توحيد المفضّل

المفضل بن عمر الجعفي

توحيد المفضّل

المؤلف:

المفضل بن عمر الجعفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الداوري
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٩٢

صار يمتد على وجه الأرض ليلقى عليها ثماره فتحملها عنه فترى الأصل من القرع (١) والبطيخ مفترشا للأرض وثماره مبثوثة عليها وحواليه كأنه هرة ممتدة وقد اكتنفتها جراؤها (٢) لترضع منها.

( موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها )

وانظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها من حمارة (٣) الصيف ووقدة الحر فتلقاها النفوس بانشراح وتشوق إليها ولو كانت توافي الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها واقشعرارا (٤) منها مع ما يكون فيها من المضرة للأبدان ألا ترى أنه ربما أدرك شيء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلا الشره الذي لا يمتنع من أكل ما يضره ويسقم معدته.

__________________

(١) القرع ـ بالفتح ـ نوع من اليقطين ، الواحدة قرعة.

(٢) في الأصل المطبوع « اجزاؤها » وهذا تصحيف شنيع ، والجراء جمع جرو ـ بتثليث الجيم ـ صغير كل شيء حتّى الرمان والبطّيخ وغلب على الكلب والأسد ، والمراد هنا بالجراء أولاد الهرة.

(٣) الحمارة : شدة الحرّ والجمع حمّار.

(٤) اقشعر : تغير لونه.

١٦١

( في النخل وخلقة الجذع والخشب وفوائد ذلك )

فكر يا مفضل في النخل فإنه لما صار فيه إناث تحتاج إلى التلقيح جعلت فيه ذكورة للقاح من غير غراس فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الذي يلقح الإناث لتحمل وهو لا يحمل تأمل خلقة الجذع كيف هو فإنك تراه كالمنسوج نسجا من خيوط ممدودة كالسدى وأخرى معه معترضة كاللحمة (١) كنحو ما ينسج بالأيدي وذلك ليشتد ويصلب ولا يتقصف من حمل القنوات (٢) الثقيلة وهز الرياح العواصف إذا صار نخلة وليتهيأ للسقوف والجسور وغير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعا.

وكذلك ترى الخشب مثل النسج فإنك ترى بعضه مداخلا بعضه بعضا طولا وعرضا كتداخل أجزاء اللحم وفيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات فإنه لو كان مستحصفا (٣) كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف وغير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسرة والتوابيت وما أشبه ذلك ومن جسيم المصالح في الخشب أنه

__________________

(١) اللحمة ـ بالضم ـ ما سدي به بين سدى الثوب أي ما نسج عرضا وهو خلاف سواه والجمع لحم.

(٢) في الأصل المطبوع ـ قنوان ـ ولا معنى لها هنا .. والقنوات جمع قناة وهي العسا الغليظة ، وقد أراد بها الإمام عليه‌السلام هنا هي سعف النخل الغليظة.

(٣) أراد بالمستحصف : الشديد المحكم كانه الحجارة.

١٦٢

يطفو على الماء فكل الناس يعرف هذا منه وليس كلهم يعرف جلالة الأمر فيه فلو لا هذه الخلة كيف كانت هذه السفن والأظراف (١) تحمل أمثال الجبال من الحمولة وأنى كان ينال الناس هذا الرفق وخفة المئونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد وكانت تعظم المئونة عليهم في حملها حتى يلقى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا أصلا أو عسر وجوده.

( العقاقير واختصاص كل منها )

فكر في هذه العقاقير وما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض الأدواء فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج (٢) وهذا ينزف المرة السوداء (٣) مثل الأفتيمون (٤) وهذا

__________________

(١) كذا في النسخ ، والظرف لا يجمع على لفظ اظراف وانما يقال للجمع ظروف.

(٢) جاء في تذكرة الانطاكى : شيطرج هندي هو الخامشة وهو نبت يوجد بالقبور الخراب له ورق عريض ودقيق ينتثر أعلاه إذا برد الجو وزهره أحمر إلى بياض ، يخلف بزر أسود أصغر من الخردل ورائحته ثقيلة حادة وطعمه الى مرارة.

(٣) المرة السوداء : خلط من أخلاط البدن والجمع مرار.

(٤) افتيمون لفظ يوناني معناه دواء الجنون وهو نبات له أصل كالجزر شديد الحمرة وفروع كالخيوط الليفية تحف باوراق دقاق خضر وزهره الى حمرة وغيرة وبزر دون الخردل أحمر إلى صفرة يلتف بما يليه.

١٦٣

ينفي الرياح مثل السكبينج (١) وهذا يحلل الأورام وأشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى فيها إلا من خلقها للمنفعة ومن فطن الناس لها إلا من جعل هذا فيها ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتفاق ـ كما قال القائلون وهب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف رويته وتجاربه فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحة إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ وبعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم وأشباه هذا كثير ولعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحاري والبراري حيث لا أنس ولا أنيس فتظن أنه فضل لا حاجة إليه وليس كذلك بل هو طعم لهذه الوحوش وحبه علف للطير وعوده وأفنانه حطب فيستعمله الناس وفيه بعد أشياء تعالج بها الأبدان وأخرى تدبغ بها الجلود وأخرى تصبغ الأمتعة وأشباه هذا من المصالح ألست تعلم أن من أخس النبات وأحقره هذا البردي وما أشبهها ففيها مع هذا من ضروب المنافع فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك والسوقة والحصر التي يستعملها كل صنف من الناس ويعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني ويجعل حشوا بين الظروف في الأسفاط لكيلا تعيب وتنكسر وأشباه هذا من المنافع

فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق وكبيره وبما له قيمة

__________________

(١) سكبينج او سكنبيج هو شجرة بفارس ، ويورد الاطباء الاقدمون اوصافا طبية كثيرة من السكنبيج ويذكرون انه يذهب عدة أمراض لا مجال لذكرها هنا.

١٦٤

وما لا قيمة له وأخس من هذا وأحقره الزبل والعذرة التي اجتمعت فيها الخساسة والنجاسة معا وموقعها من الزروع والبقول والخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شيء حتى أن كل شيء من الخضر لا يصلح ولا يزكو إلا بالزبل والسماد الذي يستقذره الناس ويكرهون الدنو منه.

واعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين وربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته فلو فطن طالبوا الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها.

قال المفضل : وحان وقت الزوال ، فقام مولاي إلى الصلاة وقال بكر إلي غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرفنيه مبتهجا بما آتانيه حامدا لله على ما منحنيه فبت ليلتي مسروراً.

١٦٥

المجلس الرابع

قال المفضل : فلما كان اليوم الرابع بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي ، فأمرني بالجلوس فجلست ، فقال عليه‌السلام : منا التحميد والتسبيح والتعظيم والتقديس ، للاسم الأقدم ، والنور الأعظم ، العلي العلام ، ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ، ومنشئ الأنام ، ومفني العوالم والدهور ، وصاحب السر المستور ، والغيب المحظور ، والاسم المخزون ، والعلم المكنون ، وصلواته وبركاته على مبلغ وحيه ، ومؤدي رسالته ، الذي بعثه بَشِيراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ ، وَسِراجاً مُنِيراً ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، فعليه وعلى آله من بارئه الصلوات الطيبات ، والتحيات الزاكيات الناميات ، وعليه وعليهم السلام والرحمة والبركات في الماضين والغابرين ، أبد الآبدين ودهر الداهرين ، وهم أهله ومستحقوه.

( الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك )

قد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق ، والشواهد على صواب التدبير والعمد في الإنسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك. ما فيه عبرة لمن اعتبر ، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخلق والخالق والعمد والتدبير ، وما أنكرت المعطلة والمنانية من المكاره والمصائب ، وما

١٦٦

أنكروه من الموت والفناء ، وما قاله أصحاب الطبائع ، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق ، ليتسع ذلك القول في الرد عليهم قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.

( الآفات ونظر الجهال إليها والجواب على ذلك )

اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء واليرقان والبرد (١) والجراد ذريعة إلى جحود الخالق والتدبير والخلق فيقال في جواب ذلك أنه إن لم يكن خالق ومدبر فلم لا يكون ما هو أكثر من هذا وأفظع فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض وتهوي الأرض فتذهب سفلا وتتخلف الشمس عن الطلوع أصلا وتجف الأنهار والعيون حتى لا يوجد ماء للشفة وتركد الريح حتى تخم الأشياء وتفسد ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتد حتى تجتاح كل ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثم لا تلبث أن ترفع أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره ويلذع (٢) أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم ثم لا تدوم هذه الآفات بل تكشف

__________________

(١) ذهب ذكر اليرقان والبرد سابقا.

(٢) يقال لذعته النار اي احرقته ولذعه بلسانه اي اوجعه بكلام. وفي بعض النسخ باهمال الأول واعجام الثاني من لدغ العقرب.

١٦٧

عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم رحمة وقد أنكرت المنانية من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم تحدث فيه هذه الأمور المكروهة والقائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر ولو كان هكذا كان الإنسان يخرج من الأشر (١) والعتو (٢) إلى ما لا يصلح في دين ولا دنيا كالذي ترى كثيرا من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون إليه حتى أن أحدهم ينسى أنه بشر وأنه مربوب أو أن ضررا يمسه أو أن مكروها ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنن على ضعيف أو يتعطف على مكروب فإذا عضته المكاره ووجد مضضها اتعظ وأبصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه.

والمنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة ويتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة ويتكرهون الأدب والعمل ويحبون أن يتفرغوا للهو والبطالة وينالوا كل مطعم ومشرب ولا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشو والعادة ، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء والأسقام وما لهم في الأدب من الصلاح وفي الأدوية من المنفعة وإن شاب ذلك بعض الكراهة ،

__________________

(١) الاشر : البطر.

(٢) العتو ـ بالضم ـ الاستكبار وتجاوز الحد.

١٦٨

فإن قالوا : فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوي ، حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره قيل : إذا كان يكون غير محمود على حسنه يأتيها ، ولا مستحقا للثواب عليها. فإن قالوا : وما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب ، بعد أن يصير إلى غاية النعيم واللذات؟ قيل لهم : اعرضوا على امرئ صحيح الجسم والعقل ، أن يجلس منعما ، ويكفى كلما يحتاج إليه بلا سعي ولا استحقاق ، فانظروا هل تقبل نفسه ذلك بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي والحركة أشد اغتباطا وسرورا منه بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق وكذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه والاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة ، فإن أعد له الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا وجعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي واستحقاق فيكمل له السرور والاغتباط بما يناله منه .. فإن قالوا : أوليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير ، وإن كان لا يستحقه ، فما الحجة في منع من رضي أن ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة؟ قيل لهم : إن هذا باب لو صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب (١) والضراوة على الفواحش ، وانتهاك المحارم ، فمن كان يكف نفسه عن فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب البر لوثق بأنه

__________________

(١) في الأصل المطبوع الكلبة. ولا معنى للفظ هنا ، والصحيح ما ذكرناه اذ الكلب ـ بفتحتين ـ هو داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعض الناس فتكلب الناس أيضا إذا تمنعوا عن استعمال لقاح الطبيب الفرنسي المعروف باستور.

١٦٩

صائر إلى النعيم لا محالة أو من كان يأمن على نفسه وأهله وماله من الناس لو لم يخف الحساب والعقاب فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة فيكون في ذلك تعطيل العدل والحكمة معا وموضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب ووضع الأمور في غير مواضعها.

( لما ذا تصيب الآفات جميع الناس وما الحجة في ذلك )

وقد يتعلق هؤلاء بالآفات التي تصيب الناس فتعم البر والفاجر أو يبتلى بها البر ويسلم الفاجر منها فقالوا كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم وما الحجة فيه فيقال لهم إن هذه الآفات وإن كانت تنال الصالح والطالح جميعا فإن الله عز وجل جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما أما الصالحون فإن الذي يصيبهم من هذا يزدهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر وأما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش وكذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحا في ذلك أما الأبرار فإنهم يغتبطون بما هم عليه من البر والصلاح ويزدادون فيه رغبة وبصيرة وأما الفجار فإنهم يعرفون رأفة ربهم وتطوله عليهم بالسلامة من غير استحقاق فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس والصفح عمن أساء إليهم ولعل قائلا يقول إن هذه الآفات التي تصيب الناس في أموالهم فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم فيكون فيه تلفهم كمثل الحرق والغرق والسيل والخسف؟ فيقال له إن الله جعل في هذا أيضا صلاحا للصنفين جميعا أما الأبرار فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة

١٧٠

من تكاليفها والنجاة من مكارهها وأما الفجار فلما لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم وحبسهم عن الازدياد منها وجملة القول أن الخالق تعالى ذكره بحكمته وقدرته قد يصرف هذه الأمور كلها إلى الخير والمنفعة فكما أنه إذا قطعت الريح شجرة أو قطعت نخلة أخذها الصانع الرفيق واستعملها في ضروب من المنافع فكذلك يفعل المدبر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس في أبدانهم وأموالهم فيصيرها جميعا إلى الخير والمنفعة فإن قال ولم تحدث على الناس قيل له : لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي ويفتر الصالح عن الاجتهاد في البر فإن هذين الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض والدعة وهذه الحوادث التي تحدث عليهم تردعهم وتنبههم على ما فيه رشدهم فلو خلوا منها لغلوا في الطغيان والمعصية كما غلا الناس في أول الزمان حتى وجب عليهم البوار بالطوفان وتطهير الأرض منهم.

( الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك )

ومما ينتقده الجاحدون للعمد والتقدير الموت والفناء فإنهم يذهبون إلى أنه ينبغي أن يكون الناس مخلدين في هذه الدنيا مبرءين من هذه الآفات فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته فينظر ما محصوله.

أفرأيت لو كان كل من دخل العالم ويدخله يبقون ولا يموت أحد منهم ألم تكن الأرض تضيق بهم حتى تعوزهم المساكن والمزارع والمعايش فإنهم والموت يفنيهم أولا فأولا يتنافسون في المساكن

١٧١

والمزارع حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب وتسفك فيهم الدماء فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون ولا يموتون وكان يغلب عليهم الحرص والشره وقساوة القلوب فلو وثقوا بأنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء يناله ولا أفرج لأحد عن شيء يسأله ولا سلا عن شيء مما يحدث عليه ثم كانوا يملون الحياة وكل شيء من أمور الدنيا كما قد يمل الحياة من طال عمره حتى يتمنى الموت والراحة من الدنيا .. فإن قالوا : إنه كان ينبغي أنه يرفع عنهم المكاره والأوصاب حتى لا يتمنوا الموت ولا يشتاقوا إليه فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو والأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا والدين وإن قالوا إنه كان ينبغي أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن والمعايش قيل لهم إذا كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم والاستمتاع بنعم الله تعالى ومواهبه في الدارين جميعا إذا لم يدخل العالم إلا قرن (١) واحد لا يتوالدون ولا يتناسلون فإن قالوا إنه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق ويخلق إلى انقضاء العالم يقال لهم رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن والمعايش عنهم ثم لو كانوا لا يتوالدون ولا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات وذوي الأرحام والانتصار بهم عند الشدائد وموضع تربية الأولاد والسرور بهم ففي هذا دليل على أن كل ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ وسفه من الرأي والقول.

__________________

(١) المراد بالقرن هنا أهل زمان واحد والجمع قرون.

١٧٢

( الطعن على التدبير من جهة أخرى والجواب عليه )

ولعل طاعنا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول كيف يكون هاهنا تدبير ونحن نرى الناس في هذه الدنيا من عز بز فالقوي يظلم ويغصب والضعيف يظلم ويسالم الخسف والصالح فقير مبتلى والفاسق معافى موسع عليه ومن ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل بالعقوبة فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على القياس القائم فكان الصالح هو المرزوق والطالح هو المحروم وكان القوي يمنع من ظلم الضعيف والمنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة فيقال في جواب ذلك إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل به الإنسان على غيره من الخلق وحمل النفس على البر والعمل الصالح احتسابا للثواب وثقة بما وعد الله عنه ولصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا والعلف ويلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك ولم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم ثم لا يعرف ما غاب ولا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا وكان يحدث من هذا أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق والسعة في هذه الدنيا ويكون الممتنع من الظلم والفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر لا يشوبه شيء من اليقين بما عند الله ولا يستحقون ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من

١٧٣

الغنى والفقر والعافية والبلاء ليست بجارية على خلاف قياسه ، بل قد تجري على ذلك أحيانا والأمر المفهوم.

فقد ترى كثيرا من الصالحين يرزقون المال لضروب من التدبير وكيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون ، والأبرار هم المحرومون فيؤثرون الفسق على الصلاح وترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم وعظم ضررهم على الناس وعلى أنفسهم كما عوجل فرعون (١) بالغرق وبختنصر (٢) بالتيه وبلبيس (٣) بالقتل وإن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة وأخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى على العباد لم يكن هذا مما يبطل التدبير فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض ولا يبطل تدبيرهم بل يكون تأخيرهم ما أخروه وتعجيلهم ما عجلوه داخلا في صواب الرأي والتدبير وإذا كانت

__________________

(١) قصة غرق فرعون في البحر معروفة في الكتب المقدّسة ، والقرآن الكريم يشير إليها في أكثر من موضع واحد.

(٢) او نبوخدنصر كان أعظم ملوك الكلدانيين ، وملك في بابل من سنة ٦٠٤ الى سنة ٥٦١ ق م وقد وصف بالقوة والبأس وعد من أبطال التاريخ في الشرق ، وجاء ذكره في التوراة كثيرا لأنّه عاقب الأمم الغربية عقابا شديدا ، وهاجم اليهود ـ سكان مملكة يهوذا الصغيرة ـ هجوما صاعقا بعد ان أجلى أكثرهم الى بابل ودمر عاصمتهم اورشليم تدميرا شديدا.

(٣) بلبيس كذا في الأصل وهو غير معروف عند المؤرخين ، ولم نجده فيما بين ايدينا من الكتب.

١٧٤

الشواهد تشهد وقياسهم يوجب أن للأشياء خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبر خلقه فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال إما عجز وإما جهل وإما شرارة وكل هذا محال في صنعته عز وجل وتعالى ذكره وذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة والجاهل لا يهتدي لما فيها من الصواب والحكمة والشرير لا يتطاول لخلقها وإنشائها وإذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة وإن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير ومخارجه فإن كثيرا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة ولا تعرف أسبابه لأنها لا تعرف دخيلة أمر الملوك وأسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب والشاهد المحنة ولو شككت في بعض الأدوية والأطعمة فيتبين لك من جهتين أو ثلاث أنه حار أو بارد ألم تكن ستقضي عليه بذلك وتنفي الشك فيه عن نفسك فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق والتدبير مع هذه الشواهد الكثيرة وأكثر منها ما لا يحصى كثرة ولو كان نصف العالم وما فيه مشكلا صوابه لما كان من حزم الرأي وسمت (١) الأدب أن يقضى على العالم بالإهمال لأنه كان في النصف الآخر وما يظهر فيه من الصواب وإتقان ما يردع الوهم عن التسرع إلى هذه القضية فكيف وكل ما فيه إذا فتش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شيء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح وأصوب منه.

__________________

(١) السمت ـ بالفتح ـ الطريق والمحجة والجمع سموت.

١٧٥

( اسم هذا العالم بلسان اليونانية )

واعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس وتفسيره الزينة وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى الحكمة أفكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير والنظام فلم يرضوا أن يسموه تقديرا ونظاما حتى سموه زينة ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب والإتقان على غاية الحسن والبهاء.

( عمي ماني عن دلائل الحكمة وادعاؤه علم الأسرار )

اعجب يا مفضل من قوم لا يقضون على صناعة الطب بالخطإ وهم يرون الطبيب يخطئ ويقضون على العالم بالإهمال ولا يرون شيئا منه مهملا بل اعجب من أخلاق من ادعى الحكمة حتى جهلوا مواضعها في الخلق فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جل وعلا .. بل العجب من المخذول ماني حين ادعى علم الأسرار وعمي عن دلائل الحكمة في الخلق حتى نسبه إلى الخطإ ونسب خالقه إلى الجهل تبارك الحكيم الكريم.

( انتقاد المعطلة فيما راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل )

وأعجب منهم جميعا المعطلة الذين راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحود والتكذيب فقالوا ولم لا يدرك بالعقل قيل لأنه فوق مرتبة العقل كما لا يدرك البصر ما هو

١٧٦

فوق مرتبته فإنك لو رأيت حجرا يرتفع في الهواء علمت أن راميا رمى به فليس هذا العلم من قبل البصر بل من قبل العقل لأن العقل هو الذي يميزه فيعلم أن الحجر لا يذهب علوا من تلقاء نفسه أفلا ترى كيف وقف البصر على حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل على حده من معرفة الخالق فلا يعدوه ولكن يعقله بعقل أقر أن فيه نفسا ولم يعاينها ولم يدركها بحاسة من الحواس.

( معرفة العقل للخالق معرفة إقرار لا معرفة إحاطة )

وعلى حسب هذا أيضا نقول إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته فإن قالوا فكيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به قيل لهم إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ولم يكلفوا الإحاطة بصفته كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا أطويل هو أم قصير وأبيض هو أم أسمر وإنما يكلفهم الإذعان لسلطانه والانتهاء إلى أمره ألا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك فقال اعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك وإلا لم أسمع لك كان قد أحل نفسه بالعقوبة فكذا القائل إنه لا يقر بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرضا لسخطه فإن قالوا أوليس قد نصفه فنقول هو العزيز الحكيم الجواد الكريم قيل لهم كل هذه صفات إقرار وليست صفات إحاطة فإنا نعلم أنه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه وكذلك

١٧٧

قدير وجواد وسائر صفاته كما قد نرى السماء فلا ندري ما جوهرها ونرى البحر ولا ندري أين منتهاه بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له ولأن الأمثال كلها تقصر عنه ولكنها تقود العقل إلى معرفته فإن قالوا ولم يختلف فيه قيل لهم لقصر الأوهام عن مدى عظمته وتعديها أقدارها في طلب معرفته وأنها تروم الإحاطة به وهي تعجز عن ذلك وما دونه.

( الشمس واختلاف الفلاسفة في وضعها وشكلها ومقدارها )

فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم ولا يوقف على حقيقة أمرها .. ولذلك كثرت الأقاويل فيها ، واختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها ، فقال بعضهم هو فلك أجوف مملوء ناراً ، له فم يجيش بهذا الوهج والشعاع .. وقال آخرون هو سحابة .. وقال آخرون هو جسم زجاجي ، يقل نارية في العالم ، ويرسل عليه شعاعها .. وقال آخرون هو صفو لطيف ينعقد ماء البحر .. وقال آخرون هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار .. وقال آخرون هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربعة ثم اختلفوا في شكلها .. فقال بعضهم هي بمنزلة صفيحة عريضة وقال آخرون هي كالكرة المدحرجة .. وكذلك اختلفوا في مقدارها فزعم بعضهم أنها مثل الأرض سواء وقال آخرون بل هي أقل من ذلك وقال آخرون بل هي أعظم من الجزيرة العظيمة وقال أصحاب الهندسة هي أضعاف الأرض مائة وسبعين مرة .. ففي اختلاف

١٧٨

هذه الأقاويل منهم في الشمس دليل على أنهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر ويدركها الحس قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها فكيف ما لطف عن الحس واستتر عن الوهم فإن قالوا ولم استتر قيل لهم لم يستتر بحيلة يخلص إليها كمن يحتجب من الناس بالأبواب والستور وإنما معنى قولنا استتر أنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام كما لطفت النفس وهي خلق من خلقه وارتفعت عن إدراكها بالنظر فإن قالوا ولم لطف تعالى عن ذلك علوا كبيرا كان ذلك خطأ من القول لأنه لا يليق بالذي هو ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إلا أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء سبحانه وتعالى.

( الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء أربعة أوجه وتفصيل ذلك )

فإن قالوا : كيف يعقل أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء؟ قيل لهم : الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه فأولها أن ينظر أموجود هو أم ليس بموجود والثاني أن يعرف ما هو في ذاته وجوهره والثالث أن يعرف كيف هو وما صفته والرابع أن يعلم لما ذا هو ولأي علة فليس من هذه الوجوه شيء يمكن للمخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته غير أنه موجود فقط فإذا قلنا وكيف وما هو فممتنع علم كنهه وكمال المعرفة به وأما لما ذا هو فساقط في صفة الخالق لأنه جل ثناؤه علة كل شيء وليس شيء بعلة له ثم ليس

١٧٩

علم الإنسان بأنه موجود يوجب له أن يعلم ما هو وكيف هو كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي وكيف هي وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة فإن قالوا فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفا حتى كأنه غير معلوم قيل لهم هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطة به وهو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد وكذلك العقل أيضا ظاهر بشواهده ومستور بذاته.

( أصحاب الطبائع ومناقشة أقوالهم )

فأما ( أصحاب الطبائع ) فقالوا إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى ولا تتجاوز عما فيه تمام الشيء في طبيعته وزعموا أن الحكمة تشهد بذلك فقيل لهم فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه في صفات الخالق وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق وكان مما احتجوا به هذه الآيات التي تكون على غير مجرى العرف والعادة كإنسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق

١٨٠