جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٥١٧
الجزء ١ الجزء ٢

الدهر فاصلا بين الواجب والعالم لزم كون الواجب ذا وضع.

ووجه الاندفاع ـ كما مرّ ـ أنّه لا نريد من كون الدهر فصلا الاّ / ٤٩MB / تحقّق الواجب بدون العالم في حاقّ الواقع ، ولو كان للواقع امتداد لم يرد تلك الشبهة فضلا عن عدم ثبوت امتداد في الواقع ، وعدم كونه ممتدّا متجزّيا لانّه ليس المراد أنّه فاصل يقع في أحد طرفيه الواجب وفي الآخر العالم ، بل هذه الشبهة عند التحقيق ـ كما مرّ ـ لا يرد على القائلين بالزمان الموهوم أيضا ، لأنّهم لا يقولون : انّه يجب أن يكون زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم ، بل يقولون : انّه يجب أن يتحقّق انفصال بين الواجب والعالم ويصحّ فيه قولنا : كان الواجب ولم يكن العالم فيه. نعم! هذه الشبهة ترد على من قال منهم : انّه كما يقال في الجسم انّه زماني بمعنى انّ وجوده مقارن لوجود الزمان ، فصحّ ذلك في شأن الواجب أيضا ، إذ يصدق انّ وجوده مقارن لوجود الزمان.

نعم! لا يصحّ أن يقال : انّه زماني بمعنى انّ وجوده منطبق على الزمان مثل الحركة ولا يصحّ ذلك في الجسم أيضا ، لأنّ مقارنة الزمان لوجوده ـ تعالى ـ يجعله ذا وضع وإن انطبق وجوده على الزمان ، وهو بديهي البطلان ـ كما مرّ ـ. وأيّ مناسبة للمجرّد الصرف المتعالي عن الزمان مع المقارنة للزمان ووقوعه في طرفه!؟.

فان قلت : حاصل ما ذكرت في الدهر ـ الّذي هو وعاء عدم العالم ـ انّه مع عدم وقوع الامتداد والتكمّم فيه يحصل به الانفكاك الواقعي ، وما طريق تعقّل ذلك وبأيّ حيلة نهتدي إلى ادراكه!؟. مع أنّ المعقول عندنا انّ هذا الشيء المسمّى بالدهر عندكم إن حصل به الفصل والانفكاك في الواقع لم يكن إلاّ شيئا ممتدّا هو الزمان ، وإن لم يحصل به الامتداد لزم قدم العالم وكونه

موجودا مع الواجب في الواقع والخارج ؛

قلت : طريق ادراك ذلك بعد التذكّر بأنّه لو لم يوجد انفكاك واقعي بين العالم والواجب بحيث لو فرض تحقّق الزمان. فيه لكان غير متناه لزم إمّا كون الواجب محلاّ للزمان الواقعي النفس الأمري أو عدم تناهي الزمان والحركة من جانب البداية أو كون بقاء الواجب بقدر زمان متناه ، والكلّ قطعي البطلان ـ كما مرّ ـ انّ وعاء الواقع اعمّ الأوعية واشملها ، لأنّه عبارة عن الخارج والخارج من حيث هو خارج ليس

٢٢١

شيئا موجودا على حدة مغايرا للموجودات الخارجية ، بل هو عبارة عن حدّ ذات الشيء ومرتبته في الوجود ، فالخارج للواجب كونه ثابتا موجودا بذاته قائما بنفسه لا في زمان ولا في مكان ولامع شيء آخر من الموجودات ـ ويعبّر عنه بالسرمد ـ ، وللعقول والنفوس ونفس / ٤٧DB / الزمان كونها موجودة بغيرها لا في زمان ولا في مكان ولأعدامها كونها متحقّقا لا في زمان ـ ويعبّر عنه بالدهر ـ ، وللحوادث اليومية كونها موجودة في الزمان والمكان. فنحن إذا أردنا أن نعبّر عن كون الواجب موجودا بذاته بدون شيء من الأشياء نقول : موجود في السرمد تجوّزا ، وإذا أردنا أن نعبّر عن تحقّق عدم العالم قبل وجوده لا في زمان نقول : انّه متحقّق في الدهر على سبيل التوسّع مع أنّ الدهر والسرمد ليسا شيئين. موجودين منفردين ، فالسابق على وجود العالم ليس إلاّ عدمه الخالص الصرف ووجود الواجب الحقّ ـ تعالى شأنه ـ. ولا يلزم مع ذلك معية الواجب للعالم في الخارج ، لأنّه لا نسبة بين الواجب وبين غيره من الموجودات بوجه من الوجوه ليتصوّر بينهما المعية في الوجود الخارجي ، فانّ المجرّد الصرف القائم بذاته البريّ عن شوائب المادّية والمتعالي عن الانتساب إلى الزمان ايّ معية ومقارنة يتصوّر أن يكون له بالنسبة إلى الزمان وغيره ممّا ينتسب إليه؟ ، فانّ المعية والمقارنة بين الشيئين في الزمان فرع كونهما زمانيين. وإذا انتفت المعية عنه ـ تعالى ـ يتحقّق انفكاكه عن العالم وان لم يكن انفكاكا زمانيا ، فانّه لو فرض قدم الزمان لكان منفكّا عنه بهذا المعنى أيضا. إلاّ أنّ الفرق انّه في صورة تناهية وحدوثه انّه يتحقّق حينئذ قبل العالم والزمان عدم الخالص المحض ويكون الواجب فيه موجودا ، فيصدق انّه كان الواجب في الخارج ولم يكن فيه زمان ، ويصدق انّه لو وجد فيه زمان لكان غير متناه. وللعقل أن يفرض فيه زمانا تقديريا ، فانّ جميع الأزمنة بآزالها وآبادها ، بل أضعافها بألف ألف مرّة لو القيت في هذا العدم أوسعها ، بل كانت بالنسبة إليه واحد بالنسبة إلى الزمان الغير المتناهي ، والأمكنة بعلوها وسفلها بل أضعاف أضعافها لو القيت فيه لوسعها ، بل كانت بالنسبة إليه كحلقة في فلاة وقطرة في بحر زخّار ، بل كنقطة بالنسبة إلى الكرات الغير المتناهية. وممّا يوضح ذلك انّ الواجب ـ تعالى شأنه ـ مع عدم

٢٢٢

/ ٥٠MA / كونه في مكان له تحقّق في الواقع ويصدق عدم المعية بين الواجب وبين غيره من الممكنات في المكان ، بل لو قيل بتحقّق الانفكاك بين كلّ مكان وبين الواقع الدهر ـ الّذي هو ظرف تمكّنه تعالى ووعاء استقراره ـ لكان صحيحا ، ومعنى استقراره وتمكّنه في وعاء الواقع والخارج هو قيامه بذاته الواجبة بنفسها. ولو ادّعى انّه لو فرض بينهما بعد لكان غير متناه لم يكن بعيدا. والسرّ عدم امكان تحقّق النسبة بينهما وعدم جواز وقوع الواقع في أحد طرفي البعد ، كما يجوز وقوع مكان ما في أحدهما ، فهو ـ تعالى شأنه ـ مع انّه أبعد الأشياء إلى كلّ مكان يتصوّر فهو أقربها إليه!.

وقس على ذلك نسبته ـ تعالى ـ مع كلّ زمان وزماني ، فانّه مع عدم كونه في زمان له تحقّق في الواقع ويصدق عدم المعية بينه وبين غيره من الزمانيات في الزمان ، ويصحّ القول بتحقّق الانفكاك بين كلّ زمان وبين الواقع الّذي هو ظرف وجوده ـ تعالى ـ.

ومعنى كون الواقع ظرف وجوده هو كونه ثابتا بنفسه مصونا عن التغيّر والتجدّد وقيامه في حدّ ذاته. ولا يبعد ادّعاء انّه لو فرض بين الواقع الّذي هو ظرف وجوده وبين كلّ زمان زمان لكان غير متناه ، والسرّ عدم امكان تحقّق النسبة بينهما وعدم تعقّل وقوعهما في طرفى الزمان ، فهو ـ تعالى ـ مع أنّه أبعد الأشياء إلى كلّ زمان فهو أقربها إليه. وكما يصدق أنّه ـ تعالى ـ مباين (١) عن كلّ مكان وكان موجودا فيما لم يوجد متمكّن فيه كذلك يصدق انّه ـ تعالى ـ مباين (٢) عن كلّ زمان ، وكان موجودا ولم يوجد العالم أصلا.

وممّا يوضح قبول العدم المذكور لوقوع الازمنة فيه واحاطته بها واتصافها بالامتداد والزيادة والنقصان بعد وقوعها فيه : انّه لا يمتنع أن يفرض الواجب ـ تعالى ـ منفردا بدون تحقّق شيء من الزمان والزمانيات والمكان والمكانيات إلى هذا الآن ، فنفرضه كذلك ونقول : على هذا الفرض يلزم أن لا يتحقّق قبل هذا الآن غير الواجب شيء لا موجود خارجي ولا واقعي نفس امري ، فلا يتحقّق امتداد أصلا ، بل المتحقّق

__________________

(١) الاصل : متباين.

(٢) كما في التعليقة السالفة.

٢٢٣

سوى الواجب هو العدم الصرف الخالص مع انّه بعد فرض وجود العالم فيه كما هو المطابق للواقع يحصل فيه الامتداد القابل للزيادة والنقصان ، فانّ الامتداد الحاصل في الزمان من وقت حدوث العالم إلى هذا الآن أكثر من الامتداد الحاصل من زمان نوح إلى هذا الآن مع انّه لم يقع إلاّ في العدم الصرف ، ولو فرض عدم وجوده لم يكن إلاّ العدم الخالص الغير القابل للامتداد والانقضاء.

ثمّ الامتداد والتفاوت وإن لم يكن معلوما لنا لو لم يوجد الزمان إلاّ أنّه بعد وجود الزمان يظهر لنا ثبوت الامتداد والتفاوت فيه ؛ فكذا الحال في العدم الخالص الّذي لم يوجد فيه الزمان ، فانّ العقل يحكم / ٤٨DA / بأنّه لو وجدت فيه الزيادة يحصل فيه الامتداد الغير المتناهي. فيظهر انّه يمكن تحقّق وعاء واقعي غير ممتدّ لو وجد فيه الزمان لكان غير متناه.

والمنازع إن قال : لا يمكن أن يفرض وجود الواجب منفكّا عن العالم بدون امتداد واقعي نفس أمري ؛ فهو مكابر ، لأنّه مع ما علمت انّ تحقّق الامتداد للواجب بديهي البطلان ؛ نقول : جواز فرض ذلك ممّا لا ينبغي الريب فيه ، فانّ ما هو محال في الواقع لا يستحيل فرضه.

وإن قال : وجود العالم والزمان لا يقع في العدم المفروض ؛ فهو اشدّ مكابرة.

وممّا يوضح قبول العدم المذكور لوقوع الأمكنة فيه واحاطته بها وقبولها للزيادة والنقصان بعد وقوعها فيه انّه لا ريب في أنّ قبل وجود العالم لم يكن البعد الّذي حصل فيه المحدّد بما فيه بعد وجوده شيئا خارجيا موجودا ، بل كان عدما لا خلأ ولا ملأ كما هو فوق المحدّد والآن ، ومع ذلك بعد وجود العالم حصل فيه الأمكنة والأبعاد القابلة للزيادة والنقصان.

ولو فرضنا وجود الابعاد والاماكن في العدم الخالص السابق على العالم لحصل فيه الامتدادات المكانية وكان قابلا لها ، بل لحصول الابعاد الغير المتناهية.

وبما ذكرناه يظهر اندفاع ما قيل : انّ العدم والوجود اللّذين في هذا الوعاء ان كانا متعاقبين ـ كما يظهر من بعض كلمات السيد الداماد قدس‌سره حيث قال فيما مضى

٢٢٤

من كلامه : « يبطل عقد السلب الدهري ويقع في حيزه عقد الايجاب الدهري » ـ كانا زمانيين ، وإن كانا مجتمعين في حالة واحدة ـ كما يظهر من بعض / ٥٠MB / اخر من كلماته المتقدّمة حيث قال : « وليس حدّ العدم السابق فيه متميزا عن حد الوجود اللاحق » ـ لزم الحدوث الذاتي ؛ انتهى.

ووجه اندفاعه : انّهما ليسا مجتمعين ، بل متعاقبين لا بالتعاقب الزماني ، بل بالتعاقب الدهري الواقعي ـ كما مرّ مفصّلا ـ. فلا يلزم كونهما زمانيين ، فانه قال قبل هذا : الواقع المسمّى بالدهر ـ الّذي هو وعاء عدم العالم ـ إن كان معدوما صرفا فكيف يتحقّق به الانفكاك الواقعي ويكون وعاء للموجود كالواجب أو غيره من المجرّدات ، وإن كان موجودا فامّا أن يكون قديما فيلزم وجود قديم سوى الله ، فمن يرضى بقدم الواقع الّذي هو غير الله ـ تعالى ـ فما باله لا يرضى بذلك لغيره من الزمان والعالم! ؛ وإن كان حادثا فامّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى القديم ؛ وكلاهما باطلان. وأيضا الدهر إمّا ثابت بنفسه من غير علّة ، فيكون واجبا لذاته ، وهو باطل ؛ أو بالواجب لذاته ومعلول له ، فان كان منتزعا منه فيلزم قيامه بذاته ـ تعالى ـ وهو محال. ولو قطع النظر عنه نقول : ما قام به ـ تعالى ـ كيف يصير ظرفا لعدم العالم ولغيره ـ تعالى ـ من المبدعات؟! وإن لم يكن منتزعا منه ـ بل كان موجودا منفصلا عنه تعالى قديما أو حادثا ـ فمع لزوم كون الواجب موجودا لا في الدهر والواقع يعود بعض الاشكالات المتقدّمة أيضا ، فمن تأمّل يظهر له انّ اكثر الاشكالات الواردة على الزمان الموهوم يرد على الدهر أيضا ، مع اختصاصه بورود اشكالات أخر.

قلنا : أوّلا انّ الواقع أو الخارج ونفس الأمر المرادف للدهر ممّا لم يختصّ باثباته القائلون بالحدوث الدهري ، بل هو ممّا قال به جميع الفلاسفة والمتكلّمين ، فالترديد فيه بانّه موجود أو معدوم ، قديم أو حادث ، ثابت بنفسه أو معلول ـ مع ما ذكر من فساد كلّ شقّ ـ يرد عليهم أيضا ؛ فما يقولون في الجواب فهو جوابنا بعينه. ولا فرق بيننا وبينهم إلاّ انّ الحكماء يقولون : انّ الواقع لا ينفكّ عن وجود العالم والمتكلّمون يقولون لا ينفكّ عن الزمان الموهوم ، ونحن نقول ينفكّ عنهما ويحصل به الانفكاك بين الواجب

٢٢٥

والزمان والعالم ، فالايراد المختصّ بنا هو انّه كيف يمكن أن يحصل به الانفكاك؟ ، وقد تقدّم جواب ذلك.

وأمّا ما أورده هنا من الترديدات فيه وايراد فساد كلّ شقّ فوروده مشترك بيننا وبين الحكماء والمتكلّمين.

وأمّا ثانيا : انّ الواقع والخارج أو نفس الأمر ـ على ما تقدّم مفصّلا ـ ليس إلاّ حدّ ذات كلّ شيء ومرتبته ، فوجود كلّ شيء في الواقع هو كونه في حدّ ذاته ومرتبته. فهو من لوازم وجود كلّ موجود ، فليس موجودا منفصلا ولا معدوما صرفا ، بل هو شيء واقعي نفس أمري له منشأ انتزاع هو موجود ما ، وهو في القديم قديم وفي الحادث حادث وفي كلّ موجود بحسبه وعلى ما يليق به ، وما يتحقّق لكلّ واحد من الموجودات غير ما يتحقّق للآخر. فالواقع الثابت للواجب ـ تعالى شأنه ـ هو ما يليق ويناسب ذاته ـ تعالى ـ ، وليس هو ثابتا لغيره ، وكذا ما يثبت للعقول غير ما يثبت للافلاك وهكذا ؛ وليس شيئا ممتدّا ـ كالزمان ـ حتّى يقال : لا يناسب أن ينتزع من ذاته ـ تعالى ـ ؛

قلنا : انّا نختار من الترديدات كونه قديما منتزعا عن ذاته ـ تعالى ـ ولا يلزم فساد ، لأنّ حدّ ذات الواجب ومرتبته ليس شيئا سوى الله حتّى يلزم وجود قديم سوى الله ، وهذه المرتبة ليست مرتبة لغيره ـ تعالى ـ حتّى يلزم أن يكون ما ينتزع من الواجب وعاء لغيره ـ تعالى ـ.

ثمّ ما ذكرنا هاهنا يؤكّد ويقوّي ما ذكرنا / ٤٨DB / قبل ذلك من أنّ الواقع صالح لأن يحصل به الانفكاك بين الواجب والعالم ، لانّ منشأ الانفكاك حقيقة بين الأشياء انّما هو حدود ذوات الاشياء ومراتبها ، فالانفكاك الواقعي بين الواجب والعالم ونفي المعية عنهما لا يتوقّف على تخلّل شيء موجود على حدة ، بل هما يحصلان بمجرّد اعتبار وجودهما في حدّ ذاتهما وتحقّقهما في مرتبة حقيقتهما مع تخلّل العدم الصرف الخالص.

فوجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته يكفي لانفكاكه عن العالم وعدم وجوده معه ، وهذا الحدّ أو المرتبة هو المعبّر عنه عندنا بالدهر أو السرمد. فالدهر

٢٢٦

أو السرمد ليس عندنا شيء على حدة أزليا كان مساوقا للواجب في الوجود ؛ ولقد أجاد فيما أفاد / ٥١MA / بارع المحقّقين حيث قال في شرح رسالة العلم : أزليته ـ تعالى ـ واثبات سابقيّته له على غيره ونفي المسبوقية عنه ، ومن تعرّض للدهر أو الزمان أو السرمد في بيان الأزلية فقد ساوق معه غيره في الوجود (١).

ثمّ انّ الحكماء الذاهبين إلى قدم العالم احتجّوا على اثبات ما ذهبوا إليه بوجوه (٢) عمدتها ثلاثة :

أحدها : انّه لو كان العالم مطلقا حادثا لزم التخلّف في الازل عن العلّة التامة ، إذ ذاته بذاته في الأزل كافية في فيضان الوجود عنه وعلّة تامّة مستقلّة لايجاد العالم ، فانّه منبع الجود وفيّاض على الاطلاق وتامّ في ذاته وصفاته الّتي هي عين ذاته ، فبم يتصحّح تخلّف العالم وانقطاع الفيض عنه مع أنّه نقص على وجوده وفيضه وفتور على احسانه وفضله؟! ، بل هو وهن على حريم سلطنته التامّة الكبرى وغير لائق بساحة جبروته القاهرة العظمى ؛

والجواب عنه : انّ التخلّف لقصور العالم وعدم قبوله الوجود الازلي ، فتخلّفه عنه من مقتضى ذاته وتلقاء نفسه لا من جهة تاخّره في الافاضة وعدم كونه علّة تامّة. وذلك كما أنّ تخلّف المعلول عن مرتبة ذات العلّة من نقصان جوهره عن قبول الوجود في تلك المرتبة ؛ وإلى ذلك يشير قولهم : انّ العالم لم يكن ممكنا قبل ذلك الوقت ثمّ صار ممكنا فيه ، والامكان شرط في التأثير والمقدورية ، والوجوب والامتناع يحيلانها. وثبوت الامكان للعالم أزلا لا ينافي ذلك ، إذ لا يلزم من امكان العالم امكان أزليته ، إذ امكان ازلية الشيء انّما يتحقّق إذا كان امكانه الوقوعي ازليا. ألا ترى انّ الحادث بشرط كونه حادثا امكانه أزلي وليس ازليته ممكنة لاستحالة ازلية الحادث من حيث انّه حادث؟! ، فالامكان الذاتي يتحقّق في الأزل ، فلا انقلاب ؛ والوقوعي غير متحقّق فيه ، فلا قدم. فلمّا زال المانع من جهته وصار ممكنا بالامكان الوقوعي وجد ، فلا تأخّر في الافاضة ولا تغيّر في الذات ولا تخلّف للمعلول عن علّته التامّة ، و

__________________

(١) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص ٤٦.

(٢) وانظر : تلخيص المحصّل ، ص ٢٠٥.

٢٢٧

لا تسلسل أيضا. وكون الشيء بالامكان الذاتي ـ أي : كونه بحيث لا يقتضي لذاته الوجود والعدم ـ لا يوجب كونه ممكنا بالامكان الوقوعي.

ثمّ هذا الجواب يتأتّى عند من جعل الداعي آن أوّل الايجاد ، فانّ المذاهب في اثبات الداعى لفعله ـ تعالى ـ خمسة :

الاوّل : مذهب الحكماء ؛ وهو : انّ الداعي نفس ذات الواجب ـ تعالى ـ ، ولذا قالوا بقدم العالم. فلا يرد عليهم لزوم تخلّف المعلول عن العلّة التامة ؛

الثانى : مذهب الاشاعرة ؛ وهو : انّ الداعى نفس الإرادة ، فانّ المرجّح عندهم هو مجرّد الإرادة بناء على ما ذهبوا إليه من جواز الترجيح بلا مرجّح ؛

والجواب عن الايراد المذكور ـ اعني : لزوم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ـ على هذا المذهب : انّ تمامية العلّة انّما هو بعد الإرادة وهي لم توجد في الأزل ، بل انّما وجدت في الوقت الّذي أوجد العالم ، فقبل ايجاد العالم لم يوجد جزء العلّة ـ اعني : الإرادة ـ ، وبعد وجود الإرادة لم يتخلّف العالم عن الواجب ، فلا تخلّف.

الثالث : مذهب أهل التحقيق من المتكلّمين ؛ وهو : انّ الداعي آن أوّل الايجاد.

بمعنى انّ العالم قبل ذلك لم يكن ليقبل الوجود ، إمّا لقصوره وعدم قبوله الوجود السابق على هذا الآن أو لعدم وجود وقت قبل ذلك الآن ـ كما يشر إليه قولهم : واختصّ الحدوث بوقت إذ لا وقت قبله (١) ـ.

والجواب عن الايراد المذكور على هذا المذهب كما ذكرناه مفصّلا.

ثمّ أهل التحقيق من هذا المذهب جعلوا الداعي هو آن الحدوث على سبيل الوجوب دون الأولوية ، وبعض من لم يثبت جعل الداعي آن الحدوث على سبيل الأولوية ، دون الوجوب ؛ وبطلانه ظاهر!.

الرابع : مذهب بعض المعتزلة ؛ وهو : انّ الداعى مصلحة تعود إلى العالم.

والجواب عن الايراد المذكور على هذا المذهب انّ تلك المصلحة من أجزاء العالم ولا تتمّ العلّة بدونها ، وتلك المصلحة انّما توجد إذا وجد العالم في الوقت الّذي أوجد

__________________

(١) راجع : كشف المراد ، ص ١٢٩.

٢٢٨

لا قبل ذلك ، لأنّ أجزاء العالم ومصلحته انّما كان بأن يوجد في هذا الوقت دون غيره ، فقبل ذلك لم توجد المصلحة وبعد وجودها لم يتخلّف العالم.

الخامس : مذهب جمع آخر من المتكلّمين ـ ومنهم المحقّق الطوسي كما نسب إليه الاكثرون ـ ؛ وهو : انّ الداعي العلم بالمصلحة (١).

والجواب عن الايراد المذكور عن هذا المذهب يظهر ممّا ذكر.

وقد ظهر انّه على المذهب الأوّل لم يتخلّف / ٤٩DA / العالم عن الواجب اصلا ؛ وعلى الثاني التخلّف / ٥١MB / لعدم الإرادة ؛ وعلى الثالث التخلّف لعدم تحقّق الوقت الّذي يمكن للعالم أن يقبل فيه الوجود ؛ وعلى الرابع التخلّف لعدم وجود المصلحة في ايجاد العالم قبل الوقت الّذي وجد فيه ؛ وعلى الخامس لعدم العلم بالمصلحة ، بل للعلم بعدمها في ايجاده قبل ذلك.

ثمّ الحق انّ القول بأنّ المرجّح هو المصلحة الراجعة إلى العالم والقول بأنّ المرجّح هو العلم بالأصلح ليسا قولين متغايرين ، بل مآلهما واحد ، فيرجعان إلى قول واحد.

فانّ من ذهب إلى انّ الداعى هو المصلحة اراد أنّ الواجب ـ سبحانه ـ لعلمه باقتضاء المصلحة اختصاص حدوث العالم بوقته المعيّن أوجده فيه بالقدرة والاختيار ، فيمكن أن يسند التخصيص إلى المصلحة وإلى العلم بها ، والمآل واحد. ولذلك تارة يقولون : المرجّح هو المصلحة ، وتارة يقولون : هو العلم بالمصلحة ، تعويلا على الظهور. فليس مذهب القائل بعلّية المصلحة غير مذهب القائل بعلّية العلم بها ـ كما نصّ عليه جماعة من الأفاضل ـ ؛ هذا.

وقد أجاب بعض الاعلام المتأخّرين عن الايراد المذكور : بأنّ التخلّف عن العلّة التامة انّما يلزم ويستحيل إذا كانت العلّة التامّة موجودة في زمان موجود أو موهوم لم يوجد المعلول فيه بعد ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يكون تلك العلّة أو بعض اجزائها وشرائطها زمانية ، والله ـ تبارك وتعالى ـ من حيث ذاته وصفاته الحقيقية منزّه عن أن

__________________

(١) راجع : الشرح الجديد ، ص ١٨٦ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ٦ ، ص ٣٢٥ ، ٣٣١ ؛ علم اليقين ، ج ١ ، ص ١٠٢ ؛ شرح المقاصد ، ج ٤ ، ص ٩٧ ؛ تلخيص المحصّل ، ص ٢٠٧ ؛ الأربعين ، ج ١ ، ص ١٧٩ ؛ المطالب العالية ، ج ٤ ، صص ٤٨ ، ٦٥.

٢٢٩

يكون زمانيا ، بل هو خارج عن سلسلة الزمان والزمانيات ، سواء كان متناهية ـ كما عليه المليون ـ أو غير متناهية ـ كما ظنّه الحكماء ـ ، ونسبته إلى جميعها نسبة واحدة.

فلا يلزم من تناهي زمان وجود الممكنات كون الواجب ـ تعالى ـ موجودا في زمان موجود أو موهوم لا يوجد فيه ممكن ، كما لا يلزم من تناهي مكان الممكنات كونه ـ تعالى ـ موجودا في مكان كذلك فكيف يتصوّر وأنّى يلزم التخلّف المستحيل؟!. نعم! عند المليين له ـ تعالى ـ قبلية على جميع الممكنات سوى القبلية بالعلّية ، لكن ليست قبلية متقدّرة متكمّمة حتّى يحتاج إلى زمان يكون ملاكا لها. بل منشأ انتزاعها هو اختصاص جميع الموجودات الممكنة بالزمان عندهم ، إمّا من حيث الذات والحقيقة وإمّا من حيث العلاقة الذاتية ، وتناهي الزمان واحاطته ـ تعالى ـ عليه وتعاليه عنه من حيث الذات والصفات الحقيقية. ولا يلزم من ذلك محال ـ كما لا يخفى على المتأمّل المنصف ـ.

وليس المراد من لفظة « كان » في الحديث المشهور (١) الزمان الماضي موجودا ـ لكونه من العالم أيضا ـ ، ولا موهوما ـ لبطلانه عند المحقّقين ، كالمحقق الطوسي وغيره ـ.

وليس المراد من توصيفه ـ تعالى ـ بالدوام والازلية والقدم واشباهها كونه موجودا في زمان غير متناه ـ تعالى عن ذلك ـ. كيف وقد ورد عن ائمّتنا المعصومين ـ عليهم‌السلام ـ أيضا : انّ متى مختصّ بالحوادث وأن ليس له ـ تعالى ـ متى ، والردّ على من سأل عن ذلك ، وانّه كان إذ لا كان ولا مكان ، فخلق الكان والمكان ، وانّه قبل القبل بلا قبل وانّه لا يوصف بزمان ولا مكان ، بل هو خالق الزمان والمكان ، وانّه لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وانّه الآن كما كان ـ على ما هو منقول بعبارات متغايرة وروايات متظافرة (٢) ـ ، انتهى.

وأنت تعلم انّ حاصل هذا الجواب انّ التخلّف انّما يتصوّر إذا وجدت العلّة في زمان ولم يوجد المعلول فيه ، ووجود العلّة لا في زمان بل في حاقّ الواقع بدون

__________________

(١) اشارة إلى ما مضى من النبوي الشريف : « كان الله ولم يكن معه شيء ». راجع : ص ١٩١.

(٢) راجع : التوحيد ، ص ١٧٣ ، باب نفي المكان والزمان ... عن الله ـ عزّ وجلّ ـ.

٢٣٠

الامتداد بدون المعلول لا يطلق عليه اسم التخلّف ، لعدم تحقّق الأوّلية والآخرية والجزئية وأمثالها بدون تحقّق الزمان وعدم تحقّق طرف يصدق تحقّق التخلّف فيه. وغير خفيّ انّ بناء هذا الجواب على عدم وقوع التفاوت والاختلاف في ظرف الواقع ونفس الأمر بدون وجود الزمان ، وقد تقدّم ذلك مفصّلا ؛ فتأمّل!.

وثانيها : انّه لو كان العالم حادثا لكان مسبوقا بمادّة ، إذ كلّ حادث مسبوق بمادّة ، إذ امكان وجوده متقدّم على وجوده. وليس ذلك الامكان قائما بذاته ـ إذ ليس جوهرا ـ ولا بالفاعل ـ إذ ليس هو قدرة الفاعل عليه ، ولا يتعقّل أن يقوم بالفاعل سوى القدرة على ايجاد الحادث ـ ولا بالماهية ـ إذ ليس هو الامكان الذاتي المجامع / ٥٢MA / مع الوجود ـ ، فيكون قائما بمادّة الحادث أو موضوعه أو متعلّقة ، فلو كان العالم حادثا لزم أن تكون له مادّة سابقة على جميع اجزائه ؛ هذا خلف!.

وجوابه : انّ الامكان السابق على وجود العالم ليس إلاّ الامكان الذاتي مع اعتبار قيد العدم معه ، وتقدّمه على الوجود وعدم اجتماعه معه انّما هو لأجل ملاحظة قيد العدم المتقدّم عليه ، وذلك أمر اعتباري لا وجود له في الخارج حتّى يحتاج إلى محلّ غير الماهية ، بل هو بعينه الامكان الذاتي ، والفرق ليس إلاّ بانضمام قيد العدم وعدمه.

نعم! لو كان العالم موصوفا بصفات الموجودات كالقرب والبعد وامثالهما / ٤٩DB / الّتي للامكان الاستعدادي المعبّر عنه بالقوّة الّتي لا بدّ من تحقّقها فى غير ما هو قوّة له ـ أعني : فيما هو مادّة بالنسبة إليه ، كالقوّة الحاصلة في النطفة للجنين وفي الغذاء للنطفة ـ لكان محتاجا إلى مادّة أو موضوع ؛ والقائل بحدوث العالم لا يسلّم ثبوت الامكان الاستعدادي له قبل وجوده. كيف وهو يدّعى كونه مبدعا لا في زمان ولا يتعقّل للمبدع أن يسبقه المادّة؟! ، فانّ سبق المادّة انّما يكون لما يتصف بالقرب والبعد وامثالهما ممّا لا يتحقّق إلاّ في الزمان ، فغير المحتاج إلى الزمان لا يحتاج إليه. ولو كان مع كونه مبدعا لا في زمان محتاجا إلى مادّة لكان لقائل أن يقول : لو كان حادثا ذاتيا لاحتاج إلى المادّة أيضا ، اذ (١) امكان وجوده متقدّم بالذات على وجوده وليس قائما بذاته ولا بالفاعل و

__________________

(١) الاصل : و.

٢٣١

لا بالماهية إلى آخر ما تقدّم.

وثالثها : إنّه لو كان العالم حادثا لكان الزمان متناهيا ، وإذا كان الزمان متناهيا كان عدمه سابقا على وجوده ـ سبقا لا يجامع السابق المسبوق ـ ، وذلك لا يكون إلاّ بزمان ، فيكون قبل الزمان زمان ، وهكذا إلى ما لا بداية له ؛

وجوابه : انّ تقدم عدم الزمان المتناهي على وجوده لا يحتاج إلى زمان آخر يكون ملاكا له ـ لأنّه ليس متقدّرا ولا متكمّما ـ ، بل ـ إذا ثبت عند العقل تناهي الزمان ينتزع منه بمعونة الوهم تقدّما لعدمه على وجوه تقدّما لا يجامع المتقدّم به المتأخّر شبيها بتقدّم اجزاء الزمان والزمانيات بعضها على بعض ؛ ولا فرق إلاّ بالتقدّر وعدمه ، كما ينتزع من تناهي المكان فوقية لعدمه عليه ـ وقد مرّ توضيح ذلك على ما ينبغى ـ.

وبما ذكرناه يظهر فساد ما توهّمه بعض المتأخّرين من قوّة أدلّة القدم ، فانّها لا تنتهض حجّة على القائلين بالحدوث الدهري مطلقا.

قال بعض الأعلام : ولعلّ مقدّم الفلاسفة ورئيسهم تفطنان بأنّ دلائل القدم كلّها مردودة حيث عدّا مسئلة أزلية العالم في طونيقا من المسائل الجدلية الطرفين الّتي لا برهان عليها ـ بل هي بعد مشكوك فيها! ـ. نعم! يمكن تتميم تلك الأدلّة على من قال بزمان موهوم مستمرّ متقدّم على وجود العالم هو ظرف عدم العالم أو مقدار بقاء الواجب ؛ فليتدبّر.

( تحقيق ) ( في كيفيّة ربط الحادث بالقديم )

ثمّ انّه يجب علينا هنا من بيان كيفية ربط الحادث بالقديم على ما اخترناه من القول بالحدوث الدهري. فقد زعم بعضهم انّه لا يمكن الربط على هذا القول بل يتوقّف على القول بزمان موجود وحركة قديمة ـ كما ذهب إليه الحكماء ـ ، أو بزمان موهوم ـ

٢٣٢

كما قال به بعض المتكلّمين ـ ليكون واسطة يحصل به الربط بينهما.

ثمّ بيان هذا الربط يتوجّه على كلّ واحد من الحكماء والمتكلّمين وغيرهم من طوائف العقلاء ، والاشكال فيه لازم على قواعد الكلّ ، لأنّ كلاّ منهم لا يخلوا من الاعتقاد بوجود حادث ، لأنّ الفلاسفة لا ينكرون الحوادث الزمانية وإن قالوا بقدم العالم ؛ والمتكلّمون قائلون بحدوث العالم ولا ينكرون وجود الحادث وإن قالوا بقدم الزمان الموهوم ؛ والقائلون بالحدوث الدهري يثبتون حدوث ما سوى الله. فكلّ من الفرق الثلاث لا يخلوا عن الاذعان بوجود الحادث ، فالاشكال الوارد في كيفية ربط الحادث بالقديم على الجميع لازم.

ووجه الاشكال فيه انّ الحادث متغيّر قد يكون وقد لا يكون ، والقديم ثابت دائما ، فلو كان علّة له لزم تخلّف المعلول عن علّته حال عدمه ، فلا بدّ من واسطة يحصل بها الربط بينهما.

ولكلّ من الحكماء والقائلين بالحدوث الزماني والمثبتين للحدوث الدهري طريق في كيفية الربط / ٥٢MB / بينهما ، ونحن نذكر الطرق الثلاث ونشير إلى ما ينبغى أن نشار إليه ليظهر جلية الحال.

أمّا طريقة الحكماء : فهي انّ الحوادث الّتي توجد في العالم لم تصدر من القديم ـ أعني : الواجب تعالى شأنه ـ بدون واسطة ليلزم التخلّف ، بل هي انّما تصدر عنه ـ تعالى ـ بتوسّط الحركة والزمان ؛ ولكونهما أزليين متغيّرين بذاتهما يحصل بهما الربط.

بيان ذلك : انّ كلاّ من الحركة والزمان إذا كانا أزليان فالربط بين الواجب وأوّل جزء منه ثابت ، لأنّه صدر حينئذ قديم عن قديم لا حادث عن قديم ، فلا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة. ثمّ انّ كلاّ منهما لكونه متغيرا بذاته لا بغيره يحصل به الربط بين الواجب وبين سائر الاجزاء والحوادث اليومية الزمانية. بيان ذلك : انّ كلّ جزء يفرض فيه أوّلا يشترط به وجود الجزء الثاني ويمتنع اجتماعه معه ، فكلّ جزء متأخّر مع ما يوجد من الحوادث مقارنا له يتوقّف وجوده على الجزء المتقدّم وغيره من الأجزاء السابقة عليه ويمتنع وجوده بدونه ، فالعلّة المستقلّة له هو الواجب ـ تعالى

٢٣٣

شأنه ـ مع تلك الاجزاء المتقدّمة عليه ، لأنّها شرائط وجوده ، فالتخلّف عن الواجب لعدم وجود الشرائط فلم يلزم التخلف عن العلّة التامّة. وأمّا الجزء الأوّل الّذي لا أوّل له فلا يشترط بشيء قبله سوى عدم ما سواه ، فلتمام علّته حينئذ يوجد أوّلا وبوجوده يتم / ٥٠DA / علّة الجزء الثاني. وما يلزم أن يوجد مقارنا له من الحوادث الزمانية فيوجد. وبوجوب الجزء الثاني ينتقض علّة الجزء الأوّل ؛ فيقدّم وهكذا إلى أن يبلغ إلى المنتهى كما هو محسوس من الحركة في الأين ، فانّ المتحرّك ما دام في المبدأ يستحيل أن يكون في الجزء الثاني من المسافة ، وهو لم يصحب جزئها الأوّل ويمتنع أن يكون فيهما معا.

وأنت خبير بانّه يلزم على هذه الطريقة أزلية الزمان والحركة وقدم الجسم المتحرّك بتلك الحركة والتسلسل في الأمور المتعاقبة ، لأنّ كلّ جزء من أجزاء الحركة والزمان يتوقّف وجوده على آن جزء آخر إلى غير النهاية ؛ مع انّه قد بيّنا انّ الاجماع منعقد على حدوث جميع ما سوى الله ، وانّ براهين ابطال (١) التسلسل ـ كالتضايف وغيره ـ يبطل التسلسل في الأمور المتعاقبة وإن لم تكن مجتمعة في الوجود ، لأنّها متعاقبة بعضها سابق وبعضها مسبوق. فالحادث الأخير في تلك السلسلة الغير المتناهية موصوف بالمسبوقية فقط ، وكلّ واحد ممّا قبله موصوف بالمسبوقية والسابقية معا ، فكلّ سابق مسبوق من غير عكس كلّي كالحادث الأخير ، فيكون عدد المسبوقية أزيد من عدد السابقية بواحد ، وهو محال.

فجعل بعض ما سوى الله قديما وواسطة لربط الحادث بالقديم باطل بالنقل ، وهو ظاهر ؛ وبالعقل أيضا ، لأنّه ثبت بالدلالة العقلية حدوث العالم الجسماني ـ كما قرّرناه ـ ، فلا يمكن أن يكون جسماني قديما حتّى يكون واسطة لربط الحادث بالقديم. وما لا يمكن اثبات حدوثه بالعقل ـ كالعقل ـ لا يصحّ أن يكون واسطة في الربط ، لأنّه ليس شيئا متغيّرا بذاته ـ كالحركة والزمان ـ حتّى يكون من الشرائط ويحصل به الربط ـ كما ذكروه ـ. فلو كان الصادر الأوّل عن الله ـ تعالى ـ موجودا مجرّدا قديما هو العقل ـ نظرا

__________________

(١) الاصل : ـ ابطال.

٢٣٤

إلى ما تقرّر عند الحكماء من أنّ الواحد لا يصدر عنه الاّ الواحد ـ لم يمكن أن يكون واسطة وشرطا في الربط والايجاد ، بل يلزم حينئذ أن يكون موجدا بالاستقلال ، وقد تقرّر عند الحكماء أنّ الممكن لا يمكن أن يوجد ممكنا مثله وإن جاز أن يكون واسطة في الايجاد ، وإلاّ لزم أن يكون ما فيه معنى ما بالقوّة مفيدا للوجود. لأنّ كلّ ممكن بما هو ممكن ومن حيث ذاته لا يكون إلاّ بالقوّة ، فيكون لما هو بالقوّة شركة في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ، وللعدم مدخل في افادة الوجود ، وبديهة العقل يمنعه!. ولذا وجب أن يكون موجد الجواهر والاعراض المفارقة لذات الموجد خارجا عنها ، فموجد الكلّ ليس إلاّ / ٥٣MA / الواجب ـ تعالى شأنه ـ.

قال بهمنيار في التحصيل : وإن سألت الحقّ فلا يصحّ أن تكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوّة. وهذا صفة الأوّل ـ تعالى شأنه ـ لا غير ، اذ لو كان مفيد الوجود ما فيه معنى ما بالقوة ـ سواء كان عقلا أو جسما ـ كان للعدم شركة في افادة الوجود وكان لما بالقوّة شركة في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ؛ (١) انتهى.

على انّ استناد وجود الحادث ـ أعني : العالم الجسماني ـ إلى المجرّد القديم مع استقلاله في العلّية يوجب تخلّف المعلول عن العلّة ، فلا بدّ من واسطة أخرى ليحصل بها الربط بينهما.

وبذلك يظهر أنّ البرهان العقلي قائم على بطلان قدم المجرّدات أيضا ، لأنّها إذا وجدت قديمة فلا يخلوا إمّا أن تكون عللا مستقلّة لايجاد العالم الجسماني أو شرائط ووسائط له أو معطّلة خالية عن المدخلية في التأثير والافاضة ، والأوّل يوجب تخلّف المعلول عن العلّة وتأثير الممكن في الممكن ، وهما باطلان. فان ادّعى حينئذ لدفع المحذور الأوّل قدم العالم الجسماني ، ففيه : انّه مدفوع بالدلالة القطعية على حدوثه ، مع انّه يبقى المحذور الثاني على حاله. وإن ادّعى عدم المصلحة أو العلم بالمصلحة في وجوده قبل وقت الحدوث أو عدم قبوله للوجود الأزلي ففيه انّ هذه الوجوه جارية بعينها إذا

__________________

(١) راجع : التحصيل ، الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من الكتاب الثاني ، ص ٥٢١.

٢٣٥

كان العالم مستندا إلى الواجب من دون واسطة ، ويمكن أن يدفع بها فساد لزوم تخلّف العالم عن الواجب. على انّ المحذور الثاني أيضا لازم. والثاني مردود بأنّ الشرطية والوساطة انّما يتأتّى إذا حصل بها الربط بين الواجب والعالم الجسماني ، وهو يتوقّف على أن تكون متغيّرة بذاتها ، والعقول ليست كذلك. والثالث يقتضي وجود ما هو معطّل بالكلّية في التأثير والمدخلية في الوجود ، مع انّهم يدّعون أن لا معطّل في وجود العالم ولا مهمل في نظام الخير.

فان قيل : دليل ثبوت العقل ليس هو الافتقار إليه لأن يكون علّة أو شرطا لوجود العالم الجسماني حتّى إذا بطل ذلك حكم بعدم وجوده ، بل الدليل عليه هو وجوب المناسبة بين العلّة والمعلول وعدم جواز صدور غير الواحد عن الواحد. ولما دلّ البرهان على وجوده (١) وكان مقتضى البرهان أن لا يكون معطّلا في الوجود ـ وإلاّ لم يتصحّح به وجوب المناسبة وصدور الواحد عن الواحد ـ حكم بكونه واسطة بين الواجب والعالم الجسماني بالعلّية والشرطية ، وصحّح ذلك بأحد الوجوه المذكورة لئلاّ يرد لزوم التخلّف ؛ / ٥٠DB /

قلت : لو سلّم تمامية الدليل المذكور على وجوب صدور الواحد البسيط منه ـ تعالى ـ وعدم امكان صدور غير الواحد عنه يجوز أن يكون ذلك الواحد هو الصورة دون العقل ، ودليلهم على امتناع كونه هو الصورة ليس بتمام ـ كما لا يخفى على من تأمّل كلام الشيخ في إلهيات الشفاء ـ. ولو سلّم امتناعه ووجوب كونه هو العقل نقول : لم لا يجوز أن يكون حادثا ويتوسّط بين الواجب والعالم الجسماني؟ ، ولا دليل تطمئنّ إليه النفس على قدمه ، بل الدليل قائم على خلافه ـ كما تقدّم ـ ؛ مع اعتضاده بكلمات اصحاب الوحى ، فلا مانع من كون العقول حادثة وكونها وسائط بين الواجب والعالم الجسماني.

قيل : ولا يبعد أن يكون مراد المحقّق الطوسيّ ـ رحمه‌الله ـ من قوله : « وأمّا العقل فلا يثبت دليل على امتناعه (٢) » ، عدم ثبوت دليل على امتناعه مطلقا ـ أى : قديما كان أم حادثا ـ لا قديما ، لأنّ اجماع الأنبياء والمليّين والأخبار المفيدة للعلم ثابتة

__________________

(١) الاصل : ـ على وجوده.

(٢) راجع : كشف المراد ، ص ١٣٠.

٢٣٦

على امتناع وجود العقل القديم ، فكيف يقول لم يثبت دليل على امتناعه؟! ، وتخصيص الدليل بالعقلي يأبى ظاهر عبارته المنقولة ، إذ النكرة في سياق النفي يفيد العموم ؛ إذ الدليل النقلي يطلق عليه الدليل في الكتب الكلاميّة ، والمحقّق كثيرا ما يتمسّك به في التجريد ؛ فالمراد بقوله : « وأدلّة وجوده مدخولة (١) » أي : ادلّة وجوده على النحو الّذي اثبته الحكماء ، يعني بوصف قدمه.

وبذلك يندفع المخالفة بين كلامه هذا وبين ما قال في الالهيات : « والواسطة غير معقولة (٢) » ؛ فانّ المراد به انّ الواسطة القديمة الّتي اثبتها الحكماء غير معقولة ، للزوم ما تقدّم من المحذورين ؛ مع مخالفتها لما ثبت / ٥٣MB / من الشريعة. فلو لم يحمل العقل في قوله : « أمّا العقل » على الأعمّ من القديم والحادث و « الواسطة » في قوله : « والواسطة غير معقولة (٣) » على القديم فقط ، بل حمل كلاهما على الأعمّ أو القديم لزم المخالفة بين كلامه ، ولا دافع لها إلاّ بان يقال : انه ـ رحمه‌الله ـ بعد ردّه في امتناع وجود العقول القديمة في مباحث الجواهر جزم بامتناعه في الإلهيات ؛ ولا يخفى ما فيه. وقد وضح وظهر على أيّ تقدير إن شيئا من المجرّدات والجسمانيات لا يمكن أن يكون واسطة لربط الحادث بالقديم.

ثمّ غير خفيّ انّ أحدا من الحكماء لم يذهب إلى أنّ الواسطة لربط الحادث بالقديم هو العقل ، بل كلّهم متّفقون على انّ الواسطة هو الجسم القديم المتحرّك بالحركة السرمدية. ولذلك جوّزوا التسلسل في الأمور المتعاقبة ، لأنّ الحركة والزمان إذا كانا أزليين يتوقّف وجود كلّ جزء منهما على الجزء السابق ، وهكذا إلى غير النهاية.

قال بعض المتاخرين لانتصار طريقة الحكماء : والحقّ انّه لا محيص في ايجاد الحادث عن القديم عن التزام التسلسل على سبيل التعاقب ، وانّ براهين ابطال التسلسل لا يبطله ـ كما ادّعاه الحكماء ـ ، وما دعا المتكلّمين إلى الحكم بامتناعه هو لزوم الحركة السرمدية المستلزمة لقدم الجسم والزمان على ما ادّعاه الفلاسفة ، ففيه :

__________________

(١) راجع : كشف المراد ، ص ١٣١.

(٢) راجع : كشف المراد ، ص ٢١٨.

(٣) راجع : كشف المراد ، ص ٢١٨.

٢٣٧

انّه ليس بلازم لجواز أن يكون هاهنا أمور متعاقبة غير متناهية. ولا يلزم حينئذ قديم غيره ـ تعالى ـ ، اذ كلّ موجود يكون حينئذ حادثا.

فان قلت : يلزم قدم النوع المحفوظ بتعاقب الاشخاص المتسلسلة ؛

قلت : لو سلّم انّ الاجماع منعقد على امتناعه أيضا لم يكن المجمع عليه مجرّد نفى شخص كان موجودا قديما غيره ـ تعالى ـ نقول : لعلّ الكلّي الطبيعي غير موجود في الخارج ـ على ما ذهب إليه صاحب المحاكمات وتبعه السيد المحقّق ـ. ولو سلّم فقيّد الشيخ وغيره من المحقّقين القائلين بوجود الطبائع في الأعيان انّ الذاتيات موجودة بوجود الاشخاص بالذات ، والعرضيات موجودة بوجودها بالعرض ـ على ما صرّح به بعض المحقّقين ـ. وحينئذ نقول : لعل تلك الحوادث المتعاقبة غير داخلة تحت ذاتي حتّى يكون الكلّى المشترك بينها ذاتيا لها ويكون موجودا بوجودها بالذات ، فلا يلزم وجود الكلّي المشترك بينها إلاّ بالعرض والوجود بالعرض مجازي. ولو سلّم فلعلّ تلك الحوادث تعلّقات الإرادة ، فلا يلزم إلاّ قدم قدر المشترك بين التعلّقات وتعلّق الإرادة راجع إلى صفته ـ تعالى ـ ، فلا يلزم ذات قديمة غيره ـ تعالى ـ. ويمكن أيضا أن يقال : اتصاف النوع بالقدم والحدوث انّما هو باعتبار الوجود ، والنوع لا يوجد في الخارج إلاّ بوجود الاشخاص ، والمفروض انّ جميع الاشخاص الموجودة حادثة ، فلا يلزم موجود قديم غيره ـ تعالى ـ. وما يقال من انّ النوع قديم فكلام مجازي معناه : انّ قبل كلّ شخص شخص لا إلى نهاية ؛ انتهى.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاختلال ، أمّا أوّلا : فلأنّ التسلسل في الأمور المتعاقبة باطل ، وادلّة ابطال التسلسل تجري فيه ـ كما مرّ مرارا ـ ، فهو باطل ، وان قطع النظر عن لزوم الحركة السرمدية المستلزمة لقدم الجسم ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ منع وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ينافي مذهب المحقّقين من المتكلّمين ـ كالمحقّق الطوسى وغيره ـ الذاهبين إلى وجوده فيه ، فتوجيه كلامهم / ٥١DA / بذلك توجيه بما لا يرضى!. على أنّ منع وجوده في الاعيان مكابرة والدلالة القطعية على تحقّقه فيه قائمة. فاذا تعاقبت أفراد الحركة إلى غير النهاية لزم منه قدم نوع الحركة

٢٣٨

ووجوده في الخارج ، والاجماع يدفعه ، لأنّه منعقد على حدوث جميع ما سوى الله ـ كما يدلّ عليه سنده المشهور ، أعني : كان الله ولم يكن معه شيء ـ ، فقدم الكلّى الطبيعي مع وجوده في الخارج ينافيه ؛

وأمّا ثالثا : فلانّ تلك الحوادث الغير المتناهية المتعاقبة لكونها داخلة تحت مقولة العرض محتاجة إلى جوهر يكون موضوعا له ، والجوهر عندهم منحصر بالخمسة المشهورة. ولكون تلك الحوادث المتعاقبة هي أفراد الحركة فيلزم أن يكون الموضوع هو الجسم الطبيعى دون الأربعة الاخر ، فيلزم وجود جسم قديم يتعاقب عليه تلك الحوادث. على أنّهم صرّحوا بأنّ هذا الجسم هو الفلك ، فيلزم قدمه.

وأمّا رابعا : فلأنّ قوله : « ولو سلّم فلعل تلك الحوادث تعلقات الإرادة ـ ... إلى آخره ـ » مع انّه لا يدفع لزوم النسبة في الحوادث الخارجية يرد عليه : انّه يستلزم الترجيح بلا مرجّح ، لأنّ تلك التعلّقات أمور ترجّحت على ما يساويها من غير مرجّح.

وأمّا خامسا : فلأنّ كون كلّ شخص من اشخاص النوع مسبوقا بآخر لا إلى نهاية له ليكون جميع الأشخاص الموجودة حادثة باطل بادلّة ابطال التسلسل ، / ٥٤MA / وان لم يلزم قدم النوع ولم يكن موجودا في الخارج.

وأمّا طريقة القائلين بالزمان الموهوم في ربط الحادث بالقديم ، فهي : انّ الواسطة في ذلك هو الزمان الموهوم ، ولكونه متغيّرا بذاته متصرّما وغير متناه يحصل به الربط بين الواجب وبين الحادث الّذي هو العالم ـ على النحو الّذي قرّره الحكماء في توسّط الحركة الغير المتناهية بين الواجب وبين غيره من الحوادث ـ.

فحدوث العالم في آن الحدوث يتوقّف على مضيّ الجزء الأخير من الزمان الموهوم وهو على الجزء السابق عليه ، وهكذا إلى غير النهاية. والظاهر انّ التمسك بالزمان الموهوم لهذا الربط انّما هو من بعضهم ، لأنّ أكثرهم لم يتعرّضوا له في مقام بيان هذا الربط ، بل بعضهم تمسّك لأجله بالإرادة وبعضهم بالمصلحة وبعضهم بالعلم بالأصلح ، وقالوا : انّ احداث الحادث وقت الحدوث وترجيح آن الحدوث بايجاد الحادث فيه انّما هو بواسطة

٢٣٩

الإرادة ـ كما هو رأي الاشاعرة ـ ، أو المصلحة ـ كما هو رأي بعض المعتزلة ـ أو العلم بالأصلح ـ كما هو رأي بعض آخر منهم ـ. فتخلّف العالم عن الواجب قبل آن الحدوث لعدم الإرادة أو المصلحة أو العلم بالاصلح ، فلا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة التامة.

فلأجل عدم الأمور المذكورة قبل آن الحدوث ووجودها حين تحقّقه يحصل الربط والتأثير والتأثر بين القديم والحادث ؛ ولما أورد على المتكلّمين بالمصلحة أو العلم بالاصلح بأنّ ترجيح وقت خاصّ باعتبار الإرادة أو المصلحة أو العلم بالأصلح ممّا لا يعقل إلاّ إذا كان لذلك الوقت مدخلية في المصلحة والأصلحية باعتبار كونه مصلحة أو أصلح فيتوقّف حدوث الحادث على حضوره ، وننقل الكلام إليه وفي توقّفه على حضور وقت سابق عليه وهكذا ، فيلزم التسلسل!.

قال بعض القائلين بالزمان الموهوم : هذا الايراد شبهة قوية لقدم العالم لا ينحلّ إلاّ بالقول بالزمان الموهوم والتزام التسلسل على التعاقب إمّا مطلقا أو فيه ، لعدم وجوده.

ولا يخفى انّ هذه الطريقة لابتنائها على ما هو باطل ـ أعني : الزمان الموهوم ـ باطلة. وقد تقدّم انّ الزمان الموهوم أمر نفس أمري وله اختلاف اجزاء متباينة متعاقبة ، فيكون التسلسل في أمور نفس أمرية لا في أمور اعتبارية ، واستحالته ـ وإن كان على التعاقب ـ امر مشهور محقّق ـ كما بيّناه ـ. فهذه الطريقة أيضا كسابقتها فاسدة.

وأمّا طريقة القائلين بالحدوث الدهري ، فهو انّ العالم لعدم قبوله الوجود الازلي لم يمكن أن يوجد قبل آن الحدوث ، بل لم يوجد وقت قبله ـ كما قال الحكيم الطوسي : « واختصّ الحدوث بوقت إذ لا وقت قبله » ـ. وحينئذ لا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة لقصور المعلول عن استفادة الوجود وعدم تحقّق وقت له قبل ذلك ، فلتعيّن وجود العالم في وقت الحدوث وعدم امكان قبوله الوجود قبله يحصل الربط بين الواجب والحادث الّذي هو العالم ، وهذه الطريقة هي الّتي اخترناها ولا يرد عليه شيء.

٢٤٠