تنبيهات حول المبدأ والمعاد

الميرزا حسنعلي مرواريد

تنبيهات حول المبدأ والمعاد

المؤلف:

الميرزا حسنعلي مرواريد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: العتبة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 964-444-083-8
الصفحات: ٢٧٣

إلى الكائنات الأخر أيضا من الحقائق المشهودة بواسطة الحواسّ الظاهرة ، أو إلى الأمور المتصوّرة أو المعقولة فإنّه يجد أنّ جملة منها له الفهم والشعور بها وبتحقّقها وبقضايا واقعة فيها ، وأنّ جملة منها ليست مكشوفة ، ويجد أيضا أنّ جملة منها حصل الكشف لها بعد أن لم تكن مكشوفة ، فيتنبّه أنّ ما عدا الأشياء المكشوفة وغير المكشوفة أمر آخر يكون به كشفها وظهورها له.

وبالجملة : أنّه يجد حقيقتين وواقعيّتين : امورا ليست ظاهرة بذاتها ، وأمرا آخر يكون وراء ذلك كلّه يكون به ظهور هذه الامور له.

ثم يتنبّه إلى أنّ نفسه وكونها ـ أى وجودها ـ إنّما هي من تلك الامور المكشوفة له ، فيتنبّه إلى أنّ نفسه ليست هي الكاشفة بذاتها لها ، وكذلك كونها أي وجودها ، بل الكاشف أمر آخر.

والحاصل أنّه يتنبّه أنّ ما عدا نفسه وما عدا الأشياء المكشوفة له أمر آخر يكون به كشف جميعها ، وهو حقيقة العلم.

تذكرة

ربما يغفل الإنسان عن ذاته ، والغفلة لا تعقل في حقيقة الكشف والشعور.

تذكرة أخرى

عدم شعور الإنسان بنفسه في حال الإغماء وفي بعض أحوال النوم دليل آخر على أنّه ليس من حقيقة العلم والشعور.

تذكرة أخرى

من أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه وذاته ، فلو كان ذاته عين العلم والشعور لم تخف عليه حقيقته وإنّيته. وتوهّم وجود الحجاب مدفوع بأنّ محجوبيّة العلم عن نفسه غلط واضح.

وبالجملة : الغفلة ، والجهل ، والنسيان ، وبعض أحوال النوم ، كلّ واحد منها دليل على أنّ حقيقة العلم خارجة عن حقيقة الإنسان.

٢١

ثم إنّ هذه المباينة والغيريّة لا تزال ثابتة بلغ الإنسان ما بلغ من حدّ الكمال ، قال الله تعالى : ( وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) (١). وقال تعالى : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ) (٢).

نظر في تقسيم العلم وتعريفه

يظهر ممّا ذكرنا أنّ ما يقال ، أو يتصوّر ، أو يعقل ، من الكيفيّات والأطوار والأحوال ، وسائر الجواهر والأعراض المفهومة كلّها ـ نظير الأمور المحسوسة بالحواسّ الظاهرة ـ أمور مظلمة يكون ظهورها بغيرها ، وهو العلم الخارج عنها.

فيعلم أنّ تقسيم العلم إلى الحضوريّ والحصوليّ ، وتعريف العلم الحضوريّ بحضور الشيء عند العالم ، والحصوليّ بحصول الشيء عند النفس ، أو بحصول صورة الشيء عندها ، أو بقبول النفس تلك الصورة ... كلّه أجنبيّ عن حقيقة العلم الظاهر بذاته ، فإنّ شيئا منها ليس ظاهرا بذاته ، ولا مظهرا لغيره ، بل كلّها ظاهرة بأمر آخر يكون هو العلم بها ، كما يشهد بذلك أنّك لو سألتهم : هل تعلمون حضور الشيء عند النفس أو هل تعلمون الصورة الحاصلة ، أو حصول تلك الصورة عند النفس لقالوا : نعم ، فيقال لهم : بما ذا تعلمونها؟ وبم صارت معلومة عندكم؟ فما يعلم به تلك الامور هو العلم ، لا تلك الامور نفسها.

ومنه يعلم حال التصوّر والتصديق اللّذين قسّم العلم الحصوليّ إليهما ، وأنّهما من أحوال النفس ، يعلمان بالعلم وليسا بقسمين منه.

ثم إنّهم يمثّلون للعلم الحضوريّ ـ وهو حضور الشيء عند النفس ـ بحضور الصورة الذهنيّة عندها ، وبحضور كلّ معلول عند علّته ، وقد علمت أنّ النفس والصور ، وكلّ علّة ومعلول ، وحضور الصور عند النفس ، وحضور كلّ معلول عند علّته كلها من الامور المكشوفة بالعلم ، وليست هي العلم.

__________________

(١) النحل ٧٨.

(٢) الحج ٥.

٢٢

فصل : في ذكر بعض الروايات الظاهرة في أنّ : العلم هو النور بمعناه الحقيقيّ ، أو اللائح منها ذلك ، ولا بدّ قبل إيرادها من بيان أمرين :

الأول : أنّ ما ذكرناه أو نذكره من الروايات في باب العلم والعقل إنّما هي تذكرة من الأئمّة عليهم‌السلام ، أو إرشاد إلى الأمر الظاهر بذاته الذي نجده ولو إجمالا ، فليس التمسّك بها من باب التعبّد المحض ، بل هي إرشاد إلى الحقائق ، فالدليل على ما ذكرنا هو الوجدان المؤيّد بكلام المعصوم عليه‌السلام ، بل الدليل هو نفس العلم والعقل المعرّفين بذاتهما لذاتهما.

ففي باب العلم نجد أنّ المحسوسات بالحواسّ الظاهرة أو الباطنة ، من جواهرها وأعراضها ، ومنها أرواحنا ـ أي أنفسنا التي نعبّر عنها بلفظة أنا ـ كلّها أمور مظلمة ، ويكون ظهورها بنور خارج عنها يعبّر عنه بالعلم ، فنكون بوجداننا إيّاه واستضاءتنا به عالمين ، وبفقداننا إيّاه جاهلين.

ومنزلة هذا النور بالنسبة إلى تلك الأمور ـ من جهة ـ منزلة النور المحسوس بالنسبة إلى سائر المحسوسات ، مع فرق ظاهر بين نور العلم وهذا النور المحسوس ، وهو أنّ نور العلم ظاهر بذاته ، والنور المحسوس ظاهر لنا بنور العلم ، فالنور بمعناه الحقيقيّ هو نور العلم ، كما أشرنا إليه سابقا ، وإن كان يطلق لغة وعرفا على النور المحسوس الذي هو من الكيفيّات الجسميّة أيضا.

ومن وجوه الفرق أنّ النور المحسوس ـ مثل نور البصر ـ يبصر ، ونور العلم أجلّ من ذلك ، بل به البصيرة والبصر. ومنها أنّ النور المحسوس في عرض سائر الجواهر والأعراض ، ونور العلم فوقها لا بالفوقيّة المكانيّة.

الثاني : قد يطلق النور على النور المحسوس بحاسّة البصر الذي هو من لواحق المادّة ، كنور الشمس وغيرها ، وقد يطلق ويراد به النور الحقيقيّ الظاهر بذاته الذي به ظهور كلّ شيء حتى الأنوار المحسوسة ، كما نبّهنا عليه ، وقد يطلق على ما هو السبب لوجدان النور الحقيقيّ ، كالقرآن ، والكتاب ، والنبيّ والإمام ، فمتى أطلق على القرآن ، أو النبيّ ، أو الإمام ، فلعلّه من قبيل تسمية السّبب باسم المسبّب ، فليكن على ذكر منك كيلا يختلط عليك الأمر.

٢٣

فعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله عزّ وجلّ يجمع العلماء يوم القيامة ويقول لهم : لم أضع نوري وحكمتي في صدوركم إلاّ وأنا اريد بكم خير الدنيا والآخرة ، اذهبوا فقد غفرت لكم ما كان منكم (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول الله عزّ وجلّ للعلماء يوم القيامة : إنّي لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلاّ واريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ، ولا أبالي (٢).

وعن الإمام الباقر صلوات الله عليه : العالم كمن معه شمعة تضيء للناس ... كذلك العالم معه شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة ، فكل من أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجا بها من جهل فهو من عتقائه من النار ... الخبر (٣).

وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : يا كميل ، احفظ عنّي ما أقول لك ، الناس ثلاثة : عالم ربانيّ ، ومتعلّم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كلّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ... اللهمّ بلى لا تخلوا الأرض من قائم بحجة ... هجم بهم العلم على حقائق الامور فباشروا روح اليقين ... الخبر (٤).

وعن أبي جعفر صلوات الله عليه ـ في حديث طويل ـ : ثم إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع العلم الذي كان عنده عند الوصيّ ، وهو قول الله عزّ وجلّ : ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (٥). يقول : أنا هادي السموات والأرض ، مثل العلم الذي أعطيته ، وهو نوري الذي يهتدى به ، مثل المشكاة فيها المصباح ، فالمشكاة قلب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمصباح النور الذي فيه العلم ... الخبر (٦).

وفي حديث عنوان البصريّ عن الصادق عليه‌السلام : ليس العلم بالتعلّم ، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه (٧).

__________________

(١) البحار ٢ : ١٦ ، عن علل الشرائع.

(٢) البحار ٢ : ٢٥ ، عن منية المريد.

(٣) البحار ٢ : ٤ ، عن تفسير الإمام والاحتجاج.

(٤) الخصال ١٨٦. وفي نهج البلاغة ، حكمة ١٤٧ بتفاوت.

(٥) النور ٣٥.

(٦) البحار ٢٣ : ٣٢١ ، عن روضة الكافي.

(٧) البحار ١ : ٢٢٥ ، عن الشيخ البهائيّ.

٢٤

وعن أبي محمّد العسكريّ عليه‌السلام قال : قال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا ، فاخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به ، جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاج من نور يضيء لأهل جميع العرصات ، وعليه حلّة لا يقوم لأقلّ سلك منها الدنيا بحذافيرها ، ثم ينادي مناد : يا عباد الله! هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمّد صلوات الله عليهم ، ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبّث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزه الجنان ، فيخرج كلّ من علّمه في الدنيا خيرا ، أو فتح عن قلبه من الجهل قفلا ، أو أوضح له عن شبهة (١).

وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه لما سأله الجاثليق فقال : أخبرني عن الله عزّ وجلّ يحمل العرش أم العرش يحمله؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الله عزّ وجلّ حامل العرش والسموات والأرض وما فيهما وما بينهما ... إنّ العرش خلقه الله تعالى من أنوار أربعة ... وهو العلم الذي حمّله الله الحملة ، وذلك نور من عظمته ، فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السموات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة ، فكلّ محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته ، لا يستطيع لنفسه ضرّا ، ولا نفعا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا ، فكلّ شيء محمول ، والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا ، والمحيط بهما من شيء ، وهو حياة كلّ شيء ، ونور كلّ شيء ، سبحانه وتعالى عما يقولون علوّا كبيرا.

قال له : فأخبرني عن الله عزّ وجلّ أين هو؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : هو هاهنا ، وهاهنا ، وفوق ، وتحت ، ومحيط بنا ، ومعنا ، وهو قوله : ( ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ) (٢).

فالكرسيّ محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، وإن تجهر بالقول فإنّه يعلم السرّ وأخفى ، وذلك قوله تعالى : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما

__________________

(١) البحار ٢ : ٢ ، عن تفسير الإمام والاحتجاج.

(٢) المجادلة ٧.

٢٥

وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (١). فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حمّلهم الله علمه ... وكيف يحمل حملة العرش الله وبحياته حييت قلوبهم وبنوره اهتدوا إلى معرفته؟! (٢).

وفي معاني الأخبار عن المفضّل بن عمر ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العرش والكرسي ما هما؟ فقال : العرش في وجه : هو جملة الخلق ، والكرسي وعاؤه ، وفي وجه آخر : هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله وحججه ، والكرسيّ هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه ورسله وحججه عليهم‌السلام (٣).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره (٤).

وفي الكافي عن صفوان بن يحيى ، قال : سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فاستأذنته فأذن لي ، فدخل فسأله عن الحلال والحرام ، ثم قال : أفتقرّ أن الله محمول؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : كلّ محمول مفعول به مضاف إلى غيره ، محتاج ، والمحمول اسم نقص في اللفظ ، والحامل فاعل ، وهو في اللفظ مدحة ، وكذلك قول القائل : فوق ، وتحت ، وأعلى ، وأسفل ، وقد قال الله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) (٥). ولم يقل في كتبه أنّه المحمول ، بل قال : إنّه الحامل في البرّ والبحر (٦). والممسك السموات والأرض أن تزولا (٧). والمحمول ما سوى الله ، ولم يسمع أحد آمن بالله وعظمته قطّ قال في دعائه : يا محمول. قال أبو قرة : فإنه قال : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) (٨). وقال : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ) (٩). فقال أبو الحسن عليه‌السلام : العرش ليس

__________________

(١) البقرة ٢٥٥.

(٢) الكافي ١ : ١٢٩ ، وعنه البحار ٥٨ : ٩.

(٣) معاني الأخبار ٢٩ ، وعنه البحار ٥٨ : ٢٨.

(٤) البحار ٥٨ : ٢٩ ، عن التوحيد.

(٥) الأعراف ١٨٠.

(٦) إشارة إلى سورة الأسراء ٧٠.

(٧) إشارة إلى سورة فاطر ٤١.

(٨) الحاقة ١٧.

(٩) المؤمن ٧.

٢٦

هو الله ، والعرش اسم علم وقدرة ، وعرش فيه كلّ شيء ... الخبر (١).

وفي التوحيد عن حنان بن سدير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العرش والكرسيّ ، فقال : إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة ... وقوم وصفوه بيدين فقالوا : ( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) (٢). وقوم وصفوه بالرجلين فقالوا : وضع رجله على صخرة بيت المقدس فمنها ارتقى إلى السماء ، وقوم وصفوه بالأنامل فقالوا : إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّي وجدت برد أنامله على قلبي ، فلمثل هذه الصفات قال : ( رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٣). يقول : ربّ المثل الأعلى عما به مثّلوه ، ولله المثل الأعلى الذي لا يشبهه شيء ، ولا يوصف ولا يتوهّم ، فذلك المثل الأعلى ... الخبر (٤).

وفي الكافي عن أبي حمزة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العلم ، أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال ، أم في الكتاب عندكم تقرءونه فتعلمون منه؟ قال : الأمر أعظم من ذلك وأوجب ، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ : ( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ) (٥). ثم قال : أيّ شيء يقول أصحابكم في هذه الآية؟ أيقرّون أنّه كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ فقلت : لا أدري ـ جعلت فداك ـ ما يقولون ، فقال لي : بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان حتى بعث الله الروح التي ذكر في الكتاب ، فلمّا أوحاها إليه علم بها العلم والفهم ، وهي الروح التي يعطيها الله تعالى من شاء ، فاذا أعطاها عبدا علّمه الفهم (٦).

حقيقة العقل من حقيقة العلم وهي الكاشفة للحسن والقبح

تنبيهان :

١ ـ بعد ما عرفت بالوجدان أنّ حقيقة العلم نور خارج عن الأشياء وعن حقيقتنا ،

__________________

(١) الكافي ١ : ١٣٠ ، وعنه البحار ٥٨ : ١٤.

(٢) المائدة ٦٤.

(٣) الزخرف ٨٢.

(٤) التوحيد : ٣٢١ ، وعنه البحار ٥٨ : ٣٠.

(٥) الشورى ٥٢.

(٦) الكافي ١ : ٢٧٣ ، والبحار ٢٥ : ٥٩ ، ٦٢ ، ٦٣ ، عن بصائر الدرجات بأسانيد وعبارات مختلفة يسيرا.

٢٧

وعن كلّ ما نتصوّره من معلوماتنا النفسيّة ، محيط بها جميعا ، ربما نجده فندرك به أنفسنا ومعلوماتنا وسائر الأشياء ، وربما نفقده فلا ندرك شيئا حتى أنفسنا ، وهو لا يتنزّل عن شموخ مقامه إلى مرتبة نفوسنا ، فضلا عن معلوماتنا النفسيّة ، ولا ترد أنفسنا بكمالها العلميّ في صقع ذلك النور ، كما سيأتي مزيد توضيح لذلك إن شاء الله تعالى.

نقول :

إنّ حقيقة العقل أيضا خارجة عن حقيقتنا ، فمتى نجده يكشف لنا به حسن الأشياء وقبحها مثلا.

ومن طرق التنبيه إلى هذه الحقيقة أن يذكّر المعلّم الواجد لنور العلم والشعور بأنّ أفعال البشر بعضها حسن ، وبعضها قبيح ، وبعضها ليس لها شيء من هاتين الصفتين ، فإذا عرف الصفتين ـ أي ظهرتا بنور العلم والفهم ـ يقال : إنّه عاقل ، وإن لم تظهرا له يقال : إنّه مجنون ، أي مستور عنه عقله ، وهذا أوّل درجة عقل العاقل الذي يصحّ معه التكليف.

فيذكّر بأنّ ما تعرف به هاتان الصفتان هو سنخ نور العلم الذي تظهر به سائر الأمور ، وسائر تلك الأفعال الحسنة والقبيحة ، إلاّ أنّه قبل أن يصير واجدا لهذه الدرجة من نور العلم لا يقال إنّه عاقل ، وبعد وجدانه يقال له عاقل.

٢ ـ يمكن أن يقال : إنّ مرجع التحديد المذكور ومرجع درجات هذا النور إلى تحديد وجدان الواجد لا إلى جعل المراتب لذات ذلك النور. وبعبارة أخرى : مرجع كمال العقل إلى سعة وشدّة في وجدان نور العقل ، لا إلى تفاوت ذات العقل سعة وشدّة.

وبعد وجدان نور العقل ربما يفقده الإنسان لمرض أو شهوة ، إمّا رأسا وإمّا درجة منه ، كما هو الظاهر لمن تأمّل حالات نفسه ، وبهذا الوجدان والفقدان مع عدم النقصان في إنّيته وشخصيّته يتنبّه أنّه ـ كما ذكرنا في حقيقة العلم ـ خارج عن ذات إنّيته.

ونكرّر الكلام فنقول : إنّ العقل هو الحقيقة المعروفة عند كلّ عاقل ، وإنّه الذي يعرف به الحسن والقبيح ، والجيّد والرديّ ، والفريضة والسنّة ، كما نبّهت عليه الرواية النبويّة المتقدّم ذكرها : ... حتّى يولد هذا المولود فيبلغ حدّ الرجال أو حدّ النساء ، فإذا كشف ذلك الستر فيقع في قلب هذا الإنسان نور فيفهم به الفريضة والسنّة ، والجيّد والرديّ ، ألا ومثل

٢٨

العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت (١).

أقول : هذا هو الذي يعرفه العقلاء ويسمّونه بالعقل ، وبه يميّزون العاقل عن غيره نوعا ، ويعرف كلّ عاقل أنّه صار واجدا له في كبره بعد أن كان فاقدا له في صغره ، كما نبّهت عليه الرواية المتقدّمة ، ويفقده الإنسان أو يجده ضعيفا عند شدّة الغضب أو الشهوة ، وفي منامه ، فيرى في بعض رؤياه أنّه يصدر منه ما لا يصدر من العاقل ، أو من العاقل الكامل. ويفقده أيضا بعد وجدانه فيصير مجنونا ، ويجده بعد فقدانه فيصير عاقلا ، وفي جميع هذه الأحوال يجد أنّ إنّيته وشخصيّته لم تتغيّر عمّا كانت عليه ، فيتنبّه أنّ العقل ليس من مراتب النفس ومرتبة فعليّة بعد القوّة ، بل هو نور مستقلّ يجده بعد فقدانه ، ويفقده بعد وجدانه متعاقبا.

نعم لا بأس بالتعبير عن وجدان الإنسان لذلك النور بأنّه فعليّة للنفس ، إلاّ أنّها ليست فعليّة حصلت للنفس بالحركة الجوهريّة ، وامتنع تنزّلها عنها إلى مقام يعبّر عنه بالقوّة ، لما عرفت من أنّه يفقده الإنسان بعد وجدانه إيّاه ، فهذه الفعليّة والقوّة عبارة عن وجدان نور العلم وفقدانه من دون درك لحقيقته ، كما نبّه عليه في ذيل الرواية المتقدمة المرويّة عن الاختصاص : قال الصادق عليه‌السلام : خلق الله العقل من أربعة أشياء : من العلم ، والقدرة ، والنور ، والمشيئة بالأمر ، فجعله قائما بالعلم ، دائما في الملكوت. (٢)

وأظنّ أنّ بعض الأعاظم قال في بيان الرواية : إنّ الشيء إذا وجد أوّل درجة من الشعور يقال : إنّه حيّ ، وهذا الشعور من حيث ظهوره ومظهريّته يقال له العلم ، فإذا وجد الحيّ العلم وكماله الآخر ـ وهو القدرة أي القدرة النفسيّة ، والاختيار والحريّة وهو المراد من المشيئة ـ وظهر له حسن الفعل وقبحه الذاتيّان ، المعبّر عنهما بالحسن والقبح الفعليّين ، ووجوب الفعل وحرمته الذاتيّان ، المعبّر عنهما بالحسن والقبح الفاعليّين ـ وهو المراد من النور ـ فإنّه يقال له العاقل. والله العالم.

ولعلّ وجه التعبير عن هذه الدرجة من وجدان العلم ـ بما له من الكمال المذكور ـ

__________________

(١) راجع ص ١٩.

(٢) راجع ص ١٩.

٢٩

بالعقل أنّه إذا وجدتها النفس صار ذلك منشأ لعقالها عن ارتكاب الأفعال التي يرتكبها الجهّال ، كما في النبويّ : إنّ العقل عقال من الجهل ، والنفس مثل أخبث الدوابّ ، فإن لم تعقل حارت (١).

فالعقل ـ كالعلم ـ ظاهر بذاته للعاقل ، ومغاير حقيقته لحقيقة الإنسان العاقل.

كما يشير إلى مغايرته قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا ومثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت.

وقوله عليه‌السلام : إنّ ضوء الروح العقل (٢).

وقوله عليه‌السلام : العقل نور في القلب يفرّق به بين الحقّ والباطل (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : استرشدوا العقل ترشدوا ، ولا تعصوه فتندموا (٤).

ويرشد إلى المغايرة إطلاق الرسول والحجّة عليه ، كما في كلام موسى بن جعفر وعلي بن موسى عليهما‌السلام ، فيكون هو الرسول ، والإنسان هو المرسل إليه.

هذا بعض الكلام في مغايرته للعاقل ، وأمّا مغايرته للمعقولات مطلقا فلما ذكرناه من أنّه ظاهر بذاته ومظهر لغيره ، والمعقولات ليست كذلك. والدليل على ما ذكرنا كلّه نفس العقل المعرّف لنفسه وللعاقل والمعقول.

فمن مجموع ما ذكرنا ظهر أنّ المراد من قول موسى بن جعفر عليهما‌السلام لهشام : يا هشام إنّ الله يقول : ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) (٥) يعنى العقل (٦) ، أنّ القلب هو الذي له العقل ، لا أنّ القلب هو العقل بعينه ، فإنّه ينافي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت ، وغيره من الروايات المتقدّمة.

__________________

(١) تحف العقول ١٥ ، وعنه البحار ١ : ١١٧.

(٢) راجع ص ١٩.

(٣) إرشاد القلوب ١٩٨.

(٤) البحار ١ : ٩٦ ، عن كنز الفوائد.

(٥) ق ٣٧.

(٦) راجع ص ١٥.

٣٠

تنبيهات

١ ـ ممّا ذكرناه من حقيقة العقل تعرف أنّه لا وجه لتخصيص العقل بإدراك الكليّات ، بل من شأنه إدراك الجزئيّات أيضا ، كما هو الظاهر من قوله عليه‌السلام : تعرف به الصادق على الله فتصدّقه ، والكاذب فتكذّبه (١).

٢ ـ مضى في كلمات موسى بن جعفر عليهما‌السلام : إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة (٢) ... أقول : ظاهر أنّ الحجّة الظاهرة إنّما تعرف وتثبت وبالحجّة الباطنة ، كما نبّه عليه الرضا عليه‌السلام في جواب ابن السكيت : تعرف به الصادق على الله فتصدّقه ... ، فيظهر من هذين الخبرين حقيقة ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ... والعقل أصل ديني (٣).

٣ ـ لمّا كان أساس تعليمات الإسلام على التذكير والتذكّر بنور العلم صحّ توصيف القرآن بالنور ، والهدى ، والبصائر ، والبيان ، والتبيان. ولمّا كانت طريقة تعليمه بحسب العادة التذكير والتذكّر بآياته المباركة صحّ توصيف تلك الآيات وتوصيف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الذي جاء بها ـ بالذكر ، والتذكرة ، والذكرى ، والمذكّر.

قال الله تعالى :

( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٤).

( هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٥).

( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا ) (٦).

( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (٧).

__________________

(١) راجع ص ١٤.

(٢) راجع ص ١٥.

(٣) مستدرك الوسائل ١١ : ١٧٣ الباب ٤ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٨ ، عن عوالي اللآلي وأنوار الحقيقة.

(٤) المائدة ١٥ ، ١٦.

(٥) الأعراف ٢٠٣.

(٦) التغابن ٨.

(٧) الإسراء ٩.

٣١

( كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) (١).

( وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ ) (٢).

( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) (٣).

تذكرة

خطاء العاقل لا ينافي عموم حجّيّة العقل ، لأنّه وإن كان عاقلا إلاّ أنّه كثيرا ما يغلب عليه الهوى وسائر الغرائز ، فيعمل أو يحكم على طبقها لا على طبق حكم العقل ، وربما يعمل أو يحكم على طبق الظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئا ، بل على طبق القطع الذي ليس إلاّ حالة نفسانيّة قد تخالف الواقع ، كما يعبّر عنه بالجهل المركّب ، فليس الحكم الناشئ عن إحدى هذه الحالات حكم العقل ، وإن كان صادرا من العاقل.

تنبيه

عموم حجيّة العقل الثابت بحكم الكتاب والسنّة من أحد الأدلّة على أنّ عقل العاقل ـ ولو كان في حال كونه عاقلا ـ خارج عن حقيقة الإنسان الذي من طبعه الخطاء ولو في حال كونه عاقلا ، فتدبّر.

في بيان حقيقة حكم العقل

قد مرّ أنّ حقيقة العقل هي حقيقة العلم والنور الحقيقيّ الكاشف للحقائق ، والفرق إنّما هو في المتعلّق ، بمعنى أنّ متعلّق العلم إن كان هو الحسن والقبح الذاتيّين لماهيّة الأفعال والخصال ـ ولو مع الإجمال في درجتهما ـ يعبّر عنه بالعقل.

والمراد بالذاتيّ ما لا ينفكّ عن الشيء ولا يعلّل بشيء ، ولا يختصّ حسنه أو قبحه

__________________

(١) عبس ١١.

(٢) الأنبياء ٥٠.

(٣) التكوير ٢٧.

٣٢

بزمان دون زمان ، أو عند طائفة دون طائفة ، كحكم العقل بحسن الإحسان وقبح الظلم وسائر محاسن الأخلاق ومساويها ، في الحسن والقبح الفعليّين ، وكحكمه بوجوب الإيمان والتصديق بما ثبت أنّه من الله ومن حججه ، وبوجوب الطاعة والانقياد وحرمة المعصية والتجرّي عند القطع التفصيلي وما يقوم مقامه بالحكم الفعلي الصادر من الله ومن حججه ، وبوجوب الاحتياط أو استحبابه في الشبهات الحكميّة أو الموضوعيّة البدويّة أو المقرونة بالعلم الإجماليّ ، الراجعة إلى الحسن أو القبح الفاعليّ ، وكحكمه بحجيّة الطرق العقلائيّة شرعا أيضا إذا جرى الشارع على طبقها وعمل بها أو لم يردع عنها مع عموم البلوى بها ، كخبر الثقة الذي هو طريق عند العقلاء مع الشرائط المذكورة ، وإلاّ لزم نسبة القبيح إليه ، وغير ذلك مما هو مقرّر في أصول الدين والفقه.

وبالجملة : لا ينفك حكم من الأحكام الشرعيّة : التكليفيّة والوضعيّة ، والقلبيّة والقالبيّة عن حكم من الأحكام العقليّة.

ويعبّر عنه بالحكم لأنّ كشف الحسن والقبح أو الوجوب والحرمة وسائر الوظائف العقليّة باعث ومحرّك للعاقل نحو العمل ، كالحكم الصادر من المولى ، وإلاّ فليس من شأن العقل إلاّ الكشف.

تنبيه

كشف الامور وإن كان بالعلم والعقل ، إلاّ أنّ العادة ـ أي سنّة الله تعالى ـ جرت على حصول ذلك لنا بالأسباب ، ومنها التعليم الذي حقيقته التذكير والهداية إليها بنور العلم والعقل ، كما هو ظاهر الآيات المباركات ، وهو من أهمّ وظائف الأنبياء ، كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بالتعليم أرسلت (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق (٢).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في علّة بعث الأنبياء : ليستأدوهم ميثاق فطرته ،

__________________

(١) منية المريد ٢٦ ، وعنه البحار ١ : ٢٠٦.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٣٣٣ ، وعنه البحار ١٦ : ٢١٠.

٣٣

ويذكّروهم منسيّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ، وليثيروا لهم دفائن العقول (١).

تنبيه في علامات العقل

في الروايات المباركة تعريفات مختلفة أخرى للعقل ، فبعد ملاحظة مجموعها يعرف أنّ جميعها إشارة إلى هذا النور الظاهر بذاته وبآياته لكلّ عاقل ، إلاّ أنّه لمكان امتناع درك حقيقته أشاروا صلوات الله عليهم في بعض الروايات إليه بذكر أحكامه وما يظهر به ، وفي بعضها بذكر أوصاف واجده ، وفي بعضها بذكر أوصاف فاقده ، وفي آخر بذكر ما يترتّب على اتّباعه ، وفي آخر أشاروا إلى حقيقته من بعض الجهات ، وفي بعض إلى جهات أخرى ، وهكذا.

ففي الكافي عن أبي عبد الله صلوات الله عليه ، قال الراوي : قلت له : ما العقل؟ قال : ما عبد به الرحمن ، واكتسب به الجنان ، قال : قلت : فالذي كان في معاوية؟ فقال : تلك النكراء ، تلك الشيطنة ، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل (٢).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قسّم العقل على ثلاثة أجزاء ، فمن كانت فيه كمل عقله ، ومن لم تكن فيه فلا عقل له : حسن المعرفة بالله عزّ وجلّ ، وحسن الطاعة له ، وحسن الصبر على أمره (٣).

وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قيل له : ما العقل؟ فقال : العقل العمل بطاعة الله ، وإنّ العمّال بطاعة الله هم العقلاء (٤).

وروي أنه سئل الحسن بن علي صلوات الله عليهما عن العقل فقال : التجرّع للغصّة ومداهنة الأعداء (٥).

وعن أبي عبد الله صلوات الله عليه قال : يعتبر عقل الرجل في ثلاث : في طول

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة الأولى ، وعنه البحار ١١ : ٦٠.

(٢) الكافي ١ : ١١ ، والبحار ١ : ١١٦ ، عن معاني الأخبار.

(٣) البحار ١ : ١٠٦ ، عن الخصال.

(٤) البحار ١ : ١٣١ ، عن روضة الواعظين.

(٥) البحار ١ : ١٣٠ ، عن المحاسن.

٣٤

لحيته ، وفي نقش خاتمه ، وفي كنيته (١).

وعنه صلوات الله عليه : إذا أردت أن تختبر عقل الرجل في مجلس واحد فحدّثه في خلال حديثك بما لا يكون ، فإن أنكره فهو عاقل ، وإن صدّقه فهو أحمق (٢).

وعنه عليه‌السلام : لا يسلع العاقل من جحر مرّتين (٣).

وعنه عليه‌السلام : أفضل طبائع العقل العبادة ، وأوثق الحديث له العلم ، وأجزل حظوظه الحكمة ، وأفضل ذخائره الحسنات (٤).

وعنه عليه‌السلام : كمال العقل في ثلاث : التواضع لله ، وحسن اليقين ، والصمت إلاّ من خير (٥).

وعنه عليه‌السلام : الجهل في ثلاث : الكبر ، وشدّة المراء ، والجهل بالله ، فأولئك هم الخاسرون (٦).

وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ بمجنون فقال : ما له؟ فقيل : إنّه مجنون ، فقال : بل هو مصاب ، إنّما المجنون من آثر الدنيا على الآخرة. (٧)

وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : العاقل من رفض الباطل (٨).

وعنه صلوات الله عليه : لسان العاقل وراء قلبه ، وقلب الأحمق وراء لسانه (٩).

وروي أنّه قيل له عليه‌السلام : صف لنا العاقل ، فقال : هو الذي يضع الشيء مواضعه ، قيل له فصف لنا الجاهل ، فقال : قد فعلت (١٠).

__________________

(١) البحار ١ : ١٠٧ ، عن الخصال.

(٢) البحار ١ : ١٣١ ، عن الاختصاص.

(٣) البحار ١ : ١٣٢ ، عن الاختصاص.

(٤) البحار ١ : ١٣١ ، عن الاختصاص.

(٥) البحار ١ : ١٣١ ، عن الاختصاص.

(٦) البحار ١ : ١٣١ ، عن الاختصاص.

(٧) البحار ١ : ١٣١ ، عن روضة الواعظين.

(٨) البحار ١ : ١٥٩ ، عن الدرة الباهرة.

(٩) نهج البلاغة : الحكم : ٤٠ ، وعنه البحار ١ : ١٥٩.

(١٠) نهج البلاغة : الحكم : ٢٣٥ ، وعنه البحار ١ : ١٦٠.

٣٥

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : يستدلّ بكتاب الرجل على عقله وموضع بصيرته ، وبرسوله على فهمه وفطنته (١).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : صفة العاقل أن يحلم عمّن جهل عليه ، ويتجاوز عمّن ظلمه ، ويتواضع لمن هو دونه ، ويسابق من فوقه في طلب البرّ ، وإذا أراد أن يتكلّم تدبّر ، فإن كان خيرا تكلّم فغنم ، وإن كان شرّا سكت فسلم ، وإن عرضت له فتنة استعصم بالله وأمسك يده ولسانه ، وإذا رأى فضيلة انتهز بها ، لا يفارقه الحياء ولا يبدو منه الحرص ، فتلك عشر خصال يعرف بها العاقل. وصفة الجاهل أن يظلم من خالطه ، ويتعدى على من هو دونه ... ، إلى آخر الرواية (٢).

وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ولا غنى كالعقل ، ولا فقر كالجهل (٣).

وعنه صلوات الله عليه : ذهاب العقل بين الهوى والشهوة (٤).

وعنه صلوات الله عليه : من لم يملك شهوته لم يملك عقله (٥).

وعنه صلوات الله عليه : ما العاقل إلاّ من عقل عن الله وعمل للدار الآخرة (٦).

وفي مجمع البحرين : وفي الحديث : إذا تمّ العقل نقص الكلام ... وفيه : نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل ... وفيه : ليس بين الإيمان وبين الكفر إلا قلّة العقل ، وذلك أنّ العبد يرفع رغبته إلى مخلوق ، فلو أخلص نيته لله لأتاه الذي يريد في أسرع من ذلك. وفيه : العقل غطاء ستير ... ما كسب الإنسان أفضل من عقل يهديه إلى هدى ... وفيه : لا نجاة إلاّ بالطاعة ، والطاعة بالعلم ، والتعلّم بالعقل يعتقل (٧) أي يفهم ويدرك ، وعقل عن الله أي عرف عنه ... ومنه : من عقل عن الله اعتزل عن أهل الدنيا. وفيه : اعقلوا الخبر إذا

__________________

(١) البحار ١ : ١٣٠ ، عن المحاسن.

(٢) تحف العقول ٢٩ ، وعنه البحار ١ : ١٢٩.

(٣) نهج البلاغة : الحكم ٥٤ ، وعنه البحار ١ : ٩٥.

(٤) غرر الحكم.

(٥) غرر الحكم.

(٦) البحار ٧٧ : ٢٨٩ ، عن تحف العقول.

(٧) في الكافي ١ : ١٧ : والتعلم بالعقل يعتقد.

٣٦

سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية ، فإنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل (١).

تجرّد نور العلم وعدم تجرّد النفس

بالتأمّل في ما ذكرنا يظهر في الجملة أنّ المجرّد عن المادّة ولواحقها في المخلوقات هو نور العلم والعقل بما لهما من الكمالات النوريّة ، بلا تركيب وتجزّؤ في ذاتهما ، لا النفس الإنسانيّة المعبّر عنها بالروح في قوله عليه‌السلام : إنّ الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام (٢). فإنّ الروح بهذا المعنى على ما يظهر من الروايات جزء من المادّة اللطيفة التي خلق منها كلّ شيء من العلّيين والسجّين والدنيا والآخرة ، والجنة والنار ، وما فيهما ، وسمّيت تلك المادّة في الروايات المباركة بالماء.

والظاهر من تلك الروايات أنّ تلك المادّة فاقدة بذاتها للحياة والكمالات النوريّة ، وكانت حياتها وحياة كلّ شيء من أجزائها من الأرواح البشريّة والملائكة والجانّ وغيرها وكمالها لوجدانها تلك الأنوار واستضاءتها بها ، وموتها بفقدانها إيّاها ، كما سيجيء توضيحه والدليل عليه إن شاء الله تعالى ، فإنّ وجدان الكمال وإن كان كمالا إلاّ أنّه فرق واضح بين صيرورة النفس بذاتها وجوهريّتها عين ذلك الكمال ونفسه ، وبين بقائها مغايرة له وحاملة إيّاه بلا تداخل واتّحاد بينهما كتداخل شيء في شيء ، كما يشهد به قوله تعالى : ( وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ) (٣). بناء على كون المراد من العرش هو العلم ، والعلم أحد معاني العرش كما في الرواية (٤).

قال العلاّمة المجلسيّ رحمه‌الله في البحار : لا يخفى عليك أنّه لم يقم دليل عقليّ على التجرّد ولا على الماديّة ، وظواهر الآيات والأخبار تدلّ على تجسّم الروح والنفس ، وإن كان بعضها قابلا للتأويل ، وما استدلّوا به على التجرّد لا يدلّ دلالة صريحة عليه ، وإن كان في بعضها إيماء إليه ، فما يحكم به بعضهم من تكفير القائل بالتجرّد إفراط وتحكّم ،

__________________

(١) مجمع البحرين ٥ : ٤٢٥.

(٢) البحار ٦١ : ١٣١ ، وسيأتي في ص ١١١ مصادر كثيرة لهذا الحديث.

(٣) هود ٧.

(٤) راجع ص ٢٥ ، ٢٦.

٣٧

كيف وقد قال به جماعة من علماء الإماميّة ونحاريرهم (١). انتهى.

أقول : الكلام المذكور في غاية المتانة ، إلاّ أنّ لنا أدلّة على عدم التجرّد :

الأوّل : أنّنا نجد ذاتنا وإنّيّتنا أنّها غير خارجة عن المكان الذي فيه أبداننا ، وأنّنا في هذا المكان ولسنا في مكان آخر ، والمكانيّ ليس بمجرّد.

الثاني : نجد تحرّكنا في المكان ومجيئنا وذهابنا ، والتحرّك في المكان من لوازم المادّة.

الثالث : أنّا نجد ذاتنا محدودة بحسب الكمّ ، لوجداننا إيّاها أنّها أصغر ممّن لا يحويه مكان كذا ، والمجرد آب عن المعروضيّة لعرض الكمّ.

الرابع : أنّا نجد ذاتنا محلاّ لمثل الحزن والسرور ، والخوف والأمن ، والرغبة والرهبة وغير ذلك من الأحداث والأعراض ، والمجرّد آب عن جميع ذلك.

الخامس : أنّ ذاتنا يعرض عليها الكمال والنقص ، فتارة تكمل بالعلم ، وأخرى تنقص بالجهل ، والتغيّر بذلك لا يلائم التجرّد.

السادس : أنّ الإنسان يجد أحيانا نفسه وإنّيته خارجة عن البدن ، تجيء وتذهب وتعرض عليه العوارض ، وقد حصل ذلك لبعض الأعاظم اختيارا ، ولبعض قهرا ، ويحصل ذلك لكل أحد عند منام البدن ، وكونه ملقى بلا شعور ولا حركة ، وروحه ونفسه ترى حينئذ من أنواع الرؤيا ويعرض عليها ما يعرض من السرور والحزن ، والأمن والخوف ، وأنواع اللذّات وأضدادها.

السابع : الأدلّة النقليّة من الآيات والروايات المباركة ، كما ستأتي إن شاء الله تعالى.

إلى هنا نختم الكلام في بيان إجماليّ عن حقيقة العلم وحجّيته ، يشهد به الوجدان ، وتؤيّده بل تشهد به الكلمات الواصلة من مجاري الوحي. وكذا في حقيقة العقل. وفيهما مباحث جليلة لا مجال فعلا للورود فيها ، وكذا في النفس.

__________________

(١) البحار ٦١ : ١٠٤.

٣٨

معرفة النفس ، ومعرفة الله تبارك وتعالى

إذا عرفت ما بيّنّاه لك من أوّل الرسالة إلى هنا فإنّك تصير في الجملة عارفا بنفسك ، وبأنّها كسائر الحقائق المبدعة المحسوسة بالحواسّ الظاهرة والباطنة ، حقيقة ميّتة لا شعور لها بنفسها لنفسها فضلا عن غيرها ، يفاض عليها نور العلم والفهم والقدرة وغيرها من الكمالات لا بنحو فيضان شيء من شيء ، كنور الشمس من الشمس ، والحرارة من النار ، ولا بنحو تطوّر الماء بالزبد والبخار ، والأمواج والسواقي والأنهار ، بل بإيجاد صفة يعبّر عنها بالوجدان ، في القابل لتلك الصفة الذي عبّر عنه في الروايات بالحامل ، بلا تغيّر في ذات المفيض القدّوس الذي ليس كمثله شيء. فسبحان الله ربّ العرش عمّا يصفون.

وستعرف إن شاء الله ـ إذا عرفت ربّك بحقيقة المعرفة ـ أنّك كسائر الأشياء شيء بالغير الذي هو منشئ الشيء لا من شيء ، وقيّوم ذاته لا كقيّوميّة العلّة لمعلولها المتولّد منها ، بل قيّوميّة المبدع لما أبدعه لا من شيء ، قيّوميّة لا غنى عنها أقلّ من آن.

فما يكون عنوان ذاته شيئا بالغير قائما به ـ أي لا قوام له إلاّ به ـ مباين ذاتا لخالقه الذي هو شيء بحقيقة الشيئيّة قائم بذاته.

إذا عرفت نفسك بذلك استعددت لأن تعرف ربّك بعض المعرفة ، فقد روي : من عرف نفسه فقد عرف ربّه (١). أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه (٢). وروي في معرفة النفس أنّ فيها معرفة الربّ (٣). وبه استعددت أيضا لفهم ما ورد عنهم صلوات الله عليهم في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

تنبيه

في أنّ : أشرف المعارف معرفته تعالى ، وفي لزوم التمسّك بالقرآن وحملة علومه :

بعد ما عرفت أنّ الكاشف والحجّة الذاتيّة هو العلم والعقل نقول :

__________________

(١) غرر الحكم ، البحار ٢ : ٣٢ ، مصابيح الأنوار ١ : ٢٠٤.

(٢) روضة الواعظين ٢٠.

(٣) مصباح الشريعة ، الباب ٥.

٣٩

إنّ أشرف الحقائق وأعظمها وأجلّها الذي ينبغي للعاقل بل يجب بحكم العقل معرفته هو خالق العالم وصانعه ومبدع الحقائق ومنشئها وربّها ورازقها ونورها ومفيض العلم والعقل وسائر الكمالات عليها ، كما هو ظاهر.

فمعرفته تعالى بما له من القدس والعظمة ، ومعرفة طريق المعرفة ، ومعرفة أنّ نصيب العقل ( نصيب العاقل من عقله ) من معرفته تعالى ما هو ، من أشرف المعارف والعلوم.

كما ورد عن الصادق عليه‌السلام : ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة (١).

وفي رواية أخرى : إنّ أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الربّ والإقرار له بالربوبيّة (٢).

وفي صدر تلك الرواية : ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمه ثمّ لا يعرف الله حقّ معرفته.

وعنهم عليهم‌السلام : بعضكم أكثر صلاة من بعض ، وبعضكم أكثر حجّا من بعض ، وبعضكم أكثر صدقة من بعض ، وبعضكم أكثر صياما من بعض ، وأفضلكم أفضلكم معرفة (٣).

وعن محمّد بن سماعة ، قال : سأل بعض أصحابنا الصادق عليه‌السلام فقال له : أخبرني أيّ الأعمال أفضل؟ قال : توحيدك لربّك ، قال : فما أعظم الذنوب؟ قال : تشبيهك لخالقك (٤).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضلكم إيمانا أفضلكم معرفة (٥).

وعن فقه الرضا عليه‌السلام : إنّ أوّل ما افترض الله على عباده وأوجب على خلقه معرفة الوحدانيّة ، قال الله تبارك وتعالى : و ( ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (٦). ، يقول : ما عرفوا الله حقّ معرفته (٧).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٦٤ ، البحار ٨٢ : ٢٢٥.

(٢) البحار ٤ : ٥٥ ، عن كفاية الأثر.

(٣) البحار ٣ : ١٤ ، عن كتاب صفات الشيعة.

(٤) البحار ٣ : ٢٨٧ ، عن أمالي الشيخ.

(٥) البحار ٣ : ١٤ ، عن جامع الأخبار.

(٦) الأنعام ٩١.

(٧) فقه الرضا عليه‌السلام ٦٥ ، وعنه البحار ٣ : ١٣.

٤٠