيار. ولأنّ القادر هو الّذي إذا أراد الفعل مثلا وجب صدوره عنه ، إذ لو امكن عدمه بعد ارادته لم يكن قادرا عليه ، فالوجوب بسبب الإرادة لا ينافى الاختيار ، بل لا بدّ في الاختيار منه. وبالجملة فالقادر هو الّذي يصحّ منه أن يفعل بأن يريد الفعل فيجب الفعل ، وأن يترك بأن يريد الترك أو لا يريد الفعل فيجب الترك.

فقول مورد الشبهة : « إن استجمع شرائط التأثير وجب صدور الاثر » إن اراد به وجوب صدور الاثر بالنظر إلى ذات القادر مع قطع النظر عن ارادته ، وإن أراد به وجوب صدور الأثر بالنظر إلى مجموع الشرائط ـ أعني : الذات مع كونه قادرا مريدا ـ ؛

٣٣٨

قلنا : ممنوع ، لكن لا يضرّنا فانّا ندّعي امكان صدور الأثر بالنظر إلى ذات القادر مع قطع النظر عن ارادته.

وإن أراد به وجوب صدور الأثر بالنظر إلى ما سوى الإرادة من الذات وباقي الشرائط ؛

قلنا : ممنوع ، والسند ظاهر. وإلى هذا الجواب أشار المحقّق الطوسي بقوله : ويمكن عروض الوجوب والامكان للاثر باعتبارين (١) ؛ أي : تعرض الوجوب للأثر باعتبار الإرادة وتعرض الامكان له باعتبار عدم اعتبار الإرادة. وقد اشار إلى هذا الجواب أيضا وإلى تفسير القدرة والايجاد في شرح رسالة العلم حيث قال : وفرق بين القدرة والايجاد والتأثير ، فانّ القدرة لا يقال إلاّ عند كون المؤثّر بحيث يصحّ عنه التأثير والايجاد والتأثير. نعم! ذلك يشمل كون الموجد أو المؤثّر بحيث يجب عنه الايجاد والتأثير. وإذا لوحظ الايجاد من غير اعتبار العلم والإرادة فالاولى أن يوصف بالقدرة ، فانّ الايجاد عنده يصحّ ، وعند اعتبار العلم والإرادة يجب (٢).

ويمكن أن تقرّر الشبهة المذكورة مع جوابها بتقرير أوضح ، وهو : انّ القدرة على الأثر فرع امكان ذلك الأثر ، وامكانه محال ، لأنّ ذلك / ٧٦MA / الأثر إمّا يجب وجوده أو يمتنع ، لأنّ الفاعل إن كان مستجمعا لجميع شرائط التأثير فالاثر واجب وإن لم يكن مستجمعا فالأثر ممتنع الوجود ، فلا يتحقّق امكان الأثر حتّى يصحّ القدرة عليه ؛

والجواب : انّ الأثر ممكن بالنظر إلى ذات القادر وواجب بالنظر إلى استجماع الشرائط وممتنع بالنظر إلى عدم استجماعها ، والامكان الذاتي لا ينافي الوجوب والامتناع القريبين ، والتنافي إنّما هو بين الامكان الذاتي والوجوب والامتناع الذاتيين.

فان قيل : إذا كان الأثر واجبا بالارادة والإرادة عندكم عين الداعي وعين العلم بالأصلح والذات فلا يمكن انفكاك الذات عن المراد ويكون الأثر واجبا بالنسبة إلى الذات ، فتنتفى القدرة بالمعنى الثاني والثالث ، ويتحقّق الايجاب المقابل لهما. فانّ

__________________

(١) راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الأولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢١٨.

(٢) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص ٤١.

٣٣٩

الإرادة وغيرها من الصفات الكمالية إذا كانت عين ذات الواجب عند الحكماء والمعتزلة كانت الذات والقدرة والإرادة والعلم بالأصلح ـ وبالجملة جميع ما يتوقّف عليه وجود العالم ـ قديما ، لأنّ جميع تلك الصفات عين الذات والذات موجودة في الأزل ، فيلزم منه قدم العالم ، / ٧٣DA / لأنّ الذات مع الإرادة الّتي هي عينها علّة تامّة للعالم وانفكاك العلّة عن المعلول محال ، فالحكم بانفكاك إرادة الواجب ـ تعالى ـ مع كونها أزلية غير زائدة على الذات عن وقوع متعلّقها ووجود مرادها وبعدم صدور الفعل عنه ـ تعالى ـ في الأزل ـ اللازم لمعنى القدرة المتنازع فيها ، كما هو مذهب المتكلّمين ـ باطل ، ويلزم منه ثبوت الايجاب الملزوم له ونفي القدرة بالمعني الثالث ـ أي : الملزومة للحدوث ـ.

ولمّا وجب الفعل بالإرادة والإرادة عين الذات فيجب الفعل بالنظر إلى الذات فتنتفي القدرة بالمعنى الثاني أيضا. والحاصل : انّ الوجوب بالاختيار والإرادة الّتي غير زائدة على الذات ينافي القدرة والاختيار الّذي هو مراد المتكلّمين ـ أعني : القدرة بالمعنى الثاني والثالث ـ. نعم! الوجوب والاختيار والإرادة الّتي هي غير زائدة لا ينافي القدرة والاختيار والإرادة على تفسير الحكماء ـ أعني : القدرة بالمعنى الأوّل ـ بمعنى انّه ان شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل ، لكنّه شاء في الأزل ففعل فيه بالعلم والمشية القديمة الّتي هي غير زائدة على الذات. ولا على العلم بالنظام الأعلى ، فانّ مقتضى الإرادة الموجبة ليس وجود العالم مطلقا حتّى يمتنع بها الانفكاك مطلقا ، بل هو وجوده على النحو الخاصّ ـ : وهو النحو الأصلح بحاله ـ ، فيمتنع انفكاك المراد على ذلك النحو عن الذات بان يوجد عنه على غير ذلك النحو أو لا يوجد على ذلك ، فانفكاك الذات عن المراد بان يوجد الذات في الأزل ولا يكون الوجود الأزلي للفعل هو مقتضى الإرادة والأصلح بحاله. فلا يمتنع بالذات ولا علّة لامتناعه. والغرض انّ متعلّق ارادته ـ تعالى ـ ومراده ـ سبحانه ـ هو ايجاد الحادث على النحو الّذي هو الاصلح ، لأنّ مرجّح أصل ايجاد الحادث وحدوثه في الوقت الّذي حدث إنّما هو العلم بالأصلح ، فالمعلول المراد الّذي تعلّق به العلم بالأصلح هو الحادث في وقت معيّن لا القديم الأزلي ،

٣٤٠