تنبيهات حول المبدأ والمعاد

الميرزا حسنعلي مرواريد

تنبيهات حول المبدأ والمعاد

المؤلف:

الميرزا حسنعلي مرواريد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: العتبة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 964-444-083-8
الصفحات: ٢٧٣

المصنوع فيه ، ولتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه ... (١).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : وكلّ ما وقع في الوهم فهو بخلافه (٢).

وعن موسى بن جعفر عليهما‌السلام ـ في حديث ـ : ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال (٣).

وفي نهج البلاغة عن نوف البكاليّ قال : خطبنا أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه الخطبة : الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق وعواقب الأمر ... بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم ... والحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسيّ أو عرش ، أو سماء أو أرض ، أو جانّ أو إنس ، لا يدرك بوهم ، ولا يقدّر بفهم ، ولا يشغله سائل ، ولا ينقصه نائل ، ولا ينظر بعين ، ولا يحدّ بأين ، ولا يوصف بالأزواج ، ولا يخلق بعلاج ، ولا يدرك بالحواسّ ، ولا يقاس بالناس ... فإنّما يدرك بالصفات ذوو الهيئات والأدوات ، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفناء. فلا إله إلاّ هو ، أضاء بنوره كلّ ظلام ، وأظلم بظلمته كلّ نور (٤).

وفي العيون عن الرضا عليه‌السلام ـ في حديث ـ : قال السائل : رحمك الله ، فأوجدني كيف هو وأين هو؟ قال : ويلك ، إنّ الذي ذهبت إليه غلط ، هو أيّن الأين ، وكان ولا أين ، وهو كيّف الكيف ، وكان ولا كيف ، فلا يعرف بكيفوفيّة ، ولا بأينونيّة ، ولا يدرك بحاسّة ، ولا يقاس بشيء ، قال الرجل : فإذن إنّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : ويلك ، لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته ، ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا وأنّه شيء بخلاف الأشياء ... ـ وفيه بعد سطور ـ قال : فلم لا تدركه حاسّة البصر؟ قال : للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسّة

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٦. قال السيّد الرضيّ تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة ، وهي مرويّة عن الرضا عليه‌السلام أيضا بتفاوت ، انظر العيون ١ : ١٤٩ ، وسيأتي مصدر البحار في ص ٦٣ الهامش ٣.

(٢) البحار ٣ : ٢٩٩ ، عن التوحيد.

(٣) البحار ٣ : ٣٢٧ ، عن التوحيد.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٢ ، وعنه البحار ٤ : ٣١٣.

٦١

الأبصار منهم ومن غيرهم ، ثمّ هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم ، أو يضبطه عقل. الخبر ... (١).

وفي التوحيد عن صفوان بن يحيى ، قال : سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فاستأذنته في ذلك فأذن لي ، فدخل عليه ، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام ، حتى بلغ سؤاله التوحيد ، فقال أبو قرّة : إنّا روينا أنّ الله عزّ وجلّ قسّم الكلام والرؤية بين اثنين ، فقسّم لموسى عليه‌السلام الكلام ، ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤية. فقال أبو الحسن عليه‌السلام : فمن المبلّغ عن الله عزّ وجلّ إلى الثقلين الجن والإنس : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) (٢). ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (٣). ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٤). أليس محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال : بلى ، قال : فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنّه جاء من عند الله ، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، ويقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، ولا يحيطون به علما ، وليس كمثله شيء ، ثم يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطت به علما ، وهو على صورة البشر! أما يستحيون! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ، أن يكون يأتي عن الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر (٥).

وفي دعاء الصباح الذي رواه أمير المؤمنين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا من دلّ على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته (٦).

وفي الدعاء الذي علّمه جبرئيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أورده السيّد في المهج (٧) نقلا عن كتاب عتيق ـ : يا فكّاك الرقاب من النار وطارد العسر من العسير ، كن شفيعي إليك إذ كنت دليلي عليك.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته : وتوحيده تمييزه من خلقه ، وحكم التمييز

__________________

(١) العيون ١ : ١٣١ ، التوحيد ٢٥٠ ، وعنهما البحار ٣ : ٣٦.

(٢) الأنعام : ١٠٣.

(٣) طه : ١١٠.

(٤) الشورى : ١١.

(٥) التوحيد ١١٠ ، وعنه البحار ٤ : ٣٦.

(٦) البحار ٩٤ : ٢٤٣ ، عن اختيار السّيد ابن باقي.

(٧) مهج الدعوات ٨٤ ، وعنه البحار ٩٥ : ٣٧٣.

٦٢

بينونة صفة لا بينونة عزلة (١).

وعنه عليه‌السلام : ... مباين لجميع ما أحدث في الصفات ، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات ... (٢).

وعن الرضا صلوات الله عليه : ... فليس الله عرف من عرف بالتشبيه ذاته ، ولا إيّاه وحّد من اكتنهه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا به صدّق من نهّاه ، ولا صمد صمده من أشار إليه ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا له تذلّل من بعّضه ، ولا إيّاه أراد من توهّمه. كلّ معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول ، ... ومن وصفه فقد ألحد فيه ، لا يتغيّر الله بانغيار المخلوق ، كما لا يتحدّد بتحديد المحدود ، واحد لا بتأويل عدد ، ظاهر لا بتأويل المباشرة ، متجلّ لا باستهلال رؤية ، باطن لا بمزايلة ، مباين لا بمسافة ، قريب لا بمداناة ، لطيف لا بتجسّم ، ... بها تجلّى صانعها للعقول ، وبها احتجب عن الرؤية ... فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع في صانعه ... (٣).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى خلو من خلقه ، وخلقه خلو منه ، وكل ما وقع عليه اسم شيء ما خلا الله عزّ وجلّ فهو مخلوق ، والله خالق كلّ شيء تبارك الذي ليس كمثله شيء (٤).

وعن الصادق عليه‌السلام في رواية : أمّا التوحيد فأن لا تجوّز على ربّك ما جاز عليك ، وأمّا العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه (٥).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : التوحيد أن لا تتوهّمه ، والعدل أن لا تتّهمه (٦).

وعن الباقر عليه‌السلام : كلّ ما ميّز تموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم (٧).

__________________

(١) البحار ٤ : ٢٥٣ ، عن الاحتجاج.

(٢) البحار ٤ : ٢٢٢ ، عن التوحيد والعيون.

(٣) البحار ٤ : ٢٢٨ ـ ٢٣٠ ، عن التوحيد والعيون.

(٤) البحار ٣ : ٢٦٣ ، عن التوحيد.

(٥) البحار ٤ : ٢٦٤ ، عن التوحيد ومعاني الأخبار.

(٦) نهج البلاغة : الحكم ٤٧٠.

(٧) الأربعين للشيخ البهائيّ ١٧.

٦٣

وعنه صلوات الله عليه : تكلّموا فيما دون العرش ولا تكلّموا فيما فوق العرش ، فإن قوما تكلّموا في الله فتاهوا حتى كان الرجل ينادى من بين يديه فيجيب من خلفه (١).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : من نظر في الله كيف هو هلك (٢).

وممّا يدلّ على ما ذكرنا تنبيها على ما حكم به العقل ما ورد في احتجاج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على اليهود ردّا على قولهم : عزير ابن الله : إن كنتم إنّما تريدون بالبنوة الولادة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم هذه من ولادة الأمّهات الأولاد بوطء آبائهم لهنّ فقد كفرتم بالله وشبّهتموه بخلقه ، وأوجبتم فيه صفات المحدثين ، ووجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا ، وأن يكون له خالق صنعه وابتدعه ... (٣).

ومن أراد التفصيل والزيادة على ذلك فلا بدّ له من الرجوع إلى مفصّلات الخطب والأدعية وسائر ما ورد عنهم صلوات الله عليهم بعد ردّ متشابهها إلى محكمها. فإنّ جميع ذلك بيان لأساس ما جاء به صاحب الشريعة الغرّاء في معرفة الله تعالى من طريق العقل ، وتنزيه له تعالى عمّا تكلّم به كثير من علماء البشر ـ الذين أخذوا مبادئ علومهم ومعارفهم من غير طريق الوحي ـ في ذاته القدوس تعالى وصفاته وأفعاله ، وعمّا أثبتوه له تعالى شأنه بالقواعد العقلية التي موضوعاتها المخلوقات والمصنوعات ، قياسا له تعالى بها. ويناسب هنا ذكر روايتين رواهما الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في التوحيد :

إحداهما : ما رواه بسنده عن عكرمة ، قال بينما ابن عباس يحدّث الناس إذ قام إليه نافع ابن الأزرق فقال : يا ابن عباس تفتي في النملة والقملة صف لنا إلهك الذي تعبده. فأطرق ابن عباس إعظاما لله عزّ وجلّ ، وكان الحسين بن علي عليهما‌السلام جالسا ناحية فقال : إليّ يا ابن الأزرق ، فقال : لست إياك أسأل! فقال ابن عباس : يا ابن الأزرق! إنّه من أهل بيت النبوة وهم ورثة العلم. فأقبل نافع بن الأزرق نحو الحسين عليه‌السلام ، فقال له الحسين عليه‌السلام : يا نافع! إنّ من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الارتماس ، مائلا

__________________

(١) البحار ٣ : ٢٦٥ ، عن المحاسن.

(٢) البحار ٣ : ٢٦٥ ، عن المحاسن.

(٣) البحار ٩ : ٢٥٨ ، عن تفسير الإمام والاحتجاج.

٦٤

عن المنهاج ، ظاعنا في الاعوجاج ، ضالاّ عن السبيل ، قائلا غير الجميل ، يا ابن الأزرق! أصف إلهي بما وصف به نفسه ، وأعرّفه بما عرّف به نفسه ، لا يدرك بالحواسّ ، ولا يقاس بالناس ، فهو قريب غير ملتصق ، وبعيد غير متقصّ ، يوحّد ولا يبعّض ، معروف بالآيات ، موصوف بالعلامات ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال (١).

ثانيتهما : ما رواه بسنده عن الحسن بن علي عن أبيه عن جدّه عليهم‌السلام ، قال : قام رجل إلى الرضا عليه‌السلام : قال له : يا ابن رسول الله صف لنا ربك فإن من قبلنا قد اختلفوا علينا.

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّه من يصف ربّه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس ، مائلا عن المنهاج ، ظاعنا في الاعوجاج ، ضالاّ عن السبيل ، قائلا غير الجميل ، أعرّفه بما عرّف به نفسه من غير رؤية (٢) ، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة ، لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس ، معروف بغير تشبيه ، ومتدان في بعده لا بنظير ، لا يمثّل بخليقته ، ولا يجور في قضيته ، والخلق إلى ما علم منقادون ، وعلى ما سطر في المكنون من كتابه ماضون ، لا يعملون خلاف ما علم منهم ولا غيره يريدون ، فهو قريب غير ملتزق ، وبعيد غير متقصّ ، يحقّق ولا يمثّل ، ويوحّد ولا يبعّض ، يعرف بالآيات ، ويثبت بالعلامات ، فلا إله غيره الكبير المتعال. ثم قال بعد كلام آخر تكلم به : حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : ما عرف الله من شبّهه بخلقه ، ولا وصفه بالعدل من نسب إليه ذنوب عباده (٣).

قواعد من مصاديق القياس الممنوع

وهذه أربع قواعد من مصاديق القياس الممنوع في الروايتين المتقدّمتين ، أقام بعضهم أدلّة على إثباتها ، وجعلوا الحقّ المتعال مع ما خلق مصداقا لها :

١ ـ مسألة وجوب السنخيّة بين العلّة والمعلول.

__________________

(١) التوحيد ٧٩ ، وعنه البحار ٤ : ٢٩٧.

(٢) في البحار : رويّة.

(٣) التوحيد ٤٧ ، وعنه البحار ٣ : ٢٩٧.

٦٥

٢ ـ قولهم : الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد.

٣ ـ مسألة امتناع انفكاك العلّة التامّة عن معلولها.

٤ ـ قولهم : بسيط الحقيقة كلّ الأشياء وليس بشيء منها.

أمّا المسألة الأولى ـ لو سلّم كونها قاعدة عقلية لا تقبل التخصيص (١) ـ فموضوعها ما إذا كانت العلّية والفاعليّة بالرشح والفيضان بمعناه الحقيقيّ عن ذات العلّة ، أو بتجلّي العلّة بذاتها في أطوارها وشئونها ، وأمّا الحقّ المتعالي عن أن يتولّد منه شيء ، أو يتغيّر بفعله ، أو يتطوّر ، وكانت فاعليّته بالمشيّة والإبداع لا من شيء ، بلا تغيّر أو تطوّر في ذاته ـ كما في غير واحدة من الروايات (٢) ـ فلا تجري القاعدة المذكورة فيه.

وكذلك المسألة الثانية موضوعها أيضا ما ذكرنا. وأمّا إذا كانت الخلقة بنحو الإبداع لا من شيء وكان الفاعل لا يشغله شأن عن شأن ، ولا علم شيء عن علم شيء ، ولا خلق شيء عن خلق شيء ، ولا يتغير بفعله ، وليس كمثله شيء ، فلا مانع عقلا من أن يخلق الأشياء المختلفة المتعددة في ساعة واحدة بلا سبق لأحدهما على الآخر ، قال الله تعالى : ( ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ) (٣).

وفي رواية الهرويّ عن الرضا عليه‌السلام : ... وكان قادرا أن يخلقها في طرفة عين ، ولكنّه عزّ وجلّ خلقها في ستّة أيام ، ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء ، فيستدل بحدوث ما يحدث على الله تعالى ذكره مرّة بعد مرّة ... (٤).

أما المسألة الثالثة فموضوعها ما إذا كان كمال ذات الفاعل ـ مضافا إلى تماميته في ما به قوام ذاته ـ كونه فوق التمام ، أي تامّ الفاعلية دائما ، بمعنى أن يكون له الفيض الدائم ، وكان الفيض من سنخ ذات الفاعل ومنشأ منه ، كي يكون قطعه مستندا إلى نقص في ذات الفاعل ، الواجب عقلا تنزيه القديم منه.

__________________

(١) إشارة إلى ما حكي عن ابن سينا في مباحث العلّة من إلهيّات الشفاء : أنّ العلّة الفاعليّة لا يجب أن تفعل ما يشابهها. وإشارة إلى ما عن أكثر الفلاسفة المشّائين من كون الموجودات حقائق متباينة.

(٢) كما يأتي ذكرها في المسألة الثالثة.

(٣) لقمان ٢٨.

(٤) البحار ٣ : ٣١٨ ، عن التوحيد والعيون.

٦٦

وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل كان فيضه إبداعا لا من شيء ، بحيث لا يكون عدم صدور الفيض منه لنقص في ذاته ـ كما أنّ صدوره منه لا يكون فعلية كمال في الذات لم يكن له قبل ذلك ـ فلا مانع عقلا من التفكيك بينه وبين خلقه. ولذا يكون تعالى شأنه جوادا إن منع وإن أعطى (١). على أحد الوجهين في معنى هذه الجملة.

وفي الفرض الأخير يكون صدور ذلك منه على نحو الوجوب دائما منافيا للاستيلاء الكامل على طرفي الفعل والترك ، ومحدودية ونقصا يجب تنزيهه تعالى عنهما.

نعم لو وصل إلى حدّ يكون فعله قبيحا فالفاعل الحكيم لا يفعله عن قدرة واختيار ، ولذلك يمجّد ، لا لأنّه لا يقدر عليه ، أو يكون ممتنعا بالذات.

وحينئذ نقول : إن كان المراد من العلّة التامّة في المقام هو الخالق المتعالي بالنسبة إلى ما أبدعه في المخلوق لا من شيء ، بعد وجود المصلحة ، وبعد إرادته التكوينية لما أبدعه خارجا ـ التي لا تفكيك بينها وبين المراد ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٢) ـ فهو حق ، إلاّ أنّ المقصود في المقام هو أنّ الحق المتعالي له القدرة الكاملة والحرّية المطلقة في أن يشاء خلق شيء ويريده لا من شيء ، وأن لا يشاءه ولا يريده ، وكان أحدهما فضلا ، والآخر عدلا ، والمخصّص والمرجّح لأحدهما على الآخر رأيه القدّوس بلا تغيّر في ذاته ، فإنّ ذلك كمال وفعليّة يجب إثباتهما في الذات الأزلي ، وخلاف ذلك نقص ومحدودية يجب تنزيهه عنهما. ومن هذا شأنه لا مانع عقلا من التفكيك بينه وبين خلقه ولو في برهة من الدهر ، إظهارا لغناه عن الخلق ، وتنزيها لذاته القدوس عما قالوا في شأنه.

والإمكان والقوة ( في مقابل الفعلية ) المنفيّان عن الحقّ المتعالي إنّما يكون في المخلوق الخارج عن ذات الخالق لا في ذاته تعالى.

فقد ظهر مما ذكرنا إمكان التفكيك بين الخالق والمخلوق ( أي وجود الخالق ولا مخلوق ) عقلا ، بل الظاهر من الآيات والروايات المباركات وقوع ذلك.

__________________

(١) البحار ٤ : ١٧٢ ، عن الخصال والعيون.

(٢) يس ٨٢.

٦٧

الآيات والروايات الدالة على وقوع التفكيك بين الخالق والمخلوق

فمن الآيات قوله تعالى : ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... ) (١). ونحوه ممّا يدلّ في الجملة على الحدوث الحقيقيّ.

ومن الروايات ما يمكن دعوى تواترها معنى ، منها :

ما في نهج البلاغة : الحمد لله خالق العباد ... لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة ... (٢).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في الدعاء المعروف الذي علّمه إيّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كنت قبل كلّ شيء ، وكوّنت كلّ شيء ، وقدرت على كلّ شيء ، وابتدعت كلّ شيء (٣).

وعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان الله ولا شيء غيره ... (٤).

وعنه عليه‌السلام في حديث : ... ولكنه كان إذ لا شيء غيره ، وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه ، وهو الماء الذي خلق الأشياء منه ، فجعل نسب كلّ شيء إلى الماء ، ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه ... (٥).

وفي خبر جابر الجعفيّ عنه عليه‌السلام ـ في حديث ـ : اخبرك أنّ الله علا ذكره كان ولا شيء غيره ـ وساق ما يقرب من الحديث المذكور إلى أن قال : ولكن كان الله ولا شيء معه ، فخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء (٦).

وفي خبر أبي هاشم الجعفريّ عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام في خلقة الأسماء والصفات اللفظيّة : ... فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره ، بل كان الله تعالى ذكره ولا خلق ، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها إليه ... (٧).

وفي مرسلة الاحتجاج عن أبي الحسن عليّ بن محمد عليهما‌السلام : ... لم يزل الله موجوداً

__________________

(١) السجدة ٤.

(٢) الخطبة ١٦٣.

(٣) مهج الدعوات ١٢٤ ( المعروف بدعاء يستشير ).

(٤) البحار ٥٧ : ١٦٢ ، عن الكافي.

(٥) البحار ٥٧ : ٩٦ ، عن الكافي.

(٦) البحار ٥٧ : ٦٦ ، عن التوحيد.

(٧) البحار ٤ : ١٥٣ ، عن الاحتجاج والتوحيد.

٦٨

ثم كوّن ما أراد ... الخبر (١).

وفي الدعاء المرويّ عن الجواد عليه‌السلام في ليالي شهر رمضان : يا ذا الذي كان قبل كلّ شيء ، ثم كوّن كلّ شيء (٢).

وعن الرضا عليه‌السلام : ... فمن زعم أنّ الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحّد (٣).

وبضميمة قولهم عليهم‌السلام : خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة (٤) ، يثبت المطلوب.

وفي حديث عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ... كان إذ لم يكن شيء ... (٥).

وعن الرضا عليه‌السلام في خطبته : له معنى الربوبيّة إذ لا مربوب ، وحقيقة الإلهيّة إذ لا مألوه ، ومعنى العالم ولا معلوم ، ومعنى الخالق ولا مخلوق (٦).

وفي خطبة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الحمد لله الذي كان في أوليّته وحدانيّا ... ابتدأ ما ابتدع ، وأنشأ ما خلق على غير مثال كان سبق لشيء ممّا خلق (٧).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : الحمد لله الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء كوّن ما قد كان ، المستشهد بحدوث الأشياء على أزليته ... الخطبة (٨).

وحمل قولهم صلوات الله عليهم : « كان الله ولا شيء معه » على نفي المعية في الرتبة لا في التحقق والواقعية مخالف لظاهر هذا الكلام ، ولما هو كالصريح في الروايات المذكورة وغيرها.

وفي حديث مكالمات عمران الصابي مع الرضا صلوات الله عليه : أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق. قال عليه‌السلام : سألت فافهم ، أمّا الواحد فلم يزل واحدا ، كائنا ، لا

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٥٠ ، وعنه البحار ٥٧ : ٨٣.

(٢) المقنعة للشيخ المفيد ١ : ٣٢٠.

(٣) البحار ٤ : ١٤٥ ، عن التوحيد.

(٤) البحار ٤ : ١٤٥ ، عن التوحيد.

(٥) البحار ٥٧ : ٤٥ ، عن التوحيد.

(٦) البحار ٤ : ٢٢٩ ، عن التوحيد والعيون.

(٧) البحار ٤ : ٢٨٧ ، عن التوحيد.

(٨) البحار ٤ : ٢٢١ ، عن التوحيد والعيون.

٦٩

شيء معه ، بلا حدود ولا أعراض ، ولا يزال كذلك. ثم خلق خلقا مبتدعا مختلفا بأعراض وحدود مختلفة ـ إلى أن قال الراوي ـ قال له عمران : يا سيّدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحدا لا شيء غيره ولا شيء معه أليس قد تغيّر بخلقه الخلق؟ قال الرضا عليه‌السلام : لم يتغيّر عزّ وجلّ بخلق الخلق ولكن الخلق يتغيّر بتغييره ... الخبر (١).

أقول : مما ذكرنا من الروايات ـ مضافا إلى قوله عليه‌السلام في هذه الرواية : ثم خلق ...

الظاهر في الترتيب الزمانيّ ، وإلى تقريره عليه‌السلام قول السائل : إذا كان واحدا لا شيء غيره ... الظاهر في الغيرية الحقيقية ـ يظهر أنّ قوله : « ولا يزال كذلك » راجع إلى قوله : « بلا حدود ولا أعراض » لا إلى مجموع ما تقدّم ، كي يوهم صحة تأويل قولهم صلوات الله عليهم : « كان الله ولا شيء معه » بالمعيّة الرتبيّة.

وأمّا المسألة الرابعة وهي بسيط الحقيقة كلّ الأشياء وليس بشيء منها : فقد أوضحها صاحب الأسفار بقوله : إنّ العرفاء قد اصطلحوا في إطلاق الوجود المطلق والوجود المقيّد على غير ما اشتهر بين أهل النظر ، فإنّ الوجود المطلق عند العرفاء عبارة عمّا لا يكون محصورا في أمر معيّن محدودا بحدّ خاص ، والوجود المقيّد بخلافه ، كالإنسان والفلك والنفس والعقل. وذلك الوجود المطلق هو كلّ الأشياء على وجه أبسط ، وذلك لأنّه فاعل كلّ وجود مقيّد وكماله ، ومبدأ كلّ فضيلة أولى بتلك الفضيلة من ذي المبدأ. فمبدأ كلّ الأشياء وفيّاضها يجب أن يكون هو كلّ الأشياء على وجه أرفع وأعلى.

فكما أنّ السواد الشديد يوجد فيه جميع الحدود الضعيفة السواديّة التي مراتبها دون مرتبة ذلك السواد الشديد على وجه أبسط ، وكذلك المقدار العظيم يوجد فيه كلّ المقادير التي دونه من حيث حقيقة مقداريّتها ، لا من حيث تعيّناتها العدميّة من النهايات والأطراف.

فالخطّ الواحد الذي هو عشرة أذرع مثلا يشمل الذراع من الخطّ والذراعين منه والتسعة أذرع منه على وجه الجمعية الاتصاليّة ، وإن لم يشتمل على أطرافها العدميّة التي تكون لها عند الانفصال عن ذلك الوجود الجمعيّ ، وتلك الأطراف العدميّة ليست داخلة في الحقيقة الخطيّة التي هي طول مطلق ، حتّى لو فرض وجود خطّ غير متناه لكان أولى

__________________

(١) البحار ١٠ : ٣١٠ ، عن التوحيد والعيون.

٧٠

وأليق بأن يكون خطّا من هذه الخطوط المحدودة ، وإنّما هي داخلة في ماهيّة هذه المحدودات الناقصة لا من جهة حقيقتها الخطّية بل من جهة ما لحقها من النقائص والقصورات ، وكذا الحال في السواد الشديد واشتماله على السوادات التي هي دونه ، وفي الحرارة الشديدة واشتمالها على الحرارات الضعيفة. فهكذا حال أصل الوجود وقياس إحاطة الوجود الجمعي الواجبي الذي لا أتمّ منه ، بالوجودات المقيّدة المحدودة بحدود يدخل فيها أعدام ونقائص خارجة عن حقيقة الوجود المطلق داخلة في الوجود المقيّد (١).

وقال أيضا : اعلم أنّ الواجب الوجود بسيط الحقيقة غاية البساطة ، وكلّ بسيط الحقيقة كذلك فهو كلّ الأشياء ، فواجب الوجود كلّ الأشياء لا يخرج عنه شيء من الأشياء (٢).

أقول : المراد بغاية البساطة عدم التركيب الاعتباري ، أي التركيب من وجود وعدم ما سواه ، فهو عبارة أخرى عن أنّه كلّ الوجود.

ومراده من الماهيّات الحدود التي تمتاز وتتشخّص بها كلّ مرتبة من مراتب الوجود عن غيرها من المراتب ، وظاهر أنّ حقيقة كلّ حدّ من مراتب الوجود ليست إلاّ عدم ما سواها من المراتب ، ولذا قالوا : ليس لها حظّ من الوجود ، وبتعبيرهم الآخر : ما شمّت رائحة الوجود.

وأطلقوا الماهيّة أيضا على الوجود المحدود بحدّ أو حدود عدميّة ، ومعنى كون كلّ وجود محدود ضوء للوجود الحقيقي وظلاّ له ـ كما سنذكرها ـ أنّه مرتبة ضعيفة من مراتب الوجود التي يكون الوجودات الإمكانيّة المحدودة مطويّة مندكّة فيها ، تشبيها له بالظلّ الذي هو وجود ضعيف بالنسبة إلى ذي الظلّ ، وبالضوء من النور الذي هو وجود ضعيف بالنسبة إلى مجموع النور.

ومعنى كونه ظهورا من ظهورات أو تجلّيا من تجلّيات ذاته التي هي كلّ الوجودات

__________________

(١) الأسفار ٦ : ١١٦.

(٢) الأسفار ٢ : ٣٦٨.

٧١

المندك فيه الوجودات الخاصّة ، كما سيأتي في كلامه أنّه مرتبة ضعيفة من مراتب يظهر ويتجلّى بها حقيقة الوجود.

وبالجملة : التصريح بأنّه ليس في الدار غيره ديّار قرينة واضحة على أنّ مراده من الوجود الظلي ، ومن الضوء ومن الوجود الممكن ، ومن أعيان الممكنات ، ومن التجلي والمجلي ، والظهور والمظهر ليس شيئا آخر سوى مراتب حقيقة الوجود.

وقال بعض المتأخرين في بيان اعتبارات الماهية : حقيقة الوجود إذا أخذت بشرط أن لا يكون معها شيء من الأسماء والصفات فهي المرتبة الأحديّة المستهلكة فيها جميع الأشياء. وإذا أخذت بشرط الأسماء والصفات فهي المرتبة الواحدية المدلولة لاسم الجلالة وهو الله. وإذا أخذت لا بشرط فهي الهويّة السارية في كلّ شيء. والمراد من الأسماء والصفات مفاهيمها ، فإنّ حقائقها حقيقة الوجود ، فيكون اشتراط الشيء بنفسه. انتهى (١).

أقول : المراد بالأخذ اللحاظ والاعتبار.

فممّا ذكرنا ظهر أنّ معنى « بسيط الحقيقة كلّ الأشياء » أنّ كلّ حقيقة ووجود يكون في غاية البساطة ( أي حتى من جهة التركيب الاعتباري من وجود وعدم غيره من الوجودات ) فهو عبارة اخرى عن حقيقة كلّها الوجود ولا وجود غيرها ، فظاهر أنّ كلّ ما هو هكذا فهو كلّ الأشياء المفروض أنّ كلّها الوجود ، وهذا من الواضحات من قبيل حمل الشيء على نفسه.

ومعنى أنّه ليس بشيء من الأشياء أنّ حقيقة الوجود ـ التي هي مجموع الوجودات بما لها من المراتب ـ ليست منحصرة بمرتبة دون مرتبة ، لكون المفروض أنّه كلّ الوجود ، فلا يصحّ أن يقال أنّ كلّ الوجود حقيقة هذا الشيء الذي هو مرتبة من مراتب الوجود لا كلّ الوجود ، أو بمعنى أنّه ليس بشيء من حدودها ونقائصها ، كما قال به السبزواري في حاشية الأسفار في تفسير هذا الكلام ، وهذا أيضا أمر واضح ولكنّه أشبه بالأحجية واللغز في الكلام.

__________________

(١) شرح المنظومة للسبزواريّ : ٩٥.

٧٢

وبالجملة : صحّة هاتين الجملتين : ( بسيط الحقيقة كلّ الأشياء وليس بشيء منها ) بحسب المفهوم لا إشكال فيها ، إنّما الإشكال بل المنع الأكيد في كون جميع ما في دار التحقّق مصداقا لهاتين الجملتين ، لكونه مبتنيا على كون ما في عالم الوجود من الخالق والمخلوق حقيقة واحدة ، وهو ممنوع أشدّ المنع.

بل الواقع الذي هو من ضروريّات الأديان الإلهية أنّ في دار التحقق حقيقتين :

إحداهما : حقيقة قائمة بذاتها أزليّة أبديّة ، وهو الله تعالى شأنه ، الواحد الذي لا ثاني له في حقيقته ، وذاته الأحد أي المنزّه عن التركيب مطلقا ، حتى من التركيب الاعتباري ، أي التركيب من وجود وعدم غيره الذي هو من سنخ هذه الحقيقة. وبعبارة أخرى :

التركيب في حقيقة الإله الذي هو عين العلم وعين القدرة على إبداع الأشياء وإيجادها بمشيئته وإرادته لا من شيء ، أي لا من رشح وإشراق من نفسه ، فإنّه الولادة منه الملازمة للتغيّر بفعله ، ولا من تطوّر وتشؤّن في نفسه ، فإنّه عين التغير في الذات المنزّه عنه الذات الأزلي القائم بذاته ، كما صرح به أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : لا يتغيّر الله بانغيار المخلوق ، كما لا يتحدد بتحديد المحدود (١) ، ولا من مادّة أزليّة تكون مشاركة له في التحقق والوجود ، كما صرّح به أمير المؤمنين عليه‌السلام : لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة (٢).

فإنّ الخلقة بأحد الوجوه الثلاثة ليست لا من شيء ، لأنّها لو كانت من المادّة الأزليّة لكانت من شيء ، مضافا إلى أنّه عين الشرك ، ولو كانت من نفسه تعالى بأن تكون بالفيضان والرشح أو بالتطور والتشؤّن ففي كلا الفرضين تكون الخلقة من الشيء بحقيقة الشيئيّة ، وهو الذات الأزلي ، فلا يصحّ التعبير بأنّها لا من شيء كما صرّحت به الروايات الكثيرة (٣).

الحقيقة الثانية : حقيقة مخلوقة قائمة ذاتها بخالقها وشيء بالغير ، نعني : عنوان كونه بالغير مأخوذ في ذاته ، مبدع لا من شيء ، فاقد ذاته للعلم والقدرة وسائر الكمالات

__________________

(١) راجع ص ٦٣.

(٢) راجع ص ٦٨.

(٣) انظر البحار ٤ : ١٦١ و ٥٧ : ٤٦ ، ٦٧ ، ٧٦.

٧٣

النوريّة ، حادث بالحدوث الحقيقي ، أنشأه الخالق تعالى شأنه بقدرته التي هي عين ذاته ، وبمشيته التي هي فعل له تعالى يظهر به قدرته.

والتطوّر الذي هو عين التغيّر ، والرشح والإشراق الذي حقيقته الولادة ، والمعروضيّة بالأعراض المختلفة ، والاتّصاف بالأوصاف المتضادّة وغير المتضادّة من الطهارة والقذارة ، والطيب والعفونة ، وحسن النظر وقبحه ، والنور والظلمة المحسوستين بالبصر ، والمحسوسيّة بالحواس الظاهرة والباطنة ، وقبول التصوّر بالصور الخارجيّة والذهنيّة وغيرها ، كلّ ذلك في تلك الحقيقة الثانية التي وصفناها لا في الذات الأقدس الربوبي جلّت عظمته.

والمباينة بين الحقيقتين المذكورتين بما لهما من الأوصاف الذاتية المذكورة من الواضحات.

وإطلاق لفظ الوجود على وجوديهما ـ نظير إطلاق الشيء عليهما ـ لا يقتضي وحدة الحقيقة والسنخ.

وبالجملة : هاتان الحقيقتان لمكان تباينهما لا يوجب وجود إحداهما محدوديّة الاخرى ولا التركيب في الذات ولو اعتبارا.

فشبهة أنّ مقتضى كونه تعالى غير محدود وأنّه لا يخلو منه مكان إنكار وجود الغير وإلاّ يلزم المزاحمة مندفعة أيضا بما ذكر في دفع شبهة التحديد والتركيب ، وهو أنّها تلزم إذا كان الأمران من سنخ واحد وحقيقة واحدة.

ونقرّب اندفاعها بذكر مثالين مرجعهما إلى تنزيه الذات الأقدس عن المحدوديّة والمزاحمة ، لا إلى التشبيه حتى يورد عليه بقوله تعالى : ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ) (١).

الأوّل : لا مزاحمة بين وجود الجسم ( محدودا كان أو فرض غير محدود ) وبين وجود الأعراض من الكمّ ، والكيف ، والوضع ، والإضافة ، وغيرها ، كما لا مزاحمة بين الأعراض أنفسها.

الثاني : ـ وهو ألطف المثالين وأقربهما إلى درك حقيقة الإحاطة من غير لزوم

__________________

(١) النحل ٧٤.

٧٤

المحدوديّة للمحيط بوجود المحاط ولا المزاحمة ـ هو نور العلم الظاهر بذاته المظهر للمعلومات والمحسوسات بالحواسّ الظاهرة ، جواهرها وأعراضها ، ومنها النور المحسوس بالبصر والظلمة ، وكذا المعقولات والمتصورات ، فإن الصورة الحاصلة في الذهن وحصول الصورة وعرض الإضافة التي اختلفوا في أنّ العلم الحصولي المصطلح في المنطق من أيّ مقولة من هذه المقولات ، وكذا صفة الحضور ـ نظير الجواهر والأعراض الخارجيّة ـ كلّها من المعلومات. وفوق جميعها ، لا بالفوقية المكانية ، نور ـ كما ذكرنا مرارا ـ يكون علم المخلوق بأي منها ـ حتى بنفسه ـ بوجدانه لذلك النور المظهر لها بقدر ، وجهله بها بفقدانه إيّاه ، وإن لم يجد كيفيّتهما ، فمن يجد ما ذكرنا من النور الظاهر بذاته المظهر لما عداه من المعلومات ، ويجد إحاطته بجميعها ظاهرها وباطنها ويجد عدم محدوديّة وجوده بوجودها كيف يجوّز عقلا إنكار حقيقة ووجود آخر مباين لها ومغاير لها بالمغايرة الحقيقيّة يكون هو الخالق لها المحيط بحقيقتها ظاهرها وباطنها بتوهم لزوم التحديد والتركيب والمزاحمة بينه وبينها لو قلنا بوجود كليهما ، كي يحتاج إلى الالتزام بأنّ كلّ ما في عالم الوجود من سنخ واحد. فكيف بالالتزام بالوحدة الحقيقية العينية ، وأنّ المغايرة بين الخالق والمخلوق اعتبارية.

تنبيهات فيها فذلكة لما ذكر مراراً :

بعد ما بيّنا ( لإمكان إحاطة شيء بشيء بظاهره وباطنه مع واقعية كليهما من دون مشابهة ولا تداخل ولا ممازجة بينهما ، ولا محدودية في ذات المحيط مع واقعية المحاط ) من التمثيل بنور العلم الذي وصفه الصادق عليه‌السلام في رواية حنّان بن سدير بالمثل الأعلى (١).

١ ـ كيف يصحّ لمن فهم ما ذكرنا دعوى إمكان تنزّل الشيء بحقيقة الشيئية ، الذات الأزلي القائم بذاته ، وصيرورته مخلوقا مبدعا لا من شيء ، شيئا بالغير ، حادثا بالحدوث الحقيقيّ مع أنّه خلاف ذاتهما؟

__________________

(١) راجع ص ٢٧.

٧٥

٢ ـ كيف يصحّ له دعوى إمكان تطوّر الشيء بحقيقة الشيئية القائم بذاته الأزلي بما هو مخلوق مبدع لا من شيء قائم ذاته بالغير مع كونه خلاف ذاتهما؟

٣ ـ كيف يصحّ له دعوى إمكان صعود الشيء الذي شيئيته بالغير ، المخلوق المبدع لا من شيء الحادث بالحدوث الحقيقي ، ورجوعه وفنائه أي اندكاكه في الشيء بحقيقة الشيئيّة ، الذات الأزليّ القائم بذاته ، مع أنّه خلاف ذاتهما؟

٤ ـ كيف يصحّ له دعوى السنخيّة بينهما مع أنّه خلاف ذاتهما فضلا عن العينية؟

وبالجملة : الذات الربوبي جلّ ثناؤه أجلّ وأقدس من أن يكون مجانسا لأشرف مخلوقاته ، كما صرّح به رسوله الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته (١). ومن أن يتطور بأشرفها وأطهرها ، فضلا أن يتطور بأخسّها وأخبثها وأقذرها ، وغير ذلك ممّا لا ينبغي تصوّره ، فضلا عن ذكره بلسان ، أو كتابته ببنان ، ممّا لا بدّ للقائل بوحدة الوجود والموجود من الالتزام به ، كما التزم به القائل المتقدم ذكره بقوله في بعض كلماته :

فكما وفّقني الله بفضله ورحمته على الاطلاع على الهلاك السرمدي والبطلان الأزلي للماهيّات الإمكانية والأعيان الجوازيّة فكذلك هداني بالبرهان النيّر العرشي إلى صراط مستقيم من كون الموجود والوجود منحصرة في حقيقة واحدة شخصيّة لا شريك له في الموجودية الحقيقيّة ، ولا ثاني له في العين ، وليس في دار الوجود غيره ديّار ، وكلّ ما يتراءى في عالم الوجود أنّه غير الواجب المعبود فإنّما هو من ظهورات ذاته ، وتجليات صفاته التي هي في الحقيقة عين ذاته ، كما صرّح به لسان العرفاء بقوله : فالمقول عليه سوى الله أو غيره أو المسمّى بالعالم فهو بالنسبة إليه تعالى كالظلّ للشخص ، فهو ظلّ الله ... فكلّ ما ندركه فهو وجود الحقّ في أعيان الممكنات. فمن حيث هويّة الحق هو وجوده ، ومن حيث اختلاف المعاني والأحوال المفهومة منها المنتزعة عنها بحسب العقل الفكري والقوّة الحسيّة فهو أعيان الممكنات الباطلة الذوات ، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور والمعاني اسم الظل كذلك لا يزول عنه اسم العالم وما سوى الحقّ. وإذا كان الأمر على ما ذكرته فالعالم متوهّم ما له وجود حقيقيّ ، فهذا حكاية ما ذهب إليه العرفاء

__________________

(١) راجع ص ٦٢.

٧٦

الإلهيّون والأولياء المحققون ... (١).

أقول : قوله : « فالعالم متوهّم » متوهّم ومبني إمّا على كون مراده من الماهيات الحدود ، فإنّ الواقعية للوجود لا للحدود التي ليست واقعيتها إلاّ أنّها عدم ما سوى المحدود بها من الوجودات ، كما وصف بعضهم الماهيات بأنّها ما شمّت رائحة الوجود (٢).

وإمّا على كون المراد من الماهيّات الوجودات المحدودة بعدم ما سواها من الموجودات ، ووجه كونها باطلة الذوات أنّ التعيّن بهذه الحدود العدمية أمور اعتبارية ، والواقعية إنّما هي للوجود الذي ليس إلاّ وجود الحق المنطوي في هذه الكثرات التي هي بمنزلة الأمواج لبحر الوجود.

ثم إنّ بعض عباراته في كتبه وإن كان موهما أو ظاهرا في الالتزام بالعلّية والمعلولية في الوجود ولكنّه صرّح في بعضها بقوله : فما وضعناه أوّلا بحسب النظر الجليل من أنّ في الوجود علة ومعلولا أدّى أخيرا من جهة السلوك العلمي والنسك العقلي إلى أنّ المسمى بالعلة هو الأصل ، والمعلول شأن من شئونه وطور من أطواره ، ورجعت العلّية والإفاضة إلى تطوّر المبدأ بأطواره ، وتجلّيه بأنحاء ظهوراته ، فاستقم في هذا المرام الذي زلّت فيه الأقدام (٣).

أقول : هذا التوهّم وأمثاله من الأوهام أوجب الالتزام بما هو مخالف لضروريات الأديان ، ولما يحكم به العقل والفطرة السليمة والوجدان ، وأوجب أيضا ارتكاب التأويلات لنصوص الآيات والروايات الصادرة عن أهل بيت الوحي بما لا يساعده الفهم العرفي العقلائي من الكلام ، والتمسّك لإثبات مرامهم بالمتشابهات التي دلّت على خلافها المحكمات من الكتاب والسنّة ، ومنشأ ذلك كلّه هو القول بأنّ في دار التحقق ليس إلاّ حقيقة واحدة وموجود واحد سمّوه الوجود ، وأنّ ما يرى من الاختلاف والكثرة مراتب ودرجات وتطورات لتلك الحقيقة الواحدة.

__________________

(١) الأسفار ٢ : ٢٩٢ ـ ٢٩٤.

(٢) كابن عربي في الفصوص ، انظر شرح الفصوص ١ : ٣٣٣.

(٣) المشاعر ٨٤ المشعر الثامن ، الأسفار ٧ : ٣٠٠.

٧٧

فمن كلام ابن عربي في الفتوحات المكيّة : فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها (١).

وفي الفصّ الهوديّ من فصوص الحكم : وما خلق تراه العين إلاّ عينه حق.

وقال القيصري في شرحه : أي ليس خلق في الوجود تشاهده العين إلا وعينه وذاته عين الحقّ الظاهر في تلك الصورة ، فالحقّ هو المشهود ، والخلق موهوم ، لذلك يسمّى به ، فإنّ الخلق في اللغة الإفك والتقدير (٢).

وقال ابن عربي في الفصّ اليعقوبيّ : إنّ الممكنات على أصلها من العدم ، وليس وجود إلاّ وجود الحقّ بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعينها ، فقد علمت من يلتذ ومن يتألم.

وقال القيصري في شرحه : ليس وجود في الخارج إلاّ وجود الحق متلبسا بصور أحوال الممكنات ، فلا يلتذّ بتجلياته إلاّ الحق ، ولا يتألّم منها سواه (٣).

وقال ابن عربي في الفص الهاروني : وكان موسى أعلم بالأمر من هارون ، لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل.

وقال القيصري في شرحه : أي علم موسى ما الذي عبده أصحاب العجل في الحقيقة.

وقال ابن عربي أيضا : لعلمه بأنّ الله قضى أن لا يعبدوا إلاّ إيّاه. كما قال : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (٤). وما حكم الله بشيء إلاّ وقع ، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتّساعه.

وقال القيصريّ : أي كان عتب موسى أخاه هارون لأجل إنكاره عبادة العجل وعدم اتّساع قلبه لذلك.

وقال ابن عربي أيضا : فإنّ العارف من يرى الحقّ في كلّ شيء بل يراه عين كلّ

__________________

(١) الفتوحات المكّيّة ٢ : ٦٠٤.

(٢) شرح الفصوص ٢ : ١٤.

(٣) شرح الفصوص ١ : ٤٤٨.

(٤) الإسراء ٢٣.

٧٨

شيء ، فكان موسى يربّي هارون تربية علم (١).

وعن ابن عربي :

عقد الخلائق في الإله عقائدا

وأنا اعتقدت بكل ما اعتقدوه

وقال القيصري في شرح الفصوص : كلّ ما يطلق عليه اسم الغير فهو من حيث الوجود والحقيقة عين الحق ، وإن كان من حيث التقيّد والتعيّن مسمّى بالغير (٢).

وقال بعضهم : بسيط الحقيقة كلّ الأشياء وليس بشيء منها ، أي ليس بشيء من حدودها ونقائصها (٣).

وقد صدّق صاحب الأسفار جميع ما مرّ عن ابن عربي في المسألة إجمالا بقوله : إنّه لا يجازف في القول ، كما حكاه عنه المحدّث النوري في ترجمته في المستدرك (٤).

وتفصيلا بما مرّ من قوله : إنّ العرفاء قد اصطلحوا في إطلاق الوجود المطلق ... إلى آخر كلامه (٥). وقوله : اعلم أن الواجب الوجود بسيط الحقيقة ... إلى آخر كلامه (٦).

وبقوله أيضا : محصل الكلام أنّ جميع الموجودات عند أهل الحقيقة والحكمة الإلهية المتعالية ، عقلا كان أو نفسا أو صورة نوعية ، من مراتب أضواء النور الحقيقي وتجلّيات الوجود القيومي الإلهي ، وحيث سطح الحق أظلم وانهدم ما ذهب إليه أوهام المحجوبين من أنّ للماهيات الممكنة في ذواتها وجودا ، بل إنّما يظهر أحكامها ولوازمها من مراتب الوجودات التي هي أضواء وأظلال للوجود الحقيقي والنور الأوحدي ، فكما وفّقني الله بفضله ورحمته الاطلاع على الهلاك السرمدي والبطلان الأزلي للماهيات الإمكانية والأعيان الجوازية فكذلك هداني بالبرهان النيّر العرشيّ إلى صراط مستقيم ... إلى آخر ما نقلناه عنه (٧).

__________________

(١) شرح الفصوص ٢ : ٣٨٥.

(٢) شرح الفصوص ٢ : ٣٩٠.

(٣) راجع ص ٧٢.

(٤) مستدرك الوسائل ٣ : ٤٢٢.

(٥) المتقدّم في ص ٧٠.

(٦) المتقدّم في ص ٧١.

(٧) في ص ٧٦.

٧٩

وبقوله أيضا : فصل في أنّ واجب الوجود تمام الأشياء وكل الموجودات : هذا من الغوامض الإلهية التي يصعب إدراكه إلاّ على من آتاه الله من لدنه علما وحكمة ، لكن البرهان قائم على أنّ كلّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء الوجوديّة إلاّ ما يتعلّق بالنقائص والأعدام ، والواجب تعالى بسيط الحقيقة من جميع الوجوه ، فهو كلّ الوجود كما أنّ كلّه الوجود (١).

وعنه أيضا : فإذا ثبت تناهي سلسلة الوجودات من العلل والمعلولات إلى ذات بسيط الحقيقة النورية الوجودية ... وثبت أنّه بذاته فيّاض وبحقيقته ساطع ... تبين وتحقق أنّ لجميع الموجودات أصلا واحدا وسنخا فاردا هو الحقيقة ، والباقي شئونه ، وهو الذات ، وغيره أسماؤه ونعوته ، وهو الأصل وما سواه أطواره وشئونه ، وهو الوجود ، وما وراءه جهاته وحيثياته. ولا يتوهّمن أحد من هذه العبارات أنّ نسبة الممكنات إلى ذات القيوم تعالى تكون نسبة الحلول ، هيهات إنّ الحالّية والمحلّية تقتضيان الاثنينية في الوجود بين الحالّ والمحلّ ، وهاهنا ، أي عند طلوع شمس التحقيق من افق العقل الإنساني المتنوّر بنور الهداية والتوفيق ، ظهر أن لا ثاني في الوجود الواحد الحق ، واضمحلّت الكثرة الوهمية ، وارتفعت أغاليط الأوهام ، والآن حصحص الحق وسطع نوره النافذ في هياكل الممكنات ، يقذف به على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وللثنويّين الويل مما يصفون ، إذ قد انكشف أنّ كلّ ما يقع عليه اسم الوجود بنحو من الأنحاء فليس إلاّ شأنا من شئون الواحد القيوم ... (٢).

وعنه أيضا : قال العارف القيّومي جلال الدين الرومي في مثنويه :

ما عدمهاييم هستيها نما

تو وجود مطلقى هستى ما

والظاهر اتفاق أكابر الصوفية على ما ذكر في مسألة التوحيد مع اختلاف بينهم في بعض الحيثيات ، كما يظهر لمن تتبع كلماتهم.

أقول : هذه الخطابيات وكذلك تطبيق القاعدة المسلّمة « بسيط الحقيقة كلّ الأشياء

__________________

(١) الأسفار ٦ : ١١٠.

(٢) الأسفار ٧ : ٣٠٠.

٨٠