توحيد المفضّل

المفضل بن عمر الجعفي

توحيد المفضّل

المؤلف:

المفضل بن عمر الجعفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الداوري
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٩٢

عنه وحافظ له ينتقل على الحيطان والسطوح في ظلمة الليل لحراسة منزل صاحبه وذب الذعار عنه ، ويبلغ من محبته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه ودون ماشيته وماله ويألفه غاية الإلف (١) حتى يصبر معه على الجوع والجفوة فلم طبع الكلب على هذه الألفة والمحبة إلا ليكون حارسا للإنسان له عين (٢) بأنياب (٣) ومخالب ونباح هائل ليذعر منه السارق ويتجنب المواضع التي يحميها ويخفرها (٤).

( وجه الدابة وفمها وذنبها وشرح ذلك )

يا مفضل تأمل وجه الدابة كيف هو فإنك ترى العينين شاخصتين أمامها لتبصر ما بين يديها لئلا تصدم حائطا أو تتردى في حفرة وترى الفم مشقوقا شقا في أسفل الخطم (٥) ولو شق كمكان الفم من الإنسان في مقدم الذقن لما استطاع أن يتناول به شيئا من الأرض ألا ترى أن الإنسان لا يتناول الطعام بفيه ولكن بيده تكرمة له على

__________________

(١) الالف ـ بفتح فسكون ـ المحبة والانس.

(٢) العين ـ بالفتح ـ الغلظة في الجسم والخشونة.

(٣) الانياب جمع ناب وهو السن خلف الرباعية مؤنث.

(٤) يخفرها : يجيرها ويؤمنها.

(٥) خطم الدابّة : مقدم انفها وفمها.

١٠١

سائر الآكلات فلما لم يكن للدابة يد تتناول بها العلف جعل خرطومها (١) مشقوقا من أسفله لتقبض على العلف ثم تقضمه وأعينت بالجحفلة (٢) لتتناول بها ما قرب وما بعد اعتبر بذنبها والمنفعة لها فيه فإنه بمنزلة الطبق (٣) على الدبر والحياء جميعا يواريهما ويسترهما ومن منافعها فيه أن ما بين الدبر ومراقي البطن منها وضر (٤) يجتمع عليها الذباب والبعوض فجعل لها الذنب كالمذبة (٥) تذب بها عن تلك المواضع ومنها أن الدابة تستريح إلى تحريكه وتصريفه يمنة ويسرة فإنه لما كان قيامها على الأربع بأسرها وشغلت المقدمتان بحمل البدن عن التصرف والتقلب كان لها في تحريك الذنب راحة وفيه منافع أخرى يقصر عنها الوهم فيعرف موقعها في وقت الحاجة إليها فمن ذلك أن الدابة ترتطم في الوحل (٦) فلا يكون شيء أعون على نهوضها من الأخذ بذنبها وفي شعر الذنب منافع للناس كثيرة يستعملونها في مآربهم ثم جعل ظهرها مسطحا مبطوحا على قوائم أربع ليتمكن من ركوبها وجعل حياها بارزا من ورائها ليتمكن الفحل من ضربها ولو كان أسفل البطن كما كان الفرج من المرأة

__________________

(١) الخرطوم : الانف او مقدمه او ما ضممت عليه الحنكين.

(٢) الجحفلة هي لذات الحافر كالشفة للإنسان.

(٣) الطبق ـ بفتحتين ـ مصدر الغطاء جمعه اطباق.

(٤) الوضر ـ بفتحتين ـ مصدر الوسخ.

(٥) المذبة ـ بالكسر ـ ما يذب به الذباب.

(٦) الوحل ـ بفتحتين ـ الطين الرقيق جمعه وحول وأوحال.

١٠٢

لم يتمكن الفحل منها ألا ترى أنه لا يستطيع أن يأتيها كفاحا (١) كما يأتي الرجل المرأة.

( الفيل ومشفره )

تأمل مشفر (٢) الفيل وما فيه من لطيف التدبير فإنه يقوم مقام اليد في تناول العلف والماء وازدرادهما إلى جوفه ولو لا ذلك لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض لأنه ليست له رقبة يمدها كسائر الأنعام فلما عدم العنق أعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسدله فيتناول به حاجته .. فمن ذا الذي عوضه مكان العضو الذي عدم ما يقوم مقامه إلا الرءوف بخلقه؟ وكيف يكون هذا بالإهمال كما قالت الظلمة فإن قال قائل فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر الأنعام قيل إن رأس الفيل وأذنيه أمر عظيم وثقل ثقيل فلو كان ذلك على عنق عظيم لهدها وأوهنها فجعل رأسه ملصقا بجسمه لكيلا يناله منه ما وصفناه وخلق له مكان العنق هذا المشفر ليتناول به غذاءه فصار مع عدم العنق مستوفيا ما فيه بلوغ حاجته

__________________

(١) الكفاح ـ بالكسر ـ الملاقاة وجها لوجه.

(٢) المشفر ـ بكسر فسكون ففتح ـ الشفة وتستعمل للبعير الا ان الإمام الصّادق عدل المعنى الى خرطوم الفيل إذ هو بمثابة الشفاه ، بل هو شفاهه الحقيقية التي بها يتناول العلف والماء.

١٠٣

( حياء الأنثى من الفيلة )

انظر الآن كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة في أسفل بطنها فإذا هاجت للضراب ارتفع وبرز حتى يتمكن الفحل من ضربها فاعتبر كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام ثم جعلت فيه هذه الخلة ليتهيأ للأمر الذي فيه قوام النسل ودوامه.

( الزرافة وخلقتها وكونها ليست من لقاح أصناف شتى )

فكر في خلق الزرافة واختلاف أعضائها وشبهها بأعضاء أصناف من الحيوان فرأسها رأس فرس وعنقها عنق جمل وأظلافها أظلاف بقرة وجلدها جلد نمر.

وزعم ناس من الجهال بالله عز وجل أن نتاجها من فحول شتى قالوا وسبب ذلك أن أصنافا من حيوان البر إذا وردت الماء تنزو على بعض السائمة وينتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أصناف شتى وهذا جهل من قائله وقلة معرفة بالبارئ جل قدسه وليس كل صنف من الحيوان يلقح كل صنف فلا الفرس يلقح الجمل ولا الجمل يلقح البقر وإنما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله ويقرب من خلقه كما يلقح الفرس الحمار فيخرج بينهما البغل ويلقح الذئب الضبع فيخرج من بينهما السمع (١) على أنه ليس يكون في الذي يخرج من بينهما عضو كل واحد منهما كما في الزرافة عضو من الفرس

__________________

(١) السمع ـ بكسر فسكون ـ ولد الذئب من الضبع والأنثى سمعة.

١٠٤

وعضو من الجمل وأظلاف من البقرة بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما كالذي تراه في البغل فإنك ترى رأسه وأذنيه وكفله (١) وذنبه وحوافره وسطا بين هذه الأعضاء من الفرس والحمار وشحيجه (٢) كالممتزج من صهيل الفرس ونهيق الحمار فهذا دليل على أنه ليست الزرافة من لقاح أصناف شتى من الحيوان كما زعم الجاهلون بل هي خلق عجيب من خلق الله للدلالة على قدرته التي لا يعجزها شيء وليعلم أنه خالق أصناف الحيوان كلها يجمع بين ما يشاء من أعضائها في أيها شاء ويفرق ما شاء منها في أيها شاء ويزيد في الخلقة ما شاء وينقص منها ما شاء دلالة على قدرته على الأشياء وأنه لا يعجزه شيء أراده جل وتعالى فأما طول عنقها والمنفعة لها في ذلك فإن منشأها ومرعاها في غياطل (٣) ذوات أشجار شاهقة ذاهبة طولا في الهواء فهي تحتاج إلى طول العنق لتتناول بفيها أطراف تلك الأشجار فتقوت من ثمارها.

( القرد وخلقته والفرق بينه وبين الإنسان )

تأمل خلقة القرد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه أعني الرأس والوجه والمنكبين والصدر وكذلك أحشاؤه شبيهة أيضا بأحشاء الإنسان وخص مع ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يومئ إليه ويحكي

__________________

(١) الكفل ـ بفتحتين ـ من الدابّة : العجز او الردف والجمع اكفال

(٢) الشحيج من شحج البغل : صوّت وغلظ صوته.

(٣) الغياطل جمع غيطل وهو الشجر الكثير الملتف.

١٠٥

كثيرا مما يرى الإنسان يفعله حتى إنه يقرب من خلق الإنسان وشمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه أن يكون عبرة للإنسان في نفسه فيعلم أنه من طينة البهائم وسنخها (١) إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب وأنه لو لا فضيلة فضله بها في الذهن والعقل والنطق كان كبعض البهائم على أن في جسم القرد فضولا أخرى تفرق بينه وبين الإنسان كالخطم (٢) والذنب المسدل والشعر المجلل للجسم كله وهذا لم يكن مانعا للقرد أن يلحق بالإنسان لو أعطي مثل ذهن الإنسان وعقله ونطقه والفصل الفاصل بينه وبين الإنسان في الحقيقة هو النقص في العقل والذهن والنطق.

( إكساء أجسام الحيوانات وخلقة أقدامها بعكس الإنسان )

( وأسباب ذلك )

انظر يا مفضل إلى لطف الله جل اسمه بالبهائم كيف كسيت أجسامها هذه الكسوة من الشعر والوبر والصوف لتقيها من البرد وكثرة الآفات ألبست الأظلاف والحافر والأخفاف لتقيها من الحفاء (٣) إذ كانت لا أيدي لها ولا أكف ولا أصابع مهيأة للغزل والنسج فكفوا بأن جعل كسوتهم في خلقهم باقية عليهم ما بقوا لا يحتاجون إلى تجديدها واستبدال بها

فأما الإنسان فإنه ذو حيلة وكف مهيأة للعمل فهو ينسج ويغزل.

__________________

(١) النسخ ـ بالكسر ـ الأصل والجمع اسناخ وسنوخ.

(٢) الخطم من الدابّة : مقدم انفها وفمها.

(٣) الحفاء هو المشي بلا خف ولا نعل.

١٠٦

ويتخذ لنفسه الكسوة ويستبدل بها حالا بعد حال وله في ذلك صلاح من جهات من ذلك أنه يشتغل بصنعة اللباس عن العبث وما تخرجه إليه الكفاية ومنها أنه يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء ولبسها إذا شاء ومنها أن يتخذ لنفسه من الكسوة ضروبا لها جمال وروعة فيتلذذ بلبسها وتبديلها وكذلك يتخذ بالرفق من الصنعة ضروبا من الخفاف (١) والنعال يقي بها قدميه وفي ذلك معايش لمن يعمله من الناس ومكاسب يكون فيها معايشهم ومنها أقواتهم وأقوات عيالهم فصار الشعر والوبر والصوف يقوم للبهائم مقام الكسوة والأظلاف (٢) والحوافر والأخفاف مقام الحذاء.

( مواراة البهائم عند إحساسها بالموت )

فكر يا مفضل في خلقة عجيبة جعلت في البهائم فإنهم يوارون (٣) أنفسهم إذا ماتوا كما يواري الناس موتاهم وإلا فأين جيف هذه الوحوش والسباع وغيرها لا يرى منها شيء وليست قليلة فتخفى لقلتها بل لو قال قائل أنها أكثر من الناس لصدق.

فاعتبر في ذلك بما تراه في الصحاري والجبال من أسراب الظباء (٤)

__________________

(١) الخفاف جمع خف ـ بالضم ـ وهو ما يلبس بالرجل.

(٢) الاظلاف ـ بالكسر ـ وهو لما اجتر من الحيوانات كالبقرة والظبي بمنزلة الحافر للفرس.

(٣) يوارون انفسهم : يخفونها.

(٤) الظباء جمع ظبية وهي انثى الغزال.

١٠٧

والمها (١) والحمير الوحش والوعول (٢) والأيائل (٣) وغير ذلك من الوحوش وأصناف السباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها وضروب الهوام والحشرات ودواب الأرض وكذلك أسراب الطير من الغربان والقطاة والإوز والكراكي (٤) والحمام وسباع الطير جميعا وكلها لا يرى منها إذا ماتت إلا الواحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع فإذا أحسوا بالموت كمنوا في مواضع خفية فيموتون فيها ولو لا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتى تفسد رائحة الهواء وتحدث الأمراض والوباء

فانظر إلى هذا بالذي يخلص إليه الناس وعملوه بالتمثيل (٥) الأول الذي مثل لهم كيف جعل طبعا وإذكارا (٦) في البهائم وغيرها ليسلم

__________________

(١) المها : جمع مهاة وهي البقرة الوحشية.

(٢) الوعول جمع وعل وهو تيس الجبل له قرنان قويان منحنيان كسيفين أحدبين.

(٣) الايائل جمع أيل ـ بفتح فتشديد ـ حيوان من ذوات الظلف للذكور منه قرون منشعبة لا تجويف فيها ، أما الاناث فلا قرون لها.

(٤) الكراكى جمع كركى ـ بضم فسكون فكسر ـ طائر كبير أغبر اللون طويل العنق والرجلين أبتر الذنب قليل اللحم.

(٥) المراد بالتمثيل ما ذكره الله تعالى في قصة قابيل.

(٦) في الأصل المطبوع ادكارا بالدال المهملة ، ولكن الاذكار اوضح وهو من قولهم ذكر الشيء : حفظه في ذهنه.

١٠٨

الناس من معرة (١) ما يحدث عليهم من الأمراض والفساد.

( الفطن التي جعلت في البهائم : الأيل والثعلب والدلفين )

فكر يا مفضل في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع والخلقة لطفا من الله عز وجل لهم لئلا يخلو من نعمه جل وعز أحد من خلقه لا بعقل وروية فإن الأيل يأكل الحيات فيعطش عطشا شديدا فيمتنع من شرب الماء خوفا من أن يدب السم في جسمه فيقتله ويقف على الغدير وهو مجهود عطشا فيعج عجيجا عاليا ولا يشرب منه ولو شرب لمات من ساعته.

فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمل الظمإ الغالب الشديد خوفا من المضرة في الشرب وذلك مما لا يكاد الإنسان العاقل المميز يضبطه من نفسه.

و ( الثعلب ) إذا أعوزه الطعم تماوت ونفخ بطنه حتى يحسبه الطير ميتا فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها فأخذها فمن أعان الثعلب العديم النطق والروية بهذه الحيلة إلا من توكل بتوجيه الرزق له من هذا وشبهه فإنه لما كان الثعلب يضعف عن كثير مما تقوى عليه السباع من مساورة الصيد أعين بالدهاء والفطنة والاحتيال لمعاشه.

و ( الدلفين ) (٢) يلتمس صيد الطير فيكون حيلته في ذلك أن

__________________

(١) المعرة : الأمر القبيح والمساءة والاثم والاذى.

(٢) الدلفين ـ بضم فسكون ـ دابة بحرية كبيرة والجمع دلافين ، واللفظ دخيل ومرادفه في العربية الدخس ـ بضم ففتح ـ.

١٠٩

يأخذ السمك فيقتله ويسرحه (١) حتى يطفو على الماء ثم يكمن تحته ويثور الماء الذي عليه حتى لا يتبين شخصه فإذا وقع الطير على السمك الطافي وثب إليها فاصطادها.

فانظر إلى هذه الحيلة كيف جعلت طبعا في هذه البهيمة لبعض المصلحة

( التنين والسحاب )

قال المفضل فقلت : أخبرني يا مولاي عن التنين (٢) والسحاب فقال عليه‌السلام ، إن السحاب كالموكل به يختطفه حيثما ثقفه (٣) كما يختطف حجر المغناطيس الحديد فهو لا يطلع رأسه في الأرض خوفا من السحاب ولا يخرج إلا في القيظ (٤) مرة إذا صحت السماء فلم يكن فيها نكتة (٥) من غيمة قلت فلم وكل السحاب بالتنين يرصده ويختطفه إذا وجده قال ليدفع عن الناس مضرته (٦).

__________________

(١) في الأصل المطبوع يشرحه بالشين ، لكن كلمة يسرحه هنا اكثر أداء للمعنى المقصود.

(٢) التنين ـ بالكسر ـ الحية العظيمة والجمع تنانين.

(٣) ثقفه : أدركه وظفر به.

(٤) القيظ : حميم الصيف وشدة الحرّ والجمع أقياظ وقيوظ.

(٥) النكتة : النقطة السوداء في الأبيض او البيضاء في الأسود والجمع نكت ونكات.

(٦) الذي يظهر ان هذا الأمر الغريب كان معروفا عند العرب ـ

١١٠

( في الذرة والنمل وأسد الذباب والعنكبوت وطبائع كل منهما )

قال المفضل فقلت قد وصفت لي يا مولاي من أمر البهائم ما فيه معتبر لمن اعتبر فصف لي الذرة والنملة والطير فقال عليه‌السلام يا مفضل تأمل وجه الذرة الحقيرة الصغيرة هل تجد فيها نقصا عما فيه صلاحها فمن أين هذا التقدير والصواب في خلق الذرة إلا من التدبير القائم في صغير الخلق وكبيره.

انظر إلى النمل واحتشاده في جمع القوت وإعداده فإنك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحب إلى زبيتها (١) بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره بل للنمل في ذلك من الجد والتشمير ما ليس للناس مثله ..

__________________

ـ الأوائل ، وقد ورد ذكره في الشعر القديم ، كالذي جاء في قصيدة للشاعر العباسيّ إسماعيل بن محمّد المعروف بالسيّد الحميري المتوفّى سنة ١٧٣ ، فقال من تلك القصيدة التي يذكر فيها إحدى فضائل الإمام عليّ عليه‌السلام : ـ

ألا يا قوم للعجب العجاب

لخف أبي الحسين وللحباب

عدو من عدات الجن عبد

بعيد في المرادة من صواب

كريه اللون اسود ذو بصيص

حديد الناب أزرق ذو لعاب

أتى خفا له فانساب فيه

لينهش رجله منها بناب

فقض من السماء له عقاب

من العقبان او شبه العقاب

فطار به فحلق ثمّ أهوى

به للأرض من دون السحاب

(١) الزبية ـ بضم فسكون ـ : الرابية لا يعلوها ماء جمعها زبى.

١١١

أما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل ثم يعمدون إلى الحب فيقطعونه قطعا لكيلا ينبت فيفسد عليهم فإن أصابه ندى أخرجوه فنشروه حتى يجف ثم لا يتخذ النمل الزبية إلا في نشز (١) من الأرض كيلا يفيض السيل فيغرقها وكل هذا منه بلا عقل ولا روية بل خلقة خلق عليها لمصلحة من الله جل وعز.

انظر إلى هذا الذي يقال له الليث (٢) وتسميه العامة أسد الذباب وما أعطي من الحيلة والرفق في معاشه فإنك تراه حين يحس بالذباب قد وقع قريبا منه تركه مليا حتى كأنه موات لا حراك به فإذا رأى الذباب قد اطمأن وغفل عنه دب دبيبا دقيقا حتى يكون منه بحيث تناله وثبته ثم يثب عليه فيأخذه فإذا أخذه اشتمل عليه بجسمه كله مخافة أن ينجو منه فلا يزال قابضا عليه حتى يحس بأنه قد ضعف واسترخى ثم يقبل عليه فيفترسه ويحيا بذلك منه.

فأما العنكبوت فإنه ينسج ذلك النسج فيتخذه شركا ومصيدة للذباب ثم يكمن (٣) في جوفه فإذا نشب فيه الذباب أحال (٤) عليه يلدغه ساعة بعد ساعة فيعيش بذلك منه.

__________________

(١) النشز ـ بفتحتين ـ المكان المرتفع جمعه نشاز وأنشاز.

(٢) الليث : ضرب من العناكب والجمع ليوث ومليثة.

(٣) في الأصل المطبوع يتمكن وهو خطأ.

(٤) أحال : أقبل ووثب.

١١٢

فذلك (١) يحكي صيد الكلاب والفهود وهذا (٢) يحكي صيد الأشراك والحبائل.

فانظر إلى هذه الدويبة الضعيفة كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الإنسان إلا بالحيلة واستعمال الآلات فيها فلا تزدري بالشيء إذا كانت العبرة فيه واضحة كالذرة والنملة وما أشبه ذلك فإن المعنى النفيس قد يمثل بالشيء الحقير فلا يضع منه ذلك (٣) كما لا يضع من الدينار وهو من ذهب أن يوزن بمثقال من حديد.

( جسم الطائر وخلقته )

تأمل يا مفضل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدر أن يكون طائرا في الجو خفف جسمه وأدمج (٤) خلقه واقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين ومن الأصابع الخمس على أربع ومن منفذين للزبل والبول على واحد يجمعهما ثم خلق ذا جؤجؤ (٥) محدد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه كما جعلت السفينة بهذه الهيئة لتشق الماء وتنفذ فيه وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها

__________________

(١) يعني به أسد الذباب.

(٢) يعني به العنكبوت وفي نسخة ـ هكذا ـ.

(٣) أي لا ينقص من قدر المعنى النفيس تمثيله بالشيء الحقير.

(٤) أدمج خلقه : لفه وأحسنه.

(٥) الجؤجؤ من الطائر والسفينة : الصدر والجمع جآجئ

١١٣

للطيران وكسا (١) ( كسي ) كله الريش ليتداخله الهواء فيقله (٢) ولما قدر أن يكون طعمه الحب واللحم يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقة الإنسان وخلق له منقار صلب جاسي يتناول به طعمه فلا ينسحج (٣) من لقط الحب ولا يتقصف (٤) من نهش اللحم ولما عدم الأسنان وصار يزدرد الحب صحيحا واللحم غريضا (٥) أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ واعتبر ذلك بأن عجم العنب (٦) وغيره يخرج من أجواف الإنس صحيحا ويطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر ثم جعل مما يبيض بيضا ولا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران فإنه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لأثقلته وعاقته عن النهوض والطيران فجعل كل شيء من خلقه مشاكلا للأمر الذي قدر أن يكون عليه ثم صار الطائر السائح في هذا الجو يقعد على بيضه فيحضنه أسبوعا وبعضها أسبوعين وبعضها ثلاثة أسابيع حتى يخرج الفرخ من البيضة ثم يقبل عليه فيزقه الريح لتتسح حوصلته للغذاء ثم يربيه ويغذيه بما يعيش به فمن كلفه أن يلقط الطعم والحب يستخرجه بعد

__________________

(١) في الأصل كتبت بالالف المقصورة وهي خطأ.

(٢) يقله : يحمله ويرفعه.

(٣) ينسحج : أي ينتشر.

(٤) يتقصف : أي يتكسر.

(٥) الغريض : كل ابيض طري.

(٦) عجم العنب : ما كان في جوف العنب من النوى الصغير.

١١٤

أن يستقر في حوصلته ويغذو به فراخه ولأي معنى يحتمل هذه المشقة وليس بذي روية ولا تفكر ولا يأمل في فراخه ما يؤمل الإنسان في ولده من العز والرفد (١) وبقاء الذكر فهذا من فعله يشهد أنه معطوف على فراخه لعله لا يعرفها ولا يفكر فيها وهي دوام النسل وبقاؤه لطفا من الله تعالى ذكره.

( الدجاجة وتهيجها لحضن البيض والتفريخ )

انظر إلى « الدجاجة » كيف تهيج لحضن البيض والتفريخ وليس لها بيض مجتمع ولا وكر موطأ بل تنبعث وتنتفخ وتقوى (٢) وتمتنع من الطعم حتى يجمع لها البيض فتحضنه وتفرخ فلم كان ذلك منها إلا لإقامة النسل ومن أخذها بإقامة النسل ولا روية لها ولا تفكير لو لا أنها مجبولة على ذلك؟ ..

( خلق البيضة والتدبير في ذلك )

اعتبر بخلق البيضة وما فيها من المح (٣) الأصفر الخاثر (٤) والماء

__________________

(١) الرفد ـ بالكسر ـ المعونة والعطاء والجمع ارفاد ورفود.

(٢) في الأصل كتبت الالف مشالة ، وتقوى من القوى أي الجوع فكأن الدجاجة تبيت جائعة .. وفي نسخة تقوقى اي تصيح

(٣) المح ـ بالضم ـ صفرة البيض ، وفي بعض النسخ بالخاء المعجمة أي مخ

(٤) خثر اللبن : نحن واشتد فهو خاثر.

١١٥

الأبيض الرقيق فبعضه ينشو منه الفرخ وبعضه ليغتذي به إلى أن تنقاب عنه البيضة وما في ذلك من التدبير فإنه لو كان نشوء (١) الفرخ في تلك القشرة المستحفظة (٢) التي لا مساغ لشيء إليها جعل معه في جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها كمن يحبس في حبس حصين لا يوصل إلى من فيه فيجعل معه من القوت ما يكتفي به إلى وقت خروجه منه.

( حوصلة الطائر )

فكر يا مفضل في حوصلة الطائر وما قدر له فإن مسلك الطعم إلى القانصة (٣) ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلا قليلا قليلا فلو كان الطائر لا يلقط حبة ثانية حتى تصل الأولى إلى القانصة لطال عليه ومتى كان يستوفي طعمه فإنما يختلسه اختلاسا لشدة الحذر فجعلت له الحوصلة كالمخلاة (٤) المعلقة أمامه ليوعي فيها ما أدرك من الطعم بسرعة ثم تنفذه إلى القانصة على مهل وفي الحوصلة أيضا خلة أخرى فإن من الطائر ما يحتاج إلى أن يزق فراخه فيكون رده للطعم من قرب أسهل عليه

__________________

(١) سقطت الهمزة من الأصل.

(٢) المستحفظة من استحفظه السر او المال : سأله ان يحفظه.

(٣) القانصة للطير كالمعدة للإنسان جمعها قوانص.

(٤) المخلاة : ما يجعل فيه العلف ويعلق في عنق الدابّة والجمع مخال

١١٦

( اختلاف ألوان الطير وعلة ذلك )

قال المفضل فقلت إن قوما من المعطلة يزعمون أن اختلاف الألوان والأشكال في الطير إنما يكون من قبل امتزاج الأخلاط واختلاف مقاديرها المرج (١) والإهمال.

قال يا مفضل هذا الوشي الذي تراه في الطواويس والدراج (٢) والتدارج على استواء ومقابلة كنحو ما يخط بالأقلام كيف يأتي به الامتزاج المهمل على شكل واحد لا يختلف ولو كان بالإهمال لعدم الاستواء ولكان مختلفاً.

( ريش الطائر ووصفه )

تأمل ريش الطير كيف هو فإنك تراه منسوجا كنسج الثوب من سلوك (٣) دقاق قد ألف بعضه إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط والشعرة إلى الشعرة ثم ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلا ولا ينشق لتداخله الريح فيقل الطائر إذا طار وترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته وهو القصبة التي

__________________

(١) المرج ـ بالتحريك ـ الاضطراب واللبس والفساد والاختلاط وفي بعض النسخ بالزاء المعجمة .. والأول اظهر واجلى للمعنى المقصود

(٢) الدراج طائر تقدم ذكره.

(٣) السلوك جمع سلك وهو الخيط ينظم فيه الخرز ونحوه.

١١٧

في وسط الريشة وهو مع ذلك أجوف ليخف على الطائر ولا يعوقه عن الطيران.

( الطائر الطويل الساقين والتدبير في ذلك )

هل رأيت يا مفضل هذا الطائر الطويل الساقين (١) وعرفت ما له من المنفعة في طول ساقيه فإنه أكثر ذلك في ضحضاح (٢) من الماء فتراه بساقين طويلين كأنه ربيئة (٣) فوق مرقب (٤) وهو يتأمل ما يدب في الماء فإذا رأى شيئا مما يتقوت به خطا خطوات رقيقا حتى يتناوله ولو كان قصير الساقين وكان يخطو نحو الصيد ليأخذه يصيب بطنه الماء فيثور ويذعر منه فيفرق عنه فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته ولا يفسد عليه مطلبه.

تأمل ضروب التدبير في خلق الطائر فإنك تجد كل طائر طويل الساقين طويل العنق وذلك ليتمكن من تناول طعمه من الأرض ولو كان طويل الساقين قصير العنق لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض ،

__________________

(١) ينطبق الوصف الذي ذكره الإمام الصّادق للطائر الطويل الساقين على بعض الطيور المائية كالنحام والانيس.

(٢) الضحضاح : الماء اليسير او القريب القعر.

(٣) الربيئة : العين التي ترقب ، أو الطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو ، ولا يكون إلاّ على جبل.

(٤) المرقب : الموضع المرتفع يعلوه الرقيب جمعه مراقب.

١١٨

وربما أعين مع العنق بطول المناقير ليزداد الأمر عليه سهولة وإمكانا أفلا ترى أنك لا تفتش شيئا من الخلقة إلا وجدته على غاية الصواب والحكمة

( العصافير وطلبها للأكل )

انظر إلى العصافير كيف تطلب أكلها بالنهار فهي لا تفقده ولا تجده مجموعا معدا بل تناله بالحركة والطلب وكذلك الخلق كله فسبحان من قدر الرزق كيف فرقه فلم يجعل مما لا يقدر عليه إذ جعل بالخلق حاجة إليه ولم يجعل مبذولا ينال بالهوينا (١) إذ كان لا صلاح في ذلك فإنه لو كان يوجد مجموعا معدا كانت البهائم تنقلب عليه ولا تنقلع عنه حتى تبشم (٢) فتهلك وكان الناس أيضا يصيرون بالفراغ إلى غاية الأشر والبطر حتى يكثر الفساد وتظهر الفواحش.

( معاش البوم والهام والخفاش )

أعلمت ما طعم هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلا بالليل كمثل البوم والهام (٣) والخفاش؟ ..

__________________

(١) الهوينا : التؤدة والرفق ، وهي تصغير الهوني ، والهونى تأنيث الأهون .. وقد كتبت الهوينا في الأصل هكذا : الهوينى.

(٢) تبشم أي تتخم من الطعام.

(٣) الهام جمع هامة : نوع من البوم الصغير تألف القبور والاماكن الخربة وتنظر من كل مكان أينما درت ادارت رأسها ، وتسمى أيضا الصدى.

١١٩

قلت : لا يا مولاي.

قال إن معاشها من ضروب تنتشر في الجو من البعوض والفراش وأشباه الجراد واليعاسيب (١) وذلك أن هذه الضروب مبثوثة في الجو لا يخلو منها موضع واعتبر ذلك بأنك إذا وضعت سراجا بالليل في سطح أو عرصة دار اجتمع عليه من هذه الضروب شيء كثير .. فمن أين يأتي ذلك كله إلا من القرب فإن قال قائل : إنه يأتي من الصحاري والبراري قيل له : كيف يوافي تلك الساعة من موضع بعيد وكيف يبصر من ذلك البعد سراجا في دار محفوفة بالدور فيقصد إليه مع أن هذه عيانا تتهافت على السراج من قرب فيدل ذلك على أنها منتشرة في كل موضع من الجو فهذه الأصناف من الطير تلتمسها إذا خرجت فتتقوت بها.

فانظر كيف وجه الرزق لهذه الطيور التي لا تخرج إلا بالليل من هذه الضروب المنتشرة في الجو واعرف ذلك المعنى في خلق هذه الضروب المنتشرة التي عسى أن يظن ظان أنها فضل لا معنى له ..

( خلقة الخفاش )

خلق الخفاش خلقة عجيبة بين خلقة الطير وذوات الأربع هو إلى ذوات الأربع أقرب وذلك أنه ذو أذنين ناشزتين (٢) وأسنان ووبر

__________________

(١) اليعاسيب جمع يعسوب وهو ذكر النجل وأميرها.

(٢) الناشز : ما كان ناتئا مرتفعا عن مكانه .. وفي نسخة ناشر بالراء أي مبسوط.

١٢٠