جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٥١٧
الجزء ١ الجزء ٢

يظنّ بافلاطن وسقراط ومن في مرتبتهما من أفاخم الفلاسفة وائمّتهم انّهم يثبتون الحدوث الزماني للعالم الأكبر ويقولون : انّ نفس الزمان ومحلّه وحامل محلّه والجواهر العقلية المفارقة مسبوقة الوجود بالزمان وحاصلة الذات في الزمان؟! ، وليس يتفوّه بذلك من في دائرة العقلاء والمحصّلين (١)! ؛ انتهى.

ومراده ـ رحمه‌الله ـ انّه لا ريب في وقوع التنازع بين الحكماء في الحدوث ، ولا يجوز أن يكون تنازعهم في الحدوث الذاتي والزماني ـ لما ذكره ـ ، فيظهر منه أنّ المتنازع فيه بينهم هو الحدوث الدهري ، فيكون ممّا قال به بعضهم ونفاه الآخرون. وقد صرّح بمثل ذلك بعض المحققين حيث قال بعد نقل اقسام الحدوث وحصرها في الذاتي والدهري والزماني : وليس النزاع في هذه المسألة بين بعض الحكماء والمتكلّمين في الأوّل ، إذ الحكماء أيضا قائلون بالحدوث الذاتي ، ولا في الثالث ، لأنّ هذا النزاع انّما وقع بين العقلاء والعاقل لا يقول انّ العام بتمام اجزائه مسبوق بالعدم الزماني وزمان عدمه جزء من اجزائه ، بل انّما النزاع في الثاني. فذهب المتكلّمون والمحقّقون من الحكماء إلى أنّ وجود العالم مسبوق بعدم صريح واقعي خارجي ، والباقون من الحكماء قالوا : انّ انواع العالم لا يمكن أن تكون مسبوقة بالعدم الخارجي ، وقالوا : هذا القول لا يستلزم ازلية العالم وسرمديته وكونه قديما بالذات ، لأنّه مختصّ به ـ تعالى ـ ، اذ الازلية هو عدم المسبوقية بالعدم مطلقا والعالم وإن لم يكن مسبوقا بالعدم الصريح إلاّ أنّه مسبوق بالعدم الذاتي ؛ انتهى.

وقال بعض الأفاضل : انّا لا نسلّم انّ المتنازع فيه بين الحكماء هو الحدوث الدهري ، بل المتنازع فيه انّما هو الحدوث الذاتي ، وكونه متفقا عليه بينهم ممنوع ـ وإن كان نسبة الخلاف إلى ارسطاطاليس وامثاله من خطاء الناظرين في كلامهم وعدم فهمهم لما هو مرادهم ، على ما حقّقه الفارابي في الجمع بين الرأيين (٢) ـ ، بل الظاهر ـ كما يشهد به الفحص ـ انّه كان التكلّم في الحدوث الذاتى والمناظرة فيه شائعا بينهم ، فلعلّه

__________________

(١) راجع : القبسات ص ٢٥.

(٢) راجع : الجمع بين رأيي الحكيمين ، المسألة الحادي عشر ص ١٠٠.

١٨١

ذهب بعضهم إلى القدم بذلك المعنى أيضا وإن لم يظنّ ذلك في شأن أرسطاطاليس وأمثاله.

وأمّا المتكلّمون فلا شكّ انّ غرضهم اثبات الحدوث الزماني أيضا ولا استبعاد فيه ، إذ مرادهم بالعالم ما سوى ذلك الامتداد الموهوم ، فانّ المراد به ما سوى الواجب ـ تعالى (١) ـ من الموجودات ، والامتداد المذكور لا وجود له ، فلا اشكال من جهة الزمان.

وأمّا محلّه ـ أي الحركة ـ وحامل محلّه ـ أعني : الافلاك ـ فلا محذور في القول بحدوثها زمانا على رأيهم ، فانّهم لا يقولون بالحالية والمحلّية المذكورة ـ أي : كون الزمان حالاّ في الحركة والحركة محلاّ له ـ ، بل انّما هو رأي الحكماء. وأمّا الجواهر العقلية فالعقل لا يقول به المتكلّمون (٢) ، والنفس لمّا كان فيها جهة مادّية فيمكن أن يطلق عليها الحدوث الزماني بهذا الاعتبار ، على أنّه يمكن أن يقال : انّ كونها حادثة بمعنى انّه كان زمان لم يصحّ فيه أن يقال : أنّها موجودة على وجه يصحّ الآن / ٣٩MB / ذلك ، بل قد ظهر انّه يمكن القول بكونها زمانية ـ أي : مقارنة للزمان ـ ، وحينئذ لا اشكال أصلا ؛ وهذان الوجهان يجريان في العقل أيضا على القول بوجوده ـ كما لا يخفى ـ ؛ انتهى.

وما ذكره هذا الفاضل أخيرا من جواز مقارنة المجرّدات من النفوس والعقول للزمان ، فيأتي ما فيه.

وأمّا تحقيق انّ النزاع بين الحكماء في أيّ معنى من معاني الحدوث وأيّ معنى متفق عليه بينهم ؛ فاعلم! انّ المشهور بين القوم انّ افلاطون قائل بالحدوث الزماني للعالم بأسره ، وأرسطو قائل بالقدم الزماني لأصوله وكلّياته (٣). وتوهّم جماعة انّ مذهب ارسطاطاليس انّ العالم قديم بالذات ـ أي : غني بذاته ـ كما يقوله الملحدون.

وقد دعاهم إلى هذه النسبه كلمتان منه في اثولوجيا : إحداهما ما قال : انّ الزمان نفسه ، والهيولى والعالم الأعلى ليس لها بدء زماني ؛ والثانية ما قال في بيان المطلب الجدلي : انّه يمكن أن يكون مطلب يحتاج على كلى طرفيه بقياسات جدلية مثل العالم هل هو

__________________

(١) راجع : الاربعين ج ١ ص ١٩.

(٢) هذا قول جماعة من المتكلّمين. راجع : كشف المراد ص ١٣١.

(٣) راجع : القبسات ص ٢٤.

١٨٢

قديم أو حادث (١).

وغير خفيّ أنّه لا دلالة لهما بوجه على القدم الذاتي للعالم ، بل هما يدلاّن على خلافه! ؛ ولذا ردّ المعلم الثاني هذه النسبة في الجمع بين الرأيين (٢) وقال : لا تدلّ الكلمتان المذكورتان على ذلك ، أمّا / ٣٩DA / الأولى فلأنّ المراد بنفي البدء الزماني عنها أنّها ليست مكوّنة من مادّة وأجزاء في زمان ـ كالحوادث اليومية ـ ، بل هي مبدعة من الواجب ـ تعالى ـ لا في زمان ـ كما نصّ هو نفسه بذلك في مواضع شتّى من أثولوجيا وساير كتبه ـ ؛ وأمّا الكلمة الثانية فلأنّ التمثيل لا يدلّ على اعتقاد شيء من الطرفين ، فانّ التمثيل بالأحوال المتصوّرة للعالم لايضاح المطالب الجدلية لا يدلّ على إرادة اثبات حالة ، ولو دلّ لم لا يدلّ على الطرف الآخر؟!. فثبت ممّا ذكر انّ نسبة القول بالقدم الذاتي للعالم إلى ارسطاطاليس خطاء وأىّ خطاء!. والحدوث الزماني له لم ينسبه (٣) إليه أحد ، لأنّ اثولوجيا مشحون بانّ العالم الأعلى والأجرام العلوية ليست في الزمان ، بل هي علّته. فمذهبه انّ العالم بأسره من الأجرام العلوية والسفلية والزمان ومحلّه مبدع لا في زمان ، أي : حادث بالحدوث الذاتي أو الدهري ، لأنّ المبدع لا في زمان يشملهما بإطلاقه. ولمّا نسب إليه الأكثرون الحدوث الذاتي وكان المشهور بينهم انّ الحادث الذاتي مرادف للقديم الزماني فقد ينسبون إليه القول بالقدم الزماني.

وقال بعض أهل التحقيق : الحقّ انّ المبدع لا في زمان قسيم للقديم الزماني وليس مرادفا له ، لأنّ المبدع صادر لا في زمان ، والقديم الزماني لكونه منسوبا إلى الزمان ما كان في الزمان كلّه فمعناه ما لم يتقدّمه زمان ولكن كان في الزمان ، فالنسبة بينهما هي المخالفة دون المرادفة. ولمّا فرّق بذلك بين المبدع والقديم الزماني وصرّح أرسطاطاليس بكون العالم مبدعا فانّ نسبة القدم الزماني إليه أيضا (٤) خطاء ، بل مذهبه الابداع المرادف للحدوث الذاتي.

وأنت تعلم انّ القائل بالقدم الزماني لا يقول بأنّ العالم الأعلى والأجرام العلوية

__________________

(١) ما وجدت العبارتين في اثولوجيا. وانظر : القبسات ، ص ٢٥ / ٢٧.

(٢) راجع : الجمع بين رأيي الحكيمين ، ص ١٠٠.

(٣) الاصل : لم ينسب.

(٤) الاصل : ـ أيضا.

١٨٣

والزمان واقعة في الزمان ، فمرادهم من القدم الزماني هو الابداع المرادف للحدوث الذاتي. فبعد اصطلاحهم على ذلك لا يضرّهم دلالة لفظ القديم الزماني على لزوم كونه في الزمان ؛ مع أنّ هذه الدلالة ممنوعة.

ثمّ التحقيق انّ افلاطون كأرسطاطاليس في القول بالابداع المحتمل للحدوث الذاتي والدهري.

وإذا كان ما ذهبوا إليه من الابداع محتملا للحدوثين فيمكن أن يكون الحدوث المتنازع فيه بينهم هو الحدوث الدهري بعد اتفاقهم على الحدوث الذاتي ـ كما حقّقه السيد رحمه‌الله ـ ، بمعنى انّهم بعد اتفاقهم على افتقار العالم واحتياجه إلى الواجب يتنازعون في انّه هل تقدّم على العالم مجرّد العدم الذاتى أو ما هو فوق ذلك ـ أعني : العدم الواقعي الصريح ـ ، ويحتمل ـ كما نقلناه عن بعض الأفاضل ـ أن يكون الحدوث المتنازع فيه هو مطلق الحدوث من غير تقييد بشيء من الذات والدهر والزمان ، بل بمعنى الحاجة الصرف والفقر المحض المرادف للحدوث الذاتي في الواقع. لا لأنّ أحدا من افلاطون و/ ٤٠MA / سقراط وأرسطو وامثالهم انكر الحدوث بهذا المعنى ، بل لأنه لمّا قال قوم من الدهرية والطباعية ـ خذلهم الله ـ بالقدم الذاتي لكثير من الموجودات واستغنائها بانفسها عن العلّة ـ كالدهر والجواهر الفردة والخلأ والاجسام الصغار الصلبة وغير ذلك ـ ، فكان بحثهم عن الحدوث واثباتهم له ردّا عليهم.

ومن المنكرين للحدوث الذاتي ولاحتياج الممكن إلى المؤثّر « ذيمقراطيس » واتباعه ، القائلون بأنّ وجود السموات بطريق البخت والاتفاق ؛ ولهم شكوك واهية نقلناها في المقدّمات وأجبنا عنها. وكان ارسطاطاليس كثيرا ما يخاصم اصحاب ذيمقراطيس ويبطل شكوكهم ويردّهم إلى الحقّ. فظهر ممّا ذكرناه أنّ الحدوث المتنازع فيه والمبحوث عنه بين الأقدمين يمكن أن يكون هو الحدوث الدهري ـ كما ذكره السيد الدّاماد (١) ـ ، ويمكن أن يكون هو الحدوث الذاتى ـ أعني : محض الفقر والحاجة ، كما ذكره

__________________

(١) قال المحقّق الداماد : فاذن قد استبان انّ حريم النزاع هو الحدوث الدهري لا غير. راجع : القبسات ، ص ٢٦.

١٨٤

جماعة من الأفاضل ـ ، إلاّ انّ الانصاف أنّ الأقرب هو الثاني : كما لا يخفى على المتتبّع الفطن.

هذا ؛ ثمّ تحقيق الحقّ على ما اخترناه يتوقّف على بيان أمرين ؛

الأوّل : انّه لا ريب في تناهى العالم من جانب البداية بمعنى انّ الامتداد المفروض من وجود الأجسام الفلكية والعنصرية ـ أعني : الزمان والحركات اللازمة لها ـ من حين وجودها إلى ايّ وقت فرض متناهيان ، ويدلّ عليه ما تقدّم من حقّية جريان التسلسل في الأمور المتعاقبة ـ سواء كانت مجتمعة في الوجود أم لا ـ ؛ ونحن نشير إلى كيفية جريان طرق من أدلّة ابطال التسلسل في تناهي الحركة والزمان ، ليقاس عليها البواقى ؛

فمنها : طريق التطبيق ؛ وتقريرها هاهنا : انّه لو كانت الحركة غير متناهية أو الزمان غير متناه لكان لنا أن نفرض من جزء معيّن منهما ـ كدورة معيّنة مثلا من الحركة ويوم بليلة من الزمان إلى ما لا بداية لهما ـ جملة واحدة ، ثمّ نفرض من جزء قبلهما بمقدار متناه ـ كخمس دورات مثلا من الحركة وخمسة أيّام بلياليها من الزمان ـ جملة اخرى ، ثمّ نطبق بين الجملتين ونسوق الكلام حتّى / ٣٩DB / يتمّ البرهان ـ على ما تقدّم في المقدّمات ـ.

ومنها : طريق التضايف ؛ وتقريره ما هاهنا : انّ الحركة والزمان بحسب تآلفهما من اجزاء بعضها سابقة وبعضها مسبوقة ، ولنجعل تلك الاجزاء دورات وأيّاما بلياليها ، فلو كانت الحركة والزمان غير متناهيين كانت تلك الدورات وتلك الأيّام بلياليها غير متناهية. ويمكن لنا أن نأخذ من دورة معيّنة ومن يوم معيّن بليلته إلى ما لا بداية له جملة ، فنأخذ ذلك ونقول : كلّ واحد من تلك (١) الدورة وذلك اليوم بليلته هو الجزء الأخير في هذه الجملة ، فهو موصوف بالمسبوقية وليس موصوفا بالسابقية ، وكلّ واحد من أجزائها الأخر موصوف بالمسبوقية والسابقية معا ـ إذ لو وجد في الأجزاء الأخر سابق غير مسبوق لانقطعت السلسلة به ولزم التناهي ، وهو خلاف الفرض ـ ، فيلزم أن يكون كل واحد من الاجزاء المتقدّمة على الجزء الأخير موصوفا بالسابقية و

__________________

(١) الاصل : ـ تلك.

١٨٥

المسبوقية ، وقد كان الجزء الأخير موصوفا بالمسبوقية دون السابقية. ففي الجملة المفروضة كلّ سابق مسبوق من غير عكس كلّي لوجود الجزء الاخير ، فيكون عدد المسبوقية أزيد من عدد السابقية بواحد ، وأنّه محال لأنهما متضايفان حقيقيان يجب تكافؤهما في الوجود وتساويهما في العدد ، وأن يكون بإزاء كلّ واحد من آحاد إحداهما واحد من آحاد الأخرى ـ كما تقدّم مفصّلا ـ ؛ فيجب أن يكون عدم التناهي باطلا لتنقطع السلسلة ويوجد في أوّلها سابق غير مسبوق لتحصيل التكافؤ.

ومنها : انّه لو كان الحركة والزمان أزليين لكان عدد الدورات الماضية من كلّ فلك غير متناه وعدد كلّ من الساعات والأيّام والشهور والسنين الماضية غير متناه ، فنقول : لا ريب في أنّ عدد دورات الفلك الأطلس اكثر من عدد دورات القمر ، وعدد دورات القمر أكثر من عدد دورات الشمس ، والشمس من المريخ والمريخ من المشتري والمشتري من زحل وزحل من الثوابت ، وكذا عدد الساعات أكثر من عدد الأيّام والأيّام من الشهور والشهور من السنين ؛ ولا ريب في أنّ كلّ ما هو أقلّ من غيره يكون متناهيا ، فكذا ما هو أكثر منه بقدر متناه ، فيجب تناهي الحركات والأزمنة / ٤٠MB /. ومنع تناهى ما هو أقلّ من غيره بقدر متناه مكابرة محضة يأبى العقل السليم من تجويزه.

ومنها : انّه لو كانت الدورات الماضية والأيام الخالية غير متناهية لتوقّف حدوث كلّ حادث من الحوادث اليومية على انقضاء ما لا نهاية له ، وهو محال ؛ فيلزم أن لا يوجد حادث. أمّا توقّف وجود الحادث على انقضاء ما لا نهاية له فظاهر ؛ وأمّا استحالة انقضائه فلأنّ الانقضاء فرع التناهى من الطرفين ، فغير المتناهي ولو من طرف واحد يمتنع انقضائه ـ لأنّ معنى انقضائه أن ينقطع ويحيط بمجموعه وعاء ويتحقّق له طرفان ـ ، ومع عدم حصول انقطاع أحد طرفيه لا معنى لانقضائه ، فيحصل من فرض انقضائه تناهيه.

فان قلت : اللازم ممّا ذكر تناهى الحركة والزمان وهو لا يفيد تناهى العالم من جانب البداية ، لجواز أن يكون الاجسام الأوّلية قديمة ساكنة ويكون سكونها أزليا و

١٨٦

لا تكون لها حركة ولا زمان حتّى يجري فيها براهين بطلان التسلسل ، والحركات الّتي نشاهد من بعضها يجوز أن تكون طارية مسبوقة بسكون ازلي ؛ والحاصل انّ براهين ابطال التسلسل لا يفيد أزيد من تناهي الحركة والزمان وهو لا يوجب تناهى العالم ، لجواز أن تكون أصوله الأوّلية قديمة ساكنة لا متحركة ولا منتزعة عنها الزمان ، فلا يثبت منه تناهي العالم من جانب البداية ؛

قلت : أمّا أوّلا : انّه لا ريب انّ اصول العالم الجسمانى منحصرة بالافلاك والعناصر ، والأجسام عند العقلاء منحصرة بهما ، وحركة الافلاك عندهم واجبة ولا يجوز سكونها في وقت ، والدليل عليه ظاهر. ولا ريب أنّ العناصر ليست متقدّمة على الافلاك في الوجود ، فهي إمّا متأخّرة عنها أو مقارنة لها في الوجود ، وعلى التقديرين لا ينفكّ العالم عن الحركة والزمان ، ويلزم منه تناهى السكون للاجسام الساكنة.

امّا ثانيا : فلأنّه لو سلّم جواز السكون للأفلاك أيضا وقلنا انّ الحركة الّتي للافلاك طارية مسبوقة بالسكون أو احتملنا وجود اجسام أخر ساكنة سوى الافلاك والعناصر وقلنا هي الاجسام الأوّلية ، نقول : لا ريب أنّ وجود الاجسام وإن كانت ساكنة لا ينفكّ عن الامتداد الواقعي المعبّر عنه بالزمان ، فيجري فيه ادلّة ابطال التسلسل ويثبت به تناهيه ، ومنه يظهر تناهي العالم من جانب البداية.

وأمّا ثالثا : فانّ المتكلّمين أقاموا حجّة على عدم جواز كون السكون قديما ؛ وتقرير حجّتهم : انّ السكون أمر وجودي لأنّ الكون ـ أعني : حصول الجسم في الحيّز ـ أمر محسوس فيكون موجودا. وهو تمام ماهية الحركة والسكون ، وامتيازهما بالعوارض / ٤٠DA / الخارجية ، فيكون السكون موجودا كالحركة. وحينئذ لو كان قديما لامتنع زواله ـ لأنّ كلّ امر وجودي ثبت قدمه امتنع عدمه (١) ـ ، مع أنّ السكون يجوز زواله بالاجماع والبرهان ؛ أمّا الاجماع فلأنّ الأجسام عند الحكماء منحصرة في

__________________

(١) راجع : رسالة الكندي إلى المعتصم بالله ، ص ١٩ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ٨ ص ٣٨٨ ؛ شوارق الالهام ، ج ١ ص ١٤٤.

١٨٧

الفلكيات وحركتها واجبة عندهم ، وفي العنصريات وحركتها جائزة عندهم ، فلا يوجد في العالم جسم يمتنع عليه الحركة ؛ وأمّا البرهان فلأنّ الأجسام إمّا بسيط ، فيجوز على كلّ جزء منها ما يصحّ على الجزء الآخر ، فيصحّ لكلّ جزء أن يماسّ بيساره ما يماسّ بيمينه وبالعكس ، وما هو إلاّ بالحركة ؛ وإمّا مركبة ، فيصحّ على بساطتها الحركة ـ كما قلناه ـ ، ويلزم من صحّة الحركة على البسائط صحّتها على المركّب ولو في الوضع ـ أي : تبدّل نسب الأجزاء إلى الأجزاء ـ.

وأنت تعلم أنّ جميع مقدّمات هذه الحجّة ظاهرة إلاّ استحالة عدم القديم ، فلا بدّ من تحقيق الحق فيه ليظهر جلية الحال ، فنقول : المشهور في الاستدلال عليه انّ القديم إن كان واجبا لذاته فامتناع عدمه ظاهر ، وإن كان ممكنا كان مستندا إلى واجب بالذات دفعا للتسلسل. ولا يجوز أن يكون ذلك الواجب مختارا بمعنى كون فعله مسبوقا بالقصد ، لأنّ القصد إلى الايجاد متقدّم على الايجاد ومقارن لعدم ما قصد ايجاده ، لأنّ القصد إلى ايجاد الموجود محال بالبديهة ، فيجب أن يكون ذلك الواجب فاعلا لا بالقصد سواء كان فعله بالعلم والمشية أم لا. وحينئذ نقول : إن لم يتوقّف تأثير هذا الفاعل في ذلك القديم على شرط أصلا ـ بل كان ذاته كافيا في ايجاده ـ كان عدم ذلك المعلول القديم محالا لامتناع تخلّف المعلول عن الموجب التامّ واستلزام عدمه لعدم الواجب ـ لأنّه يلزم ذاته من حيث هي هي ، وانتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ـ ؛ وان توقّف تأثيره فيه على شرط فلا يجوز أن يكون ذلك الشرط حادثا وإلاّ لكان القديم المشروط به أولى بالحدوث ، فيكون / ٤١MA / ذلك الشرط أيضا قديما ويعود الكلام في ذلك الشرط وفي صدوره عن الواجب هل هو بشرط أو بغير شرط؟ ، ويلزم الانتهاء إلى ما يجب صدوره عن الواجب بلا شرط دفعا للتسلسل في الأمور المترتّبة الموجودة. وهذا الشرط المنتهى إلى الواجب بالذات الصادر عنه بلا شرط يمتنع عدمه ـ لاستلزام عدمه لعدم الواجب ـ ، فاذا امتنع عدمه امتنع عدم مشروطه ومشروط مشروطه ... ، وهكذا إلى القديم الّذي كلامنا فيه.

١٨٨

واعترض عليه بوجهين : أحدهما : أنّ فاعل السكون يجوز أن يكون فاعلا بالقصد. وما ذكر في بيان استحالته غير تامّ. لانّ تقدّم القصد على الايجاد كتقدّم الايجاد على الوجود في انّهما بحسب الذات ، فيكون القصد مقارنا للايجاد في الوجود زمانا وإن تقدّم عليه ذاتا ، ولا يوجب ذلك تحصيل الحاصل المحال ، لأنّ المحال هو القصد إلى ايجاد الموجود بوجود حاصل قبل. بل نقول : إذا كان القصد كافيا في وجود المقصود كان مع المقصود زمانا ، وإذا لم يكن كافيا فيه فقد يتقدّم عليه زمانا ـ كقصدنا إلى افعالنا ـ ، وإذا جاز استناد وجود القديم إلى الفاعل بالقصد جاز استناد عدمه أيضا إليه بان يقصد اعدامه فيصير معدوما.

وثانيهما : انّا لا نسلّم أنّ الشرط الّذي يتوقّف عليه السكون القديم يجب أن يكون أمرا وجوديا قديما حتّى يعود الكلام فيه وفي صدوره عن الواجب هل هو بشرط أو بغير شرط ويلزم الانتهاء إلى ما يجب صدوره عن الواجب بلا شرط ، ولم لا يجوز أن يكون ذلك الشرط عدما ازليا كعدم حادث مثلا؟!. فاذا وجد ذلك الحادث زال السكون لزوال شرطه الّذي هو عدم ذلك الحادث ، لا لزوال الواجب حتّى يحكم بامتناعه.

فان أجيب عن هذا الاعتراض : بأنّ هذا العدم ـ أعني : عدم الحادث ـ لكونه ازليا ممكنا لا بدّ أن يستند إلى عدم يكون واجبا ـ أعني : عدم الممتنع ـ إمّا ابتداء أو بواسطة ازلية كما أنّ وجود الممكن الأزلي لا بدّ أن يستند إلى وجود واجب إمّا ابتداء أو بواسطة ازلية ـ دفعا للتسلسل ـ. وإذا استند هذا العدم إلى العدم الّذي كان واجبا بواسطة أو بدون واسطة كان زواله ممتنعا ـ لاستلزامه زوال الواجب ، أعني : العدم الواجب الّذي انتهى إليه استناده ـ ، فلا يمكن أن يزول ما هو شرط السكون ـ أعني : عدم الحادث ـ بأن يصير هذا الحادث موجودا ثمّ يزول السكون ـ لزوال شرطه ـ ، فالمحذور لازم.

قلنا : العدمات الأزلية الممكنة جاز أن يستند كلّ واحد منها / ٤٠DB / إلى عدم أزلي آخر ممكن من غير أن ينتهى إلى عدم يكون واجبا ، بل ترتّب العدمات الممكنة

١٨٩

ترتّبا ذاتيا إلى غير النهاية ، وليس ذلك التسلسل لكونها في الاعدام محالا.

اقول : الوجه عند الحكماء في عدم استناد القديم الممكن إلى واجب الوجود المختار بمعنى كون فعله مسبوقا بالقصد أنّ الواجب لذاته لا يجوز أن يكون عندهم فاعلا بالقصد ـ لما مرّ ـ ، فالتعليل الّذي ذكر في الدليل المذكور لعدم استناده إليه مع الاعتراض عندهم ساقط. فهذا الاعتراض ساقط على قواعد الحكمة ، بل يتوجّه على من علّل عدم الاستناد بما ذكر من أنّ القصد إلى الايجاد متقدّم على الايجاد المحال.

وأمّا الاعتراض الثاني فالحقّ امكان ورود مثله على قواعد الحكمة أيضا ، ولكن فيه تفصيل وتنقيح لا بدّ أن يشار إليه. فنقول : القديم إمّا قديم بالذات أو قديم بالزمان (١) ، والثاني على قسمين : أحدهما : ما هو متقدّم على الزمان ومتعال عنه ولا يعلّل وجوده بالزمان بوجه ، وهو الّذي اشرنا إليه انّه المبدع لا في زمان المرادف للحادث الذاتي ـ وذلك مثل العقول والعالم الأعلى والافلاك عند الحكماء ـ ، وثانيهما : ما هو متأخّر عن الزمان تأخّرا ذاتيا أو مقارن له ومعلّل به من وجه ، وهو الّذي خصّص / ٤١MB / بعض المتأخّرين اسم القديم الزماني به ـ كما اشرنا إليه قبل ذلك ـ. وذلك مثل الاتصال والالتيام للأجسام الفلكية والعنصرية والسكون للعناصر وأمثال ذلك ، فانّها واقعة في طرف الزمان معلّلة به.

ولا ريب في امتناع العدم على القديم بالذات والقديم بالزمان بالمعنى الأوّل ، لأنّ منشأ التغيّر والتبدّل والوجود بعد العدم وبالعكس هو الزمان ، لعدم استقراره وثباته وجمعه المتقابلات واختلافاتها لاتساع ذاته ، فما هو خارج منه متعال عنه غير محمول في طرف متقدّر ، بل قائم بذاته أو بعلّته فقط ، فانما حامل وجوده وعدمه جميعا هو ذاته أو علّته. فان كان موجودا استحال عدمه ، وإن كان معدوما استحال وجوده ـ لاستحالة التناقض ـ. فهذا الموجود ـ أي : الخارج عن ظرف الزمان ـ اوّل وجوده ووسطه وآخره واحد لا يمتاز له قبل ولا بعد ، فكونه موجودا هو عين كونه باقيا. وأمّا القديم الزماني بالمعنى الثاني فلا يبعد أن يجوز عدمه ، لاحتمال أن يكون رفع مانع مربوط

__________________

(١) راجع : الحكمة المتعالية ، ج ٣ ، ص ٢٥٥ ؛ درّة التاج ، ج ٣ ، ص ٢٩.

١٩٠

الوجود بالزمان وتدريجه من تتمّة العلّة التامّة لوجوده. فحيثما كان المانع في الأزل معدوما كانت العلّة التامّة موجودة ، فكان معلولها موجودا. ولمّا وجد بتدريج الزمان مانع وجوده فنقصت العلّة فصار معلولها معدوما ، وذلك مثل خرق السماء وشقّ القمر وامثالهما ، فانّه يجوز أن يكون عدم داعية الاعجاز من تتمّة العلّة المستقلّة لاتصال السماء والقمر ، فحيثما عدم هذا الداعي ولم يكن لها داع إلى الانخراق والانشقاق كانت الافلاك مصونة ملتئمة ، ولمّا حدث لها بتدريج الزمان داعية الاعجاز نقضت العلّة ، فعدم معلولها. ولا ريب انّ السكون إذا كان قديما يكون من هذا القبيل ، فيجوز أن يكون من تتمّة العلّة التامّة لوجوده عدم حدوث حادث مربوط الوجود بالزمان وتدريجه ، فحيث لم يحدث الحادث في الأزل وجد السكون ، فلا يبعد زواله إذا حدث ذلك بتدريج الزمان.

وبذلك يظهر أنّ العمدة في اثبات تناهى السكون للأجسام الساكنة هما الوجهان الأوّلان لا الدليل الّذي استدلّ به في المشهور. وإذ ثبت تناهي العالم من جانب البداية (١) يبطل به الحدوث الذاتي ـ أعني : القدم الزماني ـ ، اذ على القول به يكون الافلاك والعناصر غير منفكّة عن الواجب ـ تعالى ـ في الخارج ولا يوجد بينهما فاصلة.

ولا ريب أنّ الواجب ـ تعالى شأنه ـ ازلي لا بداية له ، فتكون الافلاك والعناصر أيضا كذلك ، فيلزم عدم تناهي الحركات والزمان ؛ وقد علم تناهيها.

فان قيل : مجرّد تناهي العالم من جانب البداية لا يبطل القدم الزماني ؛ لأنّه إذا كان العالم متناهيا ولكن كان متّصلا بالواجب ولم يتحقّق بينهما انفصال حتّى امكن أن يقال كان الواجب ولم يكن العالم كان العالم حينئذ قديما ، والقول به ليس إلاّ قولا بالقدم. ولو اطلق عليه الحدوث فلا يكون إلاّ بمجرّد الاصطلاح على اطلاق الحادث والقديم على ما كان زمان وجوده متناهيا وغير متناه ، وهو غير مفيد ، ولو جوّز هذا فلم لا يجوز كونه غير متناه أيضا؟!. والمفسدة فيه ليس إلاّ لزوم عدم الانفكاك بين الواجب ـ تعالى ـ وبين العالم ، وهو قد لزم في صورة التناهى أيضا!. فما لم يتبيّن

__________________

(١) النسختان : + و.

١٩١

الانفكاك / ٤١DA / والانفصال بين الواجب وبين العالم لا يبطل القدم ، ومجرّد ثبوت تناهى العالم لا يكفي لذلك.

قلنا : القائلون بالقدم متفقون على عدم تناهي العالم من جانب البداية ، والقدم عندهم مفسّر بعدم تناهي العالم ، لا بمعيته للواجب ـ تعالى ـ في الوجود وعدم الانفصال بينهما في الخارج ، لأنّ وجود الواجب ـ تعالى ـ ليس زمانيا ، فلا معنى لاتصال العالم به وانفكاكه عنه. ولا جائز أن يوصف بمعيته له أو تأخّره عنه ـ سواء كان العالم / ٤٢MA / متناهيا أو غير متناه ـ. وإذا كان مرادهم بالقدم هو عدم تناهى العالم فاذا ثبت تناهيه يبطل القدم ؛ ولم يجوّز أحد من الحكماء القائلين بالقدم الزمانى للعالم كونه متّصلا بالواجب ـ تعالى ـ في الخارج مع كونه متناهيا من جانب البداية.

فان قيل : ليس المراد بالانفصال والانفكاك أن يتحقّق زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم ، وكذا ليس المراد بالاتصال والمعية أن يتحقق زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب والعالم فيه معين متقارنين ؛ بل المراد بالأوّل وقوع انفكاك يصحّح القول بانّه كان الواجب في الواقع والخارج ولم يكن العالم فيه ، والمراد بالثاني ثبوت تلازم يصحّح القول بانّه كلّما كان الواجب موجودا في الخارج كان العالم موجودا معه ؛ فالمراد بالحدوث هو الأوّل وبالقدم هو الثاني ، سواء كان العالم متناهيا أو غير متناه.

قلنا : مجرّد التلازم بين الواجب والعالم في الوجود الخارجي ـ وإن كان العالم متناهيا ـ ليس قولا بالقدم ، ولذا لم يقل به أحد من الحكماء القائلين بالقدم كما لم يقل به أحد من المليين القائلين بالحدوث. والسرّ انّه يستلزم تناهي بقاء الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، لانّه إذا صدق انّه كلّما كان الواجب موجودا كان العالم موجودا وكان وجود العالم متناهيا فكان وجود الواجب أيضا كذلك.

ولا يقال : انّ وجود الواجب لا يتصف بالتناهي وعدم التناهي ، فلا يلزم الفساد المذكور ؛ لأنّا نقول : لمّا كان وجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ في الواقع والخارج بحيث

١٩٢

وجد (١) في ذلك الواقع وجود العالم أيضا وكان متناهيا منقطعا يصدق انّ وجود الواجب أيضا منقطع ، وهذا كوجود الافلاك فانّها أيضا خارجة عن الزمان ولا ينطبق وجودها عليه. إلاّ انّه إذا كان وجودها في الواقع بحيث لو فرض فيه زمان كان متناهيا لصدق تناهيها أيضا. وهذا كما يوجب حدوث العالم يوجب حدوث الواجب أيضا ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! ـ. فهذا الاحتمال ـ أي : التلازم بين الواجب والعالم ـ مع فرض تناهي العالم احتمال فاسد عند العقل ليس مبنى شيء من الحدوث والقدم ، بل مبنى الحدوث على تناهى العالم وإن استلزم الانفكاك بين الواجب والعالم في الوجود الخارجى وعدم التلازم بينهما ، ومبنى القدم على عدم تناهيه وإن استلزم التلازم والمعية في الوجود بينهما. والسرّ انّ الحكماء والمليين متفقون على ازلية الواجب ـ تعالى ـ وقدمه بمعنى دوام وجوده وبقائه في الخارج بحيث لو فرض فيه الزمان كان غير متناه ، فالحكماء قالوا : وجد فيه الزمان فحكموا بعدم تناهى العالم والزمان ، والمليون قالوا لو لم يوجد فيه ولكن بحيث لو وجد فيه لكان غير متناه. فالحكماء حكموا بأزلية وجود الواجب والعالم والمليون حكموا بأزلية وجود الواجب دون العالم ؛ هذا.

مع أنّ المطلوب هاهنا انّ مجرّد اثبات تناهي العالم من جانب البداية يستلزم ابطال القدم بالمعنى الّذي اثبته الفلاسفة ، ولا ندّعي انّ مجرّد ذلك يثبت تمام المطلوب الّذي نحن بصدده ـ وهو ثبوت الانفكاك الواقعى بين الواجب والعالم ـ ، وصحّة قولنا : كان الواجب موجودا في الخارج ولم يكن العالم ، فانّ ذلك يأتي بيانه مفصّلا ؛ هذا.

وممّا يدلّ على تناهي العالم من جانب البداية ـ بل على حدوثه بعد العدم المحض ـ اجماع الأنبياء والمليين واتفاق أهل الأديان أجمعين (٢) ، فانّه قد ثبت بالتواتر القطعي من الأنبياء وأوصيائهم تناهي العالم من جانب البداية وحدوثه بعد العدم المحض والليس الصرف ، بحيث لا يتطرّق إليه شائبة تجوّز وتأويل. والعقل السليم إذا تشبّث بذيل الانصاف واجتنب عن العناد واللجاج ولاحظ انّ جمّا غفيرا من أولى النفوس القادسة وذوي العقول الثاقبة ـ الّذين لم ينحرفوا / ٤٢MB / قطّ عن الصراط القويم و

__________________

(١) الاصل : ـ وجد.

(٢) راجع : رسالة الحدوث ، ص ١٨١.

١٩٣

فاقوا على طوائف العباد أجمعين ، وتأيّدوا من عند الله تعالى بالمعجزات الباهرة والآيات القاهرة ـ قد اتوا بتناهي العالم من جانب البداية وحدوثه ودانوا به واصرّوا على ذلك وتشدّدوا في الانكار على منكريه ـ مع انّه لا يضرّهم القول بقدم العالم بوجه ـ يجزم بانّهم لم يأتوا به إلاّ عن يقين قطعيّ وصدق واقعى ، إذ القول بعدم ثبوت الحدوث بعد العدم من الأنبياء. ومنع تحقّق الاجماع مكابرة صرفة ومجادلة محضة ، كيف وجمّ / ٤١DB / غفير من مشاهير علماء الفريقين ادّعوا الاجماع عليه؟! ، والأخبار الدالّة عليه بلغت حدّ التواتر ؛ منها : الحديث المشهور الّذي تلقّته الأمّة بالقبول وهو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : كان الله ولم يكن معه شيء (١).

فان قيل : المعية المنفية في هذا الخبر ليست هي المعية الزمانية ـ كما يأتي بيانه ـ ، ولا المعية الشرفية ، فبقى أن تكون هي الذاتية الّتي هي تأخّر الأشياء جميعا بمحض ذواتها عن ذات العلّة وافتقارها الذاتي إليها ؛

قلنا : لا ريب في أنّ المعية المنفية ليست زمانية ولا شرفية ، بل هي المعية الدهرية ، فالمراد : انّ الله ـ تعالى ـ كان موجودا في حاقّ الواقع ومتن الدهر ولم يكن معه العالم بمعنى انّ العدم المحض والليس الصرف كان سابقا عليه ـ كما يأتي بيانه مفصّلا ـ. فالمراد من الخبر نفي القدم الدهري من العالم وهو أن لا يسبقه عدم في متن الدهر بأن يكون ازلي الحصول في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر. وهذا المعنى هو الظاهر من الخبر والمتبادر عند اهل اللسان والمتعارف المألوف من عرف ارباب الشريعة.

وأمّا حمل المعية المنفية على المعية الذاتية والقول بأنّ المراد بيان مجرّد التقدّم الذاتي ـ كتقدّم اليد على المفتاح ـ ، فممّا لا يكاد يفهمه أهل اللسان وليس مألوفا من عرف صاحب الشرع ، ولا ينتقل إليه اذهان السامعين ولا يوافقه ألسنتهم ، مع انّ الله

__________________

(١) هذا الحديث ـ كما قال المصنّف ; ـ تلقّته الامّة بالقبول ، فيوجد في كثير من مصادر الفريقين. راجع : بحار الأنوار ، ج ٥٧ ، ص ٢٣٤ ؛ صحيح البخاري ، ج ٤ ، ص ١٢٩ ، ج ٩ ، ص ١٥٢ ؛ اتحاف السادة المتقين ، ج ٢ ، ص ١٠٥.

١٩٤

ـ تعالى ـ يقول : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (١) ؛ هذا.

وأورد على الاستدلال بالنصّ والاجماع على حدوث العالم : بأنّه دوري ، إذ حجية النصّ والاجماع موقوفة على ثبوت الشرع ، وثبوت الشرع موقوف على العلم بصدق الأنبياء ، والعلم بصدقهم موقوف على العلم بقدرته ـ تعالى ـ ، إذ لولاه لجاز أن لا يقدر على منع اظهار المعجزة على يد الكاذب أو لا يكون صدور المعجزة منهم من جانبه ـ تعالى ـ ومن قدرته. والعلم بالقدرة ـ بمعنى جواز انفكاك العالم عن ذاته تعالى بالنظر إلى الداعي ـ هو عين العلم بحدوث العالم ، فيتوقّف حجية النصّ والاجماع بوسائط على العلم بالحدوث. فلو كان الحدوث موقوفا عليهما لزم الدور ؛

والجواب : انّ العلم بصدق الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لا يتوقّف على القدرة بهذا المعنى ، بل انّما يتوقّف على القدرة بالمعنى الأوّل المشهور ـ يعنى كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل ـ ، أي : يكون صدور الفعل منه بالمشية والإرادة ، فانّه إذا علم أنّ صدور الفعل منه ـ تعالى ـ بالمشية والإرادة يحصل العلم بصدق الأنبياء ، لأنّه ـ تعالى ـ لا يشاء ولا يريد اظهار المعجزة على يد الكاذب ، وان لم يعلم الانفكاك بين الواجب والعالم. الا ترى انّ الحكماء لم يقولوا بثبوت القدرة بهذا المعنى له ـ تعالى ـ مع انّهم لا يجوّزون عليه ـ تعالى ـ اظهار المعجزة على يد الكاذب؟.

ونقل عن غياث الحكماء انّه قال في رسالته المسمّاة بدليل الهدى : (٢) ويمكن أن يقال بمجرّد مشاهدة المعجزة يحصل العلم بصدق صاحبها بلا احتياج إلى مقدّمة أخرى.

وحينئذ يمكن اثبات الاختيار بأيّ معنى كان ولو بالمعنى الأوّل ، بل اثبات الواجب وصفاته الكمالية أيضا بالشرع.

وقال بعض الفضلاء : الحقّ أن يقال : انّ اثبات النبوّة موقوف على وجود القدرة والاختيار لا على العلم بوجودهما ، لأنّا نعلم بديهة انّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا يجب تنزيهه ـ تعالى ـ عنه ، وهذا القدر كاف / ٤٣MA / في اثبات النبوّة. و

__________________

(١) كريمة ٤ ، ابراهيم.

(٢) لم أعثر على هذه الرسالة ، والظاهر أنّها لم تطبع بعد.

١٩٥

بعد اثبات النبوّة يثبت صدق النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. وإذا ثبت صدقه يثبت صدقه في كلّ ما اخبر به ، ومنه حدوث العالم ، فيجوز أن يكون اثبات النبوّة موقوفا على أصل القدرة والاختيار ، والعلم بهما يكون موقوفا على اثبات النبوّة ، فقد حصل اختلاف الجهة فلم يلزم الدور ؛ انتهى.

واعترض عليه : بانّ العلم بأنّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح يجب تنزيهه ـ تعالى ـ عنه ، انّما هو بعد العلم بقدرته ، وأمّا قبل ذلك فيشكل دعوى ذلك جدا ؛ هذا.

وأيضا : لو امكن دعوى ذلك فهذا يكفى في اثبات القدرة ولا حاجة إلى التمسّك بالشرع في حدوث العالم ؛ انتهى.

وغير خفي انّ الفرق بين هذا الجواب وبين ما نقلناه عن غياث الحكماء : انّ مبنى جوابه على انّ اثبات النبوّة لا يتوقّف على القدرة والاختيار مطلقا ، بل لا يتوقّف على وجود الواجب أيضا ، لأنّ اثبات النبوّة لا يكون إلاّ باظهار المعجزة. ومبنى هذا الجواب على أنّ اثبات النبوّة موقوف على وجود القدرة وليس موقوفا على العلم بها ، فيرد عليه : انّ توقّف اثبات النبوة على القدرة انّما يكون لحصول العلم بأنّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح ، وذلك التوقّف إنّما يكون على العلم بالقدرة لا على مجرّد وجودها ، فجعل مجرّد وجودها ممّا يتوقّف عليه اثبات النبوّة غير مفيد ، فلا بدّ إمّا أن يدّعى عدم توقّف اثبات النبوّة عليها مطلقا ـ كما قال غياث الحكماء ـ أو يجعل الموقوف عليه هو العلم بها ، ويجاب عن الدور بما تقدّم أوّلا. هكذا ينبغي تقرير الايراد عليه.

وأمّا ما اورد عليه / ٤٢DA / المعترض بقوله : وأيضا لو امكن المحال ، فلا يخفى ما فيه ؛ هذا.

فظهر ممّا ذكر من تناهى العالم مضافا إلى اجماع الملّة وأخبار الحجج ثبوت حدوث للعالم فوق الحدوث الذاتي وعدم كفاية مجرّد الحدوث الذاتى ، فانحصر الأمر بين الحدوث الدهري والزماني. وسيأتي بيان بطلان الثاني ليلوح الحقّ من بينهما.

فان قلت : اللازم من دليل التناهي هو حدوث العالم الجسماني من الأجسام و

١٩٦

المقادير القائمة بها ـ بمعنى تناهي المدّة المفروضة من آن حدوثه إلى ما بلغ ـ. ولا يلزم منه حدوث المجرّدات كذلك ـ لتعاليها عن الزمان وانتسابها إليه ـ ، فيجوز أن يكون العقول حادثة بالذات ـ أي متأخّرة عن الواجب بمجرّد المرتبة العقلية دون المرتبة الخارجية والواقعية ـ. ثمّ يوجد الله تعالى (١) ـ بوساطتها أو بدون وساطتها العالم الجسمانى في الوقت الّذي كان قابلا للحدوث فيه ؛

قلت : هذا الاحتمال وإن لم يلزم بطلانه من ادلّة تناهي العالم ـ لاختصاصها بالعالم الجسماني ـ ولم يثبت أيضا دليل عقلي على امتناعه ، إلاّ أنّ ما ذكرنا ثانيا من اجماع المسلمين وأخبار الحجج ناهضة بابطاله. فالعمدة في اثبات حدوث المجرّدات بمعنى وجودها بعد العدم الصرف والليس المحض هو الاجماع والاخبار ؛ منها : الخبر المشهور المتقدّم ذكره ، فانّ الظاهر منه تأخّر جميع ما يطلق عليه اسم العالم في الخارج ونفس الأمر عن ذاته ـ تعالى ـ ، لانّ لفظ « شيء » وقع نكرة في سياق النفي ، فيفيد العموم. فمعنى الخبر : انّه قد تحقّق الواجب في الواقع والخارج ولم يكن شيء من الأشياء موجودا سوى ذاته الأقدس ، وما سواه كان معدوما بعدم صريح خالص وليس صرف ساذج. وحمل الخبر على انّه ـ تعالى ـ كان موجودا في الزمان ولم يكن معه شيء فيه باطل ، لأنّ كون الواجب زمانيا من أشنع المحالات ـ كما يأتي مفصّلا ـ.

ومن الأخبار الدالّة على حدوث جميع ما سوى الله الخبر القدسيّ المشهور بين أهل الاسلام ، وهو قوله ـ تعالى ـ : كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لأعرف (٢). فان الظاهر منه انّه ـ تعالى ـ كان موجودا في الواقع والخارج ولم يكن غيره من الأشياء موجودا فيهما.

ويمكن أن يقال : الوجه في حدوث المجرّدات من العقول مع عدم دلالة ادلّة التناهي عليه هو عدم قبولها / ٤٣MB / الوجود الأزلي ـ لامكانها وافتقارها ـ.

ثمّ هنا بعض دلائل أخر ذكرها جماعة لاثبات حدوث العالم وبطلان قدمه ، و

__________________

(١) الاصل : ثمّ بوحدانيته تعالى.

(٢) راجع : بحار الأنوار ، ج ٨٧ ، صص ١٩٩ ، ٣٤٤ ؛ الدّرر المنتثرة ، ص ١٢٦ ؛ الاسرار المرفوعة ، ص ٢٧٣ ؛ تذكرة الموضوعات ، ص ١١.

١٩٧

هي عند التحقيق ليست بتامّة فلنذكرها ونشير إلى ما يرد عليها.

منها : ما ذكره المحقّق الطوسي في الفصول والفخر الرازي في الأربعين (١) ، وهو أنّه لو وجد ممكن كان قديما ، فتأثير الفاعل فيه إمّا حال بقائه أو حال عدمه أو حال حدوثه ؛ فعلى الأوّل يلزم تحصيل الحاصل ، وعلى الأخيرين يلزم الخلف مع المطلوب.

ومنها : ما ذكره بعض المتأخّرين ، وهو انّه لو وجد ممكن كان قديما لكان بقاؤه أيضا قديما ، وكما انّ الايجاد في زمان البقاء يستلزم تحصيل الحاصل فكذا ايجاد الموجود القديم ـ الّذي كان بقائه قديما ـ يوجب تحصيل الحاصل بالضرورة.

ومنها : ما ذكره بعض المتأخّرين أيضا ، وهو انّ تأثير الفاعل على قسمين :

أحدهما : ايجاد المعدوم ، وثانيهما : ضبط الموجود وابقائه ، وفي الممكن القديم لا يتصوّر الأوّل ، وفي الوجود المكتسب عن الغير لا يكفي الثاني.

ويرد على هذه الأدلّة الثلاثة أنّها منقوضة بمثل تأثر حركة اليد في حركة المفتاح ، فانّ الثانية محتاجة إلى الاولى معلولة لها ، مع انّه ليس بينهما انفكاك زماني ولا دهري.

فيرد عليه أيضا انّ تاثير الأولى في الثانية إمّا حال عدمها أو حال بقائها ، فيلزم أحد المفاسد المذكورة ، فما تقولون في الجواب هنا نحن نقول هناك. وبالجملة إذا تحقّق مثل هذا الربط بين بعض الحوادث بأن يكون حادث مستندا إلى حادث آخر من غير وقوع انفكاك في الخارج بينهما فيجوز تحقّقه بين بعض القدماء أيضا بأن يكون ممكن قديم مستندا إلى قديم آخر واجب بالذات من غير وقوع انفكاك في الخارج. فهذه الأدلّة لا تفيد أزيد من الحدوث الذاتي.

الأمر الثاني : ممّا يتوقف عليه تحقيق الحقّ فيما اخترناه من حقّية الحدوث الدهري انّه لا ريب في انّ المراد من الزمان الموهوم الّذي اثبته المتكلّمون هو الشيء المتكمّم المتصرّم له واقعية ونفس أمرية ، وبالجملة هو كمّ واقعي نفس أمري لا تفاوت بينه وبين هذا الزمان إلاّ بالليل والنهار. وليس المراد به هو الزمان التقديري الّذي

__________________

(١) راجع : الاربعين ج ١ ص ٢٧.

١٩٨

ذكره الطبرسي في مجمع البيان (١). فانّ المراد به هو الامتداد بمجرّد الفرض والتقدير من دون أن يكون له واقعية ونفس أمرية ، فانّ الاذهان البشرية إذا سافرت من بقعة الزمان والزمانيات إلى صقع الدهر والدهريات تخترع لالفها بالزمان أمرا ممتدا تقديريا تخيّليا / ٤٢DB / من غير شائبة تحقّق له في متن الواقع. ومثل هذا الامتداد نحن نقول به ، لأنّ القول به لا يوجب تحقّق امتداد في نفس الأمر قبل وجود العالم ، بل قبله عدم صرف وليس ساذج. وهذا التقدير انّما حصل منّا ، فالوجود يكون مسبوقا بالعدم الصريح مسبوقية غير زمانية.

ويؤيّد ما ذكرناه من انّ الزمان التقديري غير الزمان الموهوم وأنّ المتكلّمين انّما قالوا بالموهوم دون التقديري ما ذكره بعض المحدّثين من أصحابنا من انّ اوّليته ـ تعالى ـ وآخريته فسّرتا بوجوه :

الأوّل : أن يكون المراد بالأسبقية بحسب الزمان ، وهذا انّما يتمّ إذا كان الزمان أمرا موهوما ـ كما ذهب إليه المتكلّمون ـ ، أو بحسب الزمان التقديري ـ كما ذكره الطبرسي في مجمع البيان ـ.

وإذ ثبت انّ المراد بالزمان الموهوم هو الامتداد الواقعي النفس الأمري فنقول : ثبوت مثل هذا الشيء قبل ايجاد العالم باطل بوجوه :

منها : انّه لا يتصوّر في الدهر وفي العدم والليس الصريح المحض امتداد وتصرّم وحدّ وتمايز ولا نهاية ، إذ ذلك من لوازم وجود الحركة.

وأورد عليه : بانّا لا نسلّم انّ الاتصاف بالامتداد / ٤٤MA / والانقضاء وامثاله فرع وجود الحركة ، لم لا يجوز أن ينتزع من استمرار وجود الواجب أمر ممتدّ على سبيل التجدّد والتفصّي؟! ، بل الظاهر انّه كذلك ولا استبعاد فيه. كيف وانّهم يقولون انّ الحركة القطعية ينتزع من الحركة التوسطية والزمان ينتزع من الآن السيال ، فكما جاز هناك انتزاع الأمر الممتدّ المتجدّد المتفصّي من الأمر الشخصي الّذي لا امتداد فيه و

__________________

(١) الظاهر انّه اشارة إلى ما جاء به الطبرسي تفسيرا على مبتدأ سورة الانسان المباركة ؛ راجع : مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٠٦.

١٩٩

لا انقسام ولا تجدّد ولا انقضاء فكذلك يجوز هاهنا أيضا بلا تفرقة اصلا ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الايراد في غاية الوهن والركاكة! ، لأنّه كيف يجوّز عاقل أن ينتزع من الوجود الاحدي الصرف الثابت المتعالي عن الزمان والحركة شيء سيال متجدّد ممتدّ؟! ، بل ما هو نفس الزمان بعينه ، لعدم الفرق بين هذا الزمان والزمان الموهوم بالحقيقة ـ كما اشير إليه ـ. ويدلّ عليه أيضا ما قال بعض المثبتين للزمان الموهوم : انّا لا نقول انّ عدم العالم كان في وعاء ممتدّ يتجدّد وينقضي كوجود زيد في الزمان ، بل هو كعدم زيد في زمان قبل زمان وجوده ، ولا تفاوت إلاّ بأنّ هذا الزمان يتبعّض بالليل والنهار ويتّصف بما شأنه ذلك من الصفات ، وليس ذلك فى ذلك الزمان ، وعلى هذا يلزم اعترافهم بكون الواجب محلاّ لمثل هذا الزمان (١). وأيّ عارف بالحقيقة الواجبية وصفاته الكمالية يتفوّه بمثل هذا الكلام ، والمتعالي عن التغير والحدثان والمتقدّس عن التجدّد والسيلان ومن هو (٢) صفاته وافعاله خارجة عن بقعة الزمان والمكان كيف ينتزع الأمر الممتدّ المتجدّد المتصرّم الواقعي النفس الأمري عن حاقّ ذاته الاقدس؟! ، أليس المناسبة بين المنتزع ـ الّذي هو المعلول ـ والمنتزع عنه ـ الّذي هو العلّة ـ لازمة؟! ، وأيّ مناسبة بين الثابت والمتغير والبسيط الحقيقي والمركّب من أجزاء غير متناهية وليس ذلك الزمان عرضا واقعيا نفس أمري؟!. فكيف يقوم بالوحدة الحقّة والبساطة الصرفة. أو لا يوجب ذلك تركّبا وتكثّرا في ذات الواجب ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا؟ ـ. ثمّ ما ذكره من التمثيل لا دخل له بالممثّل له ، وشتّان ما بينهما!. فانّ حركة الوسطيّة والآن السيّال ليسا أمرين ثابتين ، بل هما متجدّدان متصرّمان سيّالان يحدثان في الذهن أو الخارج على اختلاف الرأيين في الحركة والزمان ، ولو لم يكن لهما تجدد وسيلان لم يحدثا الحركة القطعية والزمان ، فيكون التغير والتجدّد والتصرّم من شرائط ارتسام الأمر الممتدّ السيال ، وهو واضح.

ثمّ الانصاف انّ المتكلّمين يقولون : انّ اتصاف عدم العالم السابق عليه بالتقدّر والامتداد وأمثالهما إنّما هو بالعرض باعتبار وعائه الّذي هو هذا الأمر الممتدّ المنتزع من

__________________

(١) الاصل : محلا بمثل هذا البرهان.

(٢) الاصل : هو من.

٢٠٠