توحيد المفضّل

المفضل بن عمر الجعفي

توحيد المفضّل

المؤلف:

المفضل بن عمر الجعفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الداوري
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٩٢

( الهواء والأصوات )

وأنبئك عن الهواء بخلة أخرى فإن الصوت أثر يؤثره اصطكاك الأجسام في الهواء والهواء يؤديه إلى المسامع (١) والناس يتكلمون في حوائجهم ومعاملاتهم طول نهارهم وبعض ليلهم فلو كان أثر هذا الكلام يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلأ العالم منه فكان يكربهم ويفدحهم وكانوا يحتاجون في تجديده والاستبدال به إلى أكثر مما يحتاج إليه في تجديد القراطيس لأن ما يلفظ من الكلام أكثر مما يكتب فجعل الخلاق الحكيم جل قدسه هذا الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم حاجتهم ثم يمحى فيعود جديدا نقيا ويحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع وحسبك بهذا النسيم المسمى هواء عبرة وما فيه من المصالح فإنه حياة هذه الأبدان والممسك لها من داخل بما يستنشق منه من خارج بما يباشر من روحه وفيه تطرد هذه الأصوات فيؤدي البعد البعيد وهو الحامل لهذه الأرواح ينقلها من موضع إلى موضع ..

__________________

(١) تعريف الإمام عليه‌السلام للصوت لا يتعارض مع التعريف الذي اصطلحه العلم الحديث له ، فالصوت في النظر العلمي هو حركة اهتزازية تحدث في الهواء من جسم اهتز فيه ، والصوت إذ يحدث الرجات في الهواء تنتقل هذه الرجات الى طبلة الاذن ليحملها عصب السمع الى المخ وممّا يدلّ على ان الصوت هو رجات تحدث في الهواء انه لو احدث صوت داخل ناقوس مفرغ الهواء لم يسمع له حس أبدا.

١٤١

ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح فكذلك الصوت وهو القابل لهذا الحر والبرد اللذين يتعاقبان على العالم لصلاحه ومنه هذه الريح الهابة فالريح تروح عن الأجسام وتزجي السحاب من موضع إلى موضع ليعم نفعه حتى يستكشف فيمطر وتفضه حتى يستخف فيتفشى وتلقح الشجر وتسير السفن وترخي الأطعمة وتبرد الماء وتشب النار وتجفف الأشياء الندية وبالجملة إنها تحيي كل ما في الأرض ... فلو لا الريح لذوى النبات ولمات الحيوان وحمت الأشياء وفسدت.

( هيئة الأرض )

فكر يا مفضل فيما خلق الله عز وجل عليه هذه الجواهر الأربعة (١) ليتسع ما يحتاج إليه منها فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها فلو لا ذلك كيف كانت تتسع لمساكن الناس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم والعقاقير العظيمة والمعادن الجسيم غناؤها ولعل من

__________________

(١) المراد بالجواهر الأربعة هي التراب والماء والهواء والنار ، والمعروف ان المفكر اليوناني إمبذو قليس ( ٤٩٥ ـ ٤٣٥ ) ق م قد رد الكون الى تلك العناصر أو الجواهر الأربعة التي هي في رأيه لا تفتأ في اتصال وانفصال يكونان سببا في نشأة الأشياء واختلاف صفاتها تبعا للاختلاف في نسبة المزج بين العناصر .. ولا يخفى ان ما ذهب إليه إمبذو قليس هذا في التفريق بين صفات العناصر وصفات الأشياء التي تركبت منها تباين ظاهر وتناقص واضح.

١٤٢

ينكر هذه الفلوات (١) الخاوية والقفار الموحشة فيقول ما المنفعة فيها فهي مأوى هذه الوحوش ومحالها ومراعيها ثم فيها بعد تنفس ومضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم فكم بيداء وكم فدفد (٢) حالت قصورا وجنانا بانتقال الناس إليها وحلولهم فيها ولو لا سعة الأرض وفسحتها لكان الناس كمن هو في حصار ضيق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا أحزنه أمر يضطره إلى الانتقال عنه.

ثم فكر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة فتكون موطنا مستقرا للأشياء فيتمكن الناس من السعي عليها في مآربهم والجلوس عليها لراحتهم والنوم لهدوئهم والإتقان لأعمالهم فإنها لو كانت رجراجة منكفئة لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء والنجارة والصناعة وما أشبه ذلك بل كانوا لا يتهنون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم واعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل (٣) على قلة

__________________

(١) الفلوات جمع فلات وهي الصحراء الواسعة.

(٢) الفدفد : الفلاة والجمع فدافد.

(٣) الزلازل جمع زلزلة ، وهي من آثار التفاعلات الارضية الحاصلة في بطن الأرض ، وسببها هو سبب تكون البراكين ، وذلك ان مياه البحر تتسرب من خلال طبقات الأرض ، حتى تصل الى عمق تكون فيه درجة الحرارة شدة ، فإذا تبخر الماء بفعل الحرارة طلب له منفذا ، ولا يزال يتراكم على بعضه إلى أن يهدم ما يصادفه أمامه من الحواجز ، فترتج له القشرة الأرضية بحسب قوة البخار واندفاعه وهذا ما يسمى بالزلزلة.

١٤٣

مكثها حتى يصيروا إلى ترك منازلهم والهرب عنها فإن قال قائل فلم صارت هذه الأرض تزلزل؟ قيل له إن الزلزلة وما أشبهها موعظة وترهيب يرهب بها الناس ليرعووا وينزعوا عن المعاصي وكذلك ما ينزل بهم من البلاء في أبدانهم وأموالهم يجري في التدبير على ما فيه صلاحهم واستقامتهم ويدخر لهم إن صلحوا من الثواب والعوض في الآخرة ما لا يعدله شيء من أمور الدنيا وربما عجل ذلك في الدنيا إذا كان ذلك في الدنيا صلاحا للعامة والخاصة ثم إن الأرض في طباعها الذي طبعها الله عليه باردة يابسة وكذلك الحجارة وإنما الفرق بينها وبين الحجارة فضل يبس في الحجارة أفرأيت لو أن اليبس أفرط على الأرض قليلا حتى تكون حجرا صلدا أكانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوان وكان يمكن بها حرث أو بناء؟؟ أفلا ترى كيف نقصت من يبس الحجارة وجعلت على ما هي عليه من اللين والرخاوة لتتهيأ للاعتماد.

( فوائد الماء والسبب في كثرته )

ومن تدبير الحكيم جل وعلا في خلقة الأرض أن مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب (١) فلم جعل الله عز وجل كذلك إلا لتنحدر المياه

__________________

(١) أي بعد ما خرجت الأرض من الكروية الحقيقية ، صار ما يلي الشمال منها في أكثر المعمورة ارفع ممّا يلي الجنوب ، ولذا ترى أكثر الأنهار كدجلة والفرات وغيرهما تجري من الشمال الى الجنوب ، لأن الماء الساكن في جوف الأرض تابع للأرض في ارتفاعه وانخفاضه ، ولذا ـ

١٤٤

على وجه الأرض فتسقيها وترويها ثم تفيض آخر ذلك إلى البحر فكما يرفع أحد جانبي السطح ويخفض الآخر لينحدر الماء عنه ولا يقوم عليه كذلك جعل مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب لهذه العلة بعينها ولو لا ذلك لبقي الماء متحيرا على وجه الأرض فكان يمنع الناس من أعمالها ويقطع الطرق والمسالك ثم الماء لو لا كثرته وتدفقه في العيون والأودية والأنهار لضاق عما يحتاج إليه الناس لشربهم وشرب أنعامهم ومواشيهم وسقي زروعهم وأشجارهم وأصناف غلاتهم وشرب ما يرده من الوحوش والطير والسباع وتتقلب فيه الحيتان ودواب الماء وفيه منافع أخر أنت بها عارف وعن عظيم موقعها غافل فإنه (١) سوى الأمر الجليل المعروف من عظيم غنائه في إحياء جميع ما على الأرض من الحيوان والنبات يمزج الأشربة فتلذ وتطيب لشاربها وبه تنظف الأبدان والأمتعة من الدرن (٢) الذي يغشاها وبه يبل (٣) التراب فيصلح للأعمال وبه

__________________

ـ أيضا صارت العيون المتفجرة تجري هكذا من الشمال الى الجنوب .. ومن أجل ذلك حكموا بفوقية الشمال على الجنوب. ويظهر لك ممّا بينه الامام عليه‌السلام انه لا ينافي كروية الأرض.

« من تعليقات البحار »

(١) الضمير راجع إلى الماء وهو اسم ان ويمزج خبرها. أي للماء سوى النفع الجليل المعروف وهو كونه سببا لحياة كل شيء ومنافع اخرى منها انه يمزج مع الاشربة.

(٢) الدرن ـ بفتحتين ـ هو الوسخ جمعه أدران.

(٣) بله الماء : نداه.

١٤٥

يكف عادية النار إذا اضطرمت وأشرف الناس على المكروه وبه يستحم المتعب الكال (١) فيجد الراحة من أوصابه إلى أشباه هذا من المآرب التي تعرف عظم موقعها في وقت الحاجة إليها فإن شككت في منفعة هذا الماء الكثير المتراكم في البحار وقلت ما الإرب فيه فعلم أنه مكتنف ومضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك ودواب البحر ومعدن اللؤلؤ والياقوت والعنبر (٢) وأصناف شتى تستخرج من البحر وفي سواحله منابت العود اليلنجوج (٣) وضروب من الطيب والعقاقير ثم هو بعد مركب للناس ومحمل لهذه التجارات التي تجلب من البلدان البعيدة كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق ومن العراق إلى الصين (٤) فإن هذه التجارات لو لم يكن لها محمل إلا على الظهر لبارت وبقيت في بلدانها وأيدي أهلها لأن أجر حملها يجاوز أثمانها فلا يتعرض أحد لحملها وكان يجتمع في ذلك أمران أحدهما فقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها والآخر انقطاع معاش من يحملها ويتعيش بفضلها.

( فوائد الهواء والسبب في كثرته )

وهكذا الهواء لو لا كثرته وسعته لاختنق هذا الأنام من الدخان

__________________

(١) الكال اسم فاعل من كلّ : تعب واعيا.

(٢) العنبر هو الطيب والزعفران ، او حوت قد يبلغ طوله نحوا من ٦٠ قد ما ضخم الرأس وله اسنان بخلاف البال والجمع عنابر

(٣) اليلنجوج : العود الطيب الرائحة.

(٤) في نسخة البحار ومن العراق الى العراق .. وما ذكرناه أظهر

١٤٦

والبخار الذي يتحير فيه ويعجز عما يحول إلى السحاب والضباب أولا أولا فقد تقدم من صفته ما فيه كفاية.

( منافع النار وجعلها كالمخزونة في الأجسام )

والنار أيضا كذلك فإنها لو كانت مبثوثة كالنسيم والماء كانت تحرق العالم وما فيه ولما لم يكن بد من ظهورها في الأحايين لغنائها في كثير من المصالح جعلت كالمخزونة في الأجسام فتلتمس عند الحاجة إليها وتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها لئلا تخبو فلا هي تمسك بالمادة والحطب فتعظم المئونة في ذلك ولا هي تظهر مبثوثة فتحرق كل ما هي فيه بل هي على تهيئة وتقدير اجتمع فيها الاستمتاع بمنافعها والسلامة من ضررها.

ثم فيها خلة أخرى وهي أنها مما خص بها الإنسان دون جميع الحيوان لما له فيها من المصلحة فإنه لو فقد النار لعظم ما يدخل عليه من الضرر في معاشه فأما البهائم فلا تستعمل النار ولا تستمتع بها ولما قدر الله عز وجل أن يكون هذا هكذا خلق للإنسان كفا وأصابع مهيئة لقدح النار واستعمالها ولم يعط البهائم مثل ذلك لكنها أعينت بالصبر على الجفاء والخلل في المعاش لكيلا ينالها في فقد النار ما ينال الإنسان عند فقدها وأنبئك من منافع النار على خلقة صغيرة عظيم موقعها وهي هذا المصباح الذي يتخذه الناس فيقضون به حوائجهم ما شاءوا في ليلهم ولو لا هذه الخلة لكان الناس تصرف أعمارهم بمنزلة من في القبور فمن كان

١٤٧

يستطيع أن يكتب أو يحفظ أو ينسج في ظلمة الليل وكيف كان حال من عرض له وجع في وقت من أوقات الليل فاحتاج إلى أن يعالج ضمادا أو سفوفا (١) أو شيئا يستشفي به فأما منافعها في نضج الأطعمة ودفاء الأبدان وتجفيف أشياء وتحليل أشياء وأشباه ذلك فأكثر من أن تحصى وأظهر من أن تخفى.

( الصحو والمطر وتعاقبهما على العالم وفوائد ذلك )

فكر يا مفضل في الصحو والمطر كيف يتعاقبان على هذا العالم لما فيه صلاحه ولو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده ألا ترى أن الأمطار إذا توالت عفنت البقول والخضر واسترخت أبدان الحيوان وحصر الهواء فأحدث ضروبا من الأمراض وفسدت الطرق والمسالك وأن الصحو إذا دام جفت الأرض واحترق النبات وغيض ماء العيون والأودية فأضر ذلك بالناس وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضروبا أخرى من الأمراض فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء ودفع كل واحد منهما عادية الآخر فصلحت الأشياء واستقامت فإن قال قائل : ولم لا يكون في شيء من ذلك مضرة البتة قيل له ليمض ذلك الإنسان ويؤلمه بعض الألم فيرعوي عن المعاصي فكما أن الإنسان إذا سقم بدنه احتاج إلى الأدوية المرة البشعة ليقوم طباعه ويصلح ما فسد

__________________

(١) السفوف ـ بالفتح ـ : ما تسفه من دواء ونحوه. وسف الدواء ونحوه : اخذه غير ملتوت.

١٤٨

منه كذلك إذا طغى واشتد احتاج إلى ما يمضه ويؤلمه ليرعوي ويقصر عن مساويه ويثبته على ما فيه حظه ورشده ولو أن ملكا من الملوك قسم في أهل مملكته قناطيرا ( قناطير ) (١) من ذهب وفضة ألم يكن سيعظم عندهم ويذهب له به الصوت فأين هذا من مطرة رواء يعم به البلاد ويزيد في الغلات أكثر من قناطير الذهب والفضة في أقاليم الأرض كلها .. أفلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها وأعظم النعمة على الناس فيها وهم عنها ساهون وربما عاقت عن أحدهم حاجة لا قدر لها فيتذمر ويسخط إيثارا للخسيس قدره على العظيم نفعه جميلا محمودا لعاقبته وقلة معرفته (٢) لعظيم الغناء والمنفعة فيها.

( مصالح نزول المطر على الأرض وأثر التدبير فيه )

تأمل نزوله على الأرض والتدبير في ذلك فإنه جعل ينحدر عليها من علو ليغشى ما غلظ وارتفع منها فيرويه ولو كان إنما يأتيها من بعض نواحيها لما علا المواضع المشرفة منها ويقل ما يزرع في الأرض ألا ترى أن الذي يزرع سيحا (٣) أقل من ذلك فالأمطار هي التي تطبق الأرض وربما تزرع هذه البراري الواسعة وسفوح الجبال وذراها فتغل

__________________

(١) القناطير جمع قنطار وهو المال الكثير او وزن اختلف مقدار موزونه مع الايام.

(٢) في الأصل المطبوع محمود العاقبة وقلة معرفة ، وما ذكرناه هو الأصح

(٣) زراعة السيح هي الزراعة التي تحصل عن طريق الانهر والمياه الجارية

١٤٩

الغلة الكثيرة وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مئونة سياق الماء من موضع إلى موضع وما يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم حتى يستأثر بالماء ذو العز والقوة ويحرمه الضعفاء ثم إنه حين قدر أن ينحدر على الأرض انحدارا جعل ذلك قطرا شبيها بالرش ليغور في قعر الأرض فيرويها ولو كان يسكبه انسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها ثم كان يحطم الزروع القائمة إذا اندفق عليها فصار ينزل نزولا رقيقا فينبت الحب المزروع ويحيي الأرض والزرع القائم.

وفي نزوله أيضا مصالح أخرى فإنه يلين الأبدان ويجلو كدر الهواء فيرتفع الوباء الحادث من ذلك ويغسل ما يسقط على الشجر والزرع من الداء المسمى باليرقان (١) إلى أشباه هذا من المنافع فإن قال قائل أوليس قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير لشدة ما يقع منه أو برد (٢) يكون فيه تحطم الغلات وبخورة يحدثها في الهواء فيولد كثيرا من الأمراض في الأبدان والآفات في الغلات قيل بلى قد يكون ذلك الفرط لما فيه من صلاح الإنسان وكفه عن ركوب المعاصي والتمادي فيها فيكون المنفعة فيما يصلح له من دينه أرجح مما عسى أن يرزأ في ماله!.

__________________

(١) اليرقان ـ بفتحتين او فتح فسكون ـ آفة للزرع او دود يسطو على الزرع.

(٢) البرد ـ بفتحتين ـ : ماء الغمام يتجمد في الهواء البارد ويسقط على الأرض حبوبا.

١٥٠

( منافع الجبال )

انظر يا مفضل إلى هذه الجبال المركومة من الطين والحجارة التي يحسبها الغافلون فضلا لا حاجة إليها والمنافع فيها كثيرة فمن ذلك أن تسقط عليها الثلوج فتبقى في قلالها (١) لمن يحتاج إليه ويذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار العظام وينبت فيها ضروب من النبات والعقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل ويكون فيها كهوف ومعاقل للوحوش من السباع العادية (٢) ويتخذ منها الحصون والقلاع المنيعة للتحرز من الأعداء وينحت منها الحجارة للبناء والأرحاء (٣) ويوجد فيها معادن لضرب من الجواهر وفيها خلال أخر لا يعرفها إلا المقدر لها في سابق علمه.

( أنواع المعادن واستفادة الإنسان منها )

فكر يا مفضل في هذه المعادن وما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجص والكلس (٤) والجبسين (٥) والزرنيخ (٦)

__________________

(١) القلال ـ بالكسر ـ جمع قلة ـ بضم فتشديد ـ اعلى الرأس والجبل وكل شيء.

(٢) العادية : المعتدية.

(٣) الارحاء جمع رحى وهي الطاحون

(٤) الكلس ـ بالكسر ـ تقدم ذكره.

(٥) الجبسين كذا في النسخ ولم نجده فيما عندنا من كتب اللغة ، ـ

١٥١

والمرتك (١) والتوتياء (٢) والزئبق (٣) والنحاس والرصاص والفضة والذهب والزبرجد والياقوت والزمرد (٤) وضروب الحجارة وكذلك ما يخرج منها من القار والموميا والكبريت والنفط (٥) وغير ذلك مما يستعمله الناس في مآربهم فهل يخفى على ذي عقل أن هذه كلها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة إليها ثم قصرت حيلة الناس

__________________

ـ والظاهر أنّه الجبس وهو الجص الذي يبنى به وهو مركب من كبريتات الكالسيوم ويوجد في الأراضي الثلا.

(٦) في الأصل الزرانيخ والالف زائدة ولم ترد في كلام العرب ، ـ ـ والزرنيخ عنصر معروف يوجد منفردا وعلى حالة كبر تيور الزرنيخ وهو جسم صلب لونه سنجابى لماع متبلور يتطاير بالحرارة من غير أنّ يصهر ولا يذوب في الماء ، وإذا خلط الزرنيخ مع الكلس حلق الشعر.

(١) المرتك وتضاف إليه غالبا كلمة الذهبي وهو اكسيد الرصاص عبارة عن بلورات صغيرة مسحوقة يدخل في تركيب مرهم للبواسير.

(٢) التوتيا هي أوكسيد الزنك غير النقي مخلوطا مع الزرنيخ لا يستعمل في الطبّ.

(٣) في الأصل الزيبق وهو استعمال عامي. والزئبق سيال معدني لماع يتجمد على درجة ٤٠ تحت الصفر ويغلى على درجة ٣٦٠ فوق الصفر ، ويستعمل لاستخراج الذهب والفضة بالتملغم وفي البارومتر والترومومتر وفي عمل المرايا وفي الطبّ دهانا على الجلد في معالجة الزهرى

(٤ ـ ٥) هذه العناصر والاحجار معروفة كلها فلا حاجة الى شرحها

١٥٢

عما حاولوا من صنعتها على حرصهم واجتهادهم في ذلك فإنهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم كان لا محالة سيظهر ويستفيض في العالم حتى تكثر الفضة والذهب ويسقطا عند الناس فلا تكون لهما قيمة ويبطل الانتفاع بهما في الشراء والبيع والمعاملات ولا كان يجبي السلطان الأموال ولا يدخرهما أحد للأعقاب وقد أعطي الناس مع هذا صنعة الشبه (١) من النحاس والزجاج من الرمل والفضة من الرصاص والذهب من الفضة وأشباه ذلك مما لا مضرة فيه.

فانظر كيف أعطوا إرادتهم في ما لا ضرر فيه ومنعوا ذلك فيما كان ضارا لهم لو نالوه ومن أوغل في المعادن انتهى إلى واد عظيم يجري منصلتا بماء غزير لا يدرك غوره ولا حيلة في عبوره ومن ورائه أمثال الجبال من الفضة.

تفكر الآن في هذا من تدبير الخالق الحكيم فإنه أراد جل ثناؤه أن يرى العباد قدرته وسعة خزائنه ليعلموا أنه لو شاء أن يمنحهم كالجبال من الفضة لفعل لكن لا صلاح لهم في ذلك لأنه لو كان فيكون فيها كما ذكرنا سقوط هذا الجوهر عند الناس وقلة انتفاعهم به واعتبر ذلك بأنه قد يظهر الشيء الظريف مما يحدثه الناس من الأواني والأمتعة فما دام عزيزا قليلا فهو نفيس جليل آخذ الثمن فإذا فشا وكثر في أيدي الناس سقط عندهم وخست قيمته ونفاسة الأشياء من عزتها

__________________

(١) الشبه ـ بكسر ففتح ـ هو النحاس الأصفر.

١٥٣

( النبات وما فيه من ضروب المآرب )

فكر يا مفضل في هذا النبات وما فيه من ضروب المآرب فالثمار للغذاء والأتبان (١) للعلف والحطب للوقود والخشب لكل شيء من أنواع النجارة وغيرها واللحاء (٢) والورق والأصول والعروق والصموغ لضروب من المنافع أرأيت لو كنا نجد الثمار التي نغتذي بها مجموعة على وجه الأرض ولم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها كم كان يدخل علينا من الخلل في معاشنا وإن كان الغذاء موجودا فإن المنافع بالخشب والحطب والأتبان وسائر ما عددناه كثيرة عظيم قدرها جليل موقعها هذا مع ما في النبات من التلذذ بحسن منظره ونضارته التي لا يعدلها شيء من مناظر العالم وملاهيه.

( الريع في النبات وسببه )

فكر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة وأكثر وأقل وكان يجوز للحبة أن تأتي بمثلها فلم صارت تريع هذا الريع إلا ليكون في الغلة (٣) متسع لما يرد في

__________________

(١) لم يرد في معاجم اللغة العربية لفظ الاتبان على معنى التبن المعروف ولعلّ اللفظ قد غيره النسّاخ والصحيح تبن.

(٢) اللحاء : قشر العود او الشجر.

(٣) الغلة ـ بالفتح ـ : الدخل من كراء دار وفائدة ارض ونحو ذلك والجمع غلات وغلال.

١٥٤

الأرض من البذر وما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل ألا ترى أن الملك لو أراد عمارة بلد من البلدان كان السبيل في ذلك أن يعطي أهله ما يبذرونه في أرضهم وما يقوتهم إلى إدراك زرعهم.

فانظر كيف تجد هذا المثال قد تقدم في تدبير الحكيم فصار الزرع يريع هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت والزراعة وكذلك الشجر والنبت والنخل يريع الريع الكثير فإنك ترى الأصل الواحد حوله من فراخه أمرا عظيما فلم كان كذلك إلا ليكون فيه ما يقطعه الناس ويستعملونه في مآربهم وما يرد فيغرس في الأرض ولو كان الأصل منه يبقى منفردا لا يفرخ ولا يريع لما أمكن أن يقطع منه شيء لعمل ولا لغرس ثم كان إن أصابته آفة انقطع أصله فلم يكن منه خلف.

( بعض النباتات وكيف تصان )

تأمل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلاء وما أشبه ذلك فإنها تخرج في أوعية مثل الخرائط (١) لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشتد وتستحكم كما قد تكون المشيمة (٢) على الجنين لهذا المعنى بعينه

__________________

(١) لم نجد للفظ « الخرائط » هنا معنى يتسق ومراد الامام «ع» ولعله يريد الشكل المخروطي وهو ما يبتدئ من سطح مستدير ويرتفع مستدقا حتّى ينتهي إلى نقطة.

(٢) المشيمة : غشاء ولد الإنسان يخرج معه عند الولادة ، جمعه :

مشيم ومشايم.

١٥٥

وأما البر (١) وما أشبهه فإنه يخرج مدرجا في قشور صلاب على رءوسها أمثال الأسنة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفر على الزراع فإن قال قائل أوليس قد ينال الطير من البر والحبوب قيل له بلى على هذا قدر الأمر فيها لأن الطير خلق من خلق الله تعالى وقد جعل الله تبارك وتعالى له في ما تخرج الأرض حظا ولكن حصنت الحبوب بهذه الحجب لئلا يتمكن الطير منها كل التمكن فيعبث بها ويفسد الفساد الفاحش فإن الطير لو صادف الحب بارزا ليس عليه شيء يحول دونه لأكب عليه حتى ينسفه أصلا فكان يعرض من ذلك أن يبشم (٢) الطير فيموت ويخرج الزارع من زرعه صفرا فجعلت عليه هذه الوقايات لتصونه فينال الطائر منه شيئا يسيرا يتقوت به ويبقى أكثره للإنسان فإنه أولى به إذ كان هو الذي كدح فيه وشقي به وكان الذي يحتاج إليه أكثر مما يحتاج إليه الطير

( الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات )

تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات فإنها لما كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوان ولم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان ولا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذاء فتؤديه إلى الأغصان وما عليها من الورق والثمر فصارت الأرض كالأم المربية لها وصارت أصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض

__________________

(١) البر ـ بضم فتشديد ـ هو القمح ، الواحدة برّة.

(٢) يبشم الطعام : اي يتخم من الطعام.

١٥٦

لتنزع منها الغذاء كما ترضع أصناف الحيوان أمهاتها ألم تر إلى عمد الفساطيط (١) والخيم كيف تمد بالأطناب (٢) من كل جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط ولا تميل فهكذا تجد النبات كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب لتمسكه وتقيمه ولو لا ذلك كيف كان يثبت هذا النخل الطوال والدوح العظام في الريح العاصف؟

فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة فصارت الحيلة التي تستعملها الصناع في ثبات الفساطيط والخيم متقدمة في خلق الشجر لأن خلق الشجر قبل صنعة الفساطيط والخيم .. ألا ترى عمدها وعيدانها من الشجر فالصناعة مأخوذة من الخلقة.

( خلق الورق ووصفه )

تأمل يا مفضل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها ومنها دقاق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجا دقيقا معجما لو كان مما يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة في عام كامل ولاحتيج إلى آلات وحركة وعلاج وكلام فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال والسهل وبقاع الأرض كلها بلا حركة ولا كلام إلا بالإرادة النافذة في كل شيء والأمر المطاع واعرف مع ذلك العلة في تلك العروق

__________________

(١) الفساطيط جمع فسطاط ـ بالضم او الكسر ـ بيت من شعر.

(٢) الاطناب جمع طنب ـ بضعتين ـ حبل طويل يشد به سرادق البيت

١٥٧

الدقاق فإنها جعلت تتخلل الورقة بأسرها لتسقيها وتوصل الماء إليها بمنزلة العروق المبثوثة في البدن لتوصل الغذاء إلى كل جزء منه ، وفي الغلاظ منها معنى آخر فإنها تمسك الورقة بصلابتها ومتانتها لئلا تنهتك وتتمزق فترى الورقة شبيهة بورقة معمولة بالصنعة من خرق قد جعلت فيها عيدان ممدودة في طولها وعرضها لتتماسك فلا تضطرب فالصناعة تحكي الخلقة وإن كانت لا تدركها على الحقيقة.

( العجم والنوى والعلة في خلقه )

فكر في هذا العجم والنوى والعلة فيه فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقام الغرس إن عاق دون الغرس عائق كما يحرز الشيء النفيس الذي تعظم الحاجة إليه في مواضع أخر فإن حدث على الذي في بعض المواضع منه حادث وجد في موضع آخر ثم هو بعد يمسك بصلابته رخاوة الثمار ورقتها ولو لا ذلك لتشدخت (١) وتفسخت وأسرع إليها الفساد وبعضه يؤكل ويستخرج دهنه فيستعمل منه ضروب من المصالح وقد تبين لك موضع الإرب في العجم والنوى.

فكر الآن في هذا الذي تجده فوق النواة من الرطبة وفوق العجم من العنبة فما العلة فيه ولما ذا يخرج في هذه الهيئة وقد كان يمكن أن يكون مكان ذلك ما ليس فيه مأكل كمثل ما يكون في السدر (٢)

__________________

(١) تشدخت : تكسرت.

(٢) السدر ـ بالكسر ـ شجر النّبِق جمعه سدور.

١٥٨

والدلب (١) وما أشبه ذلك فلم صار يخرج فوقه هذه المطاعم اللذيذة إلا ليستمتع بها الإنسان؟.

( موت الشجر وتجدد حياته وما في ذلك من ضروب التدبير )

فكر في ضروب من التدبير في الشجر فإنك تراه يموت في كل سنة موتة فتحتبس الحرارة الغريزية في عوده ويتولد فيه مواد الثمار ثم يحيا وينتشر فيأتيك بهذه الفواكه نوعا بعد نوع كما تقدم إليك أنواع الأطبخة التي تعالج بالأيدي واحدا بعد واحد فترى الأغصان في الشجر تتلقاك بثمارها حتى كأنها تناولكها عن يد وترى الرياحين تتلقاك في أفنانها (٢) كأنها تجيئك بأنفسها فلمن هذا التقدير إلا لمقدر حكيم وما العلة فيه إلا تفكيه الإنسان بهذه الثمار والأنوار والعجب من أناس جعلوا مكان الشكر على النعمة جحود المنعم بها.

( خلق الرمانة وأثر العمد فيه )

واعتبر بخلق الرمانة وما ترى فيها من أثر العمد والتدبير فإنك ترى فيها كأمثال التلال من شحم مركوم في نواحيها وحب مرصوف صفاً كنحو ما ينضد بالأيدي وترى الحب مقسوما أقساما وكل قسم

__________________

(١) الدلب ـ بالضم ـ شجر عظيم عريض الورق لا زهر له ولا ثمر والواحدة دلبة.

(٢) الافنان جمع فنن وهو الغصن المستقيم.

١٥٩

منها ملفوفا بلفائف من حجب منسوجة أعجب النسج وألطفه وقشره يضم ذلك كله.

فمن التدبير في هذه الصنعة أنه لم يكن يجوز أن يكون حشو الرمانة من الحب وحده وذلك أن الحب لا يمد بعضه بعضا فجعل ذلك الشحم خلال الحب ليمده بالغذاء ألا ترى أن أصول الحب مركوزة في ذلك الشحم ثم لف بتلك اللفائف لتضمه وتمسكه فلا يضطرب وغشي فوق ذلك بالقشرة المستحصفة لتصونه وتحصنه من الآفات فهذا قليل من كثير من وصف الرمانة وفيه أكثر من هذا لمن أراد الإطناب (١) والتذرع (٢) في الكلام ولكن فيما ذكرت لك كفاية في الدلالة والاعتبار.

( حمل اليقطين وما فيه من التدبير والحكمة )

فكر يا مفضل في حمل اليقطين الضعيف مثل هذه الثمار الثقيلة من الدباء (٣) والقثاء (٤) والبطيخ وما في ذلك من التدبير والحكمة فإنه حين قدر أن يحمل مثل هذه الثمار جعل نباته منبسطا على الأرض ولو كان ينتصب قائما كما ينتصب الزرع والشجر لما استطاع أن يحمل مثل هذه الثمار الثقيلة ولتقصف قبل إدراكها وانتهائها إلى غاياتها .. فانظر كيف

__________________

(١) يقال : اطنب في الوصف أو القول ، اى بالغ.

(٢) التذرع في الكلام هو الإكثار منه والافراط فيه.

(٣) لم نقف عليه.

(٤) القثاء ـ بالضم ـ نوع من النبات ثمره يشبه ثمر الخيار الواحدة قثاءة

١٦٠