تنبيهات حول المبدأ والمعاد

الميرزا حسنعلي مرواريد

تنبيهات حول المبدأ والمعاد

المؤلف:

الميرزا حسنعلي مرواريد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: العتبة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 964-444-083-8
الصفحات: ٢٧٣

الامتزاج والمسحة (١).

التنبيه السادس : أخذ الميثاق في عالم الذرّ

بعد أن خلق الله تعالى الأبدان الذرّية المتعلّقة بالأرواح المخلوقة قبلها فلا يبعد أن يكون حياة كلّ بدن بسبب تعلّق الروح الواجدة لنور الحياة والعلم به ، وموته بانفصال الروح عنه ، كما يمكن أن يكون حياته بوجدانه مستقلا النور المذكور (٢). وعلى هذا الاحتمال تكون حياة الأبدان نظير حياة الأرواح المخلوقة قبلها فإنّها أيضا بالنور.

وبالجملة بعد صيرورة الأبدان الذرّيّة حيّة عالمة صالحة للتكليف المناسب لها ، وبعد إسكانها في فضاء الأرض عرّف الله تعالى إيّاهم ـ ثانيا أو ثالثا ـ نفسه ونبيّه وحججه ، وأخذ من جميعهم الإقرار بربوبيته ورسالة رسوله وولاية أوليائه المنتجبين صلوات الله عليهم. والظاهر أنّ آدم عليه‌السلام وحوّاء كانا من جملتهم مع البدن الذرّيّ قبل خلقة الجسد المعهود.

ولعلّ ذلك العالم هو المراد من الذرّ الأوّل في رواية عليّ بن معمّر عن أبيه ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) (٣) ، قال : إنّ الله تبارك وتعالى لمّا ذرأ الخلق في الذرّ الأوّل فأقامهم صفوفا وبعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فآمن به قوم وأنكره قوم فقال الله : هذا نذير من النذر الاولى ، يعني به محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث دعاهم إلى الله عزّ وجلّ في الذرّ الأوّل (٤).

التنبيه السابع : امتحان الناس في عالم الذرّ

يظهر من بعض الروايات أنّ الله ابتلى الخلق في بدء الخلقة قبل ابتلائهم في هذه الدنيا ، بأن أجّج نارا فأمرهم بدخولها ، فدخل فيها قوم فصارت عليهم بردا وسلاما ، ولم

__________________

(١) البحار ٥ : ٢٤٢ ، ٢٤٧.

(٢) وقد أشرنا سابقا إلى ما يدل على شهادة الجمادات ونطقها الدالة على إمكان إفاضة نور العلم عليها ، فراجع التنبيه الثاني.

(٣) النجم ٥٦.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٤٠ ، وعنه البحار ٥ : ٢٣٤.

٢٢١

يدخلها قوم فرتّب الله تعالى على تلك الطاعة والعصيان آثارا في طينتهم وأخلاقهم توجب التوفيق والخذلان وشدّة المحنة في دار الدنيا.

ففي رواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : لو علم الناس كيف كان ابتداء الخلق لما اختلف اثنان ، فقال : إن الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخلق قال : كن ماء عذبا أخلق منك جنّتي وأهل طاعتي ، وقال : كن ماء ملحا أجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي. ثمّ امتزجا ، فمن ذلك صار يلد المؤمن كافرا ، والكافر مؤمنا. ثمّ أخذ طين آدم من أديم الأرض ، فعركه عركا شديدا ، فإذا هم كالذرّ يدبّون ، فقال لأصحاب اليمين : إلى الجنة بسلام ، وقال لأصحاب النار : إلى النار ، ولا أبالي. ثم أمر نارا فأسعرت ، فقال لأصحاب الشمال : ادخلوها ، فهابوها. وقال لأصحاب اليمين : ادخلوها ، فدخلوها ، فقال : كوني بردا وسلاما. فقال أصحاب الشمال : يا ربّ أقلنا ، فقال : قد أقلتكم فادخلوها ، فذهبوا فهابوها ، فثمّ ثبتت الطاعة والمعصية ، فلا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء (١).

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم بسنده عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر عن آبائه عليهم‌السلام ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، قال ـ في خبر طويل ـ : قال الله تبارك وتعالى للملائكة : ( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) (٢). قال : وكان ذلك من الله تقدمة في آدم قبل أن يخلقه واحتجاجا منه عليهم ، قال : فاغترف ربّنا تبارك وتعالى غرفة بيمينه من الماء العذب الفرات ـ وكلتا يديه يمين ـ فصلصلها في كفّه فجمدت ، فقال : منك أخلق النبيّين والمرسلين ، وعبادي الصالحين ، والأئمّة المهتدين ، والدعاة إلى الجنّة وأتباعهم إلى يوم الدين ، ولا أبالي ولا اسأل عمّا أفعل وهم يسألون. ثمّ اغترف غرفة اخرى من الماء المالح الاجاج ، فصلصلها في كفّه فجمدت ، ثمّ قال لها : منك أخلق الجبّارين والفراعنة والعتاة وإخوان الشياطين والدعاة إلى النار إلى يوم القيامة وأشياعهم ، ولا أبالي ولا أسأل

__________________

(١) البحار ٥ : ٢٥٢ ، عن المحاسن. وسبق بيان للحديث في ص ١٢٢.

(٢) الحجر ٢٨ ، ٢٩.

٢٢٢

عما أفعل وهم يسألون. قال : وشرط في ذلك البداء ، ولم يشترط في أصحاب اليمين. ثمّ خلط الماءين جميعا في كفه ، فصلصلهما ، ثمّ كفأهما قدّام عرشه وهما سلالة من طين ... الخبر (١). ورواه الصدوق رحمه‌الله في العلل بسند آخر عن جابر مثله (٢).

وفي تفسير العيّاشيّ عن زرارة : أنّ رجلا سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (٣). فقال وأبوه يسمع : حدّثني أبي أنّ الله تعالى قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم ، فصبّ عليها الماء العذب الفرات ، فتركها أربعين صباحا ، ثمّ صبّ عليها الماء المالح الأجاج ، فتركها أربعين صباحا ، فلما اختمرت الطينة أخذها تبارك وتعالى فعركها عركا شديدا ، ثمّ هكذا ـ حكى بسط كفيه ـ فخرجوا كالذرّ من يمينه وشماله ، فأمرهم جميعا أن يقعوا في النار ، فدخل أصحاب اليمين ، فصارت عليهم بردا وسلاما ، وأبي أصحاب الشمال أن يدخلوها (٤).

وفي العلل بسنده عن ابن أذينة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : كنّا عنده فذكرنا رجلا من أصحابنا ، فقلنا فيه حدّة ، فقال : من علامة المؤمن أن تكون فيه حدّة ، قال : فقلنا له : إنّ عامّة أصحابنا فيهم حدّة ، فقال : إن الله تبارك وتعالى في وقت ما ذرأهم أمر أصحاب اليمين ـ وأنتم هم ـ أن يدخلوا النار ، فدخلوها ، فأصابهم وهج ، فالحدّة من ذلك الوهج. وأمر أصحاب الشمال ـ وهم مخالفوهم ـ أن يدخلوا النار فلم يفعلوا ، فمن ثمّ لهم سمت ولهم وقار (٥).

والروايات التي تفيد المقصود لا تنحصر فيما أوردناه ، فراجع البحار ج ٣ الباب ١١ : الدين الحنيف ، والفطرة ، وصبغة الله ، والتعريف في الميثاق. وج ٥ الباب ١٠ : الطينة والميثاق. وج ٦١ الباب ٤٣ في خلق الأرواح قل الأجساد.

__________________

(١) تفسير القمّيّ ١ : ٣٦ ، البحار ٥ : ٢٣٧.

(٢) علل الشرائع ١ : ١٠٤.

(٣) الأعراف : ١٧٢ ، وفي تعليقة التفسير : هذه إحدى القراءات في الآية ، والقراءة المشهورة : ذرّيتهم ، كما في رواية البحار عن تفسير العيّاشيّ.

(٤) تفسير العيّاشيّ ١ : ٣٩ ، البحار ٥ : ٢٥٧ ، ورواه بتفاوت يسير في تفسير البرهان ٢ : ٤٦ عن الكافي بسند صحيح عن زرارة أنّ رجلا سأل أبا جعفر عليه‌السلام.

(٥) علل الشرائع ٨٥ ، البحار ٥ : ٢٤١.

٢٢٣

وكيفيّة السؤال والجواب في عالم الذرّ والأرواح ، وكذا كيفيّة تأثير النار في الطبائع غير معلومة لنا ، لكن أصول المطلب غير قابلة للإنكار ، ودلالة الروايات على سبق خلقة الأرواح زمانا ووقوع التكليف من الله تعالى وإطاعة بعض المكلّفين وعصيان آخرين في الأزمنة السالفة واضحة جدا ، لا سيّما لمن لاحظ مجموع ما ورد عنهم صلوات الله عليهم في مبدأ الخلقة وكيفيّتها.

التنبيه الثامن : موقف آدم عليه‌السلام في عالم الذرّ

يمكن القول بمقتضى جمع الروايات : إنّ الله تعالى بعد ما أخذ العهد والميثاق من الأرواح التي أحياها بنور العلم ، وبعد ما أخذ العهد أيضا من الأبدان الذريّة ذوات الأرواح الواجدة لنور العلم ، خلق بعد ذلك جسد آدم عليه‌السلام من الطين على ما وصف في الروايات (١). ولا يبعد كون هذا الجسد مشتملا على البدن الذرّيّ المخلوق قبل ذلك ـ كما أنّ أبداننا كذلك ـ فجعل الطين الذي هو مجموع الأبدان الذرّيّة في ظهر آدم عند خلقه بما له من الكبر ، على ما في بعض الروايات (٢). ثمّ أحياه بنفخ الروح المخلوقة من قبل ، الواجدة لنور الحياة والعلم ، ثمّ أمر الملائكة بالسجود له. وبعد ما أكل من الشجرة وأخرج من الجنة وهبط إلى الأرض ، أخرج الله تعالى ذرّيّته من ظهره بواد بين مكّة وطائف يسمّى بالرّوحاء ، وأخذ منهم العهد والميثاق ، كما أخذه قبل ذلك. وهو الذرّ المتأخّر بالنسبة إلى الذرّ المذكور في رواية معمّر المتقدّمة (٣).

ففي البحار عن تفسير العيّاشيّ عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : إنّ الله تبارك وتعالى هبط إلى الأرض (٤) في ظلل من الملائكة على آدم ، وهو بواد يقال له الروحاء ، وهو واد بين الطائف ومكّة ، قال : فمسح على ظهر آدم ، ثمّ صرخ بذرّيّته وهم ذرّ ، قال : فخرجوا كما يخرج النحل من كورها ، فاجتمعوا على شفير الوادي ، ... فقال الله :

__________________

(١) البحار ١١ : ٩٧.

(٢) البحار ١١ : ٩٧.

(٣) في آخر التنبيه السادس.

(٤) أي نزل وحيه وأمره ، راجع ص ١١٦ ما قاله العلاّمة المجلسيّ.

٢٢٤

يا آدم! هؤلاء ذرّيتك أخرجتهم من ظهرك لآخذ عليهم الميثاق لي بالربوبيّة ، ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة ، كما أخذه عليهم في السماء. قال آدم : كيف وسعتهم ظهري؟ قال الله يا آدم! بلطف صنيعي ونافذ قدرتي. قال آدم : يا ربّ! فما تريد منهم في الميثاق؟ قال الله : أن لا يشركوا بي شيئا ، قال آدم : فمن أطاعك منهم يا رب! فما جزاؤه؟ قال : أسكنه جنّتي ، قال آدم : فمن عصاك فما جزاؤه؟ قال : أسكنه ناري. قال آدم : يا ربّ لقد عدلت فيهم ، وليعصينّك أكثر هم إن لم تعصمهم. (١).

وعن العلل مسندا عن هشام بن سالم ، عن حبيب السجستاني ، قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إن الله عزّ وجلّ لما أخرج ذرّية آدم عليه‌السلام من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية وبالنبوّة لكل نبيّ ، كان أول من أخذ عليهم الميثاق ( بالنبوّة ) (٢) نبوّة محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . ثمّ قال الله جلّ جلاله لآدم عليه‌السلام : انظر ما ذا ترى؟ قال : فنظر آدم إلى ذرّيته وهم ذرّ وقد ملئوا السماء ، فقال آدم : يا رب ما أكثر ذرّيتي! ولأمر ما خلقتهم؟ فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم؟ قال الله عزّ وجلّ : يعبدونني ولا يشركون بي شيئا ، ويؤمنون برسلي ويتّبعونهم ... الخبر (٣).

التنبيه التاسع : دلالة الآيات والأحاديث على عدم تجرّد الروح

قد مرّ جملة ممّا يدلّ من الآيات والروايات المباركات على عدم تجرّد الروح. ويدلّ عليه زائدا على ما سبق قوله تعالى : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ... ) الآية (٤).

وقوله تعالى : ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) (٥).

وعن الكافي مسندا عن عمرو بن أبي المقدام عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام قال :

__________________

(١) البحار ٥ : ٢٥٩.

(٢) موجود في البحار وليس في العلل.

(٣) علل الشرائع ١ : ١٠ ، البحار ٥ : ٢٢٦.

(٤) الزمر ٤٢.

(٥) النحل ٧٠.

٢٢٥

والله ما من عبد من شيعتنا ينام إلاّ أصعد الله عزّ وجلّ روحه إلى السماء ، فيبارك عليها ، فإن كان قد أتى عليها أجلها جعلها في كنوز رحمته ، وفي رياض جنّته ، وفي ظلّ عرشه. وإن كان أجلها متأخّرا بعث بها مع أمنة من الملائكة ليردّوها إلى الجسد الذي خرجت منه لتسكن فيه ... الحديث (١).

وعن مجالس الصدوق بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلى السماء ، فما رأت الروح في السماء فهو الحقّ ، وما رأت في الهواء فهو الأضغاث ... الحديث (٢).

وفي رواية : أنّ عمر بن الخطّاب قال : العجب من رؤيا الرجل أنّه يبيت فيرى الشيء الذي لم يخطر له على بال ، فيكون رؤياه كأخذ باليد ، ويرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئا! فقال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله يقول : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ، فالله يتوفّى الأنفس كلّها ، فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقّتها الشياطين في الهواء ، فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل ، فكذبت فيها ، فعجب عمر من قوله (٣).

وفي المناقب : ممّا أجاب الرضا عليه‌السلام بحضرة المأمون صباح بن نصر الهندي وعمران الصابي عن مسائلهما ، قال عمران : العين نور مركّبة أم الروح تبصر الأشياء من منظرها؟ قال عليه‌السلام : العين شحمة وهو البياض والسواد ، والنظر للروح ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ : الروح مسكنها في الدماغ ، وشعاعها منبثّ في الجسد ، بمنزلة الشمس : دارتها في السماء ، وشعاعها منبسط على الأرض ... الخبر (٤).

وعن العلل والخصال مسندا عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ،

__________________

(١) البحار ٦١ : ٥٤ ، عن الكافي وأمالي الصدوق.

(٢) البحار ٦١ : ٣١.

(٣) البحار ٦١ : ١٩٣ ، عن الدر المنثور للسيوطيّ.

(٤) المناقب ٤ : ٣٥٣ ، البحار ٦١ : ٢٥٠.

٢٢٦

عن آبائه عليهم‌السلام ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، قال : لا ينام ( الرجل ) (١) وهو جنب ، ولا ينام إلاّ على طهور ، فإن لم يجد الماء فليتيمّم بالصعيد ، فإنّ روح المؤمن ترفع (٢) إلى الله تبارك وتعالى ، فيقبلها ويبارك عليها ، فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز (٣) رحمته ، وإن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته ، فيردّونها في جسدها (٤).

وفي البحار عن معاني الأخبار بسنده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال ـ في رواية ـ : إنّ الروح متحرّك كالريح ، وإنما سمي روحا لأنّه اشتقّ اسمه من الريح ، وإنّما أخرجه على لفظ الريح لأنّ الروح مجانس للريح ... الخبر (٥) ، ورواه أيضا عن الكافي (٦) ، والاحتجاج (٧).

وعن الاحتجاج عن هشام بن الحكم عن الصادق عليه‌السلام قال ، في جواب مسائله (٨) :

والروح جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا ـ إلى أن قال ـ : أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال عليه‌السلام : بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور ، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى ، فلا حسّ ولا محسوس ، ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها ... الخبر (٩).

وعن الكافي بسنده عن أبي بصير ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا حيل بينه وبين الكلام أتاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن شاء الله ، فجلس رسول الله عن يمينه ، والآخر عن يساره ، فيقول له رسول الله : أمّا ما كنت ترجو فهو ذا أمامك ، وأمّا ما كنت تخاف منه فقد

__________________

(١) في العلل والخصال : المسلم.

(٢) في العلل : تروح.

(٣) في العلل : مكنون.

(٤) البحار ٦١ : ٣١ ، عن العلل والخصال.

(٥) معاني الأخبار : ١٧.

(٦) الكافي ١ : ١٣٣.

(٧) الاحتجاج ٢ : ٥٧ ، البحار ٦١ : ٢٨.

(٨) البحار ٦١ : ٣٣ ، وفي المصدر : من سؤال الزنديق الذي أتى أبا عبد الله عليه‌السلام ... ، وهشام بن الحكم غير مذكور فيه ، كما في البحار ٦ : ٢١٦.

(٩) الاحتجاج ٢ : ٩٦.

٢٢٧

أمنت منه. ثمّ يفتح باب إلى الجنة ، فيقول : هذا منزلك من الجنّة ، فإن شئت رددناك إلى الدنيا ولك فيها ذهب وفضة. فيقول : لا حاجة لي في الدنيا ، فعند ذلك يبيضّ لونه ، ويرشح جبينه ، وتقلّص شفتاه ، وتنتشر منخراه ، وتدمع عينه اليسرى ، فأيّ هذه العلامات رأيت فاكتف بها. فإذا خرجت النفس من الجسد فيعرض عليها كما عرض عليه وهي في الجسد ، فتختار الآخرة ، فتغسله فيمن يغسله ، وتقلبه فيمن يقلبه. فإذا أدرج في أكفانه ووضع على سريره خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قدما ، وتلقّاه أرواح المؤمنين يسلّمون عليه ويبشّرونه بما أعدّ الله له جلّ ثناؤه من النعيم. فإذا وضع في قبره ردّ إليه الروح إلى وركيه ، ثمّ يسأل عمّا يعلم ، فإذا جاء بما يعلم فتح له ذلك الباب الذي أراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيدخل عليه من نورها ( وضوئها ) وبردها وطيب ريحها ... (١).

وعن الكافي بإسناده عن حبّة العرنيّ ، قال : خرجت مع أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الظهر ، فوقف بوادي السلام كأنّه مخاطب لأقوام ، إلى أن قال : ثم طرحت الرداء ليجلس عليه فقال لي : يا حبّة ، إن هو إلاّ محادثة مؤمن أو مؤانسته. قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، وإنّهم لكذلك؟ قال : نعم ، ولو كشف لك لرأيتهم حلقا حلقا محتبين (٢) يتحادثون. فقلت : أجسام أم أرواح؟ فقال : أرواح ... الخبر (٣).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تعارف وتساءل ... الخبر (٤).

وعن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال في رواية : فإذا قبضه الله عزّ وجلّ صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا (٥).

وعن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : جعلت فداك ، يروون أنّ

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٢٩ ، البحار ٦ : ١٩٦.

(٢) احتبى بالثوب : اشتمل ، أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها.

(٣) الكافي ٣ : ٢٤٣ ، البحار ٦١ : ٥١.

(٤) الكافي ٣ : ٢٤٤ ، البحار ٦١ : ٥٠.

(٥) الكافي ٣ : ٢٤٥ ، البحار ٦١ : ٥٠.

٢٢٨

أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش! فقال : لا ، المؤمن أكرم على الله عزّ وجلّ من أن يجعله في حوصلة طير ، ولكن في أبدان كأبدانهم (١).

وعن قرب الإسناد بسنده عن مسعدة بن زياد ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : إنّ روح آدم لما أمرت أن تدخل فيه كرهته ، فأمرها أن تدخل كرها وتخرج كرها (٢).

وفي بصائر الدرجات والكافي وعلل الشرائع روايات متعددة تدلّ على أنّ طينة رسول الله والأئمة صلوات الله عليهم خلقت من عليّين ، وقلوبهم من طينة فوق ذلك ، وخلقت قلوب شيعتهم مما خلق منه أبدانهم (٣).

التنبيه العاشر : استقلال الروح

قد ذكرنا سابقا أدلّة سبعة على عدم تجرّد النفس بالمعنى المصطلح ، وهو التجرّد عن المادة ولواحقها ، فراجع (٤).

والغرض هنا بيان مطلب آخر يستفاد من الدليل السادس ، وهو : وجدان الإنسان أحيانا نفسه وإنيّته يجيء ويذهب خارجا عن البدن ، ويعرضه العوارض ولواحق المادّة.

وقد حصل ذلك لبعض الأعاظم اختيارا ولبعض قهرا ، ويحصل ذلك لكلّ أحد عند منام البدن وكونه ملقى بلا حركة ولا شعور. والروح ـ وهي النفس ـ ترى ما ترى من أنواع الرؤيا ويعرضها السرور والحزن والخوف وأنواع اللذات. والدليل السابع : الأدلة النقليّة من الآيات والروايات المباركات ، وقد مرّ ذكر جملة منها.

فإنّه يستفاد منهما ـ مضافا إلى عدم تجرّد النفس بالمعنى المصطلح ـ تجرّدها عن البدن ، بمعنى أنّها غير البدن وغير أجزاء البدن ، بل هي أمر متشخّص مستقلّ له الحركة والذهاب والإياب يدخل في البدن ويخرج منه ، نظير دخول النار أو النور المحسوس في

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٤٤ ، البحار ٦١ : ٥٠.

(٢) البحار ٦١ : ٣٠.

(٣) بصائر الدرجات : ١٤ ، ١٩ ، الكافي ٢ : ٢ ، علل الشرائع ١ : ١٠٤ ، وراجع البحار ٥ : ٢٢٥.

(٤) ص ٣٨.

٢٢٩

الأجسام. وكما أنّ حياة البدن ليست بذاته بل بولوج الروح والنفس فيه ، وموته بخروج الروح عنه ، كذلك حياة الروح ليست بذاتها ، بل بوجدانها نور العلم الذي هو حقيقة الحياة ، وموتها بسلب النور عنها ، أي بفقدانها إيّاه. وإن كان ذلك النور محيطا بها.

التنبيه الحادي عشر : أدلّة القائلين بتجرّد النفس ، والجواب عنها

استدلوا لتجرّد النفس بأمور :

منها : أنّ النفس تدرك وتعقل الصور العقليّة المشتركة بين كثيرين ، وهي الكلّيات الصادق كلّ منها على أفراد كثيرة. والكلّي ليس له مقدار معيّن ، ولا وضع معيّن ، ولا أين معيّن ، وإلاّ لم يكن صادقا على أفراد مختلفة المقدار والوضع والأين ، فهو مجرّد عن جميعها. وحيث إنّ إدراك النفس إيّاها قيامها بها فتجرّدها مستلزم لتجرّد محلّها ، وإلاّ لزم أن يكون للكلّي بتبع النفس مقدار معيّن ، ووضع معيّن ، وأين معيّن ، وما هو كذلك لا يكون مشتركا صادقا على كثيرين ، وهو خلف.

وأجيب ـ على تقدير تسليم تجرّد الكلّي لإمكان دعوى أنّ الكلّي ليس إلاّ الجزئيّ مع قطع النظر عن مشخّصاته ـ بإمكان منع كون علم النفس بالشيء عبارة عن قيام المعلوم بها قياما حلوليّا ، كي يلزم من تجرّده تجرّدها ، بل هو قيام صدوري بالنور المجرّد الخارج عن النفس ، والنفس تدرك ذاتها بذلك النور ، فلا يلزم من تجرّده تجرّدها.

ومنها : أنّ النفس تقدر على الأفعال غير المتناهية ، فإنّ إدراك الكلي إدراك لأفعال غير متناهية ، والإدراك هو فعل النفس ، والقوى الجسمانية وغير المجرد متناهي التأثير.

وأجيب ـ على تقدير تسليم استلزام القدرة على إدراك الكلي القدرة على الأفعال غير المتناهية ـ بأنّ قدرة النفس إنّما هي بالنور الخارج عن ذاتها ، كما مرّ.

ومنها : أنّ النفس تدرك الأمر البسيط الذي يستحيل عليه القسمة ، كصرف الوجود ، وحيث إنّ إدراك النفس عبارة عن قيام المعلوم بها قياما حلوليّا فيلزم من بساطة الحالّ وتجرّده بساطة المحلّ وتجرّده.

وأجيب أولا : بأنّ النفس تدرك الأمور المركّبة أيضا ، ولازم هذا الدليل تركّب النفس ، ولا يقول المستدلّ به قطعا ، وثانيا : أنّ إدراك النفس ليس بقيام المعلوم بها قياما

٢٣٠

حلوليّا ، بل بوجدان النور الخارج عن ذاتها الكاشف عنها وعن معلومها.

ومنها : أنّ النفس مجمع صور كلّ الموجودات والمتقابلات من دون تدافع بينها ، ومورد الميول المتضادّة والأمور المتخالفة ، وليس الجسم كذلك.

وأجيب بأنّ الأجسام مختلفة في قبول الخصوصيات والأعراض ، فمن عدم اتّصاف سائر الأجسام بما تتّصف به النفس لا يلزم خروج النفس عن الجسميّة ، لإمكان اتّصافها ـ مع الجسميّة ـ بخصائص تختصّ بها ، مضافا إلى إمكان القول بأنّ الصور الذهنية محلّها السيّال العامّ المحيط بالنفس لا ذات النفس ، بل هي تشاهدها بنور العلم. والميول والأهواء المختلفة منشؤها الأجزاء المختلفة المؤلّف منها البدن والزمان والمكان والأمور المقارنة لها ، والنفس تدركها بنور العلم ، فلا يلزم من اختلافها وتضادّها خروج النفس من سنخ المادّيات.

ومنها : أنّ القوى الجسمانيّة تكلّ وتعيى بكثرة الأفعال ، والنفس لا تكلّ بكثرة الإدراكات ، وليس ذلك إلاّ لتجرّدها عن أوصاف الجسمانيات.

وأجيب بأنّ إدراك النفس ليس بذاتها بل بالنور الخارج عنها ، كما مرّ.

ومنها : أنّ كمال النفس وهو الفكر موجب لجفاف الدماغ وهزال البدن ، فلو كانت النفس جسما كان كمالها كمال البدن.

وأجيب بأنّ ذلك لا يوجب إلاّ مغايرة النفس للبدن وتجرّدها عن الموادّ الكثيفة التي فيه ، ونحن نقول به.

وبالجملة : جميع ما استدلّوا به على تجرّد النفس ، بمعنى خروجها عن دائرة المحسوسات بالكلّية لا يدلّ إلاّ على وجود شيء مجرّد في ناحية النفس ، وأمّا أنّه هي فلا. وحينئذ لا مانع من أن يقال ـ كما أشرنا إليه غير مرّة ـ أنّ المجرّد هو النور القويّ القاهر الخارج عن حقيقة النفس ، والخالق المتعالي يعطيه ويفيضه عليها ـ كما قد يمنعه ويسلبه منها ـ وقوة النفس وغناها وسائر كمالاتها من جهة هذا النور لا من ذاتها.

وأمّا الأدلّة النقليّة التي تمسّكوا بها لإثبات تجرّد النفس بذاتها فقد ذكرها في

٢٣١

الأسفار (١) ، قال : فلنذكر أدلّة سمعية لهذا المطلب حتى يعلم أنّ الشرع والعقل متطابقان في هذه المسألة كما في سائر الحكميّات. وحاشا الشريعة الإلهيّة البيضاء أن تكون أحكامها مصادمة للمعارف اليقينيّة الضروريّة ، وتبّا لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب والسنّة.

أمّا الآيات المشيرة إلى تجرّد النفس فمنها قوله تعالى ـ في حقّ آدم عليه‌السلام وأولاده ـ : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (٢).

وفي حقّ عيسى عليه‌السلام : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (٣) ، وهذه الإضافة تنادي على شرف الروح وكونها عريّة عن عالم الأجسام.

وفي حق شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل عليه‌السلام : ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (٤).

وقوله حكاية عنه : ( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً ) (٥) ، ومعلوم أنّ الجسم وقواه ليس شيئا منها بهذه الصفات السنيّة من رؤية عالم الملكوت ، والإيقان ، والتوجّه بوجه الذات لفاطر السّماوات. والحنيفيّة ، أي الطهارة والقدس.

ومنها قوله تعالى : ( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٦).

ومنها قوله تعالى : ( سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ) (٧).

وقوله تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (٨).

__________________

(١) من هنا إلى قوله : لا يصعد من السماء إلاّ من نزل منها ، عبارة الأسفار ٨ : ٣٠٤ ، ولبعض الأحاديث مستند آخر نشير إليه في الهامش.

(٢) الحجر ٢٩ ، ص ٧٢.

(٣) النساء ١٧١.

(٤) الأنعام ٧٥.

(٥) الأنعام ٧٩.

(٦) المؤمنون ١٤.

(٧) يس ٣٦.

(٨) فاطر ١٠.

٢٣٢

وقوله تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (١).

وقوله تعالى : ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) (٢).

وفي الحقيقة جميع هذه الآيات المشيرة إلى المعاد وأحوال العباد في النشأة الثانية ، دالّة على تجرّد النفس لاستحالة إعادة المعدوم ، وانتقال العرض وما في حكمه من القوى المنطبعة.

وأمّا الأحاديث النبويّة فمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من عرف نفسه فقد عرف ربّه (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه. وقوله : من رآني فقد رأى الحق. وقوله : أنا النذير العريان (٤). وقوله : لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبيّ مرسل.

وقوله : أبيت عند ربّي يطعمني ويسقيني.

فهذه الأخبار وأمثالها تدلّ على شرف النفس وقربها من الباري إذا كملت ، وكذا قوله : ربّ أرني الأشياء كما هي. ومعلوم أنّ دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مستجاب ، والعلم بالأشياء ذوات السبب كما هي لا يحصل إلاّ من جهة العلم بسببها وجاعلها ، كما برهن في مقامه ، والمراد بالرؤية هو العلم الشهودي.

وكذلك دعاء إبراهيم الخليل عليه‌السلام كما حكى الله عنه في قوله : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ) (٥). ورؤية الفعل لا تنفكّ عن رؤية الفاعل ، وليس في حد الجسم ومشاعره أن يرى ربّ الأرباب ومسبّب الأسباب.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قلب المؤمن عرش الله (٦).

وقوله : قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن (٧).

ومعلوم أن ليس المراد هذا اللحم الصنوبري ، ولا أيضا إصبع الله جارحة جسمانية ،

__________________

(١) التين ٤.

(٢) الفجر ٢٧.

(٣) البحار ٢ : ٣٢ عن مصباح الشريعة ، غرر الحكم ٢ : ٦٢٥.

(٤) صحيح مسلم ٤ : ١٧٨٨.

(٥) البقرة ٢٦٠.

(٦) في البحار ٥٨ : ٣٩ : روي أنّ قلب المؤمن عرش الرحمن.

(٧) في البحار ٧٥ : ٤٨ عن العلل : ... فإنّ القلوب بين إصبعين من أصابع الله ...

٢٣٣

بل القلب الحقيقي هو الجوهر النطقي من الإنسان ، والأصبعان هما العقل والنفس الكلّيان ، أو القوّتان : العقليّة والنفسيّة.

وقوله : المؤمن أعظم قدرا عند الله من العرش. ومعلوم أنّ هذه الأعظميّة ليست بجسميّة ، ولا لقوّة محصورة في عضو من أعضائه.

وقوله : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام (١).

وقول أمير المؤمنين وإمام الموحّدين عليه‌السلام حين سأله حبر من الأحبار : هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره ، وقال : كيف رأيته ، أو كيف الرؤية؟ فقال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان (٢). والرؤية العقلية لا يمكن بقوّة جسمانيّة.

وقوله في الجواب حين سئل عنه : كيف قلعت باب خيبر؟ : قلعته بقوّة ربانيّة ، لا بقوّة جسمانيّة (٣).

وعنه أنّه قال : الروح ملك من ملائكة الله ، له سبعون ألف وجه (٤).

وقال روح الله المسيح بالنور الشارق من سرادق الملكوت : لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرّتين. وقوله : لا يصعد إلى السماء إلاّ من نزل منها.

أقول : شرافة الإنسان وعظمته وأعظميّته وقدرته وقوّته ورؤيته الأشياء كما هي ومشاهدته إيّاها كلّها ورؤيته عالم الملكوت وصيرورته عرش الرحمن إلى غير ذلك ممّا لا يناسب الجسم والقوى الجسمانيّة ، كلّها بالأنوار الإلهيّة من العلم والقدرة والقوّة الربانيّة الخارجة عن ذاته ، كما أنّ رؤيته ربّه إنّما هي بربّه لا بذاته ، فلا دلالة في شيء منها على تجرّد النفس الحاملة لتلك الأنوار.

فيعرف الإنسان نفسه أنّه شيء قائم بالغير ، وأنّ الغير مشيّئه وقيّوم ذاته آنا فآنا ، وأنّه مباين ذاتا لقيّومه الذي هو الشيء بحقيقة الشيئية القائمة بذاته أزلا وأبدا ، وأنّه

__________________

(١) راجع البحار ٦١ : ١٣١.

(٢) البحار ٤ : ٤٤ ، عن التوحيد.

(٣) ورد مضمونه في البحار ٢١ : ٢٦ عن أمالي الصدوق ، والبحار ٤٠ : ٣١٨ عن الخرائج.

(٤) الدر المنثور ٤ : ٢٠٠.

٢٣٤

حقيقة مظلمة عاجزة ذاتا ، وأنّ كمالاته التي لا تناسب المادّية إنّما هي بوجدانه لتلك الأنوار ، من غير أن يصير شيء منها داخلا في ذاته ، وأنّه في بقائه وبقاء كمالاته محتاج آنا فآنا إلى قيّومه ، وأنّ ذاته ونفسه المشار إليها بلفظ « أنا » زمانيّة مكانيّة معروضة للعوارض واللواحق الماديّة والجسمانيّة ، كما مرّ سابقا ، وسنذكره في التنبيه الآتي إن شاء الله تعالى.

فبعرفان الإنسان نفسه بالصفات المذكورة من الفقر والظلمة والحاجة ، وأنّ ما له من النعم إنّما هو بالغير ... يعرف ربّه بالغنى والقيوميّة وسائر الصفات الكماليّة.

وليس رجوعهم إليه تعالى بمعنى فنائهم واندكاكهم فيه ، أو عرفان أنّهم شئون لذات واحدة وتطوّرات لحقيقة فاردة ، كما مرّ في كلمات المستدلّ.

بل لعلّه بمعنى رجوع العبد إلى محضر مولاه راضيا عنه مرضيّا له ، نظير ما حصل للأنبياء ولموسى عليه‌السلام ، ولنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام الوحي والمكالمة.

فبملاحظة أنّ الله تعالى كلّم جميع خلقه برّهم وفاجرهم وردّوا عليه الجواب ـ كما دلّ عليه قوله تعالى : ( وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) ، المفسّر في الروايات الكثيرة بما ذكر ـ يظهر صحّة إطلاق الرجوع إليه تعالى على ما يقع لهم من عرض أعمالهم عليه ومن الخطاب منه تعالى لهم ليريهم ما أعدّ لهم من الثواب ، كما أنّ رجوع الكفار والفساق إليه إنّما هو بمعنى توقيفهم في موقف المحاسبة والعتاب عليهم وإراءة ما أعدّ لهم من جزاء أعمالهم.

قال الله تعالى : ( كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (١).

وقال تعالى : ( مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ) (٢).

وقال تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ

__________________

(١) الأنعام ١٠٨.

(٢) يونس ٧٠.

٢٣٥

لا يُظْلَمُونَ ) (١).

وقال تعالى : ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (٢) ..

ومن مصاديقه ما رواه في البحار عن تفسير القمّي ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن الثمالي ، عن أبي جعفر صلوات الله عليه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تزول قدما عبد يوم القيامة من بين يدي الله حتى يسأله عن أربع خصال : عمرك في ما أفنيته؟ وجسدك في ما أبليته؟ ومالك من أين كسبته ، وأين وضعته؟ وعن حبّنا أهل البيت (٣).

وما رواه فيه عن أمالي الصدوق بإسناده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة يؤتى بك يا عليّ على نجيب من نور ، وعلى رأسك تاج قد أضاء نوره ، وكاد يخطف أبصار أهل الموقف ، فيأتي النداء من عند الله جلّ جلاله : أين خليفة محمّد رسول الله؟ فتقول : ها أنا ذا ، قال : فينادي ( المنادي ) : يا عليّ! أدخل من أحبّك الجنّة ، ومن عاداك النار ، فأنت قسيم الجنّة وأنت قسيم النار (٤).

وما رواه الكليني في الكافي مسندا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ الله عزّ وجلّ يلتفت يوم القيامة إلى فقراء المؤمنين شبيها بالمعتذر إليهم ، فيقول : وعزّتي وجلالي ما أفقرتكم في الدنيا من هوان بكم عليّ ، ولترون ما أصنع بكم اليوم ، فمن زوّد أحدا منكم في دار الدنيا معروفا فخذوا بيده فأدخلوه الجنة ... (٥).

وما رواه القمّي بإسناده عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه في ذيل قوله تعالى : ( الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ) (٦) ، قال : ويؤتى بالمؤمن الغنيّ يوم القيامة إلى الحساب ، يقول الله تبارك وتعالى : عبدي! قال : لبّيك يا ربّ ، قال : ألم أجعلك

__________________

(١) البقرة ٢٨١.

(٢) الفجر ٢٧ ـ ٣٠.

(٣) البحار ٧ : ٢٥٩.

(٤) البحار ٣٩ : ١٩٩. وما بين القوسين من المصدر ( أمالي الصدوق ٢٩٥ ).

(٥) الكافي ٢ : ٢٦١ ، البحار ٧ : ٢٠٠.

(٦) الزخرف ٦٧.

٢٣٦

سميعا وبصيرا ، وجعلت لك مالا كثيرا؟ قال : بلى يا ربّ ، قال : فما أعددت للقائي؟ قال : آمنت بك ، وصدّقت رسلك ، وجاهدت في سبيلك. قال : فما ذا فعلت فيما آتيتك؟ قال : أنفقت في طاعتك ، قال : ما ذا ورّثت في عقبك؟ قال : خلقتني وخلقتهم ، ورزقتني ورزقتهم ، وكنت قادرا على أن ترزقهم كما رزقتني فوكلت عقبي إليك. فيقول الله عزّ وجلّ : صدقت ، اذهب ، فلو تعلم ما لك عندي لضحكت كثيرا. ثمّ يدعى بالمؤمن الفقير فيقول : يا عبدي! فيقول : لبّيك يا رب ، فيقول : ما ذا فعلت؟ فيقول : يا ربّ هديتني لدينك ، وأنعمت عليّ ، وكففت عني ما لو بسطته لخشيت أن يشغلني عمّا خلقتني له. فيقول الله عزّ وجلّ : صدقت عبدي ، لو تعلم ما لك عندي لضحكت كثيرا. ثم يدعى بالكافر الغنيّ ، فيقول : ما أعددت للقائي؟ فيعتلّ ، فيقول : ما ذا فعلت في ما آتيتك؟ فيقول : ورّثته عقبي ، فيقول : من خلقك؟ فيقول : أنت ، فيقول : من خلق عقبك؟ فيقول : أنت ، فيقول : ألم أك قادرا على أن أرزق عقبك كما رزقتك ، فإن قال : « نسيت » هلك ، وإن قال : « لم أدر ما أنت » هلك ، فيقول الله عزّ وجلّ : لو تعلم ما لك عندي لبكيت كثيرا. ثمّ يدعى بالكافر الفقير فيقول : يا ابن آدم ما فعلت في ما أمرتك ، فيقول : ابتليتني ببلاء الدنيا حتى أنسيتني ذكرك ، وشغلتني عمّا خلقتني له ، فيقول : فهلاّ دعوتني فأرزقك ، وسألتني فأعطيك! فإن قال : « يا رب نسيت » هلك ، وإن قال : « لم أدر ما أنت » هلك ، فيقول له : لو تعلم ما لك عندي لبكيت كثيرا (١).

وما رواه في البحار عن أمالي الشيخ بسنده عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) (٢) ، فقال عليه‌السلام : يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يقام بموقف الحساب ، فيكون الله تعالى هو الذي يتولّى حسابه ، لا يطلع على حسابه أحدا من الناس ، فيعرّفه ذنوبه ، حتى إذا أقرّ بسيئاته قال الله عزّ وجلّ للكتبة : بدّلوها حسنات وأظهروها للناس. فيقول الناس حينئذ : ما كان لهذا العبد سيّئة واحدة! ثمّ يأمر الله به إلى

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ : ٢٨٧ ، البحار ٧ : ١٧٤.

(٢) الفرقان ٧٠.

٢٣٧

الجنّة ، فهذا تأويل الآية ، وهي في المذنبين من شيعتنا خاصّة (١).

التنبيه الثاني عشر : الفارق بين الروح والبدن أعراضهما

تحصّل مما ذكرنا أنّ أرواح البشر وأبدانهم كليهما من أجزاء المادّة المخلوق منها جميع الأشياء ، والفارق بينهما اللطافة والكثافة وغير هما من الأعراض ، فيمكن تغلّظ الأرواح بحيث ترى بالأعين العاديّة ، كما في الجانّ والملك (٢). ويمكن تلطّف الأبدان حتى لا ترى ، وممّا يدلّ عليه رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، ورواية الاحتجاج عن الصادق عليه‌السلام (٣). وما ورد من أنّ الله تعالى خلق قلوب الشيعة أو أرواحهم ـ على اختلاف التعبير في الروايات ـ ممّا خلق منه أبدان الأئمّة عليهم‌السلام (٤).

ثم إنّ كون روح الإنسان جسما لطيفا كالهواء المتحرّك ـ كما هو المصرّح به في الخبرين المتقدّمين ـ لا ينافي اشتمالها على خصوصيّات ماديّة محيّرة للعقول ، نظير اشتمال البدن الذي لا شكّ في جسمانيّته على خصائص عجزت الحكماء والأطبّاء الفحول عن إحصائها ودرك حقيقتها ، ولا ينافي أيضا اشتمالها على أمور لا تناسب المادّية ، فإنّ ذلك ناشئ من إفاضة نور العلم والقدرة وغير هما ـ ممّا ليس من سنخ المادّة وعوارضها ولا جزء منها ، ولا صادرا ومتولّدا عنها ـ عليها. وهذا هو الفارق بين روح الإنسان وبين غيرها من سائر الأجسام اللطيفة والكثيفة ، وكفى به فارقا. وقد مرّ أنّ هذا النور يجده الإنسان إجمالا ، وكذا مغايرته إيّاه.

وقد مرّ أيضا في مبحث العلم أنّ من طرق التنبيه إلى وجود هذه الحقيقة ـ أي النور العلمي ـ وأنّه خارج عن حقيقة الإنسان ولا تصير جزء منها أبدا : فقداننا إيّاه عند المنام

__________________

(١) البحار ٧ : ٢٦١.

(٢) يعني يحصل التغلّظ لهما في بعض الأحوال ، كما روي في الاحتجاج ٢ : ٨١ أنّه سئل الصادق عليه‌السلام : كيف صعدت الشياطين إلى السماء وهم أمثال الناس في الخلقة والكثافة ، وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟ قال عليه‌السلام : غلّظوا لسليمان كما سخّروا ، وهم جسم لطيف وغذاؤهم النسيم ....

(٣) راجع التنبيه السابع.

(٤) راجع ص ٢٢٩ ، الهامش ٤.

٢٣٨

وعند عروض الغشوة بعد وجدانه ، وكذا وجداننا بعد الفقدان ، فإنّ هذا الوجدان والفقدان وتداوم ذلك في جميع أفراد الإنسان ينبّهنا على أنّ حقيقة الإنسان مظلمة ميّتة بالذات ، وأنّ حياته وشعوره من أوّل العمر إلى آخره إنّما هي ببركة هذا النور الخارج عن حقيقته ، فعند الوجدان يحصل العلم للإنسان ، وعند الفقدان يجهل أو يحصل له النسيان ، وكلّ ذلك لا بنحو الممازجة ، ولا البعد والمفارقة.

وبعد وضوح مغايرته لهذا النور نقول : مغايرة سائر الأشياء المعلومة بالحواسّ الظاهرة لهذا النور أوضح ، فإن كلّ ما يدرك بالحواسّ الظاهرة من الجوهر والعرض مظلم ذاتا ، والعلم المظهر له ذاته النور ، ومباينة نوريّ الذات مظلم الذات ظاهرة.

هذا في المعلومات الخارجية ، أي المحسوسات بالحواسّ الظاهرة ، وأمّا المعلومات النفسيّة أي المتصوّرات فحالها في كونها ظاهرة بنور خارج عن ذات العالم بها واضحة أيضا لمن عرف نور العلم.

وقد مرّ أنّ الدليل على ما ذكرنا كلّه هو نفس نور العلم الظاهر بذاته المعرّف لغيره ، ولا بدّ للمعلّم أن يذكّر به المتعلّم ، ولا طريق له عادة إلاّ ذلك.

التنبيه الثالث عشر : يمكن لكلّ ذرّة وجدان العلم والإدراك

قد مرّ أيضا أنّ ما ذكرناه جار في كلّ شيء بل كلّ ذرّة من ذرّات عالم المادّة ، أي يمكن أن تدرك تلك الذرّة كلّ أمر يدركه الإنسان ، فإنّ توقّف علم الإنسان على سلامة دماغه وبنيته إنّما هو من السنن التي أجراها مسبّب الأسباب بمشيئته ، وهي وإن لم تتخلّف غالبا وبحسب العادة إلاّ أنّ له تعالى شأنه إفاضة نور العلم على كلّ جزء يصدق عليه أنّه شيء دون الجزء المجاور له بدون تلك الأسباب ، كما شاء وأذن لكل شيء أن يسبّح بحمده وإن لم يفقه الناس تسبيحه. وحمله على خصوص التسبيح التكويني أي بلسان الحال لا موجب له ، كما سبّح الحصى في كفّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى سمعه الناس (١). وتقدّم ذكر الآيات الدالّة على شهادة الأيدي والأرجل وغيرها يوم القيامة بما

__________________

(١) روى في البحار ١٧ : ٣٧٧ عن الخرائج عن أنس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ كفّا من الحصى فسبّحن في يده ثمّ صبّهن في يد عليّ عليه‌السلام فسبّحن في يده ، حتّى سمعنا التسبيح في أيديهما ، ثمّ

٢٣٩

فعله الإنسان في الدنيا ، والروايات الدالّة على شهادة المكان وأمثالها كثيرة في المعجزات المنقولة عن الأئمّة عليهم‌السلام.

التنبيه الرابع عشر : الإنسان يبقى على جسمانيّته

قد ظهر ممّا سبق أنّ الإنسان من مبدأ خلقته إلى منتهى ما يصل إليه من الكمال باق على مادّيّته وجسمانيّته ، وعلى فقره واحتياجه في بقاء ذاته وجميع كمالاته المادّية والمعنويّة إلى الله تعالى ، ولا يدخل في حدّ التجرّد المصطلح بأن تصير ذاته مجرّدة عن المادّة ولواحقها فانية في حقيقة الحقّ المتعالي ، بل هو في حال غناه ـ باستضاءته من الأنوار الإلهيّة المنزّهة دائما عن لوث المادّية ـ باق على فقره ومحدوديّته وماديّته ، كما هو مشهود له في كلّ يوم وليلة غالبا ، فينبغي للمؤمن أن يشكر الله تعالى دائما على نعمائه التي من أعظمها نعمة الوجود ـ أي الثبوت والكون والحصول ( وقد عبّر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عن أوّل النعمة بقوله : أن خلقتني ) ـ والحياة والعلم والعقل والهدايات العامّة والخاصّة (١) ، وأن يتضرّع إليه تعالى لتبقى له تلك النعم ولا تسلب منه ـ لإمكان زوالها في كلّ آن ـ ولطلب الزيادة. وهذا ممّا علّمنا الله تعالى بأمره في كلّ صلاة بقراءة قوله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) إلى قوله : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... ).

التنبيه الخامس عشر : زوال العلم والهداية بالكفر والظلم

من موجبات زوال نعمة العلم والهداية ومن موجبات الحرمان من الزيادة كفرانها بسبب الكفر بالله تعالى وبرسوله ، والتكبّر ، والظلم ، والفسق ، والكذب ، وغير ذلك من المعاصي ، كما قال الله تعالى : ( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (٢). ( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (٣). ( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) (٤). ( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ

__________________

صبّهنّ في أيدينا فما سبّحت.

(١) فالعامّة إشارة إلى قوله تعالى : إنّا هديناه السبيل إمّا شاكرا وإمّا كفورا ـ الدهر ٣ ، والخاصّة إشارة إلى قوله تعالى : ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتّقين ـ البقرة ٢ ، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ـ مريم ٧٦.

(٢) البقرة ٢٥٨ ، آل عمران ٨٦ ، المائدة ٥١ ، التوبة ١٩ ، ١٠٩ ، الصف ٧ ، الجمعة ٥.

(٣) البقرة ٢٦٤.

(٤) المائدة ١٠٨ التوبة ٢٤ ، ٨٠ ، الصف ٥.

٢٤٠