توحيد المفضّل

المفضل بن عمر الجعفي

توحيد المفضّل

المؤلف:

المفضل بن عمر الجعفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الداوري
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٩٢

وهو يلد ولادا ويرضع ويبول ويمشي إذا مشى على أربع وكل هذا خلاف صفة الطير ثم هو أيضا مما يخرج بالليل ويتقوت بما يسري (١) في الجو من الفراش وما أشبهه وقد قال قائلون إنه لا طعم للخفاش وإن غذاءه (٢) من النسيم وحده وذلك يفسد ويبطل من جهتين أحدهما خروج الثفل (٣) والبول منه فإن هذا لا يكون من غير طعم والأخرى أنه ذو أسنان ولو كان لا يطعم شيئا لم يكن للأسنان فيه معنى وليس في الخلقة شيء لا معنى له وأما المآرب فيه فمعروفة حتى أن زبله يدخل في بعض الأعمال ومن أعظم الإرب فيه خلقته العجيبة الدالة على قدرة الخالق جل ثناؤه وتصرفها فيما شاء كيف شاء لضرب من المصلحة.

( حيلة الطائر أبو نمرة بالحسكة ومنفعتها )

فأما الطائر الصغير الذي يقال له ( ابن نمرة ) (٤) فقد عشش في بعض الأوقات في بعض الشجر فنظر إلى حية عظيمة قد أقبلت نحو عشه فاغرة فاها تبغيه لتبتلعه فبينما هو يتقلب ويضطرب في طلب حيلة منها إذ وجد حسكة فحملها فألقاها في فم الحية فلم تزل الحية تلتوي وتتقلب

__________________

(١) يسرى : يسير في الليل.

(٢) سقطت الهمزة في الطبعة الأولى.

(٣) الثفل ـ بالضم ـ الكدرة المستقرة في اسفل الشيء.

(٤) في الأصل المطبوع أبو تمرة وهو غير صحيح ، وفي نسخة البحار ابن تمرة .. وتمرة او ابن تمرة طائر أصغر من العصفور.

١٢١

حتى ماتت أفرأيت لو لم أخبرك بذلك كان يخطر ببالك أو ببال غيرك أنه يكون من حسكة مثل هذه المنفعة أو يكون من طائر صغير أو كبير مثل هذه الحيلة اعتبر بهذا وكثير من الأشياء يكون فيها منافع لا تعرف إلا بحادث يحدث أو خبر يسمع به.

( النحل عسله وبيوته )

انظر إلى النحل واحتشاده في صنعة العسل وتهيئة البيوت المسدسة وما ترى في ذلك من دقائق الفطنة فإنك إذا تأملت العمل رأيته عجيبا لطيفا وإذا رأيت المعمول وجدته عظيما شريفا موقعه من الناس وإذا رجعت إلى الفاعل ألفيته غبيا جاهلا بنفسه (١) فضلا عما سوى ذلك ففي هذا أوضح الدلالة على أن الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل بل هي للذي طبعه عليها وسخره فيها لمصلحة الناس.

__________________

(١) أي ليس له عقل يتصرف في سائر الأشياء على نحو تصرفه في ذلك الأمر المخصوص ، فظهر ان خصوص هذا الامر إلهام من مدبر حكيم او خلقة وطبيعة جبله عليها في شأن مصلحته الخاصّة ، مع كون هذا الحيوان غافلا عن المصلحة أيضا ، ولعلّ هذا يؤيد ما يقال ان الحيوانات العجم غير مدركة للكليات.

( من تعليقات البحار )

١٢٢

( الجراد وبلاؤه )

انظر إلى هذا الجراد ما أضعفه وأقواه فإنك إذا تأملت خلقه رأيته كأضعف الأشياء وإن دلفت (١) عساكره نحو بلد من بلدان لم يستطع أحد أن يحميه منه .. ألا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله ورجله (٢) ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك أفليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه فلا يستطيع دفعه

( كثرة الجراد )

انظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل فيغشى السهل والجبل والبدو والحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته فلو كان هذا مما يصنع بالأيدي متى كان تجتمع منه هذه الكثرة وفي كم سنة كان يرتفع فاستدل بذلك على القدرة التي لا يؤدها شيء ولا يكثر عليها

( وصف السمك )

تأمل خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدر أن يكون عليه فإنه خلق غير ذي قوائم لأنه لا يحتاج إلى المشي إذ كان مسكنه الماء وخلق غير ذي رية لأنه لا يستطيع أن يتنفس وهو منغمس في اللجة ،

__________________

(١) دلف دلفا ودلفانا : مشى كالمقيد وقارب الخطو في مشيه.

(٢) الرجل ـ بالفتح ـ جمع راجل وهو من يمشي على رجليه لا راكبا

١٢٣

وجعلت له مكان القوائم أجنحة شداد يضرب بها في جانبيه كما يضرب الملاح بالمجاذيف من جانبي السفينة وكسا (١) جسمه قشورا متانا متداخلة كتداخل الدروع والجواشن (٢) لتقيه من الآفات فأعين بفضل حس في الشم لأن بصره ضعيف والماء يحجبه فصار يشم الطعم من البعد البعيد فينتجعه (٣) فيتبعه وإلا فكيف يعلم به وبموضعه واعلم أن من فيه إلى صماخه (٤) منافذ فهو يعب الماء بفيه ويرسله من صماخيه فيتروح إلى ذلك كما يتروح غيره من الحيوان إلى تنسم هذا النسيم.

كثرة نسل السمك وعلة ذلك

فكر الآن في كثرة نسله وما خص به من ذلك فإنك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة والعلة في ذلك أن يتسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان فإن أكثرها يأكل السمك حتى إن السباع أيضا في حافات الآجام (٥) عاكفة على الماء أيضا كي ترصد السمك فإذا مر بها خطفته فلما كانت السباع تأكل السمك ،

__________________

(١) في الأصل كتبت الالف المقصورة.

(٢) الجواشن جمع جوشن وهو الدرع او الصدر.

(٣) ينتجع : يطلب الكلاء في موضعه.

(٤) الصماخ ـ بالكسر ـ خرق الاذن الباطن الماضي الى الرأس ، والجمع صمخ واصمخة.

(٥) الآجام جمع الجمع للأجمة : الشجر الكثير الملتف.

١٢٤

والطير يأكل السمك والناس يأكلون السمك والسمك يأكل السمك كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة.

( سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين )

فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك ودواب الماء والأصداف والأصناف التي لا تحصى ولا تعرف منافعها إلا الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث مثل القرمز (١) فإنه لما عرف الناس صبغه بأن كلبة تجول على شاطئ البحر فوجدت شيئا من الصنف الذي يسمى الحلزون (٢) فأكلته فاختضب خطمها (٣) بدمه فنظر الناس إلى حسنه فاتخذوه صبغا (٤) وأشباه هذا مما يقف الناس عليه حالا بعد حال وزمانا بعد زمان (٥).

__________________

(١) القرمز صبغ احمر.

(٢) الحلزون : دويبة تكون في صدف وهي المعروفة بالبزاق.

(٣) الخطم مقدم انف الدابّة وفمها.

(٤) يظهر من كلام الإمام عليه‌السلام اتّحاد القرمز والحلزون ، ويحتمل أن يكون المراد ان من صبغ الحلزون تفطن الناس باعمال القرمز للصبغ ، لما فيهما من تشابه.

(٥) ليس العجب من خالق أمثال هذه الذرة والدودة واصناف الأسماك الغريبة التي اختلفت اشكالها وتنوعت الحكمة فيها ، وليس العجيب ـ

١٢٥

قال المفضل وحان وقت الزوال ، فقام مولاي عليه‌السلام إلى الصلاة وقال : بكر إلي غدا إن شاء الله تعالى .. فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرفنيه ، مبتهجا بما منحنيه ، حامداً لله على ما آتانيه ، فبت ليلتي مسرورا مبتهجاً.

المجلس الثالث

فلما كان اليوم الثالث بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي فدخلت فأذن لي بالجلوس فجلست فقال عليه‌السلام : ـ

الحمد لله الذي اصطفانا ولم يصطف علينا اصطفانا بعلمه (١) ،

__________________

ـ ان يهتدي الى الحكمة في كل واحد من تلك المصنوعات بعد وجودها وتكوينها ، وانما العجب ممن ينكر فاطر السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن ، مع إتقان الصنعة واحكام الخلقة وبداعة التركيب ، ولو نظر الجاحد الى نفسه مع غريب الصنع وتمام الخلق ، لكان أكبر برهان على الوجود ووحدانية الوجود.

( الإمام الصّادق للمظفر ج ١ ص ١٧٧ ).

(١) اصطفانا اي اختارنا وفضلنا على الخلق ، بان اعطانا من علمه ما لم يعط أحداً.

١٢٦

وأيدنا بحلمه (١) من شذ عنا (٢) فالنار مأواه ومن تفيأ بظل دوحتنا فالجنة مثواه قد شرحت لك يا مفضل خلق الإنسان وما دبر به وتنقله في أحواله وما فيه من الاعتبار وشرحت لك أمر الحيوان وأنا أبتدئ الآن بذكر السماء والشمس والقمر والنجوم والفلك والليل والنهار والحر والبرد والرياح والجواهر الأربعة الأرض والماء والهواء والنار والمطر والصخر والجبال والطين والحجارة والنخل والشجر وما في ذلك من الأدلة والعبر.

( لون السماء وما فيه من صواب التدبير )

فكر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة وتقوية للبصر حتى إن من صفات الأطباء لمن أصابه شيء أضر ببصره إدمان النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد وقد وصف الحذاق منهم لمن كل بصره الاطلاع في إجانة (٣) خضراء مملوءة ماء فانظر كيف جعل الله جل وتعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المتقلبة عليه فلا ينكأ فيها بطول مباشرتها له فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر والروية والتجارب يوجد مفروغاً

__________________

(١) ايدنا بحلمه أي قوانا على تبليغ الرسالة بما حلانا به من حلمه لنصبر على ما يلقانا من أذى الناس وتكذيبهم.

(٢) شذ عنا : ندر عنا وانفرد.

(٣) الاجانة ـ بكسر فتشديد ـ إناء تغسل فيه الثياب والجمع أجاجين

١٢٧

منه في الخلقة حِكْمَةٌ بالِغَةٌ (١) ليعتبر بها المعتبرون ويفكر فيها الملحدون ، قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٢).

( طلوع الشمس وغروبها والمنافع في ذلك )

فكر يا مفضل في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي النهار والليل فلو لا طلوعها لبطل أمر العالم كله فلم يكن الناس يسعون في معايشهم ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم ولم يكونوا يتهنون بالعيش مع فقدهم لذة النور وروحه والإرب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الإطناب في ذكره والزيادة في شرحه بل تأمل المنفعة في غروبها فلو لا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدوء والراحة لسكون أبدانهم وجموم حواسهم (٣) وانبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ثم كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم نكايته في أبدانهم فإن كثيرا من الناس لو لا جثوم (٤) هذا الليل بظلمته عليهم لم يكن لهم هدوء ولا قرار حرصا على الكسب والجمع والادخار ثم كانت الأرض تستحمى بدوام الشمس بضيائها ويحمى كل ما عليها من حيوان ونبات فقدرها

__________________

(١) خبر مبتدأ محذوف او بالنصب على الحالية او لكونه مفعولا لأجله

(٢) يؤفكون : يكذبون.

(٣) لجموم مصدر جم تقول جم القوم : استراحوا وكثروا.

(٤) الجثوم مصدر من قولهم جثم الليل.

١٢٨

الله بحكمته وتدبيره تطلع وقتا وتغرب وقتا بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليهدءوا ويقروا فصار النور والظلمة مع تضادهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه.

( التدبير والمصلحة في الفصول الأربعة من السنة )

ثم فكر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة (١) من السنة وما في ذلك من التدبير والمصلحة ففي الشتاء تعود الحرارة في الشجر والنبات فيتولد فيهما مواد الثمار ويتكثف (٢) الهواء فينشأ منه السحاب والمطر وتشتد أبدان الحيوان وتقوى وفي الربيع تتحرك وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وتنور (٣) الأشجار ويهيج الحيوان للسفاد وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار وتتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض فتهيأ للبناء والأعمال وفي الخريف يصفو الهواء وترتفع الأمراض وتصح الأبدان ويمتد الليل فيمكن فيه بعض الأعمال لطوله ويطيب الهواء فيه إلى مصالح أخرى لو تقصيت لذكرها لطال فيها الكلام.

__________________

(١) يريد بذلك الإمام عليه‌السلام الفصول الأربعة.

(٢) يتكثف الهواء ـ أي يغلظ ويكثر.

(٣) تنور الاشجار اي تخرج نورها ـ بفتح فسكون ـ اي زهرها او الابيض منه.

١٢٩

( معرفة الأزمنة والفصول الأربعة عن طريق حركة الشمس )

فكر الآن في تنقل الشمس في البروج الاثني عشر (١) لإقامة دور السنة وما في ذلك من التدبير فهو الدور الذي تصح به الأزمنة الأربعة من السنة الشتاء والربيع والصيف والخريف تستوفيها على التمام وفي هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلات والثمار وتنتهي إلى غاياتهم ثم تعود فيستأنف النشو والنمو ألا ترى أن السنة مقدار مسير الشمس من الحمل إلى الحمل فبالسنة وأخواتها يكال الزمان من لدن خلق الله تعالى العالم إلى كل وقت وعصر من غابر الأيام وبها يحسب الناس الأعمار والأوقات الموقتة للديون والإجارات والمعاملات وغير ذلك من أمورهم وبمسير (٢) الشمس تكمل السنة ويقوم حساب الزمان على الصحة.

انظر إلى شروقها على العالم كيف دبر أن يكون فإنها لو كانت تبزغ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات لأن الجبال والجدران كانت تحجبها عنها فجعلت تطلع أول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب ثم لا

__________________

(١) بروج السماء الاثنى عشر هي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت.

(٢) في نسخة البحار « ميسر » بتقديم الياء على السين ، وليس للكلمة هنا معنى يوافق المراد.

١٣٠

تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى المغرب فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار فلا يبقى موضع من المواضع إلا أخذ بقسطه من المنفعة منها والإرب التي قدرت له ولو تخلفت مقدار عام أو بعض عام كيف كان يكون حالهم بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاء أفلا ترى كيف كان يكون للناس هذه الأمور الجليلة التي لم يكن عندهم فيها حيلة فصارت تجري على مجاريها لا تفتل (١) ولا تتخلف عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه.

( الاستدلال بالقمر في معرفة الشهور )

استدل بالقمر ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور ولا يقوم عليه حساب السنة لأن دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة ونشو الثمار وتصرمها ولذلك صارت شهور القمر وسنوه تتخلف عن شهور الشمس وسنيها وصار الشهر من شهور القمر ينتقل فيكون مرة بالشتاء ومرة بالصيف.

( ضوء القمر وما فيه من المنافع )

فكر في إنارته في ظلمة الليل والإرب في ذلك فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها فلا يمكن فيه شيء من العمل لأنه ربما

__________________

(١) لا تفتل ـ اي لا تنصرف ولا تزول.

١٣١

احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال في النهار ولشدة الحر وإفراطه فيعمل في ضوء القمر أعمالا شتى كحرث الأرض وضرب اللبن وقطع الخشب وما أشبه ذلك فجعل ضوء القمر معونة للناس على معايشهم إذا احتاجوا إلى ذلك وأنسا للسائرين وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض ونقص مع ذلك عن نور الشمس وضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار ويمتنعوا من الهدوء والقرار فيهلكهم ذلك وفي تصرف القمر خاصة في مهله (١) ومحاقه (٢) وزيادته ونقصانه وكسوفه من التنبيه على قدرة الله تعالى خالفه المصرف له هذا التصريف لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون.

( النجوم واختلاف مسيرها والسبب في أن بعضها راتبة والأخرى منتقلة )

فكر يا مفضل في النجوم واختلاف مسيرها فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك (٣) ولا تسير إلا مجتمعة وبعضها مطلقة تنتقل في البروج وتفترق في مسيرها فكل واحد منها يسير سيرين مختلفين أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب والآخر خاص لنفسه نحو المشرق كالنملة التي تدور على الرحى فالرحى تدور ذات اليمين والنملة تدور ذات الشمال

__________________

(١) مهله : أى ظهوره.

(٢) المحاق : ـ بكسر الأول او ضمه او فتحه ـ هو آخر الشهر القمري وقيل ثلاث ليال من آخره.

(٣) لعل المراد انه ليس لها حركة بينة ظاهرة كما في النجوم السيارة

١٣٢

والنملة في ذلك تتحرك حركتين مختلفين إحداهما بنفسها فتتوجه أمامها والأخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها فاسأل الزاعمين أن النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال من غير عمد ولا صانع لها ما منعها أن تكون كلها راتبة (١) أو تكون كلها منتقلة فإن الإهمال معنى واحد (٢) فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن وتقدير ففي هذا بيان أن مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد وتدبير وحكمة وتقدير وليس بإهمال كما يزعم المعطلة فإن قال قائل ولم صار بعض النجوم راتبا وبعضها منتقلا قلنا إنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدل بها من تنقل المنتقلة ومسيرها في كل برج من البروج كما يستدل بها على أشياء مما يحدث في العالم بتنقل الشمس والنجوم في منازلها ولو كانت

__________________

(١) راتبة أي ثابتة غير متحركة.

(٢) يحتمل أن يكون المراد ان الطبيعة او الدهر ـ الذين يجعلونهما أصحاب الإهمال مؤثرين ـ كل منهما أمر واحد غير ذي شعور وإرادة ، ولا يمكن صدور الامرين المختلفين عن مثل ذلك .. أو المراد ان العقل يحكم بان مثل هذين الامرين المتسقين الجاريين علي قانون الحكمة لا يكون إلاّ من حكيم راعى فيهما دقائق الحكم .. او المراد ان الاهمال أي عدم الحاجة الى العلة ، وترجح الامر الممكن من غير مرجح كما تزعمون أمر واحد حاصل فيهما ، فلم صارت إحداهما راتبة والأخرى منتقلة؟ ولم لم يعكس الامر .. ولعلّ المعنى الأول الذي ذكرناه أفضل وأقرب.

( من تعليقات البحار )

١٣٣

كلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يوقف عليه لأنه إنما يوقف عليه بمسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة (١) كما يستدل على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها ولو كان تنقلها بحال واحد لاختلط نظامها وبطلت المآرب فيها ولساغ لقائل أن يقول إن كينونتها على حال واحدة توجب عليها الإهمال من الجهة التي وصفنا ففي اختلاف سيرها وتصرفها وما في ذلك من المآرب والمصلحة أبين دليل على العمد والتدبير فيها.

( فوائد بعض النجوم )

فكر في هذه النجوم التي تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها كمثل الثريا (٢) والجوزاء (٣) والشعريين (٤) وسهيل (٥) فإنها لو كانت

__________________

(١) نرجح ان الإمام عليه‌السلام راعى في انتقال البروج محاذاة نفس الاشكال .. وان أمكن أن يكون المراد بيان حكمة بقاء الحركة ليصلح كون تلك الاشكال علامات للبروج ، ولو بقربها منه .. لكن هذا المعنى بعيد. « من تعليقات البحار »

(٢) الثريا : مجموع كواكب في عنق الثور.

(٣) الجوزاء : برج في السماء ، سميت بذلك لاعتراضها في جوز السماء أي وسطه.

(٤) الشعريان : تثنية الشعرى ـ بالكسر ـ وهو الكوكب الذي يطلع في الجوزاء وطلوعه في شدة الحر.

(٥) سهيل ـ بالتصغير ـ نجم بهي طلوعه على بلاد العرب في اواخر القيظ.

١٣٤

بأسرها تظهر في وقت واحد لم يكن لواحد فيها على حياله دلالات يعرفها الناس ويهتدون بها لبعض أمورهم كمعرفتهم الآن بما يكون من طلوع الثور (١) والجوزاء إذا طلعت واحتجابها إذا احتجبت فصار ظهور كل واحد واحتجابه في وقت غير الوقت الآخر لينتفع الناس بما يدل عليه كل واحد منها على حدته وما جعلت الثريا وأشباهها تظهر حينا وتحتجب حينا إلا لضرب من المصلحة وكذلك جعلت بنات نعش (٢) ظاهرة لا تغيب لضرب آخر من المصلحة فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البر والبحر للطرق المجهولة وكذلك إنها لا تغيب ولا تتوارى فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاءوا وصار الأمران جميعا على اختلافهما موجهين نحو الإرب والمصلحة وفيهما مآرب أخرى علامات ودلالات ـ على أوقات كثيرة من الأعمال كالزراعة والغراس والسفر في البر والبحر وأشياء مما يحدث في الأزمنة من الأمطار والرياح والحر والبرد وبها يهتدي السائرون في ظلمة الليل لقطع القفار الموحشة واللجج (٣) الهائلة مع ما في ترددها في كبد السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة

__________________

(١) الثور : برج في السماء من البروج الاثنى عشر.

(٢) بنات نعش الكبرى : سبعة كواكب تشاهدها جهة القطب الشمالي ، وبقربها سبعة اخرى تسمى بنات نعش الصغرى ، والنجمة التي رسمت كبيرة هي النجمة القطبية التي يستدل بها على نقطة القطب الشمالي.

(٣) اللجج جمع لجة : معظم الماء.

١٣٥

ومغربة من العبر فإنها تسير أسرع السير وأحثه (١) أرأيت لو كانت الشمس والقمر والنجوم بالقرب منا حتى يتبين لنا سرعة سيرها بكنه ما هي عليه ألم تكن تستخطف الأبصار بوهجها وشعاعها كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت واضطرمت في الجو وكذلك أيضا لو أن أناسا كانوا في قبة مكللة بمصابيح تدور حولهم دورانا حثيثا لحارت أبصارهم حتى يخروا لوجوههم.

فانظر كيف قدر أن يكون مسيرها في البعد البعيد لكيلا تضر في الأبصار وتنكأ فيها وبأسرع السرعة لكيلا تتخلف عن مقدار الحاجة في مسيرها وجعل فيها جزءا يسيرا من الضوء ليسد مسد الأضواء إذا لم يكن قمر ويمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة كما قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي (٢) في جوف الليل فإن لم يكن شيء من الضوء يهتدى به لم يستطع أن يبرح مكانه.

فتأمل اللطف والحكمة في هذا التقدير حين جعل للظلمة دولة ومدة لحاجة إليها وجعل خلالها شيء من الضوء للمآرب التي وصفنا.

( الشمس والقمر والنجوم والبروج تدل على الخالق )

فكر في هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على العالم هذا الدوران الدائم بهذا التقدير والوزن لما في اختلاف الليل والنهار

__________________

(١) أسرع السير وأحثه كلاهما بمعنى واحد.

(٢) التجافي من تجافى أي لم يلزم مكانه.

١٣٦

وهذه الأزمان الأربعة المتوالية من التنبيه على الأرض وما عليها من أصناف الحيوان والنبات من ضروب المصلحة كالذي بينت وشخصت لك آنفا وهل يخفى على ذي لب أن هذا تقدير مقدر وصواب وحكمة من مقدر حكيم فإن قال قائل إن هذا شيء اتفق أن يكون هكذا فما منعه أن يقول مثل هذا في دولاب (١) يراه يدور ويسقي حديقة فيها شجر ونبات فيرى كل شيء من آلاته مقدرا بعضه يلقى بعضا على ما فيه صلاح تلك الحديقة وما فيها وبم كان يثبت هذا القول لو قاله وما ترى الناس كانوا قائلين له لو سمعوه منه أفينكر أن يقول في دولاب خشب مصنوع بحيلة قصيرة لمصلحة قطعة من الأرض أنه كان بلا صانع ومقدر ويقدر أن يقول في هذا الدولاب الأعظم المخلوق بحكمة تقصر عنها أذهان البشر لصلاح جميع الأرض وما عليها أنه شيء اتفق أن يكون بلا صنعة ولا تقدير لو اعتل هذا الفلك كما تعتل الآلات التي تتخذ للصناعات وغيرها أي شيء كان عند الناس من الحيلة في إصلاحه.

( مقادير الليل والنهار )

فكر يا مفضل في مقادير النهار والليل كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق فصار منتهى كل واحد منهما إذا امتد ـ إلى

__________________

(١) الدولاب ـ بالفتح ـ كل آلة تدور على محور والجمع دواليب ، والكلمة من الدخيل.

١٣٧

خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك (١) أفرأيت لو كان النهار يكون مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة ألم يكن في ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان ونبات أما الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقر طول هذه المدة ولا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار ولا الإنسان كان يفتر عن العمل والحركة وكان ذلك ينهكها أجمع ويؤديها إلى التلف وأما النبات فكان يطول عليه حر النهار ووهج الشمس حتى يجف ويحترق كذلك الليل لو امتد مقدار هذه المدة كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة والتصرف في طلب المعاش حتى تموت جوعا وتخمد الحرارة الطبيعية عن النبات حتى يعفن ويفسد كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس.

( الحر والبرد وفوائدهما )

اعتبر بهذا الحر والبرد كيف يتعاوران (٢) العالم ويتصرفان هذا التصرف في الزيادة والنقصان والاعتدال لإقامة هذه الأزمنة الأربعة

__________________

(١) يتساوى الليل والنهار في جميع انحاء العالم مرتين في الخريف يوم ٢٣ أيلول ومرة ثانية في الربيع يوم ٢٢ مارت. ويطول الليل في الشتاء بتاريخ ٢١ كانون الأول حتّى يبلغ طوله في العراق أكثر من أربعة عشر ساعة ، ثمّ يطول النهار في الصيف بتاريخ ٢١ حزيران ويزيد طوله في العراق على أربعة عشر ساعة.

(٢) يتعاوران : يتداولان.

١٣٨

من السنة وما فيهما من المصالح ثم هما بعد دباغ الأبدان التي عليها بقاؤها وفيهما صلاحها فإنه لو لا الحر والبرد وتداولهما الأبدان لفسدت وأخوت (١) وانتكثت (٢).

فكر في دخول أحدهما (٣) على الآخر بهذا التدريج والترسل فإنك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شيء والآخر يزيد مثل ذلك حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان ولو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها كما أن أحدكم لو خرج من حمام حار إلى موضع البرودة لضره ذلك وأسقم بدنه فلم يجعل الله عز وجل هذا الترسل في الحر والبرد إلا للسلامة من ضرر المفاجأة ولم جرى الأمر على ما فيه السلامة من ضرر المفاجأة لو لا التدبير في ذلك فإن زعم زاعم ـ أن هذا الترسل في دخول الحر والبرد إنما يكون لإبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها سئل عن العلة في إبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها فإن اعتل في الإبطاء ببعد ما بين المشرقين (٤) سئل عن العلة في ذلك فلا تزال هذه المسألة ترقى معه إلى حيث رقي من هذا القول حتى استقر على العمد والتدبير لو لا الحر لما كانت الثمار

__________________

(١) اخوت : جاعت.

(٢) انتكثت : انتقضت وانتبذت.

(٣) احدهما أي الحرّ والبرد.

(٤) المراد بالمشرقين هنا هما المشرق والمغرب من باب تغليب أحدهما على الآخر.

١٣٩

الجاسية (١) المرة تنضج فتلين وتعذب حتى يتفكه بها رطبة ويابسة ولو لا البرد لما كان الزرع يفرخ (٢) هكذا ويريع (٣) الريع الكثير الذي يتسع للقوت وما يرد في الأرض للبذر أفلا ترى ما في الحر والبرد من عظيم الغناء والمنفعة وكلاهما مع غنائه والمنفعة فيه يؤلم الأبدان ويمضها (٤) وفي ذلك عبرة لمن فكر ودلالة على أنه من تدبير الحكيم في مصلحة العالم وما فيه.

( الريح وما فيها )

وأنبهك يا مفضل على الريح وما فيها ألست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس ويمرض الأصحاء وينهك المرضى ويفسد الثمار ويعفن البقول ويعقب الوباء في الأبدان والآفة في الغلات ففي هذا بيان أن هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق.

__________________

(١) الجاسية : أي الصلبة.

(٢) يفرخ الزرع : أي تنبت افراخه وهي ما يخرج في أصوله من صغاره.

(٣) يريع الريع أي تنمو الغلة وتزداد.

(٤) يمضها : يوجعها ويؤلمها.

١٤٠