توحيد المفضّل

المفضل بن عمر الجعفي

توحيد المفضّل

المؤلف:

المفضل بن عمر الجعفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الداوري
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٩٢

١

٢

المفضل بن عمر

سيرته وتوحيده

١ ـ توطئة :

في نهاية عام ١٩٤٩ تقدم الأخ الفاضل محمد كاظم الكتبي إلى طبع كتاب التوحيد الذي أملاه الامام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام على تلميذه النجيب : المفضل بن عمر الجعفي ، وما ان نزل إلى الأسواق حتى تداولته الأيدي ، ونفذت نسخه الكثيرة في بضعة شهور ، وظل الأخ الكتبي يحدث نفسه بطبع الكتاب مرة ثانية ، ولكنه أحب هذه المرة أن يخرجه في حلة جديدة ، ويضيف إليه شرح ما غمض من تعابيره وأشكل من ألفاظه ومعانيه ، ثم وضع مقدمة له تبين أغراض الكتاب ومقاصده العالية ، وترجمة المفضل وعلاقته بسيده الإمام الصادق ، إلى غير ذلك من الموضوعات التي تمس الكتاب وتحوم حوله.

وقد تحدث إلى الأخ الكتبي بهذا الأمر ، وكلفني بأن أتولى ذلك بنفسي ، فلم أجد مناصا من ذلك ، وقمت بالمهمة على عجالة وسرعة ، ذلك لانشغال البال ، وكثرة الأعمال ، وانصراف الذهن إلى مهام أخرى ، واني لأرجوا ان أتفرغ له مرة ثانية ، فأزيد في شرحه وأوليه العناية التي هو أهلها.

وحسبي الآن هذه التعاليق البسيطة التي ارجو أن كون حافزا لغيرى من الأفاضل على درس كتاب التوحيد والقيام بشرحه شرحا مستفيضا.

٣

٢ ـ حياة المفضل :

ولد أبو محمد وقيل أبو عبد الله المفضل بن عمر الجعفى الكوفي ، فيما بين أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني الهجري في مدينة الكوفة الآهلة ـ يومئذ ـ برواد العلم ، واقطاب الفكر الإسلامي.

ونستنتج من بعض الروايات ان المفضل عاصر الإمام الباقر واحتك به ، فأدرك الدولة الأموية .. ومن ثم اتصل بالامام الصادق ، وبعده بالامام موسى الكاظم ، وقد أخذ عنهما الحديث والرواية ، وكان أثيرا لديهما ، قريبا اليهما ، متوكلا عنهما ، متوليا لهما في قبض الأموال ، وتفويضه في ذلك تفويضا يدل على ثقة الجميع به واعتمادهم عليه ، وقد قال له الإمام الصادق مرة : ( اذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة ، فافتدها من مالي ) (١).

وعاصر بعد ذلك الإمام الرضا ، وفي أيامه توفي ، وكان ذلك في أخريات المائة الثانية من الهجرة ، عن عمر ناهز الثمانين سنة. ولما بلغ موته الرضا قال فيه هذه الكلمة الخالدة : ( كان الوالد بعد الوالد .. اما انه قد استراح ) (٢) ، وفي خبر آخر ان الرضا خاطب أحد أصحابه بقوله

__________________

(١) مستدرك الوسائل للعلامة النوريّ ـ مج ٣ ص ٥٦٢ ط دار الخلافة بطهران.

(٢) معرفة أحوال الرجال للكشّيّ ـ ص ٢١١ ط المصطفوية ببمبئي ، ورجال ابى علي ص ٣٠٨ ط إيران.

٤

( أما ان المفضل كان انسي ومستراحي ) (١).

ومن المؤكد ان المفضل توفى ، وهو لم يكن بطوس ولا ببغداد ، وانما كان بالكوفة ، فانها كانت مسقط راسه ، وبها كان وكيلا من قبل الامامين الصادق والكاظم ، وكان المفضل حيا حتى سنة ١٨٣ ه‍.

وهي السنة التي توفي بها الإمام الكاظم ، ولم يدم بعد ذلك إلا قليلا ، لا سيما وان الاخبار لم تكن متوفرة عن اتصاله بالامام الرضا مما ترجح عندنا وفاته بعد سنيات من موت الإمام الكاظم.

٣ ـ كتب المفضل :

كان المفضل دائبا على الحضور في مدرسة الإمام الصادق ، وقد استقى الكثير من الأحاديث والعلوم عنه ، وعن ولده موسى الكاظم ، وعن حفيده ابى الحسن الرضا. وعند اختمار تلكم الأحاديث والمعارف في ذهنه وعند ما نضجت في عقله ووعاها حق الوعي ، استطاع ان يؤلف عددا من الكتب فيما لا تخرج مضامينها ومواضيعها عن حدود الشريعة الإسلامية وعن عظمة الخالق ، وعن الموجودات والخلائق.

وسنذكر هنا ما استطعنا الوقوف عليه من كتب المفضل وتآليفه.

وهي كما يلي :

١ ـ كتاب الإهليلجة : هو من إملاء الإمام الصادق على المفضل في قصة تروى في اول الكتاب ومفادها : ان طبيبا حاج الامام في الإهليلجة ،

__________________

(١) العيون للشيخ الصدوق في باب النصوص على امامة الرضا ، وتنقيح المقال للمامقاني ج ٣ ص ٢٣٨ ط المرتضوية بالنجف.

٥

وفيها رد على الملحدين المنكرين للربوبية. وقد أوردها العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي في المجلد الثاني في التوحيد من ( بحار الأنوار ) مع الشرح والبيان ، وقال في الفصل الثاني من اول البحار : ( ان بعض علماء المخالفين نسب هذا الكتاب إلى الإمام الصادق ) وهذا مما يحقق نسبته إلى المفضل من إملاء الامام عليه ، وان داخل بعضهم ريب من ذلك!

٢ ـ كتاب كنز الحقائق والمعارف : هو نفس كتاب التوحيد ، ولا ندري من وضع هذا الاسم الجديد لكتاب التوحيد ، إلا أن الشيخ أغا بزرك قال : ( .. وسماه ـ أي كتاب التوحيد ـ بعض الفضلاء بكنز الحقائق والمعارف ) (١) .. وهذا الاسم غير مطابق لمضامين الكتاب كل المطابقة.

٣ ـ الوصية : وهي التي أوصى بها الصادق تلميذه المفضل فيما يتعلق بأحوال المسلمين ، ومعايشهم ، وأهوائهم ، وما كان لهم ، وما سيكون ، وما في العالمين السفلي والعلوي من اسرار وخفايا.

وقد ظن الدكتور مصطفى جواد أن رسالة الوصية هذه هي نفس كتاب بدء الخلق الآنى ذكره ، وبعبارة أخرى هي نفس كتاب التوحيد بينما نرى أن الوصية رسالة خاصة ليست لها أية علاقة بكتاب التوحيد ، ونجد في بعض المصادر (٢) قطعا مقتضبة من وصايا الصادق للمفضل

__________________

(١) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج ٤ ص ٤٨٢ ط الغري بالنجف.

(٢) من تلك المصادر : كتاب بصائر الدرجات ، وكتاب الإمام الصّادق ج ٢ ص ٥٥ ط الثانية.

٦

مما يؤكد صحة قولنا.

أما ما ذكره الرجالي الثبت البصير أحمد بن علي النجاشي المتوفى عام ٤٥٠ هج من مؤلفات المفضل ، فهي :

٤ ـ كتاب ما افترض الله على الجوارح من الايمان : جوهر هذا الكتاب دال ومعروف من عنوانه وان كان تفصيل موضوعاته غير بين لدينا

٥ ـ كتاب الإيمان والإسلام : ويستفاد من النجاشي (١) ان هذا الكتاب هو نفس الكتاب السابق ، وتطرق إلى ذكره الشيخ أغا بزرك (٢) إلا انه لم يشر إلى هذا المعنى ، بل عده مستقلا عن الكتاب السابق.

٦ ـ كتاب يوم وليلة : ولا يبعد أن يكون موضوع هذا الكتاب خاص في الأعمال المستحبة والأدعية التي سمعها المفضل ورواها عن أهل البيت فيما يتعلق باعمال اليوم والليلة.

٧ ـ كتاب علل الشرائع : والظاهر أن هذا الكتاب يبحث عن فلسفة الاحكام الشرعية ، وعن فوائدها ومنافعها ، وما أشبه ذلك ، وإذا تحقق هذا فالكتاب جليل في بابه لا بد أن يكون على جانب من الخطورة

٨ ـ كتاب فكر وهو الاسم الذي اصطلحه النجاشي (٣) لكتاب التوحيد

__________________

(١) ص ٢٩٥ من رجال النجاشيّ .. قال النجاشيّ : ( كتاب ما افترض الله على الجوارح من الايمان وهو كتاب الإيمان والإسلام وهذا القول صريح في إثبات ما ذكرناه.

(٢) في موسوعته الجليلة ( الذريعة ) ج ٢ ص ٥١٤.

(٣) رجال النجاشيّ ص ٢٩٢.

٧

٩ ـ كتاب بدء الخلق والحث على الاعتبار : هو نفس كتاب التوحيد وقد ظن بعض المتاخرين (١) ان هذا الكتاب مستقل بذاته ، وانا لا اقرهم على ذلك ، فان النجاشي يصرح قائلا : ( كتاب فكر كتاب في بدء الخلق والحث على الاعتبار ) (٢) اي ان كتاب فكر هو كتاب يبحث في بدء الخلق والحث على الاعتبار ، لا سيما إذا علمنا ان حقيقة مضامين الكتاب لا تبحث إلا في الابداع والخلقة ، ويتجلى ذلك في قول الامام مخاطبا المفضل (٣) ( نبدأ يا مفضل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به ) وقوله ايضا (٤) : اعتبر يا مفضل ، وقوله كذلك (٥) : اعتبر يا مفضل باشياء خلقت لمآرب الإنسان ..

٤ ـ الاخبار المروية في حقه :

إذا تصفحت كتب الرجال ، وراجعت ما خطه المؤرخون في المفضل ، وجدت ما يدعوك إلى اكباره ، والإعجاب به ، وتقدير خدماته

__________________

(١) كالشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء في المراجعات الريحانية ج ٢ ص ٨١ ط الاهلية ببيروت ، والشيخ أغا بزرك في الذريعة ج ٣ ص ٥١.

(٢) رجال النجاشيّ ص ٢٩٦.

(٣) توحيد المفضل ص ٦ ط الحيدريّة الأولى بالنجف.

(٤) المصدر السابق ص ٧.

(٥) كذلك ص ٣١.

٨

الجلي لآل البيت ، وما كان له من المواقف المحمودة في الذب عنهم ، ونصرته لهم نصرة مؤمن بهم ، موقن بما لهم من الدرجات الرفيعة .. ولما عرف الأئمة منه ذلك بجلوه غاية التبجيل ، وقربوه من أنفسهم ، وانزلوه منزلة الخواص من أصحابهم الثقاة من بطانتهم.

فمن الاخبار المعربة عن شخصيته المحترمة ما رواه أبو حنيفة الجمال قال : مر بنا المفضل انا وختني (١) نتشاجر في ميراث لنا ، فوقف علينا ساعة ثم قال : تعالا معي إلى المنزل ، فاتيناه فأصلح بيننا باربعمائة درهم ، ودفعها الينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا من صاحبه قال : أما انها ليست من مالي ، ولكن الإمام الصادق أمرنى إذا تنازع رجلان في شيء ان اصلح بينهما ، وافتديهما من ماله ، فهذا من مال الامام أبي عبد الله (٢).

ودخل المفضل مرة على الإمام الصادق ، فلما بصر به تبسم في وجهه ثم قال : إلي إلي يا مفضل فو ربى اني لأحبك وأحب من يحبك! .. يا مفضل لو عرف جميع أصحابى ما تعرف ما اختلف اثنان!. فقال له المفضل : يا ابن رسول الله لقد حسبت ان اكون قد أنزلت فوق منزلتي ..؟ فاجابه

__________________

(١) الختن : بفتحتين ـ كل من كان من قبل المرأة مثل الأب والأخ جمعه اختان ، والمراد من اللفظ هنا ظاهرا هو الأخ.

(٢) أول من روى هذا الخبر ثقة الإسلام الكليني في كتابه : الكافي ونقله المجلسيّ في البحار مج ١١ ص ١٢٠ ، والنوريّ في المستدرك مج ٣ ص ٥٦٢ ، والمامقاني في تنقيح المقال مج ٣ ص ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

٩

الامام : ( بل أنزلت المنزلة التي انزلك الله بها .. ) (١).

وليس شيء ادل على واسع علم المفضل ، وخبرته الواسعة في احكام الشريعة ، من قول الفيض بن المختار للصادق : ( انى لأجلس في حلقات أصحابنا بالكوفة ، فأكاد اشك باختلافهم في حديثهم ، حتى ارجع إلى المفضل ، فيقضي من ذلك علي ما تستريح إليه نفسى ، ويطمئن إليه قلبي ) قال الإمام : ( اجل هو كما ذكرت ) (٢).

وعد الشيخ الكفعمي (٣) المفضل من البوابين (٤) وقال : ( ان المراد

__________________

(١) مستدرك الوسائل مج ٣ ص ٥٦٤.

(٢) تنقيح المقال للمامقاني مج ٣ ص ٢٣٩.

(٣) في جدول المصباح ص ٢٧٧ ط بمبي .. ونقل عن الكفعمي هذا القول النوريّ في المستدرك مج ٣ ص ٥٧٠ وأبو عليّ في رجاله ص ٣١٩ وذكر الأمين في أعيان الشيعة في القسم الأوّل من الجزء الرابع ص ٥٤٤ ط الترقى : ان المفضل كان بواب الإمام الصّادق. ومثل هذا في الفصول المهمة لابن الصباغ .. وذكر الأمين أيضا في أعيان الشيعة في القسم الثاني من الجزء الرابع ص ٦ ط ابن زيدون : ان المفضل كان بواب الامام الكاظم. قال ذلك نقلا عن كتاب المناقب لابن شهرآشوب.

(٤) البواب في اللغة : هو بمعنى الحاجب ، كما ورد ذلك في ( تاج العروس ) ج ١ ص ١٥٣ وص ٢٠٣ ، وفي لسان العرب مج ١ ص ٢١٧ وص ٢٨٩. وكتب عن الحجابة قليلا محمّد فريد وجدي في دائرة معارف القرن العشرين مج ٣ ص ٣٤٧ ط الثانية ، وفصل القول عنها ابن خلدون ـ

١٠

من باب الامام على ما يظهر من بعض قدماء الأصحاب هو بابه في العلوم والاسرار .. ) ومن كان اجدر من أصحاب الامام بالمفضل ، لنيل هذه المكانة ، وجعل الامام منه بابا لعلومه ومخبئا لاسراره.

عن هشام بن أحمد قال : دخلت على ابي عبد الله وانا أريد ان اسأله عن المفضل ، وهو في ضيعة له ، في يوم شديد الحر ، والعرق يسيل على صدره ، فابتدأنى بقوله : ( نعم العبد ـ والله لا إله إلا هو ـ المفضل بن عمر ) حتى احصيتها نيفا وثلاثين مرة يقولها ويكررها لي (١).

__________________

ـ في مقدّمته ص ٢٤٣ ط الازهرية ، وفعل ذلك جرجي زيدان في تاريخ التمدن الإسلامي ج ١ ص ٢٤٤ ط الهلال .. وان ممّا يستدل به على ان البواب هو بمعنى باب في العلوم والاسرار ، او ما يشابه هذا المعنى ما جاء في دائرة المعارف للمعلم بطرس البستاني مج ٦ ص ٦٨٩ : ( .. وحجب السلطان نفسه عن الناس ، فصار هذا الحاجب واسطة بين الناس ، وأهل الرتب العالية ، ثمّ جعل له آخر الدولة السيف والحرب ثمّ الراي والمشورة ، فصارت الخطة ارفع الرتب ، واوعبها للخطط ) ( واظن ان هذا الكلام منقول عن ابن خلدون ) وان المراد من لفظ الباب في هذا الموضع بالذات هو باب الأئمة في علومهم واسرارهم ، كما صرّح بذلك القمّيّ في سفينة البحار ج ١ ص ١٤٣.

(١) رجال الكشّيّ ص ٢٠٧ ، ورجال ابى علي ص ٣٠٨ والمستدرك مج ٣ ص ٥٦٣ ، ورجال الشيخ محمّد طه نجف ص ٢٧٢ ، ورجال الأسترآباديّ ورجال القهبائي المخطوط .. وروى هذا الخبر شيخ الطائفة الطوسيّ في ـ

١١

وسال أبو الحسن الكاظم بعض أصحابه فيما يقوله الناس في المفضل فاجابه! يقولون فيه هبه يهوديا او نصرانيا ، وهو يقوم بأمر صاحبكم قال الإمام : ( ويلهم ..!! ما اخبث ما انزلوه ..!! ما عندي كذلك ، وما لي فيهم مثله (١).

وصرح الشيخ المفيد (٢) بأن المفضل ممن روى النص عن أبي عبد الله على ابنه أبي الحسن موسى ، وانه من شيوخ أصحابه وخاصته وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحين.

__________________

ـ كتاب الغيبة ، والظاهر أنّه اخذه من غير رجاك الكشّيّ ، للاختلاف في مواضع المتن والسند .. كما رواه أيضا محمّد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات ، والمجلسيّ في البحار مج ١١ ص ٩٢ في باب معجزات الامام الصادق ط التبريزي بايران.

(١) رجال الكشّيّ ص ٢١١ ، والمستدرك مج ٣ ص ٥٦٤.

(٢) في كتابه الإرشاد ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨ في باب النصّ على امامة أبى الحسن موسى. ونقل هذا البيان جملة من أصحاب الرجال كالتفرشى في رجاله ص ٣٥٢ ط طهران ، ومحمّد بن الحسن الأشعريّ في الجزء الثالث من الوسائل ص ٥٩٨ ط دار الخلافة ، وأبو عليّ في رجاله ص ٣٠٩ ، وعناية الله القهبائي في مجمع الرجال ـ مخطوط ، والشيخ محمّد طه نجف في إتقان المقال ص ٣٦٩ ، والنوريّ في المستدرك مج ٣ ص ٥٧٠ ، والمامقاني في تنقيح المقال مج ٣ ص ٢٤٠.

١٢

وذكر شيخ الطائفة الطوسي (١) ان المفضل من قوام الأئمة وكان محمودا عندهم محبوبا لديهم ، ثم انه كان من وكلائهم الذين مضوا على منهاجهم.

٥ ـ تضميد جروحه :

روينا للقارئ بعض الأخبار والأحاديث التي تدل على خطة المفضل الطيبة ، ومكانته السامية في نفوس آل البيت ، تلك المكانة التي دعت اعدائهم إلى نصب الشراك ، وإيقاعه فيها ، كرميه بالتهم والاباطيل وقذفه بالاكاذيب والافتراءات.

وإذا رجعنا إلى عصر الإمام الصادق ، للمسنا تشدد الحاكمين على آل البيت وأصحابهم. وكان أكثر الشيعة يلوذون بأئمتهم ، حفظا لظهورهم من سياط جلاوزة العباسيين وولاتهم الجائرين الذين لم يألوا جهدا في مطاردة أهل البيت ومن يمت اليهم بصلة.

ومن أجل ذلك اضطر الإمام الصادق ان يعمل بالتقية ، حتى صارت التقية هذه سياسة خاصة سار عليها هو وأصحابه جميعا ، وحتى انه كان يعيب خاصة أصحابه ، كى يبعد الشبه التي تحوم حولهم والتي طالما هددتهم بالموت والفناء. وقد فعل الامام ذلك بدافع الشفقة عليهم لاخفاء حالهم ، حتى لا يتعرض أصحابه للشر.

ولهذا فان الأحاديث المروية في ذم المفضل والقدح به ينبغي حملها

__________________

(١) في كتاب الغيبة ص ٢٢٤.

١٣

على التقية وكذا ما ورد في حق امثاله من اجلاء الاصحاب ، بعد تحقق عدلهم وتواتر المدح لهم ... فقد روي عن عبد الله بن زرارة بن اعين انه قال له الامام أبو عبد الله : ( اقرأ والدك السلام وقل له : انما اعيبك دفاعا منى عنك ، فان الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانه ، لادخال الاذى فيمن نحبه ونقربه ، فيذمونه لمحبتنا له ، وقربه ودنوه منا ، ويرون ادخال الأذى عليه وقتله ، ويحمدون كل من عبناه ، وان نحمد أمره. فانما اعيبك لانك رجل اشتهرت بنا وبميلك الينا ، وأنت في ذلك مذموم عند الناس ، غير محمود الاثر لمودتك منا وميلك الينا ، فاحببت ان أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون بذلك منا دفع شرهم عنك .. الخ (١)

وهناك خبر أورده الكشي (٢) ويستشف منه ان المفضل كان يؤمن بامامة إسماعيل بن الصادق ، ولا صحة لهذا الخبر اطلاقا ، لأن المفضل كان علما في الدعوة الى الإمام الكاظم ، حتى دعيت الفرقة المتمسكة بامامة الكاظم والتي اتبعت المفضل في رأيه ـ دعيت هذه الفرقة بـ ( المفضلية ) نسبة إليه .. قال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى عام ٥٤٨ ه‍ :

( الموسوية او المفضلية : فرقة واحدة قالت بامامة موسى بن جعفر نصا عليه بالاسم ، حيث قال الصادق ( سابعكم قائمكم ) .. ولما رأت الشيعة ان

__________________

(١) رجال الكشّيّ ص ٩١ ، وكتاب الوسائل ج ٣ ص ٥٨٤.

(٢) رجال الكشّيّ ص ٢٠٩ ، ورجال أبو علي ص ٣٠٨ ، ورجاك الأسترآبادي ص ٣٤٢.

١٤

أولاد الصادق على تفرق ، فمن ميت في حال حياة أبيه لم يعقب ، ومن مختلف في موته ، ومن قائم مدة يسيرة ميت غير معقب. وكان موسى هو الذي تولى الأمر ، وقام بعد موت أبيه ، رجعوا إليه ، واجتمعوا عليه مثل المفضل بن عمر وزرارة بن أعين وعمارة الساباطي (١).

وكتب عدة من أهل الكوفة إلى الصادق قالوا : ( ان المفضل يجالس الشطار (٢) وأصحاب الحمام (٣) وقوما يشربون شرابا ، فينبغي ان

__________________

(١) ص ٣ ـ ٤ ج ٢ من كتاب الملل والنحل ط الأدبية بمصر.

(٢) لعل المراد من الشطار : ما أشار إليه الزبيديّ في تاج العروس ج ٣ ص ٢٩٩ إذ يقول : « الشاطر من اعيا اهله ومؤدبه خبثا ومكرا جمعه الشطار كرمان ، وهو مأخوذ من شطر عنهم : إذا نزح مراوغا ، وقد قيل انه مولد » ا ه‍. والعامّة عندنا تستعمل هذا اللفظ في النبيه الماضى في أموره ويخلط المكر ويحسن المراوغة. وقد الف الجاحظ في هذا المعنى كتابا اسماه ( اخلاق الشطار ) راجع معجم الأدباء ج ١٦ ص ١١٠ ط دار المأمون ، وكتاب ( آثار الجاحظ ) لمحرر هذه السطور ـ مخطوط ـ.

(٣) الحمام : طائر معروف ـ والواحدة حمامة للذكر والأنثى ، لأن الهاء هنا ليست للتأنيث ، وانما هي للدلالة على الفردية وأصحاب الحمام ـ كما يظهر ـ هم الذين يتعاطون بيعه واللهو به والانس بطيرانه ، على نحو ما نراه في وقتنا .. وقد كتب عن الحمام مفصلا ـ ١ ـ القلقشندى في صبح الاعشى ج ٧ ص ٢٣١ وج ١٤ ص ٣٨٩ ط الأميرية بالقاهرة ـ ٢ البستانى ـ

١٥

تكتب إليه ، وتأمره أن لا يجالسهم ، فكتب إلى المفضل كتابا وختمه ودفعه اليهم ، وأمرهم ان يدفعوا الكتاب من أيديهم إلى المفضل. ولما جاءوا المفضل ، ودفعوا إليه الكتاب ، ففكه وقرأه ، فإذا فيه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ... اشتر كذا وكذا وكذا ) ولم يذكر فيه قليلا ولا كثيرا مما تحدثوا به مع الامام ، فلما قرأ الكتاب دفعه إلى كل واحد من الذين جاءوا بالكتاب ، ثم قال : ما تقولون ..؟ قالوا هذا مال عظيم ادعنا حتى ننظر فيه ونجمعه ونحمله إليك ، ثم تدرك الانزال بعد ظهر في ذلك وأرادوا الانصراف فقال المفضل : تغدوا عندي ، فاجلسهم لغدائه ، ووجه المفضل إلى أصحابه الذين سعوا بهم ، فلما جاءوا إليه ، قرأ عليهم كتاب الصادق ، فرجعوا من عنده ، وحبس المفضل هؤلاء ليغدوا عنده فرجع الفتيان ، وحمل كل واحد منهم على قدر مقدرته الفا والفين وأكثر فحضروا واحضروا الفي دينار وعشرة آلاف درهم ، قبل ان يفرغ هؤلاء من صلاتهم. فقال لهم المفضل : تأمرونى ان اطرد هؤلاء من عندي! ..

__________________

ـ في دائرة المعارف مج ٧ ص ١٦٣ ـ ٣ وجدي في دائرة معارف القرن العشرين مج ٣ ص ٦٠٧ ـ ٤ ـ الجاحظ في كتاب الحيوان ج ٣ ص ٤٥ ـ ٧٩ ط النقدم ـ ٥ ـ الدميري في حياة الحيوان ص ١٨٨ ط الحجر ـ ٦ ـ ابن سيدة في المخصص سفر ٨ ص ١٦٨ ط الأولى ـ ٧ ـ جرجي زيدان في تاريخ التمدن الإسلامي ج ١ ص ٢٢٣ ط الثانية ـ ٨ ـ وكتابه الآخر عجائب الخلق ص ١٤٧ ـ ١٥٤ ط الثانية ـ ٩ ـ مجلة الهلال السنة ٤٤ ص ٨٨٥.

١٦

تظنون ان الله محتاج إلى صلاتكم وصومكم (١).

وذكر النوري (٢) ان الشيخ الصدوق روى في ـ من لا يحضره الفقيه ـ عن المفضل بن عمر ، وقد قال الصدوق في مقدمة كتابه (٣) :

« ان لم اقصد قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى ايراد ما أفتى به ، واحكم بصحته ، واعتقد انه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول » ونحن إذا قرأنا هذا القول وضح لنا ان المفضل ممن يعتمد عليه الصدوق ولو كان غير مرضي عند الأئمة ، لما خفي على الصدوق القريب من زمانهم ولما أودع خبر المفضل في كتابه ، وجعله حجة فيما بينه وبين ربه.

وحكم المشهور فيما لو تلبس بصلاة الليل ، ولم يتم أربع ركعات ، وطلع الفجر ، قطعها وأنى بفريضة الصبح ـ ان هذا الحكم المشهور مأخوذ من رواية للمفضل (٤).

وكان ابن شعبة قد عقد في كتابه النفيس ـ تحف العقول ـ بعد

__________________

(١) رجال الكشّيّ ص ٢٠٩ ـ ٢١٠ ، والمستدرك مج ٣ ص ٥٦٣ وو رجال المامقاني مج ٣ ص ٢٣٩ ، ورجال الأسترآباديّ ص ١٥٢. وإتقان المقال ص ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

(٢) في المستدرك ج ٣ ص ٥٦٢.

(٣) كتاب من لا يحضره الفقيه.

(٤) استدل لهم على هذا الحكم المشهور جماعة منهم النراقى في المستند ص ٤٤ ، والميرزا القمّيّ في الغنائم ص ١٢٥ ، والسيّد علي ـ

١٧

أبواب مواعظ الأئمة وحكمهم على الترتيب ـ عقد بابا في مواعظ المفضل ، ذكر فيه جملة من النصائح القيمة التي روي أكثرها عن الصادق .. ومما فيه عن المفضل قال أبو عبد الله وانا معه : يا مفضل كم أصحابك ..؟ فقلت : قليل.! فلما انصرفت إلى الكوفة أقبلت علي الشيعة تمزقني شر ممزق! وتأكل لحمي ، وتشتم عرضي! حتى ان بعضهم استقبلنى فوثب في وجهي. وبعضهم قعد لي في سكك الكوفة يريد ضربي! ورمانى الكثير منهم بالبهتان ، فبلغ ذلك أبا عبد الله ، فلما رجعت إليه في السنة الثانية كان اول ما استقبلنى به ـ بعد تسليمه علي (١) ان قال : يا مفضل ما هذا

__________________

ـ بحر العلوم في البرهان القاطع ج ٣ ص ٤٤ والمحقق شيخ الطائفة في الجواهر وأغا رضا الهمدانيّ في مصباح الفقيه استدلّ هؤلاء العلماء بعدة أحاديث منها حديث المفضل الذي رواه الشيخ الطوسيّ في التهذيب في باب كيفية الصلاة وصفتها ، وروي عنه في الوافي ج ٢ ص ٥٦ في باب من ضاق عليهم وقت صلاة الليل. وها هو الحديث : ـ .. عن أحمد بن محمّد عن علي بن الحكم عن زرعة عن المفضل بن عمر ، قال : قلت لأبي عبد الله : اقوم وأنا أشك في الفجر ، فقال : صلّ على شكك ، فإذا طلع الفجر فأوتر وصلّ الركعتين ، فإذا أنت قمت وقد طلع الفجر ، فابدأ بالفريضة ، ولا تصل غيرها ، فإذا فرغت فاقض مكانك ، ولا يكون هذا عادة ، واياك ان تطلع هذا اهلك ، فيصلون على ذلك ، ولا يصلون بالليل.

(١) لعل الصحيح في العبارة : تسليمي عليه ، لما تقتضيه الآداب المرعية مع الامام.

١٨

الذي بلغني.؟ ان هؤلاء يقولون لك وفيك ، قلت : وما علي في قولهم قال : اجل بل ذلك عليهم. أيغضبون؟ بؤسا لهم! انك قلت ان اصحابك قليل ، لا والله ما هم لنا بشيعة ، ولو كانوا لنا شيعة ما غضبوا من قولك ولا اشمأزوا منه ، لقد وصف الله شيعتنا بغير ما هم عليه ، وما شيعة جعفر إلا من كف لسانه ، وعمل لخالقه ، ورجا سيده ، وخاف الله ـ وفي آخر حديث الامام مخاطبا المفضل ـ اما اني لو لا انى اخاف عليهم ان اغويهم بك لأمرتك ان تدخل بيتك وتغلق بابك ثم لا تنظر اليهم ما بقيت ولكن ان جاءوك فاقبل منهم فان الله قد جعلهم حجة على انفسهم واحتج (١) على غيرهم (٢).

٦ ـ اتصال العرب بالثقافة اليونانية :

في مقال للباحث القدير والدكتور النبيه مصطفى جواد (٣) تطرق إلى كتاب توحيد المفضل ، فحاول ان يثبت ان هذا الكتاب ليس للامام

__________________

(١) كذا في الأصل ، وربما كان الصحيح : احتج بهم على غيرهم ، كما هو المفهوم من سياق العبارة.

(٢) نقل هذا القول عن ( تحف العقول ) العلامة النوريّ في مستدركه مج ٣ ص ٥٧٠ ـ ٥٧١.

(٣) هذا المقال بعنوان ( أتوحيد المفضل .. أم توحيد الجاحظ؟ ) نشر في العدد العاشر للسنة الأولى من مجلة ـ لواء الوحدة الإسلامية ـ الصادر بتاريخ ٤ / ١ / ٣٦٩ ـ ٢٢ ٤ ١٩٥٠ م.

١٩

الصادق ، وانما هو للجاحظ ابى عثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري!. فقال ان رسالة التوحيد هذه : ( تمثل النهضة العلمية التي بدأت على عهد المأمون ، واثمرت في أيام الجاحظ وغيره من الفلاسفة والمتكلمين ، وذلك لورود الأسماء اليونانية فيه مثل « قوسيموس » (١) وغير ذلك ) .. وقد خفي على ذهن الدكتور الثاقب ان العرب لم يكونوا بمعزل عن الثقافات اليونانية المختلفة ، فقد اتصلوا بها منذ العصر الجاهلي حتى بزوغ فجر الإسلام ..

فهذا الحارث بن كلدة (٢) كان من ثقيف أهل الطائف ، رحل إلى أرض فارس ، وأخذ الطب من أهل تلكم الديار من جنديسابور وغيرها في الجاهلية ، وجاد في هذه الصناعة ، وطب بأرض فارس ، وعالج فيها كثيرا ، وشهد أهل تلكم الأرض ـ ممن رآه ـ بعلمه ، واشتهر طبه

__________________

(١) قال الإمام الصادق في تفسير هذه الكلمة : ( ان اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس وتفسيره الزينة وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى الحكمة ) انظر توحيد المفضل ص ٨٩ ط الحيدريّة الأولى.

(٢) كلدة ( بكسر ففتحتين ) كما في فجر الإسلام ج ١ ص ١٩٠ ، وصورة ثانية ( بفتح فسكون فضم ) كما في مقدّمة ابن خلدون ص ٤٩٥ ط دار الكشّاف ، وصورة ثالثة ( بفتحات ثلاث ) كما في لسان العرب ج ٤ ص ٣٨٤ ، وتاج العروس ج ٢ ص ٤٨٦ ، وهذه الصورة أصح الصور وأرجحها.

٢٠