توحيد المفضّل

المفضل بن عمر الجعفي

توحيد المفضّل

المؤلف:

المفضل بن عمر الجعفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الداوري
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٩٢

وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. (١)

( إعطاء الإنسان ما يصلح دينه ودنياه ومنعه مما سوى ذلك )

فكر يا مفضل فيما أعطي الإنسان علمه وما منع فإنه أعطي جميع علم ما فيه صلاح دينه ودنياه فمما فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك وتعالى بالدلائل والشواهد القائمة في الخلق ومعرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافة وبر الوالدين وأداء الأمانة ومواساة أهل الخلة وأشباه ذلك مما قد توجد معرفته والإقرار والاعتراف به في الطبع والفطرة من كل أمة موافقة أو مخالفة وكذلك أعطي علم ما فيه صلاح دنياه كالزراعة والغراس واستخراج الأرضين واقتناء الأغنام والأنعام واستنباط المياه ومعرفة العقاقير التي يستشفى بها من ضروب الأسقام والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر وركوب السفن والغوص في البحر وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان والتصرف في الصناعات ووجوه المتاجر والمكاسب وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار فأعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه ومنع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه ولا طاقته أن يعلم كعلم الغيب وما هو كائن وبعض ما قد كان أيضا كعلم ما فوق السماء وما تحت الأرض وما في لجج البحار وأقطار العالم وما في قلوب الناس وما في الأرحام وأشباه هذا مما حجب عن الناس علمه.

__________________

(١) كلام الامام في بحث اللغات وشأنها هاهنا يشعر بان الإنسان هو الذي وضع اللغات ، بما خطره الله من قابلية المنطق وتعلم الكلام.

٨١

وقد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور فأبطل دعواهم ما يبين من خطئهم فيما يقضون عليه ويحكمون به فيما ادعوا عليه.

فانظر كيف أعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه وحجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره ونقصه وكلا الأمرين فيها صلاحه

( ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته )

تأمل الآن يا مفضل ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته فإنه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع ترقب الموت وتوقعه لوقت قد عرفه بل كان يكون بمنزلة من قد فني ماله أو قارب الفناء فقد استشعر الفقر والوجل من فناء ماله وخوف الفقر على أن الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال لأن من يقل ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك ومن أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس وإن كان طويل العمر ثم عرف ذلك وثق بالبقاء وانهمك في اللذات والمعاصي وعمل على أنه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله ألا ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة ويرضيك يوما أو شهرا لم تقبل ذلك منه ولم يحل عندك محل العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك ونصحك في كل الأمور وفي كل الأوقات على تصرف الحالات فإن قلت أوليس قد يقيم الإنسان على المعصية حينا ثم يتوب فتقبل توبته قلنا إن ذلك شيء يكون من الإنسان لغلبة

٨٢

الشهوات له وتركه مخالفتها من غير أن يقدرها في نفسه ويبني عليه أمره فيصفح الله عنه ويتفضل عليه بالمغفرة فأما من قدر أمره على أن يعصي ما بدا له ثم يتوب آخر ذلك فإنما يحاول خديعة من لا يخادع بأن يتسلف (١) التلذذ في العاجل ويعد ويمني نفسه التوبة في الآجل ولأنه لا يفي بما يعد من ذلك فإن النزوع من الترفه والتلذذ ومعاناة (٢) التوبة ولا سيما عند الكبر وضعف البدن أمر صعب ولا يؤمن على الإنسان مع مدافعته بالتوبة أن يرهقه الموت فيخرج من الدنيا غير تائب كما قد يكون على الواحد دين إلى أجل وقد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتى يحل الأجل وقد نفذ المال ، فيبقى الدين قائما عليه فكان خير الأشياء للإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقب الموت فيترك المعاصي ويؤثر العمل الصالح فإن قلت وها هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته وصار يترقب الموت في كل ساعة يقارف (٣) الفواحش وينتهك المحارم (٤) قلنا إن وجه

__________________

(١) التسلف : الاقتراض كأنّه يجرى معاملة مع ربّه ، بان يتصرف في اللذات عاجلا ويعد ربّه في عوضها التوبة ليؤدي إليه آجلا .. وفي بعض النسخ يستسلف وهو طلب وبيع الشيء سلفا.

(٢) المعاناة : مقاساة العناء والمشقة.

(٣) في الأصل المطبوع يفارق ولا يستقيم المعنى بها بل يكون عكسيا. ولما رجعنا إلى البحار وجدناها يقارف.

(٤) المحارم جمع محرم وهو الحرام.

٨٣

التدبير في هذا الباب هو الذي جرى عليه الأمر فيه فإن كان الإنسان مع ذلك لا يرعوي (١) ولا ينصرف عن المساوئ فإنما ذلك من مرحه ومن قساوة قلبه لا من خطإ في التدبير كما أن الطبيب قد يصف للمريض ما ينتفع به فإن كان المريض مخالفا لقول الطبيب لا يعمل بما يأمره ولا ينتهي عما ينهاه عنه لم ينتفع بصفته ولم تكن الإساءة في ذلك للطبيب بل للمريض حيث لم يقبل منه ولئن كان الإنسان مع ترقبه للموت كل ساعة لا يمتنع عن المعاصي فإنه لو وثق بطول البقاء كان أحرى بأن يخرج إلى الكبائر الفظيعة فترقب الموت على كل حال خير له من الثقة بالبقاء ثم إن ترقب الموت وإن كان صنف من الناس يلهون عنه ولا يتعظون به فقد يتعظ به صنف آخر منهم وينزعون عن المعاصي ويؤثرون العمل الصالح ويجودون بالأموال والعقائل (٢) النفيسة في الصدقة على الفقراء والمساكين فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة لتضييع أولئك حظهم منها.

( الأحلام وامتزاج صادقها بكاذبها وسر ذلك )

فكر يا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها

__________________

(١) الارعواء : الكف عن الشيء ، او الندم على الشيء والانصراف عنه وتركه.

(٢) العقائل جمع عقيلة والعقيلة من الإبل هي الكريمة ، والعقيلة من كل شيء هي اكرمه.

٨٤

بكاذبها فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء ولو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة بل كانت فضلا لا معنى له فصارت تصدق أحيانا فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدي لها أو مضرة يتحذر منها وتكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد.

( الأشياء المخلوقة لمآرب الإنسان وإيضاح ذلك )

فكر يا مفضل في هذه الأشياء التي تراها موجودة معدة في العالم من مآربهم فالتراب للبناء والحديد للصناعات والخشب للسفن وغيرها والحجارة للأرحاء (١) وغيرها والنحاس للأواني والذهب والفضة للمعاملة والذخيرة والحبوب للغذاء والثمار للتفكه واللحم للمأكل والطيب للتلذذ والأدوية للتصحح (٢) والدواب للحمولة والحطب للتوقد والرماد للكلس (٣) والرمل للأرض وكم عسى أن يحصي المحصي من هذا وشبهه أرأيت لو أن داخلا دخل دارا فنظر إلى خزائن مملوءة من كل ما يحتاج إليه الناس ورأى كلما فيها مجموعا معدا لأسباب معروفة أكان يتوهم أن مثل هذا يكون بالإهمال ومن غير عمد فكيف يستجيز قائل أن يقول هذا من صنع الطبيعة في العالم وما أعد فيه من هذه الأشياء

__________________

(١) الارحاء جمع رحى وهي الطاحونة.

(٢) التصحح من صحح المريض : أزال مرضه.

(٣) الكلس : ـ بالكسر ـ ما يقوم به الحجر والرخام ونحوهما ويتخذ منها باحراقها.

٨٥

اعتبر يا مفضل بأشياء خلقت لمآرب الإنسان وما فيها من التدبير فإنه خلق له الحب لطعامه وكلف طحنه وعجنه وخبزه وخلق له الوبر لكسوته فكلف ندفه وغزله ونسجه وخلق له الشجر فكلف غرسها وسقيها والقيام عليها وخلقت له العقاقير لأدويته فكلف لقطها (١) وخلطها وصنعها وكذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال.

فانظر كيف كفي الخلقة التي لم يكن عنده فيها حيلة وترك عليه في كل شيء من الأشياء موضع عمل وحركة لما له في ذلك من الصلاح لأنه لو كفي هذا كله حتى لا يكون له في الأشياء موضع شغل وعمل لما حملته الأرض أشرا وبطرا (٢) ولبلغ به ذلك إلى أن يتعاطى أمورا فيها تلف نفسه ولو كفي الناس كلما يحتاجون إليه لما تهنئوا (٣) بالعيش ولا وجدوا له لذة ألا ترى لو أن امرءا نزل بقوم فأقام حينا بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم ومشرب وخدمة لتبرم بالفراغ ونازعته نفسه إلى التشاغل بشيء فكيف لو كان طول عمره مكفيا لا يحتاج إلى شيء فكان من صواب التدبير في هذه الأشياء التي خلقت للإنسان أن جعل له فيها موضع شغل لكيلا تبرمه البطالة ولتكفه عن تعاطي ما لا يناله ولا خير فيه إن ناله.

__________________

(١) اللقط مصدر من لقط الشيء : اخذه من الأرض بلا تعب ، ولقط الطائر الحب : أخذه بمنقاره

(٢) الاشر والبطر « كلاهما بالفتح » بمعنى واحد.

(٣) وفي نسخة البحار تهنوا.

٨٦

( الخبز والماء رأس معاش الإنسان وحياته )

واعلم يا مفضل أن رأس معاش الإنسان وحياته الخبز والماء فانظر كيف دبر الأمر فيهما فإن حاجة الإنسان إلى الماء أشد من حاجته إلى الخبز وذلك أن صبره على الجوع أكثر من صبره على العطش والذي يحتاج إليه من الماء أكثر مما يحتاج إليه من الخبز لأنه يحتاج إليه لشربه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه وسقي أنعامه وزرعه فجعل الماء مبذولا لا يشترى لتسقط عن الإنسان المئونة في طلبه وتكلفه وجعل الخبز متعذرا لا ينال إلا بالحيلة والحركة ليكون للإنسان في ذلك شغل يكفه عما يخرجه إليه الفراغ من الأشر والعبث ألا ترى أن الصبي يدفع إلى المؤدب وهو طفل لم تكمل ذاته للتعليم كل ذلك ليشتغل عن اللعب والعبث اللذين ربما جنيا عليه وعلى أهله المكروه العظيم وهكذا الإنسان لو خلا من الشغل لخرج من الأشر والعبث والبطر إلى ما يعظم ضرره عليه وعلى من قرب منه واعتبر ذلك بمن نشأ في الجدة (١) ورفاهية العيش والترفه والكفاية وما يخرجه ذلك إليه.

( اختلاف صور الناس وتشابه الوحوش والطير وغيرها )

( من الحكمة في ذلك )

اعتبر لم لا يتشابه الناس واحد بالآخر كما تتشابه الوحوش والطير وغير ذلك فإنك ترى السرب من الظباء والقطا تتشابه حتى لا يفرق

__________________

(١) الجدة ـ بالتخفيف ـ الغنى.

٨٧

بين واحد منها وبين الأخرى وترى الناس مختلفة صورهم وخلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة والعلة في ذلك أن الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحلاهم لما يجري بينهم من المعاملات وليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كل واحد منها بعينه وحليته ألا ترى أن التشابه في الطير والوحش لا يضرها شيئا وليس كذلك الإنسان فإنه ربما تشابه التوأم (١) تشابها شديدا فتعظم المئونة على الناس في معاملتهما حتى يعطى أحدهما بالآخر ويؤخذ أحدهما بذنب الآخر (٢) وقد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء فضلا عن تشابه الصور فمن لطف بعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال حتى وقف بها على الصواب إلا من وسعت رحمته كل شيء.

لو رأيت تمثال الإنسان مصورا على حائط وقال لك قائل إن هذا ظهر هنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع أكنت تقبل ذلك بل كنت تستهزئ به فكيف تنكر هذا في تمثال مصور جماد ولا تنكر في الإنسان الحي الناطق

__________________

(١) التوأم : المولود مع غيره في بطن واحد جمعه توائم. وفي جميع النسخ توأمان وورودها هنا خطأ ظاهر ، إذ لا يجوز فيها لأكثر من فردين ، ومجيئها بهذا النصّ دلالة على التثنية فيكون معناها أربعة افراد

(٢) أي قد يشبه مال شخص بمال شخص آخر كثوب او دينار فيصير سببا للاشتباه والتشاجر والتنازع فضلا عن تشابه الصورة فانه أعظم فسادا.

٨٨

( نمو أبدان الحيوان وتوقفها وسبب ذلك )

لم صارت أبدان الحيوان وهي تغتذي أبدا لا تنمي بل تنتهي إلى غاية من النمو ثم تقف ولا تتجاوزها لو لا التدبير في ذلك فإن تدبير الحكيم فيها أن تكون أبدان كل صنف منها على مقدار معلوم غير متفاوت في الكبير والصغير وصارت تنمي حتى تصل إلى غايتها ثم تقف ثم لا تزيد والغذاء مع ذلك دائم لا ينقطع ولو تنمي نموا دائما لعظمت أبدانها واشتبهت مقاديرها (١) حتى لا يكون لشيء منها حد يعرف.

( ما يعتري أجسام الإنس من ثقل الحركة والمشي لو لم يصبها ألم )

لم صارت أجسام الإنس خاصة تثقل عن الحركة والمشي وتجفو عن الصناعات اللطيفة (٢) إلا لتعظيم المئونة فيما يحتاج إليه الناس للملبس والمضجع والتكفين وغير ذلك لو كان الإنسان لا يصيبه ألم ولا وجع بم كان يرتدع عن الفواحش ويتواضع لله ويتعطف على الناس ...

__________________

(١) أي لم يعرف غاية ما ينتهي إليه مقداره ، فيشتبه الامر عليه ، فيما يريد أن يهيئه لنفسه من دار وثياب وزوجة.

(٢) أي يبتعد ويجتنب ولا يداوم على الصناعات اللطيفة أي التي فيها دقة ولطافة. والمراد ان الله تعالي جعل اجسام الإنسان بحيث تثقل عن الحركة والمشى قبل سائر الحيوانات ، وتكل عن الاعمال الدقيقة لتعظم عليه مئونة تحصيل ما يحتاج إليه ، فلا يبطر ولا يطمع ، او ليكون لهذه الاعمال اجر ، فيصير سببا لمعايش أقوام يزاولونها.

٨٩

أما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع واستكان ورغب إلى ربه في العافية وبسط يده بالصدقة ولو كان لا يألم من الضرب بم كان السلطان يعاقب الدعار (١) ويذل العصاة المردة وبم كان الصبيان يتعلمون العلوم والصناعات وبم كان العبيد يذلون لأربابهم ويذعنون لطاعتهم أفليس هذا توبيخ ابن أبي العوجاء (٢) وذويه الذين جحدوا التدبير.

( والمانوية ) الذين أنكروا الوجع والألم.

( انقراض الحيوان لو لم يلد ذكورا وإناثا )

ولو لم يولد من الحيوان إلا ذكر فقط أو أنثى فقط ألم يكن النسل منقطعا وباد مع أجناس الحيوان فصار بعض الأولاد يأتي ذكورا وبعضها يأتي إناثا ليدوم التناسل ولا ينقطع.

( ظهور شعر العانة عند البلوغ ونبات اللحية للرجل دون )

( المرأة وما في ذلك من التدبير )

لم صار الرجل والمرأة إذا أدركا تنبت لهما العانة ثم تنبت اللحية للرجل وتتخلف عن المرأة لو لا التدبير في ذلك فإنه لما جعل الله تبارك

__________________

(١) الدعار جمع داعر وهو الخبيث .. وفي النسخة المطبوعة الذعار بالذال وهذا تصحيف.

(٢) تقدمت ترجمة ابن أبي العوجاء في مقدّمة الكتاب.

٩٠

وتعالى الرجل قيما ورقيبا على المرأة وجعل المرأة عرسا وخولا (١) للرجل أعطى الرجل اللحية لما له من العز والجلالة والهيبة ومنعها المرأة لتبقى لها نضارة الوجه والبهجة التي تشاكل المفاكهة (٢) والمضاجعة أفلا ترى الخلقة كيف تأتي بالصواب في الأشياء وتتخلل مواضع الخطإ (٣) فتعطي وتمنع على قدر الإرب (٤) والمصلحة بتدبير الحكيم عز وجل

قال المفضل : ثم حان وقت الزوال فقام مولاي إلى الصلاة وقال بكر (٥) إلي غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت من عنده مسرورا بما عرفته مبتهجا بما أوتيته حامدا لله تعالى عز وجل على ما أنعم به علي شاكرا لأنعمه على ما منحني بما عرفنيه مولاي وتفضل به علي فبت في ليلتي مسرورا بما منحنيه محبور بما علمنيه.

__________________

(١) الخول ـ بفتحتين ـ العبيد والإماء وغيرهم من الحاشية وهو يستعمل بلفظ واحد للجميع ، وربما قيل للواحد خائل.

(٢) المفاكهة : هى الممازحة والمضاحكة.

(٣) يحتمل أن تكون الجملة حالية ، اي تأتي بالصواب مع انها تدخل مواضع هي مظنة الخطأ من قولهم تخللت القوم اي دخلت خلالهم ويحتمل أن يكون المراد بالتخلل التخلف أو الخروج من خلالها ، لكن تطبيقها على المعاني اللغويّة يدعو الى التكلف.

(٤) الارب ـ بفتحتين ـ : الحاجة والغاية والجمع آراب.

(٥) بكر ـ بالتشديد ـ أتاه بكرة.

٩١

المجلس الثاني

قال المفضل فلما كان اليوم الثاني بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي فدخلت فأمرني بالجلوس فجلست فقال : ـ

الحمد لله مدبر الأدوار (١) ومعيد الأكوار (٢) طبقا (٣) عن طبق وعالما بعد عالم ـ ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) عدلا منه تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه ( لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) يشهد بذلك قوله جل قدسه ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) في نظائر (٤) لها في كتابه الذي فيه تبيان كل شيء و ( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ولذلك

__________________

(١) الادوار جمع دور مصدر بمعنى الحركة.

(٢) الاكوار جمع كور ـ بالفتح ـ مصدر بمعنى الجماعة الكثيرة او القطيع من الإبل والبقر ويقال كل دور كور والمراد اما استيناف قرن بعد قرن وزمان بعد زمان.

(٣) الطبق : وجه الأرض ولعلّ المراد به معنى الحال يقال : الدهر اطباق ـ اى أحوال تختلف.

(٤) أي قالها في ضمن نظائرها او مع نظائرها.

٩٢

قال سيدنا محمد صلوات الله عليه وعلى آله : « إنما هي أعمالكم ترد إليكم »

ثم أطرق الإمام هنيئة وقال يا مفضل الخلق حيارى عمهون (١) سكارى في طغيانهم يترددون وبشياطينهم وطواغيتهم يقتدون بصراء عمي لا يبصرون نطقاء بكم (٢) لا يعقلون سمعاء (٣) صم (٤) لا يسمعون رضوا بالدون (٥) وحسبوا أنهم مهتدون حادوا (٦) عن مدرجة (٧) الأكياس (٨) ورتعوا في مرعى الأرجاس (٩) الأنجاس كأنهم من مفاجأة الموت آمنون وعن المجازاة مزحزحون يا ويلهم

__________________

(١) عمهون ، جمع عمه ـ بفتح فكسر ـ وهو المتردد في الضلال والمتحير في أمره أو طريقه.

(٢) بكم ، جمع أبكم وهو الاخرس.

(٣) سمعاء ، جمع سميع بمعنى السامع والمسمع وهو للمبالغة.

(٤) الصم ، جمع أصم وهو الذي انسدت اذنه وثقل سمعه او ذهب عنه بتاتا.

(٥) الدون ، أريد به هنا معنى الخسيس الحقير السافل.

(٦) حادوا : مالوا.

(٧) مدرجة جمع مدارج : ما يساعد على التوصل الى ما هو أفضل او أعلى منه.

(٨) الاكياس : جمع كيس بتشديد الياء ـ اي الفطن الحسن الفهم والأدب

(٩) الارجاس لعله جمع رجس ـ بالكسر ـ القذر والمأثم او كل ما استقذر من العمل والعمل المؤدي الى العذاب.

٩٣

ما أشقاهم وأطول عناءهم وأشد بلاءهم ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ ).

قال المفضل : فبكيت لما سمعت منه فقال لا تبك تخلصت إذ قبلت ونجوت إذ عرفت.

( أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها وإيضاح ذلك )

ثم قال : أبتدئ لك بذكر الحيوان ليتضح لك من أمره ما وضح لك من غيره فكر في أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها على ما هي عليه فلا هي صلاب كالحجارة ولو كانت كذلك لا تنثني (١) ولا تتصرف في الأعمال ولا هي على غاية اللين والرخاوة فكانت لا تتحامل ولا تستقل بأنفسها فجعلت من لحم رخو ينثني تتداخله عظام صلاب يمسكه عصب وعروق تشده وتضم بعضه إلى بعض وغلفت (٢) فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كله وأشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل من العيدان وتلف بالخرق وتشد بالخيوط وتطلى فوق ذلك بالصمغ فتكون العيدان بمنزلة العظام والخرق بمنزلة اللحم والخيوط بمنزلة العصب والعروق والطلاء بمنزلة الجلد فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرك حدث بالإهمال من غير صانع جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميتة فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحري أن لا يجوز في الحيوان.

__________________

(١) لا تنثني : لا تنعطف ولا تميل.

(٢) في نسخة وعليت.

٩٤

( أجساد الأنعام وما أعطيت وما منعت وسبب ذلك )

وفكر يا مفضل بعد هذا في أجساد الأنعام (١) فإنها حين خلقت على أبدان الإنس من اللحم والعظم والعصب أعطيت أيضا السمع والبصر ليبلغ الإنسان حاجته فإنها لو كانت عميا صما لما انتفع بها الإنسان ولا تصرفت في شيء من مآربه ثم منعت الذهن والعقل لتذل للإنسان فلا تمتنع عليه إذا كدها الكد الشديد وحملها الحمل الثقيل فإن قال قائل إنه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلون ويذعنون بالكد الشديد وهم مع ذلك غير عديمي العقل والذهن فيقال في جواب ذلك إن هذا الصنف من الناس قليل فأما أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدواب من الحمل والطحن وما أشبه ذلك ولا يغرون (٢) بما يحتاج إليه منه ثم لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال لأنه كان يحتاج مكان الجمل الواحد والبغل الواحد إلى عدة أناسي فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات مع ما يلحقه من التعب الفادح في أبدانهم والضيق والكد في معاشهم.

__________________

(١) الأنعام جمع نعم ـ بفتحتين ـ الإبل وتطلق على البقر والغنم.

(٢) لا يغرون ـ بالغين على بناء المفعول ـ اي لا يؤثر فيهم الاغراء والتحريض على جميع الاعمال التي يحتاج إليها الخلق من ذلك العمل الذي تأتى به الدوابّ.

٩٥

( خلق الأصناف الثلاثة من الحيوان )

فكر يا مفضل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان وفي خلقها على ما هي عليه مما فيه صلاح كل واحد منها فالإنس لما قدروا أن يكونوا ذوي ذهن وفطنة وعلاج لمثل هذه الصناعات من البناء والتجارة والصياغة والخياطة وغير ذلك خلقت لهم أكف كبار ذوات أصابع غلاظ ليتمكنوا من القبض على الأشياء وأوكدها هذه الصناعات.

( آكلات اللحم من الحيوان والتدبير في خلقها )

وآكلات اللحم لما قدر أن تكون معايشها من الصيد خلقت لهم أكف لطاف مدمجة (١) ذوات براثن (٢) ومخالب (٣) تصلح لأخذ الصيد ولا تصلح للصناعات وآكلات النبات لما قدر أن يكونوا لا ذوات صنعة ولا ذات صيد خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونة الأرض إذا حاولت طلب المرعى ولبعضها حوافر ململمة (٤) ذوات قعر (٥)

__________________

(١) مدمجة أي مستقيمة محكمة متداخلة.

(٢) البراثن جمع برثن بالضم ـ من السباع والطير بمنزلة الاصبع من الإنسان.

(٣) المخالب جمع مخلب ـ بالكسر ـ وهو الظفر خصوصا من السباع

(٤) ململمة اي مجموعة بعضها الى بعض.

(٥) قعر كل شيء اقصاه.

٩٦

كأخمص القدم تنطبق على الأرض عند تهيئها للركوب والحمولة.

تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان حين خلقت ذوات أسنان حداد وبراثن شداد وأشداق (١) وأفواه واسعة فإنه لما قدر أن يكون طعمها (٢) اللحم خلقت خلقة تشاكل ذلك وأعينت بسلاح وأدوات تصلح للصيد وكذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير ومخالب مهيئة لفعلها ولو كانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد أعطيت ما لا تحتاج إليه لأنها لا تصيد ولا تأكل اللحم ولو كانت السباع ذوات أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه أعني السلاح الذي تصيد به وتتعيش أفلا ترى كيف أعطي كل واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه وطبقته بل ما فيه بقاؤه وصلاحه.

( ذوات الأربع واستقلال أولادها )

انظر الآن إلى ذوات الأربع كيف تراها تتبع أماتها (٣) مستقلة بأنفسها لا تحتاج إلى الحمل والتربية كما تحتاج أولاد الإنس فمن أجل أنه ليس عند أماتها ما عند أمهات البشر من الرفق والعلم بالتربية والقوة عليها بالأكف والأصابع المهيأة لذلك أعطيت النهوض والاستقلال بأنفسها وكذلك

__________________

(١) الاشداق جمع شدق ـ بالفتح او الكسر ـ زاوية الفم من باطن الخدين.

(٢) الطعم ـ بالضم ـ الطعام.

(٣) الامات جمع أم وقيل انها تستعمل في البهائم ، واما في الناس فهي أمّهات

٩٧

ترى كثيرا من الطير كمثل الدجاج والدراج (١) والقبج (٢) تدرج وتلقط حين تنقاب عنها البيضة فأما ما كان منها ضعيفا لا نهوض فيه كمثل فراخ الحمام واليمام (٣) والحمر (٤) فقد جعل في الأمهات فضل عطف عليها فصارت تمج (٥) الطعام في أفواهها بعد ما توعيه (٦) حواصلها (٧) فلا تزال تغذوها حتى تستقل بأنفسها ولذلك لم ترزق الحمام فراخا كثيرة مثل ما ترزق الدجاج لتقوى الأم على تربية فراخها فلا تفسد ولا تموت فكلا أعطي بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير.

__________________

(١) الدراج ـ بضم فتشديد ـ طائر شبيه بالحجل وأكبر منه ارقط بسواد وبياض قصير المنقار يطلق على الذكر والأنثى ، جمعه دراريج وواحدته دراجة والتاء للوحدة لا للتأنيث.

(٢) القبج ـ بفتحتين ـ طائر يشبه الحجل وفي القاموس هو الحجل والواحدة قبجة تقع على الذكر والأنثى.

(٣) اليمام : الحمام الوحشى.

(٤) الحمر ـ بضم فتشديد ـ طائر احمر اللون والواحدة حمرة.

(٥) تمج الطعام اي ترمي به.

(٦) توعيه من اوعى الزاد ونحوه ـ اي جعله في الوعاء.

(٧) الحواصل كأنّها جمع حوصلة وحوصلاء وهي من الطير بمنزلة المعدة من الإنسان.

٩٨

( قوائم الحيوان وكيفية حركتها )

انظر إلى قوائم الحيوان كيف تأتي أزواجا لتتهيأ للمشي ولو كانت أفرادا لم تصلح لذلك لأن الماشي ينقل قوائمه يعتمد على بعض فذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على واحدة وذو الأربع ينقل اثنتين ويعتمد على اثنتين وذلك من خلاف لأن ذا الأربع لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه ويعتمد على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبت على الأرض كما يثبت السرير وما أشبهه فصار ينقل اليمنى من مقاديمه مع اليسرى من مآخيره وينقل الأخريين أيضا من خلاف فيثبت على الأرض ولا يسقط إذا مشى.

( انقياد الحيوانات المسخرة للإنسان وسببه )

أما ترى الحمار كيف يذل للطحن والحمولة وهو يرى الفرس مودعا منعما والبعير لا يطيقه عدة رجال لو استعصى كيف كان ينقاد للصبي والثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه حتى يضع النير (١) على عنقه ويحرث به والفرس الكريم يركب (٢) السيوف والأسنة بالمواتاة لفارسه والقطيع من الغنم يرعاه واحد ولو تفرقت الغنم فأخذ كل واحد منها في

__________________

(١) النير ـ بالكسر ـ الخشبة المعترضة في عنقي الثورين بأداتها والجمع انيار ونيران.

(٢) يركب السيوف والاسنة اي يلقى نفسه عليها.

٩٩

ناحية لم يلحقها وكذلك جميع الأصناف المسخرة للإنسان كانت كذلك إلا بأنها عدمت العقل والروية فإنها لو كانت تعقل وتتروى في الأمور كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه حتى يمتنع الجمل على قائده والثور على صاحبه وتتفرق الغنم عن راعيها وأشباه هذا من الأمور.

( افتقاد السباع للعقل والروية وفائدة ذلك )

وكذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل وروية فتوازرت (١) على الناس كانت خليقة أن تجتاحهم فمن كان يقوم للأسد والذئاب والنمور والدببة لو تعاونت وتظاهرت على الناس أفلا ترى كيف حجر (٢) ذلك عليها وصارت مكان ما كان يخاف من إقدامها ونكايتها تهاب مساكن الناس وتحجم عنها ثم لا تظهر ولا تنتشر لطلب قوتها إلا بالليل فهي مع صولتها كالخائف من الإنس بل مقموعة (٣) ممنوعة منهم ولو كان ذلك لساورتهم في مساكنهم وضيقت عليهم.

( عطف الكلب على الإنسان ومحاماته عنه )

ثم جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه ومحاماة

__________________

(١) توازرت أي اجتمعت واتحدت.

(٢) حجر عليه الأمر : حرّمه ومنعه.

(٣) مقموعة : مقهورة ذليلة.

١٠٠