جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٥١٧
الجزء ١ الجزء ٢

تتميم

( في بيان مذهب محقّق الطوسي من أقسام الحدوث )

اعلم! أنّ الظاهر ـ بل الجزم! ـ انّ مختار المحقق الطوسي من أقسام الحدوث هو الحدوث الدهرى ، وهو الظاهر من قوله في التجريد : « حدوث العالم بعد عدمه ينفي الايجاب (١) » ؛ فانّ المراد بالبعدية هو البعدية الدهرية بمعنى كون وجوده بعد العدم الصريح والليس الساذج ، فيكون المعنى : انّ وجود العالم بعد العدم الصرف والليس المحض ينفي الايجاب بمعنى عدم انفكاك العالم عن ذات الواجب ، كما قال به الفلاسفة. وليس المراد بالبعدية هي البعدية الزمانية ، لأنّ مثل هذا المحقق أجلّ شأنا وجلالة من أن يقول بتحقّق الزمان الموهوم ، كيف وقد قال في مبحث / ٥١DB / حدوث الاجسام : « واختصّ الحدوث بوقته إذ لا وقت قبله » (٢) ، وهو صريح في نفي الحدوث الزماني. إذ القائل به لا يمكنه نفي الوقت والاستمرار قبله ، لأنّه عبارة عن شقّ استمرار العدم في الوقت الغير المتناهي ؛ ولا البعدية الذاتية ، لانّه أكثر ايمانا وديانة من أن يقول بالقدم وقد قال في / ٥٤MB / شرح رسالة العلم : « ازليته ـ تعالى ـ اثبات سابقية له على غيره ونفي المسبوقية عنه ، ومن يفرض الزمان أو الدهر أو السرمد فقد ساوق معه غيره في الوجود » (٣).

ولا يقال : انّ قوله هذا كما يدلّ على نفي الحدوث الزماني يدلّ على نفي الحدوث الدهري أيضا ؛

لأنّا نقول : مراده بالدهر المنفيّ هو اثبات شيء موجود خارجي يكون مسمّى بالدهر ـ كما يشير إليه قوله : فقد ساوق معه المحال ـ. ونحن أيضا لا نقول بذلك ، فانّ الدهر ـ على ما فسّرناه ـ ليس شيئا مباينا عن ذات الواجب يكون موجودا ، بل هو حدّ الشيء ومرتبته. فالمراد بالحدوث الدهري هو وجود الواجب في حاقّ مرتبته بدون العالم وغيره من الموجودات بأيّ اسم يسمّى ؛ وهذا هو مراد المحقّق. وعلى هذا

__________________

(١) راجع : كشف المراد ، ص ٢١٧.

(٢) راجع : كشف المراد ، ص ١٢٩.

(٣) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص ٤٦.

٢٤١

يكون تقدّم عدم العالم على وجوده هو التقدّم الدهري الّذي ذكرنا انّه أيضا من أحد اقسام التقدّم ؛ وقد بينّاه وأوضحناه على ما ينبغي.

فان قيل : على ما ذكر ليس الدهر وعاء حقيقيا وموجودا خارجيا يتصوّر فيه التفاوت والتقدّم والتأخّر ، بل قلتم : انّ الدهر والواقع هو حدّ الشيء ومرتبته ؛ وعلى هذا فلا يكون لعدم وعاء حتّى يتّصف هو بالتقدّم حقيقة والعدم به مجازا فيلزم أن يكون الموصوف بالتقدّم هو نفس العدم ، وهو باطل ؛

قلت : لو سلّم عدم التفاوت في الواقع وعدم اتصافه بالتقدّم والتأخّر نقول : انّ تقدّم العدم على الوجود يكون شبيها بالتقدّم بالذات ، بمعنى انّ العدم يكون متحقّقا مع التقدّم بالذات فالعدم يكون مع المتقدّم بالذات ، وبهذا الاعتبار اطلق عليه المتقدّم.

وما أورد عليه : بأنّ كون العدم مع التقدّم بالذات ممّا لا يتصوّر إلاّ إذا كان في وعاء ؛ ممنوع ، ولعلّ السند معلوم لك بعد أن خاطبتك بما سبق.

وما قيل : انّ ذلك العدم إمّا يكون مع العالم أيضا أو قبله ، لا مجال للأوّل ، فيكون قبله ، فلا ينفع الفرار منه.

والقول بأنّ اطلاق المتقدّم عليه على سبيل المجاز ، ففيه : انّ قبلية العدم مسلّمة ونحن نثبتها له ، ولكن نقول : هذا بواسطة المتقدّم بالذات لئلاّ يرد أنّ القدم من حيث هو لا يتصف بالتقدّم والتأخّر. فلا بأس!.

وبما ذكر يظهر فساد ما ذكره بعض المحشين من أنّ المراد بالبعدية في كلام المحقّق هي البعدية الزمانية ، إذ لا شكّ انّ تقدّم العدم على الوجود ليس ذاتيا ولا طبعيا ، إذ ليس لوجود العالم توقّف على عدمه حتّى يكون للعدم تقدّما ذاتيا أو طبيعيا على الوجود ؛ وظاهر أنّه لا يتصوّر من أقسام التقدّم هاهنا سوى الزماني ، فيكون العالم حادثا زمانيا. وإذا كان كذلك لا يكون الواجب موجبا وإلاّ لزم قدم أثره ـ أي : العالم ـ لكون الموجد قديما واجبا بالذات ؛ انتهى.

ووجه الفساد : ما تقدّم من بطلان الزمان الموهوم وتصوّر تقدّم أمر سوى الذاتى والطبيعى ـ أعني : التقدّم الدهري ـ. قال بعض أهل التحقيق : انّ تقدّم عدم العالم على

٢٤٢

وجوده لو كان زمانيا لزم أن يكون قبل كلّ زمان لا إلى نهاية ويلزم القدم. والزمان الموهوم ـ الّذي اثبته الأشاعرة ـ قبل وجود العالم غير صحيح عند المحصّلين من المتكلّمين ـ ومنهم المحقّق الطوسي ـ كما يظهر من تصفّح كلامهم.

وقد أورد على ما نقلناه من بعض المحشين أيضا بأنّ ما ذكره من أنّ تقدّم العدم على الوجود ليس ذاتيا ولا طبيعيا ممنوع عند الحكماء ـ كما صرّحوا به في اثبات الحدوث الذاتي ـ ؛

وقد أجاب عنه بعض الأفاضل : بأنّ مراده ليس تقدّم عدم العالم على وجوده تقدّما ذاتيا لا انّه لا يمكن تقدّم العدم على الوجود تقدّما ذاتيا أصلا ، فاندفع المنع الّذي ذكره. على أنّ فيما ذكره الحكماء في اثبات الحدوث الذاتي من تقدّم عدم الممكن على وجوده تقدّما ذاتيا البتة تأمّل ؛ انتهى.

أقول : غرض المجيب انّ المراد انّ تقدّم عدم العالم على وجوده ليس مجرّد التقدّم الذاتي ، بل لا بدّ على طريقة الملّة من اثبات تقدّم يحصل به الانفكاك ، فمجرّد امكان كون تقدّم العدم على الوجود تقدّما ذاتيا لا ينفع في المقام. وعلى ما ذكرناه من كون العدم السابق بحيث لو فرض فيه الزمان لكان غير متناه ومن تحقّق الانفكاك الواقعي بين مرتبة الواجب ومرتبة العالم يندفع الشبهات ويحصل المراد.

وبما ذكر يظهر أيضا فساد ما ذكره بعض الأفاضل بأنّ الظاهر ـ كما يستفاد / ٥٥MA / من كلام الشيخ رحمه‌الله في بحث الأمور العامة ـ انّ مراد المحقّق الطوسي من البعدية هاهنا هو البعدية بالذات الّتي اثبتها المتكلّمون وجعلوها / ٥٢DA / قسما سادسا ، وزعموا أنّ تقدّم اجزاء الزمان بعضها على بعض من هذا القبيل. لكن التحقيق انّه لا محصّل له. إذ لا نجد له معنى معقولا سوى الخمسة. بل الظاهر انّه تقدّم بالزمان ، فانّ ذلك التقدّم إذا عرض لغير الزمان كان بواسطة زمان مغاير للسابق والمسبوق ، وإن عرض لأجزاء الزمان لم يحتج إلى زمان مغاير لها ، وان عرض للزمان وغيره لا بدّ أن يكون لذلك الغير زمان ؛ وأمّا الزمان فلا يحتاج إلى زمان آخر. وحينئذ فعدم العالم يجب أن يكون في زمان ، لكن يكفي فيه الزمان الموهوم ؛ انتهى.

٢٤٣

* * *

( عود إلى ما سبق من ابحاث القدرة )

واذ فرغنا من تحقيق القول في حدوث العالم وبيّنا حقّية الحدوث الدهري وبطلان الزماني والقدم فلنرجع إلى ما كنّا بصدده ـ أعني : اثبات القدرة بالمعنى الثالث ، أي : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي وشرائط التأثير في بعض الأوقات وإن وجب في بعض آخر منها ـ.

فنقول : لمّا ثبت أنّ العالم مسبوق بالعدم الصريح والليس الساذج وبه حصل الانفكاك الواقعي بين الواجب والعالم ـ كما بينّاه ـ ، يترتب عليه الامكان المذكور في وقت ما. لا الوقت بمعنى الزمان ، بل بمعنى الواقع ونفس الأمر ـ فانّ الوقت هنا أعم من ذلك ـ لأنّ حقيقة القدرة بهذا المعنى هو جواز الترك بالنظر إلى الإرادة والمصلحة أو عدم القبول للوجود ولو في الوقت الموهوم أو التقديري ـ أعني : الليس الصرف والعدم البحث ـ ، والحدوث الدهري ـ على ما فسّر ـ ملزوم له أو احد أفراده. والقول بأنّ الترك حينئذ واجب بالنظر إلى الداعي فلا تثبت منه القدرة المفسّرة بالامكان ، قد تقدّم القول فيه.

واذ ثبتت القدرة بهذا المعنى يبطل الايجاب المقابل لها ـ أعني : وجوب الفعل في جميع الاوقات بالنظر إلى الداعي ـ ، كما ذهب إليه الفلاسفة ، وعلى القول بالحدوث الزماني يكون ثبوت القدرة بهذا المعنى وبطلان الايجاب المقابل لها أظهر ؛ كما لا يخفى.

وأمّا القدرة بالمعنى الرابع ـ أعني : امكان الفعل والترك في جميع الاوقات ولو في آن الحدوث بالنظر إلى الداعي ـ ، فالقول بثبوته للواجب ـ تعالى ـ ونفى الايجاب المقابل لها ووجوب الفعل في وقت خاصّ مختص بالاشاعرة نظرا إلى انّهم نفوا الايجاب مطلقا وجوّزوا الترجيح بلا مرجّح ، فقالوا : أوجد الله ـ تعالى ـ العالم في الوقت الّذي اراد في الأزل أن يوجده بدون مرجّح غير تعلّق الإرادة ، وبالإرادة لا يجب الفعل ،

٢٤٤

بل كان له أن لا يفعل ما فعل لانّه ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) (١).

ولا ريب في بطلان ما ذهبوا إليه ، لأنّ الفعل ما لم يجب لم يوجد ـ كما مرّ ـ ، واختيار احد الطرفين بمجرّد الإرادة من دون مرجّح له ظاهر البطلان ـ كما تقدّم ـ. فالحقّ نفي القدرة بهذا المعنى عنه ـ تعالى ـ وثبوت الايجاب المقابل لها له ـ جلّ شأنه ـ ، فإيجاد العالم في الوقت الّذي أوجده انّما كان على سبيل الوجوب لتعلّق الإرادة بايجاده ، لمرجّح كونه ـ تعالى ـ علّة مستقلّة لايجاده وعدم وقت قبله ـ كما اخترناه ـ ، أو لمرجّح المصلحة أو العلم بالأصلح ـ كما اختاره الآخرون ـ. وقد ظهر انّ القدرة بالمعاني الثلاثة الأول أعني : صدور الفعل بالمشية والإرادة والعلم وامكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات وامكانهما بالنظر الداعي في بعض الاوقات ـ ثابتة له ـ تعالى ـ ، والايجاب المقابل لها ـ أعني : الايجاب الطباعي ، أي : صدور الفعل بدون العلم والمشية ووجوب الفعل بالنظر إلى الذات ووجوبه بالنظر إلى الداعي في جميع الاوقات ـ منفىّ عنه ـ تعالى ـ ؛ وحدوث العالم ـ دهريا كان أو زمانيا ـ مستلزم لثبوت القدرة بالمعاني الثلاثة له ـ تعالى ـ ونفي مقابلاتها عنه ـ تعالى ـ.

أمّا استلزامه لثبوت القدرة بالمعنى الثالث ونفى الايجاب المقابل لها فظاهر ، لأنّ معنى القدرة بهذا المعنى راجع بعينه إلى جواز الانفكاك وامتناعه ، فتأثيره ـ تعالى ـ في العالم إن كان بالايجاب بهذا المعنى لزم قدم العالم بالضرورة ولا يحتاج إلى الاستدلال عليه ، ويكفى للتنبيه أنّ الحدوث بالمعنيين يستلزم سبق العدم على الحادث فينا في الايجاب بمعنى عدم الانفكاك بديهة. ويرد التنبيه عليه على تقدير الحدوث الزمانى / ٥٥MB / بأنّ العالم إذا كان حادثا بالحدوث الزماني لكان حدوثه لا محالة في حدّ مخصوص من لا يزال ، ولا يمكن استناد ذلك التخصيص إلى الممكن ـ لاستواء نسبته إلى جميع الحدود ـ ولا إلى الفاعل ـ لاقتضائه امتناع الانفكاك ـ ، فلا يجوز بالضرورة أن تقتضى نحوا من الانفكاك ، فبقى أن يكون هذا التخصيص بلا مخصّص ، وهو محال ؛ فالحدوث الزماني لا يجتمع مع الايجاب بهذا المعنى.

__________________

(١) مقتبس من كريمة ٢٣ ، الأنبياء.

٢٤٥

وما قيل : انّ الحدوث الدهري لا ينفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ؛ كلام خال عن التحصيل! ، لأنّ الانفكاك واقع على تقدير الحدوث الدهري ، فكيف لا يدلّ على نفيه؟!

والاحتجاج عليه بأنّ معنى ذلك الايجاب امتناع الانفكاك من جهة اقتضاء الفاعل المستجمع لشرائط التأثير لا من جهة عدم امكان الأثر ـ فانّه لا يضرّ بالايجاب الّذي هو من صفات الفاعل ، ولا ريب في انّ الانفكاك الواقع بين الواجب والعالم على القول بالحدوث الدهري / ٥٢DB / انّما هو من جهة عدم جواز الأزلية للعالم وعدم قبوله للوجود الازلى لا من جهة الواجب ـ مغالطة وتدليس ، لأنّ المراد بالايجاب بهذا المعنى ليس الاّ امتناع الانفكاك سواء كان من جهة الفاعل أو من جهة المفعول. فاذا تحقّق الانفكاك بطل ذلك الايجاب من أيّ جهة كان. وهذا ظاهر لمن تدبّر في مواضع النزاع.

وأمّا استلزامه لثبوت القدرة بالمعنى الأوّل ونفي الايجاب المقابل لها ، فلأنّ تأثيره ـ تعالى ـ في وجود العالم إن كان بالايجاب الطباعى لزم قدمه ، إذ لو كان حادثا لزم إمّا تخلّف المعلول عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة مجتمعة أو متعاقبة إذ الموجب بذلك المعنى إن كان أصل ذاته منشئا للفعل من غير افتقار إلى أمر آخر لزم التخلّف على فرض الحدوث ؛ وإن توقّف فعله على بعض الشرائط لزم توقّف حدوث العالم على شرط حادث ، وذلك الشرط الحادث يتوقّف على شرط حادث آخر ... وهلمّ جرّا ، فيلزم التسلسل في الشروط المتعاقبة أو المجتمعة ، وكلاهما باطل ـ على ما مرّ ـ.

ولا خفاء في انّ الحدوث بالمعنيين يثبت المطلوب كما هو الظاهر من الدليل.

وربما قيل : انّ منافاة الحدوث الزماني للايجاب الطباعي أظهر ، امّا على جواز فرض الأزلية للعالم فلبداهة لزوم التخلف عن الموجب التامّ أو لزوم التسلسل في الشروط الحادثة ، وأمّا على تقدير عدم جواز الأزلية له فلضرورة لزوم ترجيح بعض حدود الزمان للحدوث على غيره من الموجب بالمعنى المذكور ، وهو محال ، وهذا الأخير لا يتأتّى في الحدوث الدهري. ولا ريب في أنّ اظهرية منافاة الحدوث الزمانى

٢٤٦

للايجاب المذكور لو كانت مسلّمة لا يقدح بالمطلوب بعد تسليم ثبوت منافاتهما له.

فان قيل : للقائلين بالقدم أن يتمسّكوا بمثل هذا الدليل على نفى الحدوث بأن يقولوا : العالم قديم ، إذ لو كان حادثا ـ سواء كان الموجد موجبا أو مختارا ـ لتوقّف على شرط حادث ، وإلاّ لزم ترجيح الفاعل بدون المرجّح أو التخلّف عن الموجب التامّ في صورة الايجاب ، وتخلّف العلّة التامّة عن المعلول في صورة الاختيار ، فيلزم التسلسل في الشروط ، ولا يرد عليهم النقض بالحوادث اليومية لتجويزهم التسلسل في المتعاقبات بخلاف المتكلّمين ؛

قلنا : حدوث الحادث لا يتوقّف على شرط حادث عند المتكلّمين ليلزم التسلسل في الشروط ، لأنّ علّة تخصيص الحادث بالوجود في آن الحدوث عند بعضهم عدم قبوله الوجود قبله ـ كما اخترناه ـ ، وعند آخرين المصلحة أو العلم بالأصلح ، وعند الأشاعرة الإرادة ولا يحتاج إلى مرجّح آخر ـ لتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ـ ؛ فعلى هذه المذاهب كلّها لا يتوقّف حدوث الحادث على شرط حادث.

وممن لا يعبأ به من المتكلّمين ذهب إلى انّه لا بدّ في ربط الحادث بالقديم من التزام التسلسل في الشروط المتعاقبة ، ثمّ جوّز ذلك وقال : لا منع فيه ، إذ لا يلزم منه وجود قديم بالشخص بل اللازم منه وجود نوع قديم ولا استحالة فيه ، فيجوز للقائل بالايجاب الطباعي أن يحتجّ عليه بانّك قلت : انّ التسلسل اللازم في الحوادث اليومية على سبيل التعاقب هو جائز ؛ فيمكن أن يكون / ٥٦MA / التسلسل اللازم لحدوث العالم في صورة الايجاب كذلك ، فلا استحالة فيه.

ثمّ إنّا قد بيّنا سابقا فساد ما جوّزه هذا البعض ، وذكرنا انّه يستلزم قدم فعل ما البتّة ، ومن لا يجوّز قدم العالم كيف يجوز ذلك؟!.

فان قيل : إذا كان العالم حادثا يلزم القدم أو التسلسل في الشروط المتعاقبة في صورة الاختيار أيضا ، لأنّ الذات مع الإرادة إن كانت كافية في صدور العالم لزم القدم وإلاّ توقّف الصدور على شرط حادث ويلزم التسلسل ؛

والجواب : انّه على فرض الاختيار عدم تحقّق وقت قبل آن الحدوث أو المصلحة

٢٤٧

أو العلم بالأصلح الّذي هو عين الذات أو مجرّد إرادة المختار عند الاشعري ـ لتجويزه الترجيح بلا مرجّح له ـ كاف لترجيح آن الحدوث ولا يحتاج إلى شرط آخر ، فلا يلزم التسلسل. وأمّا في صورة الايجاب بالمعنى المذكور فلمّا لم يكن علم ولا اختيار فلا يتصوّر فيه ملاحظة المصلحة والأصلح ، فامّا أن يكون الذات كافية فيلزم العدم أو يتوقّف على شرط ، فيلزم التسلسل.

فان قيل : إذا كان المرجّح ذات الوقت وعدم وقت قبله ـ كما اخترتم ـ ، لم يكن فرق بين صورة الاختيار وصورة الايجاب ، لانّه إذا كان ذات الوقت مرجّحا لايجاده فيه ولم يكن الايجاد قبله ولم يقبل العالم الوجود قبله لم يتوقّف وجوده فيه على شرط حادث ـ سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ـ ، فكما انّه لم يمكن صدوره من المختار حينئذ قبل ذلك لم يمكن صدوره من الموجب قبله.

وتوضيح هذا الايراد : انّه على القول بالحدوث الدهري وتأخّر العالم عن العدم الصريح وعدم امكان وجوده قبل ذلك تكون ازلية العالم / ٥٣DA / ممتنعة ولا تكون ذاته من حيث هي قابلة لها ، فحينئذ يكون القدم الدهري ممتنعا على العالم من حيث هو ، كما انّ العدم الدهري يكون واجبا له بالنظر إلى ذاته ، فيكون طريق تأثيره ـ تعالى ـ فيه منحصرا في ايجاده بعد العدم الصريح. ولو كان موجبا ـ بأيّ معنى كان ـ ، فالحدوث الدهري لا يدلّ على نفي الايجاب اصلا ، وانّما كان يدلّ على نفي شيء منه لو أمكن التأثير على خلاف ذلك ، فيعلم منه اختيار ما لاستحالة الترجيح من الموجب المطلق. فللحكيم أن يقول : انّ العالم إذا لم يكن وجوده في الازل ممكنا فإيجاده منحصر في آن يكون فيما لا يزال ، فيجتمع مع كلّ ايجاب حتّى الايجاب الطباعي لاشتراط القابلية في معلول الموجب بهذا المعنى أيضا. فكما انّ في عدم احراق النار الحجر لعدم القابلية لا يكون النار موجبا في الاحراق فالتخلّف هاهنا أيضا لعدم القابلية في المعلول لا ينافي الايجاب في العلّة. قال الفخر الرازي في الأربعين من جانب الفلاسفة : وامّا إن كان قدم العالم محالا فنقول : انّ العلّة الموجبة قد يتخلّف عنها اثرها عند تخلّف الشرائط أو حضور الموانع ، ومن أقوى الشرائط كون المعلول في نفسه ممكن الوقوع ، ومن أقوى

٢٤٨

الموانع كونه ممتنع الوقوع ، فلم لا يجوز أن يقال : انّه ـ تعالى ـ موجب بالذات لوجود العالم إلاّ انّه لم يوجد العالم لانّ تحقّق الأزل كالمانع من وجود العالم ، فلمّا زال المانع حصل المعلول (١)؟!.

قلت : المرجّح عندنا ليس مجرّد ذات الوقت وعدم وقت قبله وامتناع ازلية العالم ، بل المرجّح عندنا ذلك مع العلم بالأصلح ، كيف وثبوت القدرة بالمعنى الثاني ـ أعني : امكان الفعل والترك بالنظر إلى ذات الفاعل مع ترجيح أحد الطرفين ـ لا يتصوّر بدون مرجّح من الفاعل؟!. ولا يعقل مرجّح ناش منه إلاّ علمه بالأصلح ؛ وثبوت علمه ـ تعالى ـ لا يتوقّف على مجرّد الحدوث بل هو ثابت بأدلّة اخر ـ كما تقدّم بعضها ويأتي بعض أخر أيضا ـ. وبالجملة ثبوت القدرة بمعنى الايجاد بالعلم والإرادة لا يتوقّف على حدوث العالم ، ولذا استدلّ بعضهم على الحدوث بالقدرة من حيث احالتهم كون أثر الفاعل المختار قديما. قال بعض المشاهير : احتجّ المليون على حدوث الزمان بأنّ الزمان ممكن ـ لتركيبه من الحوادث ـ فيكون مستندا إلى الله ـ تعالى ـ والله ـ تعالى ـ فاعل بالاختيار ـ كما تبيّن ـ ، وفعل الفاعل المختار حادث ، فيكون الزمان حادثا.

فان قلت : ما الباعث لك لجعل ذات الوقت وعدم وقت قبله جزء المرجّح وعدم الاكتفاء بالعلم / ٥٦MB / بالاصلح فقط؟! ؛

قلت : الباعث عدم صحّة جعل المرجّح هو العلم بالأصلح فقط لأنّ الذات مع العلم والإرادة إمّا أن تكون كافية في صدور الفعل فيلزم القدم البتّة ، أو لا ، فيتوقّف على شرط. والقول بأنّه باعتبار العلم بالأصلح يترجّح وقتا خاصا ، ممّا لا يعقل إذا كان لذلك الوقت مدخلية باعتبار كونه أصلح مثلا أو غير ذلك ، فيتوقّف حينئذ على حضور ذلك الوقت. وحضوره يتوقّف على وقت قبله ، وهكذا ، فيلزم التسلسل ، فلا بدّ من القول بعدم وقت قبل وقت الحدوث وعدم قبول العالم للوجود قبل ذلك لئلاّ يلزم التسلسل في المتعاقبات ، وبدونه لا مدفع من لزوم التسلسل ، ومجرّد العلم بالأصلح غير واقع له على أنّ بعد حقّية الحدوث الدهري وبطلان الزمان الموهوم ـ كما

__________________

(١) راجع : الأربعين ، ج ١ ، ص ١٨٣.

٢٤٩

اخترناه ـ لا معنى لوجود وقت قبل آن الحدوث وامكان وجود العالم قبل ذلك ، بل ذلك انّما هو ممكن على القول بالحدوث الزماني.

ثمّ الحقّ انّ مختار المحقّق الطوسي في مرجّح آن الحدوث هو ما اخترناه ، وليس المرجّح عنده مجرّد العلم بالأصلح ـ على ما نسب إليه في المشهور ـ. كيف وهو لم يتعرّض في التجريد للعلم بالاصلح مطلقا؟! ، وقال في مبحث الجواهر منه : واختصّ الحدوث بوقته إذ لا وقت قبله (١) ؛ هذا.

وأمّا استلزام الحدوث ـ دهريا كان أو زمانيا ـ لثبوت القدرة بالمعنى الثاني ـ أعني : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته تعالى مع وجوب احد الطرفين باعتبار المرجّح من الإرادة القديمة أو ذات الوقت أو العلم بالأصلح أو ما اخترناه ـ ونفي الايجاب المقابل لها ـ أعني : وجوب أحد الطرفين بالنظر إلى الذات ـ ، فلأنّه لو كان أحد الطرفين واجبا مع قطع النظر عن المرجّح فلا يخلوا إمّا أن يكون ذاته ـ تعالى ـ من حيث هو علّة مستقلّة وكافيا لحصول الفعل فيلزم قدم العالم ، أو لا بدّ من شيء آخر لوجوبه وحصوله ؛ فان كان هذا الشيء قديما لزم القدم أيضا ، وان كان حادثا لزم التسلسل والتخلّف ، مع انّ توقّف الوجوب على شيء آخر يستلزم الامكان ونفي الوجوب بالنظر إلى الذات ، فالحدوث لا يجتمع مع الايجاب بهذا المعنى.

فان قيل : اثبات القدرة بهذا المعنى بالحدوث دوري! ، لأنّ ثبوت النبوّة يتوقّف على اثبات القدرة بهذا المعنى ، فاثبات تلك القدرة بالحدوث الثابت بالاجماع المتوقّف حجّيته على ثبوت النبوّة دور ؛

قلنا : لا نسلّم توقّف ثبوت النبوّة / ٥٣DB / على القدرة بهذا المعنى ، ولو سلّم فلا نسلّم انحصار دليل الحدوث بالاجماع ـ كما مرّ ـ.

ثمّ لا يخفى عليك إنّا قد أشرنا إلى انّ حدوث العالم دهريا كان أو زمانيا يستلزم ثبوت القدرة بالمعنى الثالث ونفي الايجاب المقابل لها ـ أعني : جواز الانفكاك وامتناعه ـ ضرورة ، ولا نحتاج إلى الاستدلال عليه.

__________________

(١) راجع : كشف المراد ، ص ١٢٩ ؛ الشرح الجديد ، ص ١٨٦.

٢٥٠

والاستدلال عليه بما تقدّم لا يخلوا من الاختلال بوجوه :

منها : انّه يلزم النقض بصورة الاختيار ، فلقائل أن يقول : تأثيره ـ تعالى ـ ان لم يكن بالايجاب بالمعنى المذكور بل بالاختيار المقابل له ـ أعني : جواز الانفكاك ـ لزم ترجيح الفاعل بدون المرجّح أو احتياج التأثير إلى شرط حادث بناء على ما ذكر من انّه لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ويلزم التسلسل في الشروط الحادثة متعاقبة أو مجتمعة ، بل له أن يقول : انّ العالم قديم ، إذ لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التامّ ـ كما ذكر في الاستدلال ـ أو تخلّف العلّة التامّة عن المعلول ، وذلك الشرط الحادث يتوقّف أيضا على شرط حادث آخر ويلزم التسلسل ، وهو باطل.

ولو أجيب بأنّ في صورة الاختيار يكفي أحد المرجّحات المذكورة من ذات الوقت أو المصلحة أو العلم بالأصلح لترجيح وقت خاصّ ، يرد عليه : انّ في صورة الايجاب بهذا المعنى أيضا يكفي ذلك ، إذ الموجب بهذا المعنى يجوز أن يكون عالما بالاصلح ويكون علمه منشئا لفعله ، ولا ينافي ذلك الايجاب بهذا المعنى ـ أي : امتناع الانفكاك ـ. والحاصل : انّ القول بأنّ الشيء لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث باطل عند المعتزلة القائلين بالداعي ـ سواء كان الفاعل / ٥٧MA / موجبا بهذا المعنى أو مختارا كذلك ـ ، فانّهم قالوا : انّ الداعي بأيّ معنى أخذ كاف في تخصيص ايجاد الحدوث بذلك الوقت ولا حاجة إلى شرط حادث.

وتفصيل مذاهب المعتزلة في الداعي وكيفية الحدوث : انّ المحقّق الطوسي قائل بأنّ العالم حادث ولا يتوقّف إلاّ على ذاته ـ تعالى ـ وعلمه بالأصلح وارادته اللذين هما عين ذاته ـ تعالى ، كما نسب إليه في المشهور وأشرنا إلى ما فيه ـ ، والعلم بالأصلح كاف في ترجيح آن الحدوث. وليس توقّف الحادث على شرط حادث مسلّما عنده ولا لازما ، لفرض الايجاب المتنازع فيه بينه وبين الحكماء الّذي هو في قوّة فرض القدم. وكيف يجوز استعمال مقدّمة في الاستدلال غير مسلّمة عند المستدلّ ولا لازمة لفرض نقيض مدّعاه؟!.

٢٥١

وامّا الكعبي واتباعه فحكمهم في ذلك الاستدلال حكم المحقّق ، إذ مذهبهم انّ التناهي والحدوث من لوازم ماهية الزمان والوقت والعالم بجميع اجزائه زماني ، فوجوده في الأزل ممتنع وصدوره في وقت عن الله ـ تعالى ـ واجب وغير موقوف على شروط ؛

وأمّا قدماء المعتزلة فذهبوا إلى أنّ تخصيص آن أوّل الايجاد بحدوث العالم على سبيل الاولوية بسبب مصلحة تعود إلى العالم. وبملاحظة تلك المصلحة تصير إرادة الايجاد أولى من عدمها ، وبالإرادة يصير الايجاد واجبا وعدمه ممتنعا ، فلا يحتاج إلى شرط حادث.

نعم! ذهب بعض المعتزلة إلى القول بتسلسل الارادات ووجوب حدوث الفعل عند الإرادة المتعلّقة به ، فتوقّف الحادث على الشرط الحادث عندهم ممنوع ، إلاّ أنّهم لتجويزهم مثل هذا التسلسل لا يصحّ جريان هذا الاستدلال من قبلهم. وعلى أيّ حال قد ظهر أنّ المعتزلة بأجمعهم لا يمكنهم الاستدلال بانّه على تقدير الايجاب لو كان العالم حادثا لتوقّف على شرط حادث ، لكفاية الداعي في تخصيص الايجاد على ما ذهبوا إليه ، فلا يتوقّف على شرط حادث. ولو احتجّوا بهذا الاستدلال لأمكن المعارضة بانّه لو لم يكن الفاعل موجبا أيضا وكان العالم حادثا لتوقّف. ولا يمكنهم الفرق بين الايجاب والاختيار في ذلك ، لأنّ الداعي إن كان كافيا في تخصيص ايجاد الحادث أمكن منع توقّف الحادث على شرط حادث حتّى لا يمكن الاستدلال ولا يجوز المعارضة. والظاهر انّه لمّا كان ذلك الايجاب وحدوث الأثر متنافيين لا يمكن تعقّل اجتماعهما ، فتوهّم عدم جريان القول بالداعي في صورة الايجاب مع الحدوث.

وفيه : انّ بناء المستدلّ على أنّ لزوم التوقّف على شرط انّما هو على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور مع قطع النظر عن استحالة ذلك ، بل فرض وقوعها وقال : انّه يتوقّف حينئذ على شرط حادث. ولا شكّ انّه على فرض تحقّق الحدوث يمكن منع هذه المقدمة مستندا بالداعي ، ولا ارتباط لهذه المقدّمة حينئذ بالايجاب والاختيار ، فعدم الاحتياج في صورتي الايجاب والاختيار كليهما إلى شرط

٢٥٢

حادث لازم ، فالاستدلال باطل. وإن لم يكن الداعي كافيا في تخصيص ايجاد الحادث فيحتاج في الصورتين إلى شرط حادث لبطلان الترجيح بلا مرجّح بزعم المعتزلة مطلقا ـ أي : في المختار والموجب ـ ، لأنّه يوجب عدم الايجاب مطلقا وهم قائلون بالايجاب الخاصّ ، فيلزم التسلسل. فأحد المحذورين من لزوم التسلسل أو الترجيح بلا مرجّح لازم ، فتكون المعارضة واردة.

وأنت تعلم انّ الداعي بمعنى علمه ـ تعالى ـ بوجود الخير وعدم قبول العالم للوجود قبل آن الحدوث يكفي للتخصيص ، فالترديد للاستظهار.

ويؤيّد ما ذكرناه ما قال بعض الاعاظم : لزوم التخلّف أو التوقّف على شرط حادث على تقدير حدوث العالم ممنوع ، سواء / ٥٤DA / كان ذلك التقدير مع تقدير الايجاب بالمعنى المذكور أو بدونه ، إذ يصحّ أن يكون الموجب بسبب علمه بوجود الخير مقتضيا لوجود العالم في الوقت الّذي وجد فيه ، فاذا حصل وجوده في ذلك الوقت لا يكون متخلّفا عن اقتضاء الموجب.

لا يقال : وجوده في ذلك الوقت وإن لم يتخلّف عن اقتضاء الموجب لكنّه تخلّف عن الموجب المقتضي وانّما الكلام فيه لا غير ، كيف ولو لم يكن متخلّفا لزم أن يكون وجوده مع كونه في ذلك الوقت ازليا ، فيلزم قدمه مع محذور آخر هو التناهي ، لأنّ الفرض حدوثه ؛ لأنّا نقول : الحدوث من لوازم ماهية ذلك الوقت ، فلو كان في الأزل يلزم الانقلاب في الماهية. وأيضا ما ذكرتم انّما يلزم على من أثبت قبل وجود العالم زمانا أزليا ووقتا غير متناه حتّى نتصوّر خلق العالم قبل الوقت الّذي خلق فيه بمقدار سنة أو سنتين أو غير ذلك ، فاذا كان / ٥٧MB / موجودا في وقت الحدوث ولم يكن موجودا في شيء من ذلك الاوقات يلزم التخلّف أو الترجيح بلا مرجّح أو عجز الفاعل ـ كما الزمهم الشيخ الرئيس بذلك في الشفاء والنجاة والتعليقات ـ. وأمّا من نفى ذلك وحكم بأنّ حصول الامتداد انّما هو بمجرّد فرض أو وهم وتقدير ـ كفرض حصول الامتداد المكاني فوق الفلك المحدّد ـ فلا يلزم عليه شيء من تلك المفاسد.

فان قلت : لا ريب في معية الواجب ـ تعالى شأنه ـ لوجود العالم ، وهو يوجب إمّا

٢٥٣

قدم العالم أو حدوث الباري ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! ـ ؛

قلنا : لا يلزم شيء منهما ، وانّما يلزم لو كانت هذه المعية زمانية وليس كذلك. وليس من شرط كلّ معية أن تكون زمانية إلاّ إذا كان المعان كلاهما زمانيين ، والواجب ـ تعالى ـ غير زماني ، لأنّه موجد الزمان وما فيه.

فان قلت : إذا لم تكن معيته لشيء زمانية فعلى أي : نحو تكون معيته للعالم؟ ؛

قلنا : نحن نجزم بتحقّق معيّة غير زمانية للواجب ـ تعالى ـ بالنسبة إلى العالم بالبرهان الدالّ عليه ، وإن اشكل علينا تصوّر كنه تلك المعية وملاحظة أحوال المكان ، يعنى على تصوّر ما ذكرناه من أحكام الزمان ؛ انتهى. هذا ؛ واعترض بعض الفضلاء على ما ذكرناه من عدم الفرق بين صورة الاكتساب والاختيار في ورود المقدّمة المذكورة بأنّ قول المعتزلة بكفاية الداعي في تخصيص ايجاد الحادث بوقته انّما هو على تقدير الاختيار لا مطلقا ، إذ لو قالوا بالايجاب المذكور واقتضاء الداعي القديم امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم لكان فرض حدوثه حينئذ محالا ومخالفا لما هو مقتضى الداعي المذكور ، فلا يمكنهم أن يسندوا التخصيص بوقت حدوثه إلى مثل ذلك الداعي البتة ، واسنادهم التخصيص إلى الداعي في صورة الاختيار انّما هو لاعتقادهم انّ الداعي لا يدعوا إلاّ إلى معدوم ، فيقتضى نحوا من الانفكاك. والحاصل انّ الداعي المعتبر في الموجب مباين للداعي المعتبر في المختار في الاقتضاء ، فلا يمكن أن يسند إلى أحدهما اقتضاء الآخر ، فعدم جريان القول بمقتضى الداعي المعتبر في المختار في صورة فرض الايجاب مع الحدوث ليس توهّما ، انّما التوهّم عدم الفرق بين مقتضى الداعيين وتسوية صورة الايجاب والاختيار في جواز استناد التخصيص المذكور إلى الداعي ، فلا يتيسّر للقائل بالايجاب المذكور منع المقدمة المذكورة مستندا إلى الداعي لعدم كفايته للتخصيص المذكور إلاّ على تقدير الاختيار. ولذلك ترى القائلين بهذا الايجاب من الفلاسفة لم يسندوا إلى الداعي الّذي اعتبروا في الموجب بهذا الايجاب تخصيصا هربا عن لزوم الاختيار ، حتّى أنّهم في تصحيح الحوادث اليومية بأوقاتها وارتباطها بفاعلها القديم اضطرّوا إلى اختيار القول بالحركة السرمدية وشغلوا ذممهم

٢٥٤

لدفع المناقشات الّتي يتوجّه على القول بها. فلو كان القول بالداعي مصحّحا للربط المذكور على تقدير الايجاب أيضا لمّا احتاجوا إلى أمثال ذلك كما لا يحتاج إليها القائل بالاختيار ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الاعتراض بطوله ساقط!. فانّ بناء الاستدلال على انّه إذا فرض اجتماع الايجاب المذكور مع الحدوث وقطع النظر عن استحالة ذلك لتوقّف الحدوث على التسلسل في الشروط ، وبناء المعارضة على انّه إذا سلّم الحدوث ـ كما هو المفروض في الاستدلال ـ لا بدّ من القول بالترجيح بلا مرجّح أو التزام التسلسل في الشروط ، سواء كان الفاعل موجبا أو مختارا.

والجواب بامكان القول بالتخصيص بالداعي للمختار مشترك. وعدم قول القائلين بالايجاب به واضطرارهم في تصحيح حدوث الحوادث في أوقاتها المعينة إلى القول بالحركة السرمدية لقولهم بالقدم ، ولو قالوا بالحدوث لم يحتاجوا إلى القول بسرمدية الحركة وكفاهم القول بالداعي من العلم بالأصلح أو غيره.

فان قيل : في صورة الايجاب لا يكفي الداعي للتخصيص ، بل لا بدّ من التزام القول بالتسلسل في الشروط لأنّه لو لم يتوقّف حينئذ على شرط حادث بل كان جميع ما يتوقّف عليه حاصلا في الأزل لكان يجب أن يكون قديما مع انه فرض حادثا ، هذا خلف! ؛

قلنا : مع القول بالداعي لا يكون جميع ما يتوقّف عليه حاصلا في الأزل ، لأنّ من جملة ما يتوقّف عليه هو الداعي وهو كان مقتضيا للحصول فيما لا يزال. فلو فرض انّ الداعي هو العلم بالأصلح فنقول : انّه تعلّق في الأزل بايجاد العالم فيما / ٥٤DB / لا يزال ، فلا يكون جميع مقتضيات حصول العالم موجودا في الأزل. على انّ ما ذكر معارض بأنّه لو توقّف على شرط حادث لوجب أن لا يكون قديما ، وهو ينافي فرض الايجاب المذكور.

فان اجيب : بانّ هذه المعارضة غير قادحة ، لأنّ الحدوث على فرض الايجاب المذكور محال ، فيجوز أن يستلزم النقيضين فلا يضرّ / ٥٨MA / ما تقدّم من استلزامه

٢٥٥

التوقّف على شرط حادث ؛ قلنا : قد مرّ مرارا أنّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع المتنافيين والتكلّم على تقديره ، وحينئذ فلزوم محال من فرض محال آخر مسلّم ، إلاّ أنّه لا يضرّنا أيضا ـ كما لا يخفى ـ.

وقد وضح وضوحا تامّا بما ذكر أنّ الاستدلال المذكور على نفي الايجاب بالمعنى الّذي نحن بصدده لا يتمّ ولا يصحّ على قاعدة الاعتزال ، وعلى ما صحّ وتحقّق عندنا.

نعم! انّه يصحّ عند تابعي الاشعري ويتمشّى اجرائه على مذهبهم. ولا يرد عليهم النقض بصورة الاختيار ، لأنّهم جوّزوا تأثير الفاعل المختار بدون مرجّح ، فقالوا : إن كان تأثيره ـ تعالى في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محالان. وحاصل كلامهم : انّ تأثيره ـ تعالى ـ ليس بالايجاب بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم ، بأن يكون المرجّح نفس إرادة الفاعل المختار وإلاّ لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محالان. فاعتقاد الاشعري انّ العلّة إن كانت موجبة ـ أي : علة على سبيل الوجوب واللزوم ـ نمنع تخلّف المعلول عنها ، فيتم الدليل من قبله ، لأنّه إن كانت العلّة الموجبة بجميع شرائطها حاصلة في الأزل فيلزم القدم البتة ، وإلاّ فيتوقّف على شرط ويلزم التسلسل. وأمّا إذا لم يكن ايجاب اصلا فلا يلزم من قدم العلّة قدم المعلول ، لأنّه يترجّح أحد مقدوريه على الأخر في أيّ وقت شاء بلا مرجّح.

وتوضيح ذلك : انّ الأشعرية لمّا قالوا انّ الفاعل المختار بإرادته يرجّح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجّح حادث في أيّ وقت شاء ـ بخلاف الموجب ، فانّه لو كان أثره حادثا لتوقّف على شرط حادث على مذهبهم لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التّام ـ فلم يجوّزوا في الفاعل الموجب الترجيح بلا مرجّح حتّى لا يتوقّف على شرط حادث على مذهبهم ، فأمكن الاستدلال من قبلهم على فرض الايجاب بانّه لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ويلزم التسلسل. ولا يعقل المعارضة معهم بانّه على تقدير عدم الايجاب أيضا لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، لأنّهم في صورة الاختيار جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ، فهم يمنعون هذه المقدّمة على هذا التقدير.

٢٥٦

ثم اعلم! أنّ النافين للايجاب مطلقا ـ أي : الّذين لا يشترطون في صدور الفعل عن الفاعل الوجوب واللزوم ـ فرقتان : فرقة قالوا انّ صدور الفعل عن القادر لا يتوقّف على انضمام الداعي والمرجّح إليه اصلا ، بل القادر هو الّذي يرجّح أحد مقدوريه على الآخر بدون مرجّح ؛ فهم لا يشترطون في الصدور الأولوية أيضا. وهؤلاء هم الاشاعرة المجوّزون للترجيح بلا مرجّح اصلا ـ أي : بلا مرجّح يصير به الفعل واجبا ولا مرجّح يصير به أولى ـ ؛

وفرقة أخرى اشترطوا في الصدور الأولوية وقالوا : انّ صدور الفعل عن القادر موقوف على داع يصير الفعل بسببه أولى بالوقوع ، إلاّ إنّه لا ينتهي إلى حدّ الوجوب ، حتّى يبقى الفرق بين الموجب والقادر.

وإذ علمت ذلك فنقول : الحقّ انّ الاستدلال المذكور يتمشّى من جانب الفريقين ؛ والمناط في تماميته انّما هو القول بنفي الوجوب واللزوم. ولا يشترط فيه نفي الاولوية أيضا والقول بصحّة الترجيح بلا مرجّح اصلا ، لأنّ للفرقة الثانية أيضا أن يقولوا : لو كان صدور الفعل عن القادر يحتاج إلى داع يوجبه لزم قدم العالم أو التسلسل. وأمّا إذا لم يكن الداعي موجبا بل منشئا لمجرّد الأولوية فلا يلزم شيء من ذلك ، إذ يمكن أن يكون ذلك الداعي في الأزل ولم يوجد الفعل فيه بل يوجد فيما لا يزال ، لأنّه لا يمتنع تخلّف الفعل عن السبب الغير الموجب.

فما قيل : انّ مجرّد القول بنفي الايجاب مطلقا ـ أي : من دون القول بصحّة الترجيح بلا مرجّح مطلقا ، كما ذهب إليه الفرقة الثانية القائلون بالاولوية ـ لا يكفى في صحّة الاستدلال المذكور ؛ ضعيف. وما ذكر الامام في الأربعين في الزام تلك الفرقة بأنّه على تقدير تلك الأولوية ان أمكن الفعل والترك معا فلا يكفي في صدور الفعل بل لا بدّ من سبب آخر ، وإن لم يمكن طرف الترك يكون طرف الأولى واجب (١) ؛ لا دخل له فيما نحن فيه! ، لأنّ الفرض تمامية الاستدلال على فرض تسليم مذهبهم ، وما ذكره الامام انّما هو لابطال أصل مذهبهم ؛ وهو كلام آخر. كما انّ بطلان أصل مذهب الفرقة الأولى أيضا ـ

__________________

(١) راجع : الأربعين ، ج ١ ، ص ١٧٤.

٢٥٧

أعني : الترجيح بلا مرجّح ـ لا دخل له بما نحن فيه.

وبما ذكر يندفع ما ذكره بعض الأعلام : انّ دليل الأشعري على عدم احتياج الحادث إلى غير الإرادة ـ أعني : قوله : إن كان تاثيره تعالى في العالم محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محال ـ لا ينفي الايجاب اصلا لا برهانيا ولا الزاميا ؛ أمّا الأوّل : فلأنّ الترجيح بلا مرجّح لمّا كان جائزا عند الأشعري ، فلو كان الفاعل موجبا والفعل حادثا لا يلزم التوقّف على شرط حادث عنده ؛ وأمّا الثاني : فلأنّ التسلسل في الحوادث غير ممتنع عند الحكيم ؛ انتهى.

ووجه / ٥٨MB / الاندفاع : انّ جواز الترجيح بلا مرجّح عند الأشعري انّما هو للفاعل المختار دون الموجب ، ففي صورة الايجاب إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل / ٥٥DA / في الحوادث البتة ، والحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشروط المتسلسلة ؛ فتكون هذه المقدمة ـ أعني : لزوم التسلسل ـ الزامية ، لأنّ الأشعري ليس قائلا به ، لأنّ الحكيم قائل بجواز التسلسل في الحوادث أيضا والاشعري قائل ببطلانه ، فتكون إحدى مقدمتى هذا الدليل (١) جدلية وأخراهما برهانية ، وسيأتي انّ الدليل إذا كان بعض مقدّماته جدليا وبعضها برهانيا يمكن أن يكون جدليا وبرهانيا ؛ هذا.

وأورد على هذا التفصيل الّذي ذكرناه ـ أعني : ورود المعارضة على المعتزلة وعدم ورودها على الاشاعرة ـ ايرادان :

الأوّل : انّ المعارضة لا ترد على المعتزلة ، إذ لهم أن يقولوا على تقدير عدم كون تأثيره ـ تعالى ـ في العالم بالايجاب بل بالاختيار : لزوم الترجيح بلا مرجّح ممنوع ، لجواز وجود المرجّح وهو علم الفاعل بالمصلحة في ترجيح ايجاد العالم في وقت حدوثه ، فتوقّف الايجاد على هذا التقدير على شرط ممنوع. ومثل هذا المنع لا يتوجّه على أصل الدليل ، إذ محصّله انّ تأثير الواجب ـ تعالى ـ في ايجاد العالم إن كان بالايجاب الّذي زعمه الحكماء وكان العالم حادثا لتوقّف التأثير على شرط بلا شبهة. والحاصل انّ منع التوقّف على الشرط على تقدير كون الفاعل مختارا له وجه صحيح ، وأمّا على تقدير

__________________

(١) الاصل : ـ هذا الدليل.

٢٥٨

كون الفاعل موجبا والأثر حادثا فلا وجه له عند المعتزلة والحكماء. وفساده ظاهر ، لما مرّ من أنّ كون الحادث متوقّفا على شرط ليس لازما لفرض الايجاب المذكور ، بل هو لازم لكون الشيء حادثا سواء كان فاعله موجبا أو مختارا لو لم يوجد مخصّص الداعي.

فان أجيب في صورة الاختيار بوجود المخصّص ـ وهو علم الفاعل المختار بالمصلحة ـ فلا يجري هذا في الصورة الايجاب بالمعنى المذكور أيضا ، لأنّ الموجب بمعنى الفاعل الغير المنفكّ عن الايجاد يجوز أن يكون عالما بالأصلح ـ كما تقدّم مفصّلا ـ.

فان قيل : القائلون بالايجاب بهذا المعنى ـ أعني : الفلاسفة القائلين بالقدم ـ لا بدّ لهم من التزام التسلسل في الشروط ، لأنّ تخصيص كلّ حادث من الحوادث اليومية بوقت دون آخر لا يتصحّح عندهم إلاّ بذلك واثباتهم للحركة السرمدية مستلزم لذلك ، لأنّ كلّ جزء منها يتوقّف على الجزء السابق عليه والتصفّح يعطي اتفاقهم على الاذعان بتحقّق النسبة في المتعاقبات ، فهم لمّا جعلوا المرجّح لوجود كلّ حادث من الحوادث اليومية في وقته الخاصّ هو توقّفه على شرط متحقّق قبله دون العلم بالأصلح فلو كان أصول العالم من الافلاك وغيرها حادثة لزمهم أيضا جعل المخصّص توقّفه على حدوث شرط سابق عليه وهو على آخر ... وهكذا إلى غير النهاية. وأمّا المعتزلة فهم ليسوا قائلين بتوقّف الحوادث على الشروط الغير المتناهية ، بل يجعلون المخصّص في الكلّ هو العلم بالأصلح ، فلا يرد عليهم المعارضة بوجه لا برهانيا ولا الزاميا ؛

قلنا : الفلاسفة لمّا قالوا بالقدم اضطرّوا إلى القول بوجود التسلسل في الشروط المتعاقبة ، لأنّ القول بوجود الحركة السرمدية لا ينفكّ عنه والتزام وجود الحوادث والأشخاص الغير المتناهية مستلزم لذلك لزوما بيّنا ، فالتسلسل في الشروط الحادثة من لوازم القول بقدم أصول العالم لا من لوازم مجرّد حدوث الحوادث ، فلو فرض قولهم بحدوث أصول العالم يلزم عليهم جعل المخصّص لوقت الحدوث هو التوقّف على شرط سابق عليه والاذعان بتحقّق الشروط الغير المتناهية ، بل لهم أن يجعلوا المرجّح هو العلم بالأصلح أو عدم وقت قبل وقت الحدوث. ويؤيّد ذلك انّ العالم عندهم حادث بالذات والمرجّح لايجاده كذلك عندهم انّما هو ذات العلّة التامّة من دون توقّف على شيء

٢٥٩

آخر.

فان قيل : الفلاسفة لمّا قالوا بالقدم ولم يكن العالم حادثا عندهم فالتسلسل في المتعاقبات لازم عليهم البتة ، فجواز جعلهم المخصّص ذات الوقت أو العلم بالأصلح لا معنى له! ؛

قلنا : قد تقدّم انّ حدوث العالم مع الايجاب بالمعنى المذكور أمر لا يعقل إلاّ أنّ التوقّف على شرط حادث انّما أخذه المستدلّ على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن امتناع ذلك ، بل فرض الوقوع وتكلّم بانّه حينئذ يلزم التوقّف على شرط حادث ، فالمطلوب انّه إذا امكن على سبيل الفرض والتقدير اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور ـ أي : ما هو ملزوم القدم لزوما بينا كما أخذه المستدلّ ـ فللحكيم أن يجعل المرجّح لآن الحدوث هو العلم بالأصلح ، كما انّ للمستدلّ أن يجعله ذلك بعد المعارضة. وبالجملة انّ الحكيم لمّا لم يقل بالحدوث لم يكن يجعل المخصّص العلم بالأصلح مذهبا له ، إلاّ أنّ سند المنع لا يلزم أن يكون مذهبا للمانع.

وأيضا لو وجب الزام الحكيم بما هو مذهبه ولا يجوز له التعدّي إلى ما لا يقول به لكان اجراء هذا الدليل من قبل المعتزلة الزاميّا على الحكماء ، وهو ليس بصحيح ، لابتنائه على امتناع التسلسل التعاقبي ، وهو ليس بمسلّم عندهم.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ المعارضة واردة على المعتزلة ، فالاستدلال المذكور من قبلهم لا يكون برهانيا ـ لعدم تسليمهم المقدّمة المذكورة ، أعني : توقّف الحادث على الشروط الحادثة ـ ولا الزاما على الحكماء لما ذكر ، لا لأنّ تلك المقدمة ليست مسلّمة عند الحكماء ـ كما قال بعض الأفاضل : الظاهر انّ تلك المقدّمة غير مسلّمة عند الحكماء أيضا ، لأنّهم يتشبّثون في استناد الحادث بالقديم بموجود قديم مستمرّ متجدّد متّصل واحد ذي اعتبارين كالحركة يكون باحدهما شرطا لحدوث الحادث وبالآخر مستندا بالقديم السرمدي ، كما ينوّه في محله ؛ ـ انتهى.

وقال بعض آخر : انّ التوقّف على الشرط الحادث والتزام التسلسل في الشروط

٢٦٠