تنبيهات حول المبدأ والمعاد

الميرزا حسنعلي مرواريد

تنبيهات حول المبدأ والمعاد

المؤلف:

الميرزا حسنعلي مرواريد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: العتبة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 964-444-083-8
الصفحات: ٢٧٣

وليس بشيء من الأشياء » على الخارج مبتن على القول بأن كلّ ما في عالم التحقق حقيقة واحدة ، وأنّ جميع الأشياء أطوار هذه الحقيقة وشئونها وتعيناتها ، وأنّ التوحيد الذي يجب الاعتقاد به هو بهذا المعنى.

وبالجملة : ما تقدّم فهو ممنوع أشدّ المنع ، لما مر من أنّ المباينة وعدم السنخية بين الحقّ المتعالي القائم بذاته وبين المخلوقات القائمة ذواتها بالغير بحيث كان عنوان القيام بالغير مأخوذا في ذاتها واضحة ، ولا سيما مع ملاحظة أنّ الأشياء المخلوقة معروضة للعوارض ، وذاته تعالى منزّه عن ذلك ، وملاحظة أنّها حقائق مظلمة ، وذاته الأقدس حقيقة العلم والنور ، فإنّ إدخالها في الذات الأقدس واشتمال الذات الأقدس القائم بذاته المنزه عن المعروضية للعوارض ، الذي حقيقته النور والعلم على ذات المخلوق الموصوف بما ذكرنا نقص لذاته القدّوس ، بل محال ذاتا ، فلا تجري القاعدة المسلّمة المذكورة فيه تعالى مع مخلوقاته ، لا من جهة تخصيص القاعدة والحكم العقلي ، بل من جهة خروجها عنه موضوعا ، كما في القواعد الثلاث المتقدمة.

ما تقدم في الروايات المباركة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تنزّه عن مجانسة مخلوقاته (١).

وقوله عليه‌السلام : كنهه تفريق بينه وبين خلقه (٢). وقوله عليه‌السلام : إنّه ربّ خالق غير مربوب مخلوق (٣). وقوله عليه‌السلام في الدعاء المعروف بدعاء يستشير : أنت الخالق وأنا المخلوق ، وأنت المالك وأنا المملوك ، وأنت الربّ وأنا العبد ، وأنت الرازق وأنا المرزوق ، وأنت المعطي وأنا السائل ، وأنت الجواد وأنا البخيل (٤). بل من أوّل الدعاء إلى آخره ، وقوله عليه‌السلام في دعاء يوم عرفة : أنت الذي أنعمت ، أنت الذي أحسنت ... إلى أن قال : ثم أنا يا إلهي المعترف بذنوبي فاغفرها لي ، أنا الذي أخطأت ، أنا الذي أغفلت ... إلى أن قال : أنا الذي وعدت ، وأنا الذي أخلفت (٥) ..

__________________

(١) راجع ص ٦٢.

(٢) البحار ٤ : ٢٢٨ ، عن التوحيد.

(٣) البحار ٤ : ٢٥٣ ، عن الاحتجاج.

(٤) مهج الدعوات ١٢٤.

(٥) البحار ٩٨ : ٢٢١.

٨١

وما شرع من الأقوال والأفعال في الصلاة التي هي معراج المؤمن ..

وما روي بأسانيد صحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في معراجه الذي هو من أفضل مقامات القرب والوصول إلى الله تعالى من المكالمات (١) ..

مقتضى جميعها بل مقتضى صحة بعث الرسل وإنزال الكتب والوعد والوعيد ، وخروجها عن اللغوية والعبثية ، ومقتضى حكم العقل والفطرة بل ضرورة الأديان ، وكذا موضوع المزايلة المنفيّة عنه تعالى في الروايات المباركة هي المغايرة بينه تعالى وبين مخلوقاته حقيقة لا اعتبارا. إلاّ أن يحرّف كلم القرآن وما ورد عن خلفاء الرحمن عن مواضعها وتؤوّل متشابهاتها إلى خلاف ما دلّت عليه محكماتها ، كما اتّفق ذلك لكثير منهم.

ومما هو كالصريح في رد هذا التوهم قوله تعالى : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) (٢).

وما روي من قول الإمام الباقر عليه‌السلام : كلّ ما ميّز تموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم (٣). فإنّ تمييز المطلق عن المقيد وتوصيف الباري تعالى شأنه بأنه حقيقة الوجود المطلق عن جميع القيود ، وأنّ البريّة هي الوجودات المحدودة بحدود عدمية من دقائق المعاني المنفية عنه تعالى كما في غيره أيضا من الروايات المباركة ، منها :

قول أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما في البحار عن التوحيد والخصال بسندهما عن المقدام بن شريح الهاني عن أبيه ، قال : إنّ أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال : يا أمير المؤمنين أتقول : إنّ الله واحد؟ قال : فحمل الناس عليه وقالوا : يا أعرابي! أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟! فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال : يا أعرابي! إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على الله

__________________

(١) راجع البحار ١٨ : ٢٨٢.

(٢) الحديد ٤.

(٣) الأربعين للشيخ البهائيّ ١٧.

٨٢

عزّ وجلّ ، ووجهان يثبتان فيه ، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : « واحد » يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة. وقول القائل : هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز ، لأنه تشبيه ، وجلّ ربنا وتعالى عن ذلك. وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل : « هو واحد ليس له في الأشياء شبه » ، كذلك ربنا ، وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ، يعني أنّه لا ينقسم في وجود ، ولا عقل ، ولا وهم. كذلك ربّنا عزّ وجلّ (١).

فإنّه بناء على كون الأمر الواقعي في دار التحقّق هي الحقيقة المطلقة المسمّاة بالوجود ، بما له من الإطلاق المنطوي في الوجودات المقيدة ، ومن الوحدة المنطوية في الكثرة من غير حلول ، وكانت مغايرة الحق مع الخلق بالإطلاق والتقييد لا محالة يقع الانقسام بجميع معانيه على تلك الحقيقة ، فتدبر واعتبر.

وممّا يجب التنبيه عليه أنّ وحدة الوجود ـ مع غمض النظر عن بطلان أدلّتها ـ متفرّعة على أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة ، وأنّ ماهيّات الممكنات ليست إلاّ منتزعة من حدود الوجود. وهذا خلاف ما يقضي به الفطرة السليمة من أنّ الأشياء الخارجيّة حقائق متباينة ، ومتعلّق جعل الجاعل ـ عزّ اسمه ـ هو الإنسان بما هو انسان ، والفرس بما هو فرس ، والشجر بما هو شجر ... ، لا وجود الأشياء (٢).

تنبيه

عمدة ما استدلّ به من الآيات والروايات للقائلين بوحدة الوجود والموجود :

قوله تعالى : ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (٣).

وفيه : أنّه مبنيّ على كون المراد من نورها وجودها وثبوتها وكيانها ، وهو ممنوع

__________________

(١) البحار ٣ : ٢٠٦.

(٢) وفيما حرّره صديقنا الفقيد ، مشاركنا في أبحاثنا ، آية الله ميرزا جواد آغا طهراني قدس‌سره في كتابه « عارف وصوفى چه مى گويند؟ » تلخيص ما استدلّوا به على أصالة الوجود وما يرد عليهم. وأدلّتهم مبتنية على مقدّمات غير مسلّمة ، أو مصادرة على المطلوب.

(٣) النور ٣٥.

٨٣

أشدّ المنع ، لقوة احتمال كون المراد منه ما به ظهور وجودها بعد وجودها وثبوتها وكيانها.

وقوله تعالى : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (١). بدعوى أنّه من أجل أنه وجوده وثبوته.

وفيه : عدم انحصار الوجه بذلك ، فإنّ ذاته الأقدس المحيط به وبوجوده وثبوته هو الأقرب.

وقوله تعالى : ( ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ) (٢).

وفيه : أنّه مبني على كون الوجه أنّه بوحدته كلّ الأشياء وليس هو شيئا من الأشياء ، وهو ممنوع ، فإنّ المعيّة تقتضي الغيريّة الحقيقيّة لا الغيريّة الاعتباريّة ، بل هو ـ كما في ما قبله وما سيجيء من الروايات ـ على خلاف مطلوبهم أدلّ.

ومنه : ما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلق الله الخلق في ظلمة ثم رشّ عليه من نوره (٣).

وفيه : أنّه مبني على كون المراد من رشّ النور ظهوره بالوجود. وهو ممنوع ، فإنّ الخلق بمعناه الحقيقي مساوق للوجود والثبوت ، ولفظة « ثمّ » ظاهرة في تأخر الرشّ عنه ، فهو في إرادة تحميل العلم الذي هو حقيقة النور على الخلق المظلم ذاتا ـ كما هو حقيقة كل مخلوق ـ أظهر.

ومنه : ما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه فوق كل شيء ، وتحت كل شيء ، قد ملأ كلّ شيء عظمته ، فلم يخل منه أرض ولا سماء ، ولا برّ ولا بحر ، ولا هواء (٤).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو أدليتم بحبل على الأرض السفلى لهبط على الله (٥).

وفي الأسفار قال موسى : أقريب أنت فأناجيك ، أم بعيد أنت فأناديك ، فإنيّ أحسّ حسن صوتك ولا أراك فأين أنت؟ فقال الله : أنا خلفك ، وأمامك ، وعن يمينك وشمالك ،

__________________

(١) ق : ١٦.

(٢) المجادلة : ٧.

(٣) سنن الترمذيّ ٤ : ١٣٥ ، وفيه : ثم ألقى عليه من نوره ، وللحديث تتمّة.

(٤) الأسفار ٦ : ١٤٢.

(٥) الأسفار ٦ : ١٤٢.

٨٤

أنا جليس عند من يذكرني ، وأنا معه إذ دعاني (١).

وعن عليّ صلوات الله عليه : ... وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة ... هو هاهنا ، وهاهنا ، وفوق ، وتحت ، ومحيط بنا ، ومعنا ... (٢).

وعنه صلوات الله عليه : ما رأيت شيئا إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه (٣).

وعن موسى بن جعفر صلوات الله عليه في دعائه : وملأ كلّ شيء نورك (٤). بدعوى أنّ مصحّح تلك العبارات كونه تعالى وجود تلك الأشياء.

وفيه : أنّها تدل على استيلائه وإحاطة ذاته على جميع الأشياء بما لها من الوجود ، لا على أنّه وجودها.

ومنه : ما عن الصادق صلوات الله عليه : ... ليس بين الخالق والمخلوق شيء ... (٥).

بدعوى أن نفي الشيء بين الخالق والمخلوق ليس إلاّ من جهة كونه وجود المخلوق ، فإنّه الذي ليس بينه وبين الماهيّة شيء.

وفيه : أنّها مبنية على كون المراد من المخلوق الماهيّة الاعتبارية الاصطلاحية ، وهو ممنوع ، فإنّ المخلوق ومتعلق الجعل البسيط هو الأمر القائم ذاته بخالقه ، وواقعيته وكيانه لا يوجب فصل شيء بينه وبين الخالق القائم عليه وعلى كل شيء ، بل هو على خلاف ما استدلوا به أدلّ.

ومنه : ما في دعاء عرفة : فأسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الأرض والسماوات ، وانكشفت به الظلمات (٦).

وفيه : أيضا أنّه مبني على كون المراد من النور وإشراق السماوات والأرض به كيانها

__________________

(١) الأسفار ٦ : ١٤٢.

(٢) الكافي ١ : ١٢٩.

(٣) نقله في الأسفار ١ : ١١٧ ، بتفاوت.

(٤) جمال الأسبوع.

(٥) البحار ٤ : ١٦١ ، عن التوحيد.

(٦) البحار ٩٨ : ٢٢٠.

٨٥

وتحققها مقيّدا ، وهو ممنوع ، كما مرّ ، بل هو على خلافه أدلّ ، كما يظهر بالتأمّل.

ومنه : ما في هذا الدعاء : كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك! (١). بدعوى أنّ ظهوره هو وجوده ، وصريحه أنّ الظهور لك لا لغيرك.

وفيه : إمكان أن يكون المراد أنّ وجود الغير المفتقر إلى الله تعالى ، ليس له بنفسه ظهور حتى يكون هو المظهر له تعالى من أجل أنّه آية له. بل ظهور وجود الغير إنّما هو به تعالى ، فهو المظهر لوجود الغير الذي هو آية له تعالى ، والمظهر لنفسه تعالى أيضا من أجل أنّه ذو الآية.

ومنه : ما فيه أيضا : تعرّفت إليّ في كل شيء ، فرأيتك ظاهرا في كل شيء. بدعوى أنّ كونه ظاهرا في كل شيء من جهة أنّه وجود كل شيء.

وفيه : ما مرّ من إمكان كون المراد هنا أيضا ظهور ذي الآية بالآيات الموجودة بحكم العقل ، نظير ما في الحديث : جعل الخلق دليلا عليه فكشف به عن ربوبيته (٢).

وفي الحديث المرويّ عن ثامن الأئمّة صلوات الله عليه : فأيّ ظاهر أظهر وأوضح من الله تبارك وتعالى ، لأنّك لا تعدم صنعته حيثما توجّهت ، وفيه من آثاره ما يغنيك (٣).

فمع هذا الاحتمال لا يكون دليلا على قولهم.

ومنه : ما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أصدق شيء قاله شاعر كلمة لبيد : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل (٤). بدعوى أن بطلانه من جهة أنّه ليس لشيء وجود إلاّ وجود الحق ، والماهيّات امور اعتباريّة باطلة.

وفيه : أوّلا : أنّ ظاهر كلامه كما يشهد به قوله :

وكلّ نعيم لا محالة زائل

وكلّ أناس سوف تدخل بينهم

دويهيّة تصفرّ منها الأنامل

__________________

(١) البحار ٩٨ : ٢٢٥ ، عن الإقبال.

(٢) البحار ٤ : ٢٥٣ ، عن الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) التوحيد ١٨٩ ، العيون ١ : ١٤٩ ، البحار ٤ : ١٧٨.

(٤) صحيح البخاريّ ٥ : ٥٣.

٨٦

أنّه بيان عدم ثبات الدنيا ونعيمها ، وأنّها سيبطل ويزول ، كما في قوله : ( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (١). فهو أجنبيّ عن مسألة التوحيد.

وثانيا : كون ما خلا الله باطلة الذوات لكونها حادثة قائمة بالغير لا يستلزم كون وجودها وجود الحقّ ، أي تطوّره بها ، بل لمكان استحالة ذلك عقلا لا يمكن أن يكون مورد تصديق النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومنه : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي رواه أمير المؤمنين عليه‌السلام في دعاء الصباح : يا من دلّ على ذاته بذاته (٢). بدعوى أنّ المخلوق دالّ على خالقه. فكونه دالاّ بذاته على ذاته ليس إلاّ من جهة أن وجود المخلوق هو وجود الخالق بعينه مقيدا.

وفيه : أن قوله : « وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته » قرينة على عدم إرادة هذا المعنى ، فالظاهر كونه إشارة إلى معرفة حقيقية من غير طريق الآيات ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ومنه : قوله صلوات الله عليه : مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء لا بمزايلة (٣).

بدعوى أنّ نفي المقارنة والمزايلة مع إثبات المعية والغيرية ليس إلاّ من جهة أنّ غيره لا وجود له إلاّ بالاعتبار.

وفيه : أنّ لفظ المعيّة والغيريّة ظاهر في الغيريّة الحقيقيّة ، فمعنى نفي المقارنة نفي كونهما في رتبة واحدة ، ومعنى نفي المزايلة نفي البينونة العزليّة.

وعمدة ما استدلّ به لذلك من طريق البرهان العقليّ بزعمهم أنّه لو لم نقل بذلك ـ أي أنّ ذات الحق وحقيقة الوجود سار إلى مرتبة وجود الأشياء ـ بل كان لها وجود أيضا ، لزم نقص ذاته تعالى وتحديده بعدم وجود الأشياء ، فكماله واجديّة ذاته لجميع مراتب ثبوت الأشياء ووجودها. فلذا قالوا بأنّ الكثرة منطوية في ذلك الموجود الواحد بالوحدة الشخصية ، وهذا الموجود الواحد سار في جميع الأشياء ، بمعنى كونه عين الكثير من غير

__________________

(١) القصص ٨٨.

(٢) البحار ٩٤ : ٢٤٣ ، عن اختيار السيّد ابن باقي.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة : ١.

٨٧

حلول واتحاد ، لأنّهما فرع الاثنينيّة ، وهي خلف. فلذا ليس في الدار غيره ديّار ، وفاعليته وخالقيته عندهم ليست إلاّ تجلّيه بالأسماء والصفات ، وبالوجودات الخاصّة التي هي عين ذاته. فهو الذي يرى رؤية العيان.

ويؤوّلون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته : فتجلّى لخلقه من غير أن يكون يرى (١). بأنّه قال ذلك لمن لا يعرف الأشياء بأنّها عين ذاته الظاهرة فيها ، وإلاّ فلا يدرك أحد شيئا إدراكا بسيطا إلاّ إيّاه. كما صرّح به ملاّ صدرا بأنّ كل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات ، فمن حيث هويّة الحقّ هو وجوده (٢).

والجواب عنه : أنّ النقص إنّما يلزم إذا كان له شريك في الشيئية الحقيقية القائمة بذاته وحقيقة النور الحقيقي الأزلي الأبدي الذي هو عين الحياة والقدرة وغيرهما من الكمالات بلا تركيب. وأمّا الشيء الذي شيئيته وواقعيته بالغير القائم ذاته بالغير ، المتحقق بمشيئة الغير ، الحادث بالحدوث الحقيقي ، الفاقد ذاتا للحياة ولجميع الكمالات ، الذي حياته وعلمه وقدرته بواجديته لتلك الأنوار بإذن ربّه وربّها ، ومالكه ومالكها ، وبمشيئته ـ كما هو حقيقة كل مخلوق ـ فما هذه حقيقته فهو حقيقة ناقصة فقيرة ذاتا وكمالا ، وكماله تعالى تنزّهه عن تنزّله إلى رتبتها ، وتشؤّنه وتطوّره بها ، أو رجوعها ووصولها إلى ذاته وفنائها فيه. بل محال ذلك ذاتا ، للمباينة الذاتية بينهما.

فتحديده تعالى إنّما يلزم إذا كان لغيره وجود من سنخ هذا الوجود الذي هو عين النور الأزلي الأبدي ، أو كان زمان أو مكان خاليا ـ أي منعزلا ـ عنه. وأمّا الشيء القائم ذاته به ، المحتاج في كماله وبقائه إليه ، مع إحاطته به ظاهرا وباطنا ، وعدم البينونة بالبينونة العزلية بينه وبينه فليس وجوده موجبا لتحديد ذاته المتعالي عن أوصافه.

توضيح الجواب بعبارة اخرى : يمتنع كون الموجود في دار التحقق حقيقة واحدة وموجودا واحدا ، بل الموجود سنخان متباينان ، وحقيقتان مختلفتان :

أحد السنخين : المتحقق بذاته المستقل في ذاته ، الشيء بحقيقة الشيئية والواقعية ،

__________________

(١) البحار ٤ : ٢٨٨ ، عن التوحيد.

(٢) راجع ص ٧٦.

٨٨

والنور الحقيقيّ الأزليّ الأبديّ ، أحديّ الذات ، عين جميع الكمالات من العلم والحياة والقدرة ونحوها ، بلا تركيب فيه ولا شبيه له ، ولا ثاني ولا عدل.

والثاني : سنخ آخر غير السنخ المذكور ، أي شيء بالغير ، قائم ذاته بذلك الغير ، وما هو كذلك مباين لما هو شيء بذاته وقائم بنفسه.

إنّه شيء صار شيئا بالغير لا من شيء ، وحيث إنّه لا من شيء فهو غير مترشّح ولا متنزّل عن ذلك الغير ولا عن شيء آخر ، وحيث إنّه لم يكن ثم كان فهو حادث بالحدوث الحقيقي ، وما هو كذلك مباين للذات الأزلي.

وحيث إنّه مظلم ذاتا فهو يتنوّر بنور العلم تارة ، ويرجع إلى ما كان عليه من الظلمة الذاتيّة أخرى ، ثم يتنور ، وهكذا.

ويظهر ما ذكرنا من ملاحظة أنّ من أشرف هذا السنخ الثاني : الذات الإنساني ، فإنّا نجد أنفسنا أنّها كذلك ، ننام فلا نشعر بشيء حتى في المنام ثم نستيقظ ، يغشى علينا ثم نفيق ، ننسى ما كنّا عالمين به ثم نذكر ، فيكون علمنا إنّما هو بوجداننا نور العلم ، وجهلنا بفقداننا إيّاه ، وإن لم نعرف كيفيّة هذا الوجدان والفقدان. وظاهر أنّ ما هو مظلم ذاتا مباين لما هو نور ذاتا. ثم إنّ الكثرة والاختلاف والتركيب والمعروضية للعوارض المحسوسة بالحواس الظاهرة والباطنة إنّما هي في هذا السنخ الثاني ، وظاهر أنّ ما هو كذلك مباين لما هو أحديّ الذات ، فيظهر أنّ ما هو من السنخ الثاني يمتنع دخوله في صقع الأمر الأوّل مهما بلغ من العلم والكمال ، ولا يمكن أن يكون مشابها له أيضا.

وقد مرّ ما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعاء الصباح : وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته (١).

وعن أبي جعفر صلوات الله عليه : إنّ الله تبارك وتعالى خلو من خلقه ، وخلقه خلو منه ، وكلّ ما وقع عليه اسم « شيء » ما خلا الله عزّ وجلّ فهو مخلوق (٢).

وعن عليّ صلوات الله عليه : ... توحيده تمييزه عن خلقه ، وحكم التمييز بينونة

__________________

(١) راجع ص ٨٧.

(٢) البحار ٣ : ٢٦٣ ، عن التوحيد.

٨٩

صفة لا بينونة عزلة ، إنّه ربّ خالق غير مربوب مخلوق ... (١).

وعنه أيضا صلوات الله عليه : مباين لجميع ما أحدث في الصفات (٢).

وعنه أيضا صلوات الله عليه : ... وما زال ليس كمثله شيء عن صفة المخلوقين متعاليا ، وانحسرت الأبصار عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفا ، وبالذات التي لا يعلمها إلاّ هو عند خلقه معروفا ... (٣).

وعن الصادق صلوات الله عليه : من شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، إنّ الله تبارك وتعالى لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، وكلّ ما وقع في الوهم فهو بخلافه (٤).

وعن ثامن الائمّة صلوات الله عليه : ... فليس الله عرف من عرف بالتشبيه ذاته ، ولا إيّاه وحّد من اكتنهه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا به صدّق من نهّاه ، ولا صمد صمده من أشار إليه ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ... فقد جهل الله من استوصفه ... فكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكل ما يمكن فيه يمتنع في صانعه. الخبر (٥).

وفي البحار عن أمالي الشيخ مسندا عن محمد بن سماعة ، قال : سأل بعض أصحابنا الصادق عليه‌السلام فقال له : أخبرني أيّ الأعمال أفضل؟ قال : توحيدك لربّك ، قال : فما أعظم الذنوب؟ قال : تشبيهك لخالقك (٦).

وعن التوحيد مسندا عن البزنطي عن محمد بن حكيم ، قال : وصفت لأبي إبراهيم عليه‌السلام قول هشام الجواليقي وحكيت له قول هشام بن الحكم أنّه جسم ، فقال : أيّ فحش أو خناء أعظم من قول من يصف خالق الأشياء بجسم أو بصورة أو بخلقة أو بتحديد وأعضاء؟! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا (٧).

__________________

(١) البحار ٤ : ٢٥٣ ، عن الاحتجاج.

(٢) البحار ٤ : ٢٢٢ ، عن التوحيد.

(٣) البحار ٤ : ٢٧٥ ، عن التوحيد.

(٤) البحار ٣ : ٢٩٩ ، عن التوحيد.

(٥) البحار ٤ : ٢٢٨ ، عن التوحيد والعيون.

(٦) البحار ٣ : ٨.

(٧) البحار ٣ : ٣٠٣ ، عن التوحيد.

٩٠

تنبيه

ليس فعله تعالى وفاعليته بالرشح والفيضان من ذاته القدوس ، ولا بالتطوّر والتشؤّن ذاتا المسمّى اصطلاحا بالتجلّي الذاتيّ ، فإنّهما من التغيّر المنفي عنه تعالى عقلا ، كما نبّه عليه ثامن الأئمّة صلوات الله عليه بقوله : ... لا يتغير الله بانغيار المخلوق ... (١).

مضافا إلى أن الأوّل منهما من الولادة المنفيّة عنه عقلا.

كلام في التجلّي والمكاشفة

ما ورد من نسبة التجلّي إليه تعالى في القرآن الكريم (٢) ، وكلمات المعصومين (٣) ليس بمعنى تجلي الوجود المطلق ذاتا بمفهوم الأسماء والصفات ، كالعالم والقادر ونحوهما ، أو تجليه بالوجودات المقيدة خارجا ، كما زعموا ، فإنّ التجلي على أنحاء : الأوّل : تجلّى الشيء وظهوره حسّا بعد خفائه ، كتجلّي الشمس أي ظهورها من الافق.

الثاني : تجلّي العلة بمعلولها الذي يتولد ويترشح منها ، كتجلي الشمس بنورها المنتشر في الفضاء وعلى وجه الأرض.

الثالث : تجلي الحقيقة الواحدة بأطوارها ، كتجلي الماء تارة بصورة البحار ، وأخرى بصورة الموج ونحو ذلك. وكتجلي مادّة عالم الأجسام بما لها من الخصوصيات التي جعل الله فيها بصورة الأصناف المخلوقة منها. وربّما يمثّل له بتجلي حقيقة الوجود بالوجودات والأكوان الخاصة ، كما هو مقال الموسومين بالشامخين من الصوفية.

الرابع : تجلي الصانع بمصنوعاته ، وبما أبدع وعمل فيها من اللطائف والصور وغيرها ، فإنّ وجوده وعلمه وقدرته وحكمته وسائر كمالاته تتجلى بها ، ويكون ما صنعه وما أبدع فيه آيات له ولكمالاته.

__________________

(١) راجع الهامش ٥ من الصفحة ٩٠.

(٢) الأعراف ١٤٣.

(٣) سيأتي بعضها في ص ٩٢ ، ٩٣.

٩١

والثلاثة الاولى بجميع معانيها منفية عن الحقّ المتعالي ، أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّه الولادة المنفية عنه تعالى عقلا وكتابا وسنة ، كما ذكرنا. وأمّا الثالث فلأنّ مرجعه إلى التغيّر الذي هو من صفات المصنوع ، المنزّه عنها الذات القدّوس الأزليّ الذي ليس بمصنوع. والأمر واضح في المثالين الأولين للمعنى الثالث. وأمّا في المثال الثالث فللمباينة الواضحة بين سنخ الوجود المبدع لا من شيء وبين الذات الأقدس الذي هو الشيء بحقيقة الشيئية ، والموجود بذاته لا بالغير.

مضافا إلى أنّ الوجود المصنوع ـ كما مرّ مرارا ـ مظلم ذاتا ، محتاج في ظهوره إلى العلم الذي هو حقيقة النور ـ كما هو المشهود بعد التذكر ـ وتطوّر الشيء بما هو مباين له ذاتا محال. مضافا إلى تنزهه تعالى عن التطور مطلقا ، لكون مرجعه إلى التغيّر ، ولا أقلّ من كونه من الانقسام الوهميّ الذي أشار إليه أمير المؤمنين صلوات الله عليه في معنى الواحد : لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم (١).

وأشار إليه الإمام الرضا عليه‌السلام بقوله : ... ويوحّد ولا يبعّض ... (٢).

وأشار إليه أيضا في خطبته : ولا إيّاه وحّد من اكتنهه (٣).

فكل ما نسب إليه تعالى من التجلي ، كما في قوله تعالى : ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) (٤).

وفي خطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : فتجلّى لخلقه من غير أن يكون يرى (٥).

وفي خطبة الرضا صلوات الله عليه : بها تجلّى صانعها للعقول (٦).

وفيها : متجلّ لا باستهلال رؤية.

وفي نهج البلاغة : فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه (٧).

__________________

(١) البحار ٣ : ٢٠٧ ، عن التوحيد. وتقدّم الخبر بتمامه في ص ٨٢ ، ٨٣.

(٢) البحار ٣ : ٢٩٧ ، عن التوحيد.

(٣) البحار ٤ : ٢٢٨ ، عن التوحيد.

(٤) الأعراف : ١٤٣.

(٥) البحار ٤ : ٢٨٧ ، عن التوحيد.

(٦) البحار ٤ : ٢٢٨ ، عن التوحيد والعيون.

(٧) الخطبة ١٤٧ وروي بهذا المضمون عن الصادق عليه‌السلام كما في البحار ٩٢ : ١٠٧ ، عن أسرار الصلاة.

٩٢

وفي دعاء السمات : وبمجدك الذي تجلّيت به لموسى كليمك عليه‌السلام في طور سيناء ، ولإبراهيم عليه‌السلام خليلك من قبل في مسجد الخيف ، ولإسحاق صفيّك عليه‌السلام في بئر شيع ، وليعقوب نبيّك عليه‌السلام في بيت ايل (١).

فهو إمّا من القسم الرابع ، كما في نهج البلاغة : بها تجلى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون (٢). وكما في البصائر في رواية عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ موسى لمّا أن سأل ربّه ما سأل أمر واحدا من الكرّوبيّين فتجلّى للجبل فجعله دكّا (٣).

وعن العيون في رواية عن أبي الحسن الرضا صلوات الله عليه : ... فلمّا تجلّى ربّه للجبل بآية من آياته جعله دكّا وخرّ موسى صعقا ... (٤).

وعن التوحيد في حديث طويل عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : فأبدى الله جلّ ثناؤه بعض آياته ، وتجلى ربنا تبارك للجبل فتقطّع الجبل فصار رميما وخرّ موسى صعقا ... (٥).

وإمّا تجلّ خاص لقلب المؤمن في شدائده ، وفي صلواته ، وعند قراءة القرآن ، وفي دعواته وسائر عباداته ، وغير ذلك من أحواله في بعض الأحيان ، لطفا منه على عبده المؤمن ، بل قد يتفق للمشرك والكافر أيضا في بعض شدائده وورطاته ، إتماما للحجة عليه ، كما نبّه عليه قوله تعالى : ( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (٦). وغير ذلك من الآيات التي يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

وللقائلين بوحدة الوجود والموجود دليل آخر وهي المكاشفة ، وربّما يعبّر عنها بالواقعة ، المفسّرة بالامور العينية التي يراها الإنسان بين اليقظة والنوم ، ومرادهم منها كما يظهر من مكاشفات محيى الدين بن عربي على ما في « الفتوحات المكيّة » (٧) واللاهيجي

__________________

(١) مصباح المتهجّد : ٣٧٥.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٦.

(٣) بصائر الدرجات ٦٩ ، وعنه البحار ١٣ : ٢٢٤.

(٤) العيون ١ : ٢٠١ ، عنه البحار ١٣ : ٢١٨ ، عن العيون والتوحيد والاحتجاج.

(٥) التوحيد ٢٦٣ ، وعنه البحار ٩٣ : ١٣٥.

(٦) العنكبوت ٦٥.

(٧) الفتوحات المكيّة ١ : ٨٩٨.

٩٣

في « شرح گلشن راز » (١) ليست إلاّ ما يراه النائم في المنام ، أو فيما بينه وبين اليقظة ، ولا اعتبار لهما لا عقلا ولا شرعا ، لاحتمال كونها من أضغاث الأحلام التي منها إلقاءات الشياطين ، ولا سيما إذا كان في أوّل المنام وفي آخره حين تردّ الروح إلى جسدها. ومنها ما يحدّث به الإنسان به نفسه في اليقظة فيراه في نومه ، كما يتفق ذلك لبعض كثيرا.

ففي البحار عن الكافي بسنده عن أبي بصير ، قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ، الرؤيا الصادقة والكاذبة مخرجهما من موضع واحد؟ قال : صدقت ، أمّا الكاذبة المختلفة يراها الرجل في أول ليلة في سلطان المردة الفسقة ، وإنما هي شيء يخيّل إلى الرجل وهي كاذبة مخالفة لا خير فيها ، وأمّا الصادقة إذا رآها بعد الثلثين من الليل مع حلول الملائكة ـ وذلك قبل السحر ـ فهي صادقة لا تختلف إن شاء الله ، إلاّ أن يكون جنبا أو يكون على غير طهر أو لم يذكر الله حقيقة ذكره فإنّها تختلف وتبطئ على صاحبها (٢).

وفيه عن الدر المنثور عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال : العجب من الرؤيا الرجل! إنّه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فيكون رؤياه كأخذ باليد ، ويرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئا. فقال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه : أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله يقول : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) (٣). فالله يتوفى الأنفس كلها ، فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأت إذا ارسلت إلى أجسادها تلقّتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها.

فعجب عمر من قوله (٤).

وعنه أيضا عن عوف بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الرؤيا على ثلاثة : منها تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم ، ومنها أمر يحدّث به نفسه في اليقظة فيرى في

__________________

(١) مفاتيح الإعجاز في شرح گلشن راز : ٧٦ ، ٩١ ، ٩٦ ، ٢٢٨ ، ٣٤٦ ، ٣٧٠ ، ٤٠٥ ، ٦٢١.

(٢) البحار ٦١ : ١٩٣ ، عن روضة الكافي.

(٣) الزمر ٤٢.

(٤) البحار ٦١ : ١٩٣.

٩٤

المنام ، ومنها جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة (١).

أقول : وإن كان مقتضى النبويّ وروايات اخرى أنّ بعضها جزء من النبوة ، إلاّ أنّها تختصّ بالمؤمن ، فلا اعتبار بما يراه مثل ابن عربي الذي يعدّ من رجال الله جماعة منهم الأقطاب ... ومنهم من يكون ظاهر الحكم ويحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية بن يزيد وعمر بن عبد العزيز والمتوكل ( الذي أمر بهدم قبر الحسين عليه‌السلام ، وهدم ما حوله من الدور لعمل المزارع ، ومنع الناس من زيارته ) (٢) ... ومنهم الرجبيون وهم أربعون نفسا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون ، وهم رجال حالهم القيام بعظمة الله ... إلى آخر كلامه (٣).

اقول : الرجبيون هم الذين يحكي ابن عربي عن بعض أوليائهم أنّه كان يرى الروافض في كشفه خنازير ، ثم قال : وهي العلامة التي جعل الله في أهل هذا المذهب (٤).

انتهى.

ولا اعتبار أيضا بما صدر من مثل اللاّهيجيّ الذي حدّث نفسه ولقّنها في اليقظة بوحدة الوجود والموجود ، فرأى في المنام ما يناسبه (٥) ، كما في النبوي المتقدم ذكره ، ويحتمل كونه مما أراه الشياطين مناسبا لما اعتقد به ، لتثبته على ما اعتقده من الضلال الذي استحقه هو وأمثاله برجوعهم في الأمر الخطير إلى من لا يجوز الرجوع إليه.

ثم على فرض انكشاف امور غيبيّة في حال اليقظة من طريق العين أو الأذن أو الإلقاء في القلب ولو في حال الذكر أو الخلسة فما الدليل ـ إذا وقع ذلك لغير المعصوم ـ على أن الملقي ملك أو شيطان؟.

وقد اعترف القيصريّ بأنّ بعض المشاهدات والإلقاءات واقعيّ ورحمانيّ ، وبعضها

__________________

(١) البحار ٦١ : ١٩٣.

(٢) راجع : الكامل لابن الأثير ٧ : ٥٥.

(٣) الفتوحات المكيّة ١ : ٦ ، ٨.

(٤) الفتوحات المكيّة ١ : ٦ ، ٨.

(٥) راجع ص ٩٤.

٩٥

خياليّ وشيطانيّ (١) ، ولذا قال بعضهم : إنّ الحقّ من المكاشفات ما يصدّقه البرهان العقلي. وقد عرفت حال البراهين التي أقاموها على التوحيد بالمعنى المذكور.

فما هذه حاله كيف يجوز للعاقل أن يستند إليه في مهمّات الأمور؟! ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ) (٢).

كلام لملا صدرا في بيان مقصود العرفاء الشامخين ، أراد به تنزيههم عمّا قاله جهلة الصوفية ، من إنكار التحقق بالفعل للذات الأحدية المنعوتة عندهم بمقام الأحدية وغيب الغيوب ، وقولهم : المتحقق هي الوجودات المتعينة. أورده في المجلد الثاني من الأسفار : ٣٤٥. فقال :

وهم وتنبيه : إنّ بعض الجهلة من المتصوفين المقلّدين الذين لم يحصّلوا طريق العلماء العرفاء ولم يبلغوا مقام العرفان ، توهّموا ـ لضعف عقولهم ووهن عقيدتهم وغلبة سلطان الوهم على نفوسهم ـ أن لا تحقق بالفعل للذات الأحدية المنعوتة بألسنة العرفاء بمقام الأحدية وغيب الهويّة وغيب الغيوب مجردة عن المظاهر والمجالي ، بل المتحقق هو عالم الصورة وقواها الروحانية والحسية ، والله هو الظاهر المجموع لا بدونه ـ وهو حقيقة الإنسان الكبير والكتاب المبين الذي هذا الإنسان الصغير أنموذج ونسخة مختصرة عنه ـ وذلك القول كفر فضيح وزندقة صرفة لا يتفوّه به من له أدنى مرتبة من العلم. ونسبة هذا الأمر إلى أكابر الصوفية ورؤسائهم افتراء محض وإفك عظيم ، يتحاشى عنه أسرارهم وضمائرهم. ولا يبعد أن يكون سبب ظن الجهلة بهؤلاء الأكابر إطلاق الوجود تارة على ذات الحق ، وتارة على المطلق الشامل ، وتارة على المعنى العام العقلي ، فإنهم كثيرا ما يطلقون الوجود على المعنى الظلي الكوني ، فيحملونه على مراتب التعينات والوجودات الخاصة فيجري عليه أحكامها ، انتهى.

أقول : تكفيره إياهم بذلك المقال حق ، إلاّ أنّ ما فرق به بين قول الشامخين وقول جهلة الصوفية لا يجدي في إخراج مقال الشامخين عن الفساد عقلا وفطرة ونقلا بالنقل

__________________

(١) شرح الفصوص ١ : ٨١ ، ٩٣.

(٢) النور ٤٠.

٩٦

المتواتر ـ كما سيأتي ـ : لأنّ مقال الشامخين الذي ارتضاه في غير واحد من كلامه ، منه ما نقلناه عنه سابقا من أنّ كل ما يقع عليه اسم الوجود بنحو من الأنحاء فليس إلاّ شأنا من شئون الواحد القيوم.

ومنه : أنّ جميع الموجودات عند أهل الحقيقة والحكمة المتعالية ـ عقلا كان أو صورة نوعيّة ـ مراتب أضواء النور الحقيقي وتجليات الوجود القيّومي الإلهي.

ومنه : كلامه الآخر الذي أنكر فيه العلية والمعلولية في الوجود.

ومنه : قوله بأنّ فاعليته تعالى بالتجلي ، ومنه قوله بأن ليس في الدار غيره ديّار.

ومنه : ارتضاؤه بما قال ابن عربي في الفتوحات والفصوص ، بقوله في شأنه أنه لا يجازف في القول ، وغير ذلك من كلماته.

وبالجملة : لازم ذلك المقال أنّ مراده من أضواء النور الحقيقي هو المراتب الضعيفة من الوجود ، وكذا المراد من الوجود الظلي ، إذ مفروض كلامه أن لا واقعيّة لشيء سواه.

وهذا مما يخالفه العقل والفطرة والنقل المتواتر معنى.

أما عقلا فلأنّه ( مضافا إلى بطلان الأدلّة التي استدلّوا بها على إثبات وحدة الوجود والموجود كما بيّناه ) عين التغير المنفي عقلا عن الذات الأزلي ، كما أشار إليه صلوات الله عليه بقوله : لا يتغير الله بانغيار المخلوق (١).

ولاستلزام القول به صحّة نسبة اللهو والعبث واللعب بنفسه إلى نفسه القدوس ( الذي نزهه عنها بقوله : ( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (٢). وبقوله : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (٣). في جميع أفعاله من بعث الرسل وإنزال الكتب وما حوته من البشارة والإنذار ونحوهما. بل لازمه القول بأنّه الفاعل لكل فعل يقع في عالم الوجود ، وأنّه أيضا المفعول ، كما التزموا بذلك في نفس الإنسان الذي هو آية للعالم الكبير ، في قولهم فيه باتّحاد العقل والعاقل والمعقول.

__________________

(١) البحار ٤ : ٢٢٨ ، عن التوحيد والعيون.

(٢) الأنبياء ١٦.

(٣) المؤمنون ١١٥.

٩٧

فهل مقتضى قوله : ليس في الدار غيره ديّار غير ما ذكرنا؟.

وأمّا فطرة فلأنّه مخالف للمكاشفة الظاهرة التي تحصل للمؤمن والكافر في البأساء والضراء ، وقد حكم الله تعالى بصحّتها في غير واحد من الآيات المباركات ، نحو قوله : ( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (١). ومخالف أيضا للمكاشفة التي قد تحصل للمؤمن في بعض عباداته ودعواته ، حيث يترنّم فيها بقوله : أنت الخالق وأنا المخلوق ، وأنت الرازق وأنا المرزوق ، وأنت الربّ وأنا العبد ، وأنت المالك وأنا المملوك ... ، إلى غير ذلك من العبارات الحاكية طبعا أنّ المتكلم بها لا يرى نفسه جلوة من جلوات الحق المتعالي ، بل يراه غيره ، ولذا يتضرع إليه ويستغفر من ذنوبه.

وأمّا نقلا فلأنّ جميع الآيات المباركات ـ ولا سيّما نحو قوله : ( كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) (٢). و ( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ) (٣) ، تدلّ بدلالة الاقتضاء على غيريّة المنزل والمنزل إليه وفيه ، بالغيرية الحقيقية لا اعتبارية.

وكذلك الروايات المباركة الصادرة عن المعصومين المستفيضة ـ بل المتواترة معنى ـ الدالة على المباينة والمغايرة بمعناها الحقيقي بين الخالق والمخلوق ، والدالة على أنّ المخلوق خلق لا من شيء.

وخصوص قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في جواب الأعرابي الذي سأل عن معنى الواحد أنّه تعالى : لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم (٤) ، فهل تقسيم حقيقة الوجود إلى مقام الأحدية والواحدية وما دون ذلك خارج عن التقسيم ولو في الوهم كما ذكرنا؟ وخارج عن قول الرضا صلوات الله عليه في خطبته : يوحّد ولا يبعّض (٥) ، وعن قول الإمام الباقر صلوات الله عليه : كلما ميّز تموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم ومردود

__________________

(١) العنكبوت ٦٥.

(٢) المائدة ٦٤.

(٣) النساء ٥٦.

(٤) راجع ص ٩٢.

(٥) راجع ص ٩٢.

٩٨

إليكم (١) ، وغير ذلك مما يطول ذكره؟

المعرفة الفطريّة

وهذه بعض التذكرات الراجعة إلى معرفة الله تعالى ، المعبّر عنها بالمعرفة الفطرية ، والفرق بينها وبين المعرفة بالعقل والآيات ، فنقول :

المعرفة بالآيات مطلقا من طريق العقل ، بما لها من المراتب المتفاوتة ـ من جهة تفاوت الآيات ، وتفاوت مراتب الإرشاد إليها ، وتفاوت مراتب التدبر والتفكر فيها ، وتفاوت مراتب العقول المطبوعة في أفراد الإنسان كمالا ونقصا ، وتفاوت التأييدات الخاصّة من الله تعالى ـ فإنّها وإن كان يطلق عليها المعرفة حقيقة ، إلاّ أنّ غاية هذه المعرفة حصول مجرّد التصديق والإيمان بوجود الصانع بما له من الكمالات من دون وجدان ووصول وعيان ، لامتناع الوصول والوجدان العلمي لنا بشيء إلاّ بإحدى المدارك الظاهرة أو الباطنة ، ومن طريق العلم والعقل ، وقد عرفت امتناع جميع ذلك بالنسبة إليه تعالى شأنه ، ولكنه ـ أي الامتناع ـ إنّما كان إذا كان المعرّف لذاته العلم والعقل. وأمّا إذا كان المعرّف بالمعنى اللائق بذاته هو ذاته القدّوس لا العقل ولا العلم فإنّه لا دليل على امتناعه.

وحيث يظهر من الآيات والروايات المتواترة معنى ، ويشهد به الوجدان في بعض الأحيان وقوع تلك المعرفة فضلا عن إمكانه ، فلا محالة يكون الوجدان ، أو العرفان ، أو الوصول ، أو العيان ـ المعبر بها في تلك الروايات المباركة ـ بالنسبة إليه تعالى بأمر آخر ، لا بالمدارك الظاهرة أو التصور ، أو التوهم ، أو بالعلم والعقل.

أمّا الوجدان فهو الذي يظهر للإنسان عند البأساء والضراء والشدائد ، وحين الانقطاع عن جميع الأسباب ، فيدعو الربّ تعالى شأنه حينئذ ويتضرع إليه ، من غير إدراك شيء بالمدارك الظاهرة أو الباطنة.

وهذا يحصل للمؤمن والكافر ، وبه يتمّ الله الحجة على جميع خلقه. وليس هذا من

__________________

(١) الأربعين للشيخ البهائي ١٧.

٩٩

طريق العقل والاستدلال بالآيات وإن كان العقل حاكما بوجوب التصديق والاعتقاد به عند حصول هذا العرفان والوجدان ـ بل يحصل هذا الوجدان وهذه المعرفة قهرا وقسرا ، عند الانقطاع عن جميع الأسباب ، وعند الوقوع في المهالك التي يغفل معه عن جميع الآيات وعن إعمال التعقل والتفكر ، وبعبارة اخرى بعد صحو جميع المعلومات الصحيحة ، ومحو جميع الموهومات الباطلة يظهر ويكشف للإنسان سبحات جلال الله ، كما هو محتمل الرواية المنسوبة إلى كميل بن زياد ، قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : ما الحقيقة؟ فقال علي عليه‌السلام : ما لك والحقيقة؟ قال : أولست صاحب سرّك؟ قال عليه‌السلام : بلى ولكن يرشح عليك ما يطفح مني ، قال كميل : أو مثلك يخيب سائلا؟! فقال علي عليه‌السلام : الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة ، فقال : زدني بيانا ، فقال عليه‌السلام : محو الموهوم ، وصحو المعلوم. الحديث (١).

وقد أرشد إلى هذه الحقيقة وهذا الوجدان ، واحتج بها على الكفار والمشركين بالشرك الجلي أو الشرك الخفي في آيات مباركة من القرآن العظيم :

( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (٢).

( وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ) (٣).

( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ) (٤).

( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا

__________________

(١) روضات الجنّات للخوانساريّ ٦ : ٦٢ ، عن رجال النيسابوريّ.

(٢) العنكبوت ٦٥.

(٣) لقمان ٣٢.

(٤) الإسراء ٦٦ ، ٦٧.

١٠٠