تنبيهات حول المبدأ والمعاد

الميرزا حسنعلي مرواريد

تنبيهات حول المبدأ والمعاد

المؤلف:

الميرزا حسنعلي مرواريد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: العتبة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 964-444-083-8
الصفحات: ٢٧٣

وكذا معرفة ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الباب ، فإنّ بها تعرف حقّيّة الدين وحقيقته ، وبها تتمّ الحجّة على الناس ، بل هي من أهمّ شئون الرسالة ووظائف الرسول ، وما ينبغي أن يتكفّله من أمر الأمّة ، كي يحفظهم عن الضلالة فيه ، كما عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : بالتعليم أرسلت (١).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أوّل الدين معرفته (٢).

فلا ينبغي احتمال أنّ الله تعالى وكل أمر الناس في استكمال المعرفة وتحصيل درجاتها المتعالية ـ بعد حصول أوّل درجاتها بالعقل والفطرة ، والإيمان بالله وبنبيّه ـ إلى غير النبيّ والائمّة القائمين مقامه صلوات الله عليهم ، وأنّهم تركوهم محتاجين في هذا الأمر إلى غيرهم ، كلاّ ، إلاّ بمقدار لا بدّ منه عادة في طريق التعلّم من حملة علومهم ، كما قال الله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (٣).

وليحذر العاقل أن يطلب الهداية إلى الله تعالى وإلى دينه الذي أساسه المعرفة بالله تعالى ، من غير القرآن وحملة علومه ، وأن يسلك في طريق المعرفة به غير طريقهم عليهم‌السلام.

فعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في رواية شريفة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أتاني جبرئيل فقال : يا محمّد ، ستكون في أمّتك فتنة ، قلت : فما المخرج منها؟ فقال : كتاب الله فيه بيان ما قبلكم من خبر ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من وليه من جبّار فعمل بغيره قصمه الله ، ومن التمس الهدى في غيره أضلّه الله.

وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، لا تزيّفه الأهواء ولا تلبسه الألسنة ، ولا يخلق عن الردّ ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يشبع منه العلماء ...

ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم ، هو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين

__________________

(١) منية المريد ٢٦ ، وعنه البحار ١ : ٢٠٦.

(٢) نهج البلاغة الخطبة الأولى.

(٣) التوبة ١٢٢.

٤١

يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد (١).

وعن الإمام المجتبى عليه‌السلام : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أمّتك ستفتتن ، فسئل : ما المخرج من ذلك؟ فقال : كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، من ابتغى العلم في غيره أضلّه الله. الخبر (٢).

وفي دعاء زين العابدين سلام الله عليه عند ختم القرآن : اللهمّ اجعلنا ممّن يعتصم بحبله ... ويستصبح بمصباحه ، ولا يلتمس الهدى في غيره (٣).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ هذا القرآن هو النور المبين ، والحبل المتين ، والعروة الوثقى ، والدرجة العليا ، والشفاء الأشفى ، والفضيلة الكبرى ، والسعادة العظمى ، من استضاء به نوّره الله ، ومن عقد به اموره عصمه الله ، ومن تمسّك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق أحكامه رفعه الله ، ومن استشفى به شفاه الله ، ومن آثره على ما سواه هداه الله ، ومن طلب الهدى في غيره أضلّه الله ، ومن جعله شعاره ودثاره أسعده الله ، ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوّله الذي ينتهي إليه آواه الله إلى جنّات النعيم ، والعيش السليم (٤).

نصيب العقل في باب معرفة الله تعالى أن يخرجه عن حدّ النفي والتشبيه

فنقول بحول الله وقوّته :

نصيب العاقل وحظّه من عقله في باب معرفة الله تعالى بحكم هذه الحجّة الباطنة وتنبيه الحجج الظاهرة أمران :

أحدهما : المعرفة والاعتقاد بوجوده وثبوته تعالى شأنه بما له من الحياة والعلم والقدرة وغيرها من الكمالات في مقابل النفي لوجوده تعالى أو لإحدى تلك الكمالات ، وهذا معنى خروجه عن حد التعطيل والنفي ، وهذا أوّل درجة المعرفة به.

__________________

(١) البحار ٩٢ : ٢٤ ، عن تفسير العيّاشيّ.

(٢) البحار ٩٢ : ٢٧ ، عن تفسير العيّاشيّ.

(٣) الصحيفة السجّادية ، الدعاء ٤٢.

(٤) البحار ٩٢ : ٣١ ، عن تفسير الإمام.

٤٢

ثانيهما : معرفة أنّه تعالى لا يشبه شيئا من المخلوقين ، وأنّه مباين لهم في جميع أوصافهم ومنزّه عنها. ومن شئون معرفة الأمر الثاني المعرفة بأنّه تعالى لا يدرك بالحواس الظاهرة والباطنة ، وبالعقول والعلوم والأفهام وتوهّم القلوب.

وهذا معنى خروجه عن حدّ التشبيه ، فلذلك لا يجوز بحكم العقل التفكّر في ذاته ، ولا التكلّم فيه بتوصيفه إلاّ بما وصف به نفسه ، ولا تسميته إلاّ بما سمّى به نفسه. قال الله تعالى :

( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) (١).

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (٢).

( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٣).

( سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٤).

( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (٥).

( فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٦).

( وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) (٧).

( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) (٨).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله عزّ وجلّ : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) ، قال عليه‌السلام : إحاطة الوهم (٩).

__________________

(١) الأنعام ١٠٣.

(٢) الشورى ١١.

(٣) الصافات ١٨٠.

(٤) الزخرف ٨٢.

(٥) الأنعام ٩١ ، الزمر ٦٧.

(٦) الأنبياء ٢٢.

(٧) الأنعام ٦٨.

(٨) النجم ٤٢.

(٩) التوحيد ١١٢.

٤٣

وعن أبي هاشم الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، قال : سألته عن الله هل يوصف؟ فقال : أما تقرأ القرآن؟ قلت : بلى ، قال : أما تقرأ قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ )؟ قلت : بلى ، قال : فتعرفون الأبصار؟ قلت : بلى ، قال : وما هي؟

قلت : أبصار العيون ، فقال : إنّ أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون ، فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام (١).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه كان يقول : الحمد لله الذي لا يحسّ ولا يجسّ ولا يمسّ ولا يدرك بالحواسّ الخمس ، ولا يقع عليه الوهم ... (٢).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : من شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، إنّ الله تعالى لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، وكلّ ما وقع في الوهم فهو بخلافه (٣).

وعن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : ... لا تضبطه العقول ، ولا تبلغه الأوهام ، ولا تدركه الأبصار ، ولا يحيط به مقدار ، عجزت دونه العبارة ، وكلّت دونه الأبصار ، وضلّ فيه تصاريف الصفات ... (٤).

وفي الدعاء : إلهي ... ولم تجعل للعقول طريقا إلى معرفتك إلاّ بالعجز عن معرفتك (٥).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : من عبد الله بالتوهّم فقد كفر ... (٦).

وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : الحمد لله الواحد الأحد ... فليست له صفة تنال ، ولا حدّ يضرب له فيه الأمثال ، كلّ دون صفاته تعبير اللغات (٧) ، وضلّ هنالك تصاريف الصفات ، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير ، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير ، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب ، وتاهت في أدنى

__________________

(١) التوحيد ١١٢ ، وفي بعض النسخ : إنّ أوهام القلوب أكثر ...

(٢) التوحيد ٥٩ ، وعنه البحار ٣ : ٢٩٨.

(٣) التوحيد ٨٠ ، وعنه البحار ٣ : ٢٩٩.

(٤) البحار ٤ : ٢٦٣ ، عن علل الشرائع.

(٥) مناجاة العارفين من المناجاة الخمسة عشرة المرويّة في البحار ٩٤ : ١٥٠ عن بعض كتب الأصحاب.

(٦) التوحيد ٢٢٠.

(٧) في البحار : تحبير اللغات ، وفيه : التحبير : التحسين.

٤٤

أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور ... وسبحان الذي ليس له أوّل مبتدأ ، ولا غاية منتهى ، ولا آخر يفنى ، سبحانه هو كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته ... (١).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : من فكّر في ذات الله تزندق (٢).

وعنه عليه‌السلام : من تفكّر في ذات الله ألحد (٣).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : إيّاكم والتفكّر في الله ، فإنّ التفكّر في الله لا يزيد إلاّ تيها (٤).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام : دعوا التفكّر في الله ، فإنّ التفكّر في الله لا يزيد إلاّ تيها (٥).

وعن موسى بن جعفر عليهما‌السلام : إنّ الله أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنه صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه ، وكفّوا عمّا سوى ذلك (٦).

وعن أبي الحسن عليه‌السلام : من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلّط الله عليه سخط المخلوق. وإنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه ، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواسّ أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار عن الإحاطة به. جلّ عمّا وصفه الواصفون ... (٧).

وعن أبي الحسن الرضا صلوات الله عليه : ... وما توهّمتم من شيء فتوهّموا الله غيره (٨).

وعن الحسين بن علي عليهما‌السلام : ... ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه ، ليس بربّ من طرح تحت البلاغ ... احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ... (٩).

__________________

(١) التوحيد ٤١ ، وعنه البحار ٤ : ٢٦٩.

(٢) البحار ٧٤ : ٢٨٥ ، وعن تحف العقول.

(٣) غرر الحكم.

(٤) التوحيد ٤٥٧.

(٥) التوحيد ٤٥٧.

(٦) الكافي ١ : ١٠٢.

(٧) الكافي ١ : ١٣٨.

(٨) التوحيد ١١٤.

(٩) البحار ٤ : ٣٠١ ، عن تحف العقول.

٤٥

وعن إسماعيل بن الفضل قال : سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام عن الله تبارك وتعالى ، هل يرى في المعاد؟ فقال : سبحان الله وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، يا ابن الفضل ، إنّ الأبصار لا تدرك إلاّ ما له لون وكيفيّة ، والله خالق الألوان والكيفيّة (١).

المعرفة بالآيات : ظهور مصنوعيّة الأشياء ، والتصديق بأنّ لها صانعا

طريق معرفة الأمرين كليهما هي الآيات التكوينية ( وهي جميع الأمور المحسوسة بالحواسّ الظاهرة والباطنة ) ، والنظر إليها بنور العلم والعقل ، والتفكّر فيها بهما.

فنقول لتوضيح الأمر الأوّل : إنّ العاقل يظهر له بعد التفكّر مطلبان :

المطلب الأوّل : أنّ جميع الاشياء المحسوسة بالحواس الظاهرة حقائق مصنوعة مخلوقة محدثة ، كما يشهد عليه اجتماع جميع أوصاف المصنوع المخلوق الذي شاهد صنعه وخلقه وإحداثه منه ومن غيره فيها ، كما يشير إليه ما نقل عن الإمام الصادق صلوات الله عليه في كلامه لابن أبي العوجاء : أمصنوع أنت أو غير مصنوع؟ فقال : بل أنا غير مصنوع ، فقال له : فصف لي : لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟ فبقي مليّا لا يحير جوابا ، وولع بخشبة بين يديه وهو يقول : طويل ، عريض ، عميق ، قصير ، متحرّك ، ساكن ، كلّ ذلك صفة خلقة. (٢)

وصدع به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في احتجاجه على الدهرية ، فراجعه جميعه إلى قوله : فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوامه (٣) وتمامه هو القديم ، فأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون؟ وما ذا كانت تكون صفته؟ فصمتوا وعلموا أنّهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلاّ وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنّه قديم (٤).

ومقتضى الجملة المعروفة : حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد ، هو مصنوعيّة جميعها.

__________________

(١) البحار ٤ : ٣١ ، عن أمالي الصدوق.

(٢) البحار ٣ : ٤٦ ، عن التوحيد.

(٣) كما في المصدر ، وفي البحار : لقوّته.

(٤) البحار ٩ : ٢٦٢ ، عن تفسير الإمام ، والاحتجاج.

٤٦

ثم إنّ إحداث ماهيات جميعها في أذهاننا وأوهامنا بالقدرة التي أعطانا الله على تصوير ماهيات الأشياء ـ وبعبارة اخرى : إيجاد صورها عند أنفسنا ـ هو أيضا من شواهد مصنوعيتها ، أي مصنوعيّة كلّ ما يمكن تصوره ، كما نبّه عليه الإمام الباقر صلوات الله عليه : كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم ومردود إليكم (١).

بداهة أن ليس المراد من الخبر إثبات مصنوعية نفس الصورة الذهنية ، بل المراد إثبات مخلوقيّة كل ما يمكن تصوّره وتكون الصورة الذهنية حاكية عنه ومثالا له. وبعبارة أخرى : إثبات أنّ كل ما تشاهده الحواسّ الظاهرة أو يتصوّر بالحواس الباطنة سنخ المخلوق المصنوع الحادث.

ومتى ظهرت له مصنوعيّة الأشياء جميعها فلا بدّ له من التصديق والإذعان لمطلب ثان وهو أنّ للأشياء صانعا وإن لم يعلم من هو ، وما هو ، وفي أيّ زمان صنعها.

وسنذكر قريبا التنبيه على هذا المطلب الثاني في غير واحدة من الآيات والروايات.

ثم يتذكر بأنّ فيها من بدائع الخلق ولطائف الصنع ودقائق التدبير ووجوه المصالح والحكم والنظم الحاكم فيها آثارا تكشف عن علم صانعها وخالقها وقدرته وقوته وعظمته وحكمته ولطفه ووحدته وسائر كمالاته.

مضافا إلى أنّ بعض هذه المخلوقات كأفراد الإنسان له العلم والمعرفة بالدقائق واللطائف ، والقدرة والاختيار والحكمة والجود والكرم والرحمة وسائر أوصاف الجمال باختلاف درجاتها. فيتذكر بأنّها أنوار وكمالات خارجة عن حقيقة ذاته ، كما مرّ مرارا ، يجدها تارة فيعلم ويختار وهكذا ، ويفقدها أخرى فيجهل ويعجز كما هو مقتضى ذواتنا.

فهذه آيات أخرى نوريّة لعلم واهبها وقدرته وسائر كمالاته ، كما كانت ذوات المخلوقات آيات ظلمانية مشيرة تكوينا بوصف مصنوعيّتها ومخلوقيّتها إليه تعالى وإلى كمالاته.

الآيات والروايات المذكّرة بوجود الصانع

وأمّا المطلب الثاني فالقرآن المجيد مشحون بالتنبيه عليه ، نذكر هنا طرفا منها إن

__________________

(١) كتاب الأربعين للشيخ البهائيّ ١٧.

٤٧

شاء الله تعالى :

( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (١).

( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) (٢).

( وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ. وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً

__________________

(١) النحل ١٠ ـ ١٧.

(٢) الروم ٢٠ ـ ٢٥.

٤٨

إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) (١).

( اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) (٢).

( اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) (٣).

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٤).

( اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ. وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ ) (٥).

( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ. خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) (٦).

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٧).

( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ. فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) (٨).

__________________

(١) النحل ٦٥ ـ ٧٠.

(٢) غافر ٦١.

(٣) غافر ٦٤.

(٤) غافر ٦٧.

(٥) غافر ٧٩ ـ ٨١.

(٦) الزمر ٥ ، ٦.

(٧) المؤمنون ١٢ ـ ١٤.

(٨) المؤمنون ١٨ ، ١٩.

٤٩

( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) (١).

( وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ. سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ. وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٢).

إلى غير ذلك من الآيات المباركة ، وأما الروايات فنذكر منها طرفا ينبغي التدبر فيها :

فعن هشام بن الحكم أنّه قال : كان من سؤال الزنديق الذي أتى أبا عبد الله عليه‌السلام قال :

ما الدليل على صانع العالم؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وجود الأفاعيل التي دلّت على أن صانعا صنعها ، ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبنيّ علمت أنّ له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده. قال : وما هو؟ قال : هو شيء بخلاف الأشياء ، أرجع بقولي : شيء إلى إثباته وأنّه شيء بحقيقة الشيئيّة ، غير أنّه لا جسم ولا صورة ، ولا يحسّ ولا يجسّ ، ولا يدرك بالحواسّ الخمس ، لا تدركه الأوهام ، ولا تنقصه الدهور ، ولا يغيّره الزمان.

قال السائل : فإنّا لم نجد موهوما إلاّ مخلوقا ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنّا مرتفعا فإنّا لم نكلّف أن نعتقد غير موهوم ، لكنّا نقول : كل موهوم بالحواسّ مدرك بها تحدّه الحواس ممثّلا فهو مخلوق ، ولا بدّ من إثبات صانع الأشياء خارجا من الجهتين المذمومتين : إحداهما النفي ، إذ كان النفي هو الإبطال والعدم ، والجهة الثانية : التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف ، فلم يكن بدّ من إثبات الصانع

__________________

(١) يونس ٥ ، ٦.

(٢) يس ٣٣ ـ ٤٠.

٥٠

لوجود المصنوعين والاضطرار منهم إليه (١) ـ إلى أن قال السائل ـ فقد حدّدته إذ أثبتّ وجوده ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لم أحدّده ولكن أثبتّه ، إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة.

قال السائل : فله إنّيّة ومائيّة؟ قال : نعم لا يثبت الشيء إلاّ بإنّية ومائيّة. قال السائل : فله كيفيّة؟ قال : لا ، لأنّ الكيفيّة جهة الصفة والإحاطة ، ولكن لا بدّ من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه ... (٢).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في صفة خلق أصناف من الحيوان ـ : ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة ، والبصائر مدخولة. ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر وسوّى له العظم والبشر.

انظروا إلى النملة في صغر جثّتها ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت على أرضها ، وصبّت على رزقها ، تنقل الحبّة إلى حجرها ، وتعدّها في مستقرها. تجمع في حرّها لبردها ، وفي وردها لصدرها ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ، ولا يحرمها الديّان ، ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس ، ولو فكّرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجبا ، ولقيت من وصفها تعبا.

فتعالى الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه على خلقها قادر.

ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ، ما دلّتك الدلالة إلاّ على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة ، لدقيق تفصيل كل شيء ، وغامض اختلاف كل حيّ ، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف ، في خلقه إلاّ سواء ، وكذلك السماء والهواء والرياح والماء.

فانظر إلى الشمس والقمر ، والنبات والشجر ، والماء والحجر ، واختلاف هذا الليل

__________________

(١) البحار ٣ : ٢٩ ، عن الاحتجاج والتوحيد.

(٢) البحار ١٠ : ١٩٧ عن التوحيد ٢٤٤.

٥١

والنهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات ، والألسن المختلفات. فالويل لمن أنكر المقدّر ، وجحد المدبّر ، زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجئوا إلى حجّة فيما ادّعوا ولا تحقيق لما أوعوا. وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان؟!

وإن شئت قلت في الجرادة ، إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين. وجعل لها السمع الخفيّ ، وفتح لها الفم السويّ ، وجعل لها الحسّ القويّ ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض ، يرهبها الزرّاع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبّها ولو أجلبوا بجمعهم ، حتى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها. وخلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة.

فتبارك الله الذي يسجد له من في السموات والأرض طوعا وكرها ، ويعفر له خدّا ووجها ، ويلقي إليه بالطاعة سلما وضعفا ، ويعطي له القيادة رهبة وخوفا. فالطير مسخّرة لأمره. أحصى عدد الريش منها والنفس ، وأرسى قوائمها على الندى واليبس ، وقدّر أقواتها ، وأحصى أجناسها. فهذا غراب ، وهذا عقاب ، وهذا حمام ، وهذا نعام. دعا كل طائر باسمه ، وكفل له برزقه. وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها ، وعدّد قسمها ، فبلّ الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها (١).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (٢). قال : فمن لم يدلّه خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، ودوران الفلك بالشمس والقمر والآيات العجيبات على أنّ وراء ذلك أمرا هو أعظم منه فهو في الآخرة أعمى قال : فهو عمّا لم يعاين أعمى وأضلّ سبيلا (٣).

وروي أنّ عبد الله الديصاني أتى هشام بن الحكم ... فمضى عبد الله الديصاني حتى أتى باب أبي عبد الله عليه‌السلام ، فاستأذن عليه فأذن له ، فلمّا قعد قال له : يا جعفر بن محمّد

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١٨٥ ، البحار ٣ : ٢٦ ، عن الاحتجاج.

(٢) الإسراء ٧٢.

(٣) البحار ٣ : ٢٨ ، عن الاحتجاج.

٥٢

دلّني على معبودي ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : ما اسمك؟ فخرج عنه ولم يخبره باسمه ، فقال له أصحابه كيف لم تخبره باسمك؟ قال : لو كنت قلت له : عبد الله كان يقول : من هذا الذي أنت له عبد! فقالوا له : عد إليه فقل له يدلّك على معبودك ولا يسألك عن اسمك ، فرجع إليه فقال له : يا جعفر دلّني على معبودي ولا تسألني عن اسمي ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : اجلس ـ وإذا غلام له صغير في كفّه بيضة يلعب بها ـ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام :

ناولني يا غلام البيضة ، فناوله إيّاها ، فقال له أبو عبد الله : يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة ، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، هي على حالها لم يخرج منها مصلح فيخبر عن إصلاحها ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها ، لا تدري للذكر خلقت أم للانثى ، ينفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لها مدبّرا؟

قال : فأطرق مليّا ثم قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأن محمّدا عبده ورسوله ، وأنّك إمام وحجّة من الله على خلقه ، وأنا تائب ممّا كنت فيه (١).

وفي نهج البلاغة : الحمد لله الذي بطن خفيّات الأمور ، ودلّت عليه أعلام الظهور ...

لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى الله عمّا يقول المشبّهون به والجاحدون له علوّا كبيرا (٢).

وفي احتجاج أمير المؤمنين صلوات الله عليه مع النصارى ... قال الجاثليق : خبّرني عن الله تعالى أين هو اليوم؟ فقال عليه‌السلام : يا نصراني إنّ الله تعالى يجلّ عن الأين ، ويتعالى عن المكان ، كان فيما لم يزل ولا مكان ، وهو اليوم على ذلك ، لم يتغيّر من حال إلى حال.

فقال : أجل ، أحسنت أيّها العالم وأوجزت في الجواب ، فخبّرني عن الله أمدرك

__________________

(١) البحار ٤ : ١٤٠ ، عن التوحيد.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٤٩.

٥٣

بالحواسّ عندك فيسألك المسترشد في طلبه استعمال الحواسّ ، أم كيف طريق المعرفة به إن لم يكن الأمر كذلك؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : تعالى الملك الجبّار أن يوصف بمقدار ، أو تدركه الحواسّ ، أو يقاس بالناس. والطريق إلى معرفته صنائعه الباهرة للعقول الدالّة ذوي الاعتبار بما هو منها مشهود ومعقول (١).

وعن الرضا صلوات الله عليه في خطبة : بصنع الله يستدلّ عليه ، وبالعقول تعتقد معرفته ، وبالفطرة تثبت حجّته (٢).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة : دليله آياته ، ووجوده إثباته (٣).

وفي نهج البلاغة : روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام أنّه قال : خطب أمير المؤمنين بهذه الخطبة على منبر الكوفة ، وذلك أنّ رجلا أتاه فقال له : يا أمير المؤمنين ، صف لنا ربّنا مثلما نراه عيانا لنزداد له حبّا ، وبه معرفة ، فغضب ونادى : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس حتى غصّ المسجد بأهله ، فصعد المنبر وهو مغضب متغيّر اللون ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال : ... الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله ، ولا مقدار احتذى عليه ، من خالق معبود (٤) كان قبله ، وأرانا من ملكوت قدرته ، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوّته ، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته ، فظهرت البدائع التي أحدثتها (٥) آثار صنعته وأعلام حكمته ، فصار كلّ ما خلق حجّة له ودليلا عليه ، وإن كان خلقا صامتا فحجّته بالتدبير ناطقة ، ودلالته على المبدع قائمة (٦).

ويناسب هنا التدبّر في ما فصّله وبيّنه الإمام الصادق ولسان الله الناطق ـ على ما رواه عنه مفضّل بن عمر ـ من الآيات التكوينيّة حيث قال عليه‌السلام : ... يا مفضّل ، إنّ الجهّال

__________________

(١) البحار ١٠ : ٥٦ ، عن أمالي الطوسي.

(٢) البحار ٤ : ٢٢٨ ، عن التوحيد والعيون.

(٣) البحار ٤ : ٢٥٣ ، عن الاحتجاج.

(٤) وفي نسخة : معهود.

(٥) كذا فيما ضبطه صبحي صالح ، وفي شرح عبده وفيض الإسلام : وظهرت في البدائع التي أحدثها ...

(٦) نهج البلاغة : الخطبة ٩١.

٥٤

جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة وقصرت أفهامهم عن تأمّل الصواب والحكمة في ما ذرأ الباري جلّ قدسه وبرأ من صنوف خلقه في البرّ والبحر والسهل والوعر ، فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود ... (١).

تنبيه : في أنّ الله تعالى هو الهادي إلي ذاته وصفاته

إنّه تعالى شأنه هو الهادي خلقه إلى جميع ما يحتاجون إليه من أمورهم ، لا هادي سواه ، كما قال الله تعالى :

( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) (٢).

( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ) (٣).

( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (٤).

( أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (٥).

( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ) (٦).

( قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ ) (٧).

( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (٨).

( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ) (٩).

فهو الهادي إلى ذاته تعالى وإلى كمالاته وصفاته من طريق العقل بخلقه الآيات في الآفاق والأنفس ، ثمّ بإعطائه نور العقل الذي من شأنه الهداية إليه تعالى بالآيات ، ثمّ

__________________

(١) البحار ٣ : ٥٩.

(٢) طه ٥٠.

(٣) الأعلى ١ ـ ٣.

(٤) النور ٣٥.

(٥) النمل ٦٣.

(٦) النور ٤٠.

(٧) يونس ٣٥.

(٨) البلد ٩.

(٩) الضحى ٦ ، ٧.

٥٥

بإراءته تلك الآيات ، ثم بتعريفه بذلك النور مصنوعيّة الآيات ، ثم بتعريفه إيّاها بوصف الآيتيّة ، كما قال تعالى :

( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ) (١).

( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) (٢).

( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (٣).

وفي رواية منصور بن حازم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني ناظرت قوما فقلت لهم : إنّ الله أعزّ وأجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه ، بل العباد يعرفون بالله ، فقال : رحمك الله (٤).

تنبيه : في الهداية العامّة والخاصّة

الهداية من الله تعالى ـ مضافا إلى بعث الرسل ـ على قسمين : هداية عامة ، وهداية خاصة بالمؤمنين والمتّقين.

والاولى تحصل بوجدان العلم والعقل بإذن الله ، بمقدار يفهم به الجيّد والرديّ ، ويميّز به بين الحق والباطل ، وبما فطر عليه من معرفة الله ، ووجوب ما فرض عليه عقلا من طاعة الله ، وحرمة معصيته ، واستحباب ما ندب إليه وكراهة ما كرهه في ما أمر به وما نهى عنه.

والثانية تحصل بتكميل فهم ذلك وتسديده من الله تعالى ، وبتفهيم ما يترتّب على الطاعة والمعصية من مثوبات الدنيا والآخرة وعقوباتهما ، وبأن يعرّفه عظمة الربّ تعالى شأنه الموجب لعرفان عظمة العصيان ، وبأن يعرّفه النعم التي أنعم الله بها عليه ، وبتسبيبه تعالى شأنه الأسباب التي تحصل أو تسهل بها الطاعة ، ونحو ذلك.

وهذه توفيقات من الله تعالى للمؤمنين والمتّقين ، وإعانة وتأييد من دون أن

__________________

(١) غافر ١٣.

(٢) الشورى ١٣.

(٣) القصص ٥٦.

(٤) الكافي ١ : ٨٦.

٥٦

توجب جبرا على الطاعة ورفعا للتكليف ، لكون القدرة وكمال الحريّة واردة ومسيطرة على هذه كلّها ، كما يشهد به الوجدان.

وبترك هذه الهداية من الله تعالى ـ لأجل إعراضهم وعدم اهتدائهم ، أي عدم قبول ما آتاهم الله من الهدى ـ تحصل الضلالة ، والعمى ، والختم ، والرين ، والغشاوة ، لا محالة.

والظاهر أنّها أيضا ـ بحسب الغالب ـ ليست على حدّ يوجب الجهل والعجز الرافعين للتكليف ، بل هي نظير الخذلان وترك الإعانة على الطاعة لا توجب إلاّ صعوبة الطاعة لا عدم إمكانها.

ولو فرض حصولها إلى هذا الحدّ فإنّه يكفي في جواز تعذيبهم عقلا بأشدّ العذاب عدم إيمانهم بالله تعالى شأنه ، أو عصيانهم إيّاه عند ما هداهم ، مرّة واحدة قبل خروجهم عن الدنيا بلا توبة. وذلك لوضوح اختلاف مراتب استحقاق الذمّ والعقاب على إهانة واحدة ـ مثلا ـ إلى الغير بحسب اختلاف مراتب المهين والمهان في القدر والمنزلة ، كما عليه بناء العقلاء في الجملة ، ويشير إليه ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تنظروا إلى صغر الذنب ولكن انظروا إلى من اجترأتم (١).

فمنه يظهر أنّ المعصية الواحدة من المخلوق الذي لا غاية لمهانته ـ كما هو ظاهر لمن عرف نفسه بأنّ شيئيّته وكماله بالغير ، والغير خالقه الذي لا نهاية لعظمته ، ولا إحصاء لنعمائه ـ يستحق بها من التوبيخ والعذاب ما لا يبلغ غايته ، كما ينبّه عليه دعاء زين العابدين صلوات الله عليه ( الدعاء السابع والثلاثون من الصحيفة الكاملة ) : ... فأمّا العاصي أمرك والمواقع نهيك ، فلم تعاجله بنقمتك ، لكي يستبدل بحاله في معصيتك حال الإنابة إلى طاعتك ، ولقد كان يستحقّ في أوّل ما همّ بعصيانك كل ما أعددت لجميع خلقك من عقوبتك. فجميع ما أخّرت عنه من العذاب وأبطأت به عليه من سطوات النقمة والعقاب ترك من حقّك ، ورضى بدون واجبك ...

ونقول لتوضيح الأمر الثاني ، من نصيب العقل في باب معرفة الله : إنّه تعالى لا يشبه شيئا من المخلوقين ومباين لهم في ذاتهم وأوصافهم ومنزّه عنها ـ وهذه المعرفة هي

__________________

(١) البحار ٧٤ : ١٦٨ ، عن كنز الكراجكيّ.

٥٧

العمدة في باب معرفة الله تعالى ، وبها تمتاز المعارف الإلهيّة الحقّة عن غيرها ، وأمّا الأمر الذي أشرنا إليه في بعض التنبيهات السابقة ـ وهو مصنوعيّة العالم بما فيه ، واحتياج المصنوع إلى الصانع ـ فإنّه مما لا ينبغي خفاؤه على أحد من العقلاء. وقد أتمّ الله حجّته في ذلك بما مرّ ذكره من الآيات المباركة ونحوها ، كما قال الله تعالى في كتابه : ( أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (١). وكذا الرسول الأكرم والأئمّة المعصومون صلوات الله عليهم ، في ما روي عنهم.

وطريق معرفة هذا الأمر : النظر الدقيق والتفكّر العميق في ذات المخلوق والمصنوع وسنخ حقيقته ، وفي معنى الشيئيّة بالغير والحقيقة بالغير ، وأنّ الشيء بالغير وإن كان شيئا منشأ للآثار ولكنّه ليس بشيء بحقيقة الشيئيّة ، بل هو محض الفقر والاحتياج في شيئيّته وثبوته وبقائه وتأثيره وتأثره إلى الغير. ثمّ التذكّر بأنّ كلّ ما يدرك حقيقته بإحاطة العقل والعلم ، وبالحواسّ الظاهرة والباطنة من الجواهر وما يعرضها من الأعراض والحركات بمعناها العام ، التي عرفت أنّها من سنخ المخلوق الواضح احتياجه إلى الخالق ، لو كان الخالق من سنخه وبأوصافه لجرى الحكم المذكور ـ أي الاحتياج إلى الخالق ـ فيه أيضا ، وهو خلاف حقيقته.

فيحكم العقل أي يظهر به ، أنّ الذي ليس بمخلوق ليس من سنخ المخلوق ولا يشبهه ، ولا يجري فيه ما يجري فيه ، كما سيأتي مزيد بيان له إن شاء الله تعالى.

وأمّا الآيات والروايات الواردة في أنّه تعالى خارج عن الحدّين فممّا لا يعدّ ولا يحصى.

أمّا بنحو الإجمال فمنه التكبير الذي أمر الله تعالى به رسوله الأكرم بقوله : ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢). فصدع به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على ما في رواية المناقب (٣) ، رافعا به صوته مرّتين ، فجعله في مفتتح الأذان والإقامة ، وفي مختتمهما ،

__________________

(١) إبراهيم ١٠.

(٢) المدثر ١ ـ ٣.

(٣) البحار ١٨ : ١٩٧ ، عن المناقب.

٥٨

وفي مفتتح الصلاة ، ومختتمها وأثنائها ، وفي كثير من الأذكار والأدعية الواردة عنه وعن خلفائه صلوات الله عليهم أجمعين ، وفي غير واحد من المواطن ( بعد التذكر بأنّ من المعنيّ به أنّه تعالى أكبر من أن يوصف ، كما في الرواية ) (١).

ومنه التسبيحات الواردة في الكتاب والسنّة ، وفي ركوع الصلاة وسجودها ، وفي كثير من الأدعية والأذكار المعنيّ بها تنزيهه تعالى عما لا يليق به ، كما صرّح به في رواية هشام قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( سُبْحانَ اللهِ ) (٢) ، ما يعني به؟

قال : تنزيهه (٣). ( بعد التذكر بأنّ الله تعالى شيء بحقيقة الشيئية ، مباين لما شيئيته بالغير ، وما ذاته وحقيقته العلم والنور مباين لما حقيقته الجهل والظلمة ، فيكون مسانخته لها ومشابهته إيّاها واتّصافه بها نقصا يجب تنزيهه تعالى عنه ).

وفي الجمع بين التسبيح والتحميد إشارة إلى خروجه عن حدّ التعطيل والتشبيه معا.

ومن أراد التفصيل فلا بدّ له من الرجوع إلى مفصّلات الخطب والأدعية وسائر ما ورد عنهم صلوات الله عليهم في هذا الباب ، بعد ردّ متشابهها إلى محكمها ، فقد صرّحوا بهذين الأمرين في عدة روايات ، منها :

ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : ... فاعلم ـ رحمك الله ـ أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله جلّ وعزّ ، فانف عن الله تعالى البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا تشبيه ، هو الله الثابت الموجود ، تعالى الله عمّا يصفه الواصفون ، ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان (٤).

وعن عبد الرحمن بن أبي نجران ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن التوحيد ، فقلت : أتوهّم شيئا؟ فقال : نعم ، غير معقول ولا محدود ، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه ، لا يشبهه شيء ولا تدركه الأوهام ، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل

__________________

(١) الكافي ١ : ١١٨ ، التوحيد ٣١٢.

(٢) يوسف ١٠٨ ، المؤمنون ٩١ ، النمل ٨ ، القصص ٦٨ ، الصافات ١٥٩ ، الطور ٤٣ ، الحشر ٢٣.

(٣) الكافي ١ : ١١٨ ، التوحيد ٣١٢.

(٤) الكافي ١ : ١٠٠.

٥٩

وخلاف ما يتصوّر في الأوهام ، إنّما يتوهّم شيء غير معقول ولا محدود (١).

وفي توحيد المفضّل عن الصادق عليه‌السلام : إنّ العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ، ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته. فإن قالوا : فكيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به؟ قيل لهم : إنّما كلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه ، وهو أن يوقنوا به ، ويقفوا عند أمره ونهيه ، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته (٢).

وعن أمير المؤمنين في خطبة خطبها بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : الحمد لله الذي أعجز الأوهام أن تنال إلاّ وجوده ... (٣).

وعن الحسين بن سعيد : سئل أبو جعفر الثاني : يجوز أن يقال لله أنّه شيء؟ قال : نعم يخرجه من الحدّين : حدّ التعطيل وحدّ التشبيه (٤).

وفي التوحيد في ما عرض عبد العظيم الحسنيّ من دينه على عليّ بن محمد الهادي عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء خارج عن الحدّين : حدّ الإبطال وحدّ التشبيه ، وإنه ليس بجسم ولا صورة ، ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسّم الأجسام ، ومصوّر الصور ، وخالق الأعراض والجواهر ، وربّ كلّ شيء ومالكه ، وجاعله ، ومحدثه (٥).

وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : بها تجلّى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون. ولا يجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه ، إذن لتفاوتت ذاته ، ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه. ولكان له وراء إذ وجد له أمام ، ولا لتمس التمام إذ لزمه النقصان ، وإذن لقامت آية

__________________

(١) الكافي ١ : ٨٢.

(٢) البحار ٣ : ١٤٧.

(٣) البحار ٤ : ٢٢١ ، عن التوحيد والأمالي.

(٤) الكافي ١ : ٨٢.

(٥) التوحيد ٨١ ، وعنه البحار ٣ : ٢٦٨.

٦٠