تنبيهات حول المبدأ والمعاد

الميرزا حسنعلي مرواريد

تنبيهات حول المبدأ والمعاد

المؤلف:

الميرزا حسنعلي مرواريد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: العتبة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 964-444-083-8
الصفحات: ٢٧٣

( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ... فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ ) (١).

وأمّا النقل فالكتاب العزيز ـ مضافا إلى ما ذكرناه وما نذكره ، وكذلك الروايات المباركات ـ مشحون بالبشارة والإنذار ، وبذكر الجنّة والنار وما اعدّ فيهما للأبرار والفجّار ، فهو من ضروريّ دين الإسلام بل ضروريّ جميع الأديان الإلهيّة.

المعاد الروحانيّ والجسمانيّ

المعاد الروحانيّ عبارة عن بقاء الأرواح بعد مفارقة الأبدان منعّمة أو معذّبة ، والأبدان تبلى وتفنى ولا عود لها. والجسمانيّ عبارة عن أنّ الله تعالى شأنه يعيد الأبدان بعد موتها وتفرّق أجزائها ، ويؤلّف بينها على هيئتها الأولى ، أو مع تغيير في بعض العوارض ، فتتعلّق بها الأرواح ، كما في هذه الدنيا ، ويعذّب أو ينعّم كلّ إنسان بجسمه الواجد للروح ، وإن شئت قلت : الروحانيّ والجسمانيّ معا.

فعن العلاّمة في شرح الياقوت : اتّفق المسلمون على إعادة الأجساد ، خلافا للفلاسفة (٢).

وعن الفخر الرازيّ في نهاية العقول : إجماع الأنبياء على إثبات المعاد البدنيّ (٣).

وعن المحقّق الدوانيّ في شرح العقائد العضديّة : والمعاد ـ أي الجسمانيّ ، فإنّه المتبادر من إطلاق الشرع ، إذ هو الذي يجب الاعتقاد به ويكفر من أنكره ـ حقّ بإجماع أهل الملل الثلاث ، وشهادة نصوص القرآن في المواضع المتعدّدة بحيث لا يقبل التأويل ...

وعنه أيضا : قال الإمام : الإنصاف أنّه لا يمكن الجمع بين الإيمان بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين إنكار الحشر الجسماني (٤).

__________________

(١) إبراهيم ٤٢ ، ٤٧.

(٢) أنوار الملكوت ١٩١.

(٣) راجع البحار ٧ : ٤٨ ، ٥٠.

(٤) راجع البحار ٧ : ٤٨ ، ٥٠.

٢٠١

وعن أبي عليّ الشيخ الرئيس أنّه ـ مع إنكاره الدليل العقليّ على المعاد الجسمانيّ ـ اعترف بثبوته من طريق الشرع ، حيث قال في كتاب النجاة والشفاء : وقد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها سيّدنا ومولانا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن ... (١).

ثمّ المراد من المعاد الجسمانيّ ـ كما ذكرنا ـ هو عود البدن بما له من المادّة المشخّصة التي بها قوام الجسميّة الموجودة قبل الموت بعينه ، وإن كانت الصورة العرضيّة جديدة ، كما سيأتي في الرواية تمثيل الإمام عليه‌السلام لذلك باللبنة إذا كسرت واعيدت ثانية بصورة اللبنة ، فهو هو من جهة المادّة والجسميّة ، وغيره من حيث الصورة العرضيّة.

الآيات والروايات الدالّة على المعاد الجسماني

المعنى المذكور للمعاد الجسمانيّ هو الظاهر من الآيات بل صريح بعضها ، وكذا الروايات المتواترة.

أما الآيات فمنها قوله تعالى : ( قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ. قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ ) (٢).

( مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى ) (٣).

( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) (٤).

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ. لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) (٥).

__________________

(١) راجع البحار ٧ : ٤٨ ، ٥٠.

(٢) الأعراف ٢٤ ، ٢٥.

(٣) طه ٥٥.

(٤) الروم ٢٥.

(٥) النمل ٦٧ ، ٦٨.

٢٠٢

( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) (١).

( وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (٢).

( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ. قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ ) (٣).

( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٤).

( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ) (٥).

( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) (٦).

( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٧).

( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ. يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ ) (٨).

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ

__________________

(١) الحجّ ٧.

(٢) يس ٧٨ ، ٧٩.

(٣) الصافات ١٦ ـ ١٩.

(٤) فصلت ١٩ ـ ٢١.

(٥) القمر ٦ ـ ٨.

(٦) يس ٥١ ، ٥٢.

(٧) الزمر ٦٨ ، ٦٩.

(٨) ق ٤٢ ـ ٤٤.

٢٠٣

جَدِيدٍ. أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) (١).

( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) (٢).

( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (٣).

( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٤).

وأمّا الروايات فلا تحصى كثرة ، نكتفي بذكر عدّة منها :

في الاحتجاج : أنّه قال الزنديق للصادق عليه‌السلام : أنّى له بالبعث والبدن قد بلي ، والأعضاء قد تفرّقت؟! فعضو في بلدة تأكله سباعها ، وعضو باخرى تمزّقه هو أمّها ، وعضو قد صار ترابا بني به مع الطين حائط!

قال : إنّ الذي أنشأه من غير شيء وصوّره على غير مثال كان سبق إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه.

قال : أوضح لي ذلك.

قال : إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء

__________________

(١) سبا : ٧ ، ٨.

(٢) ق : ٣ ، ٤.

(٣) البقرة ٢٥٩ ، ٢٦٠.

(٤) البقرة ٧٢ ، ٧٣.

٢٠٤

في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا كما منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوامّ من أجوافها ، فما أكلته ومزّقته كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وإنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب في التراب فإذا كان حين البعث مطرت الأرض ، فتربوا الأرض ثمّ تمخض مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجتمع تراب كلّ قالب ( إلى قالبه ) (١) ، فينتقل بإذن الله تعالى إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها ، وتلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا ... (٢).

وعن أمالي الشيخ مسندا عن حفص بن غياث ، قال : كنت عند سيّد الجعافرة جعفر بن محمّد عليهما‌السلام لمّا أقدمه المنصور ، فأتاه ابن أبي العوجاء وكان ملحدا فقال : ما تقول في هذه الآية ( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ) (٣) ، هب هذه الجلود عصت فعذّبت ، فما ذنب الغير؟ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ويحك هي هي وهي غيرها. قال : أعقلني هذا القول ، فقال له : أرأيت لو أنّ رجلا عمد إلى لبنة فكسرها ثمّ صبّ عليها الماء ، وجبلها ثمّ ردّها إلى هيئتها الاولى ألم تكن هي هي وهي غيرها؟ فقال : بلى أمتع الله بك (٤).

أقول : الظاهر أنّ المراد أنها هي هي من جهة المادّة ، وغيرها من جهة الصورة ، فعليه تكون الرواية صريحة في أنّ المعذّب ليس هو الصورة المحضة ، وإلاّ فلا يكون هي هي حقيقة.

وعن أمالي الصدوق مسندا عن جميل عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، قال : إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحا ، فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم (٥).

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في البحار.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٩٧ ، وعنه البحار ٧ : ٣٧.

(٣) النساء : ٥٦.

(٤) البحار ٧ : ٣٩ عن الأمالي و ٧ : ٣٨ عن الاحتجاج بتفاوت يسير.

(٥) البحار ٧ : ٣٣.

٢٠٥

وعن تفسير عليّ بن إبراهيم بسنده الصحيح عن جميل بن درّاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا ، فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم. وقال : أتى جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخذه فأخرجه إلى البقيع ، فانتهى به إلى قبر فصوّت بصاحبه فقال : قم بإذن الله ، فخرج رجل أبيض الرأس واللحية يمسح التراب عن وجهه وهو يقول : الحمد لله والله أكبر ، فقال جبرئيل : عد بإذن الله. ثمّ انتهى به إلى قبر آخر فقال : قم بإذن الله فخرج منه رجل مسودّ الوجه وهو يقول : يا حسرتاه يا ثبوراه ، ثمّ قال له جبرئيل : عد إلى ما كنت فيه بإذن الله. فقال : يا محمّد هكذا يحشرون يوم القيامة ، والمؤمنون يقولون هذا القول ، وهؤلاء يقولون ما ترى (١).

وفي لآلي الأخبار عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام ، قال : فنبتت أجساد الخلائق كما تنبت البقل ، فتتدانى أجزاؤهم التى صارت ترابا بعضها إلى بعض بقدرة العزيز الحميد ، حتى إنّه لو دفن في قبر واحد ألف ميّت وصار لحومهم وأجسادهم وعظامهم النخرة ترابا مختلطة بعضها في بعض لم يختلط تراب ميّت بميّت آخر (٢).

وفي الكافي بسنده عن عمّار بن موسى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن الميّت يبلى جسده؟ قال : نعم حتى لا يبقى له لحم ولا عظم إلاّ طينته التي خلق منها فإنّها لا تبلى ، تبقى في القبر مستديرة حتى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة (٣).

وما ورد في تفسير قوله تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ) (٤) ، وهي عدّة روايات منها : خبر زرارة ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ) قال : تبدّل خبزة نقيّة يأكل الناس منها حتى يفرغ الناس من الحساب ، فقال له قائل : إنّهم لفي شغل يومئذ عن الأكل والشرب ، قال : إنّ الله خلق ابن آدم أجوف ، فلا بدّ له من الطعام والشراب ، أهم أشدّ شغلا يومئذ أم من في النار؟ فقد

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ : ٢٥٣ ، وعنه البحار ٧ : ٣٩.

(٢) لآلي الأخبار ٥ : ٦٠.

(٣) الكافي ٣ : ٢٥١ ، البحار ٧ : ٤٣.

(٤) إبراهيم ٤٨.

٢٠٦

استغاثوا ، والله يقول : ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ ) (١).

أقول : فسّر قوله تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ) بوجوه :

منها : تبديلها عند خروج الناس من قبور هم يوم القيامة بما يمكن أكله كالخبز النقي يأكلون منها حتى يفرغوا من الحساب.

ومنها : صيرورتها كما دحيت أوّل مرة ، ليس عليها جبال ولا نبات. وقد دلّت على هذا عدة من الروايات أوردها في تفسير البرهان ونور الثقلين.

ومنها : تبديلها بأرض اخرى يخلقها بعد استقرار أهل الجنة في الجنان ، وأهل النار في النيران ، ويخلق عليها خلقا آخر.

دلّت عليه رواية محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : لقد خلق الله عزّ وجلّ في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ، ليس هم من ولد آدم ، خلقهم من أديم الأرض ، فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه ، ثمّ خلق الله عزّ وجلّ آدم أبا البشر وخلق ذرّيّته منه. ولا والله ما خلت الجنّة من أرواح المؤمنين منذ خلقها ، ولا خلت النار من أرواح الكفّار والعصاة منذ خلقها عزّ وجلّ. لعلّكم ترون أنّه إذا كان يوم القيامة وصيّر الله أبدان أهل الجنة مع أرواحهم في الجنّة ، وصيّر أبدان أهل النار مع أرواحهم في النار أنّ الله تبارك وتعالى لا يعبد في بلاده ولا يخلق خلقا يعبدونه ويوحّدونه ويعظّمونه ، بلى والله ليخلقنّ خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه ويوحّدونه ويعظّمونه ، ويخلق لهم أرضا تحملهم ، وسماء تظلّهم ، أليس الله عزّ وجلّ يقول : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ) ، وقد قال الله عزّ وجلّ : ( أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (٢).

أقول : وأمّا تبديل الأرض بالصورة الجسميّة المصطلحة ـ أي الصورة المجرّدة عن المادّة كما عن بعض ـ فليس عليه دليل ، بل صريح بعض الروايات المتقدّمة خلافه.

__________________

(١) الكهف ٢٩ ، البحار ٧ : ١٠٩ ، عن المحاسن.

(٢) ق ١٥ ، البحار ٥٧ : ٣١٩ عن الخصال.

٢٠٧

وممّا يدلّ على المعاد الجسماني بمعناه الحقيقي ـ لا الصورة الجسميّة فضلا عن كون ما يرى في القيامة من مبدعات النفس ـ مضافا إلى ما تقدّم ما رواه في البحار عن التهذيب مسندا عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث فضل مسجد السهلة : ... وهو من كوفان ، وفيه ينفخ في الصور ، وإليه المحشر ، ويحشر من جانبه سبعون ألفا يدخلون الجنة (١).

وعن المحاسن مسندا عن أبي عبد الله عليه‌السلام : يخرج شيعتنا من قبورهم على نوق بيض لها أجنحة ، وشرك نعالهم نور يتلألأ ، قد وضعت عنهم الشدائد ... توضع لهم مائدة يأكلون منها والناس في الحساب (٢).

وعن الأمالي للصدوق مسندا عن الصادق عن أبيه عليهما‌السلام أنّ علي بن ابي طالب عليه‌السلام قال : لا تنشقّ الأرض عن أحد يوم القيامة إلاّ وملكان آخذان بضبعه يقولان : أجب ربّ العزة (٣).

وعن تفسير فرات بن إبراهيم عن الحسين بن سعيد مسندا عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ـ وعنده نفر من أصحابه وفيهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ـ : إنّ الله تعالى إذا بعث الناس يوم القيامة يخرج قوم من قبورهم ، بياض وجوههم كبياض الثلج ، عليهم ثياب بياضها كبياض اللبن ، وعليهم نعال من ذهب شراكها ـ والله ـ من نور يتلألأ ، فيؤتون بنوق من نور عليها رحال الذهب قد وشّحت بالزبرجد والياقوت ، أزمّة نوقهم سلاسل الذهب ، فيركبونها حتى ينتهوا إلى الجنان ، والناس يحاسبون ويغتمّون ويهتمّون وهم يأكلون ويشربون. فقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : من هم يا رسول الله؟ قال : هم شيعتك ، وأنت إمامهم ، وهو قول الله تعالى : ( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ) (٤) ، قال : على النجائب (٥).

وعنه عن محمّد بن عيسى الدهقان مسندا عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه :

__________________

(١) البحار ٧ : ١١٦ ، وفي التهذيب ٦ : ٣٧ : يدخلون الجنّة بغير حساب.

(٢) المحاسن : ١٧٩ ، وعنه البحار ٧ : ١٨٤.

(٣) أمالي الصدوق ٣٣٦ ، وعنه البحار ٧ : ١٠٦.

(٤) مريم ٨٥.

(٥) البحار ٧ : ١٩٤ ، عن تفسير الفرات ٩١.

٢٠٨

قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لعليّ : يا عليّ! أبشر وبشّر فليس على شيعتك حسرة عند الموت ، ولا وحشة في القبور ، ولا حزن يوم النشور ، ولكأنّي بهم يخرجون من جدث القبور ينفضون التراب عن رءوسهم ولحاهم يقولون : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) (١).

وعنه عن الحسين بن سعيد بسنده عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقّنوا موتاكم « لا إله إلاّ الله » فإنّها أنيس للمؤمن حين يمرق من قبره. قال لي جبرئيل : يا محمّد لو تراهم حين يمرقون من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم وهذا يقول : لا إله إلاّ الله والحمد لله ، مبيضّ وجهه. وهذا يقول : يا حسرتى على ما فرّطت في جنب الله ـ يعني في ولاية عليّ ـ مسودّ وجهه (٢).

وعن ثواب الأعمال عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان فيما ناجى به موسى ربّه أن قال : يا ربّ! ما لمن شيّع جنازة؟ قال : أوكّل به ملائكة من ملائكتي معهم رايات يشيّعونهم من قبورهم إلى محشرهم (٣).

وعن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : ( يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) (٤) : فإنّ القوم كانوا في القبور ، فلمّا قاموا حسبوا أنّهم كانوا نياما قالوا : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ قالت الملائكة : ( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) (٥).

وعن كتاب فضائل الشيعة للصدوق بسنده عن أبي بصير عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي أنا أوّل من ينفض التراب عن رأسه وأنت معي ، ثمّ سائر الخلق ... الخبر (٦).

__________________

(١) فاطر ٣٤. البحار ٧ : ١٩٨ عن تفسير الفرات ١٢٨.

(٢) البحار ٧ : ٢٠٠ ، عن تفسير الفرات ١٤٠.

(٣) البحار ٧ : ٢٠٨ ، عن ثواب الأعمال.

(٤) يس ٥٢.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ : ٢١٦ ، وعنه البحار ٧ : ١٠٣.

(٦) البحار ٧ : ١٧٩.

٢٠٩

وعن تفسير علي بن إبراهيم قال : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله : ( أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) (١) ، يقول : أي في خلق جديد. وأمّا قوله : ( فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) ، فالساهرة الأرض ، كانوا في القبور ، فلما سمعوا الزجرة خرجوا من قبورهم واستووا على الأرض (٢).

فصل : حقيقة الإنسان وما خلق منه

لا بدّ لإدراك حقيقة المعاد ، ورفع ما أوجب صرف الآيات المباركة والروايات الواصلة عن أهل البيت العصمة عليهم‌السلام عن ظواهرها بل عن نصوصها الدالة على المعاد الجسمانيّ بمعناه الحقيقيّ ، من البحث عن حقيقة المعاد ـ بضم الميم ـ وهو الإنسان ، ومبدئه الذي خلق منه.

ولا بدّ أيضا قبل الورود في البحث من بيان أمر هو كالقاعدة في أمثال المقام.

وهو : أنّه لا ريب في وجوب الرجوع إلى أقوال المعصومين عليهم‌السلام فيما لا حكم قطعيّا للعقل فيه ، فإنه مقتضى عصمتهم عليهم‌السلام.

ومن المعلوم أنّ مبدأ خلقة العالم عموما وخلقة الإنسان خصوصا ، وما يرجع إليه بعد الموت والشئون المربوطة بهاتين الجهتين ، ليست من الأمور التي يحكم العقل فيها بحكم قاطع ، ولا يجوز الاعتماد فيها على مقدّمات ظنّيّة ، فإنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئا.

فالطريق الوحيد ـ بحكم العقل ـ هو اتّباع من قام الدليل على عصمته ، فلا بدّ فيها من الرجوع إلى الآيات الكريمة والروايات المرويّة عن أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم ، والأخذ بنصوصها وكذا ظواهرها ، ما لم تقم قرينة قطعيّة على خلافها.

فإذا كانت الرواية المرويّة في الباب ـ ولو بلحاظ ضمّ بعضها إلى بعض ـ موجبة للقطع أو الاطمئنان صدورا ودلالة فلا إشكال ، ولا يجوز رفع اليد عنها وتأويل ظواهرها

__________________

(١) النازعات ١٠.

(٢) البحار ٧ : ١٠٧ ، عن تفسير القمّيّ ٢ : ٤٠٣.

٢١٠

ـ فضلا عن نصوصها ـ بمجرّد مخالفتها لبعض الامور الظنّيّة أو ما دونها.

وإذا فرضنا أنّ الروايات لم تصل إلى الحدّ المذكور ، فلا أقلّ من كون المستفاد منها فرضيّة محتملة تشهد عليها تلك الروايات ، ولا يجوز ردّها أو تأويلها ، بعد أن كان المفروض عدم قيام دليل قطعيّ على خلافها.

وبعد هذا يقع الكلام في حقيقة المعاد ـ وهو الإنسان ـ وفي حقيقة العالم بأجمعه ، على ما هو المستفاد من الروايات المأثورة عن المعصومين عليهم‌السلام في تنبيهات نذكرها إن شاء الله تعالى.

التنبيه الأول : المادة الأصليّة للعالم جوهر مسمّى بالماء

إنّ الذي يظهر من الروايات ـ كما مرّ ـ أنّ جميع المخلوقات من الدنيا والآخرة وما فيهما ومنه الإنسان روحه وبدنه ، والملائكة والجانّ ، والجنّة والنار وما فيهما ، بل البرزخ وما فيه ، كلّها ـ سوى الأنوار المجرّدة ، أي العلم والعقل والقدرة ـ أجزاء جوهرة أي مادّة واحدة سمّيت بالماء ، وفي بعض الروايات بالهواء والنور. وتفسيرها بالوجود كما ترى.

وقد مرّ أيضا أنّ اختلاف تلك الأجزاء إنّما هو باللطافة والكثافة والرقّة والغلظة وغيرها من الأعراض. فعليه تكون الصور النوعيّة كلّها عرضيّة ، وبه يرتفع اشكال تبديل نوع بنوع آخر ، كما في الأمم السالفة من مسخ أفراد الإنسان بالقردة والخنازير ، على ما نطقت به الآيات المباركة ، وبسائر المسوخ فيها ، وفي الأمّة المرحومة أيضا بصورة الوزغ أو الكلب أو غيرها كما في غير واحد من الروايات (١).

وقد مرّ أن تلك المادّة الواحدة حادثة بالحدوث الحقيقي ، أي مبدعة لا من شيء.

وقد ذكرنا الدليل عليه من غير واحد من الروايات الواصلة عن المعصومين عليهم‌السلام ، وسيجيء بعضها إن شاء الله تعالى.

أمّا كون المخلوقات من مادّة واحدة فممّا يدلّ عليه : رواية الكافي بسنده عن الحسين بن سعيد ، عن محمّد بن داود عن محمّد بن عطيّة ، قال : جاء إلى أبي جعفر عليه‌السلام

__________________

(١) انظر ص ٢٥٦ ، ٢٥٨.

٢١١

رجل من أهل الشام من علمائهم ، فقال : يا أبا جعفر! جئت أسألك عن مسألة قد أعيت عليّ أن أجد أحدا يفسّرها ، وقد سألت عنها ثلاثة أصناف من الناس ، فقال كلّ صنف منهم شيئا غير الذي قال الصنف الآخر ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : ما ذاك؟ قال : فإنّي أسألك عن أوّل ما خلق الله من خلقه ، فإنّ بعض من سألته قال : القدر ، وقال بعضهم : القلم ، وقال بعضهم : الروح. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ما قالوا شيئا ، أخبرك أنّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره ، وكان عزيزا ولا أحد كان قبل عزّه ، وذلك قوله : ( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (١) ، وكان الخالق قبل المخلوق. ولو كان أوّل ما خلق الله الشيء من الشيء إذا لم يكن له انقطاع أبدا ، ولم يزل الله إذا ومعه شيء ليس هو يتقدّمه ، ولكنّه كان إذ لا شيء غيره ، وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه ، وهو الماء الذي خلق الأشياء منه ، فجعل نسب كلّ شيء إلى الماء ، ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه ، وخلق الريح من الماء ، ثمّ سلّط الريح على الماء ، فشققت الريح متن الماء حتّى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور ، فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقيّة ليس فيها صدع ، ولا ثقب ، ولا صعود ، ولا هبوط ، ولا شجرة ، ثمّ طواها فوضعها فوق الماء ، ثمّ خلق الله النار من الماء ... الخبر (٢).

وفي العلل بسنده عن محمّد بن سنان ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن أوّل ما خلق الله عزّ وجلّ ، قال : إنّ أوّل ما خلق الله عزّ وجلّ ما خلق منه كلّ شيء ، قلت : جعلت فداك وما هو؟ قال : الماء ، إنّ الله تبارك وتعالى خلق الماء بحرين ، أحدهما عذب والآخر ملح. فلمّا خلقهما نظر إلى العذب فقال : يا بحر! فقال : لبّيك وسعديك ، قال : فيك بركتي ورحمتي ، ومنك أخلق أهل طاعتي وجنّتي. ثمّ نظر إلى الآخر فقال : يا بحر! فلم يجب ، فأعاد عليه ثلاث مرّات : يا بحر! فلم يجب ، فقال : عليك لعنتي ، ومنك أخلق أهل معصيتي ومن أسكنته ناري ، ثمّ أمر هما أن يمتزجا فامتزجا ، قال : فمن ثمّ يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن (٣).

__________________

(١) الصافات ١٨٠.

(٢) روضة الكافي ٩٤ / ٦٧ ، البحار ٥٧ : ٩٦ ، ورواه في ص ٦٦ بتفاوت عن توحيد الصدوق بسنده عن جابر الجعفيّ ، إلى قوله : وهو الماء.

(٣) علل الشرائع ١ : ٨٣ ، البحار ٥ : ٢٤٠.

٢١٢

نعم في بعض الروايات : أنّ أوّل ما خلق الله نور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو نوره مع أنوار الأئمّة عليهم‌السلام (١). ويمكن حملها على الخلقة التفصيليّة بعد خلقة الماء ، وبهذا الاعتبار يكون الماء مادّة المخلوقات ، ويكون نوره وروحه المقدّسة وأرواح الأئمّة التي هي من نوره أوّل المخلوقات ، كما عن العيون بسنده عن أبي الصلت الهروي ، عن الرضا عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : إنّ أوّل ما خلق الله عزّ وجلّ أرواحنا ، فأنطقها بتوحيده وتحميده ... الخبر (٢).

وأما اختلاف الأشياء بالأعراض فممّا يدلّ عليه قول أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ـ في جواب عمران الصابي حيث قال : أخبرني عن الكائن الأوّل ـ سألت فافهم ، أمّا الواحد فلم يزل واحدا كائنا لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض ، ولا يزال كذلك ، ثمّ خلق خلقا مبتدعا مختلفا بأعراض وحدود مختلفة ... واعلم أنّ الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقا مقدّرا بتحديد وتقدير ، وكان الذي خلق خلقين اثنين : التقدير والمقدّر ، وليس في واحد منهما لون ولا وزن ولا ذوق ، فجعل أحدهما يدرك بالآخر ، وجعلهما مدركين بنفسهما ... الخبر (٣).

أقول : لعلّ المراد من التقدير عرض الكمّ الذي هو لازم للمادّة ، ومن المقدّر نفس المادّة ذات الأبعاد الثلاثة.

التنبيه الثاني : المادّة الأصليّة فاقدة للعلم والحياة

تلك المادّة مع وجودها ـ أي تكوّنها بالله تعالى شأنه ـ فاقدة بذاتها لنور الحياة والعلم والقدرة وسائر الكمالات النوريّة. وصيرورتها حيّة عالمة إنّما هي بوجدانها ذلك النور ، كما أنّ موتها بفقدها إيّاه. وإنّا نجد ذلك الوجدان والفقدان في أنفسنا كلّ يوم وليلة باليقظة والمنام ، مع كوننا موجودين في كلتا الحالتين.

وقد تقدّم هذا المبحث مفصّلا في بعض التنبيهات السابقة.

__________________

(١) كما في البحار ٥٧ : ١٦٨ ـ ١٧٦.

(٢) العيون ١ : ٢٦٢ ، البحار ٥٧ : ٥٨.

(٣) البحار ٥٧ : ٤٧ ، ٥٢ ، عن العيون والتوحيد.

٢١٣

وممّا ذكرنا يظهر قوّة احتمال كون المراد من قوله تعالى : ( وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ) (١) ـ بناء على كون المراد من العرش هو نور العلم ، كما هو أحد معاني العرش على ما يظهر من بعض الروايات (٢) ـ أنّه لم يكن بعد خلقة الماء موجود يكون حاملا لنور الحياة والعلم سوى تلك المادّة الواحدة بما لها من البساطة ، أي قبل التعين بصورة أرض أو سماء أو غير هما من المخلوقات.

ويدلّ عليه ما رواه في الكافي بسنده عن داود الرقّي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ) ، فقال عليه‌السلام : ... إن الله حمّل دينه وعلمه الماء قبل أن تكون أرض أو سماء أو جنّ أو إنس أو شمس أو قمر ، فلمّا أراد أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم : من ربّكم؟ فأوّل من نطق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام فقالوا : أنت ربّنا ، فحمّلهم العلم والدين ... (٣).

ويصلح كلّ جزء من تلك المادّة لتحميل نور الحياة والعلم والقدرة إيّاه ، ولعرض المطالب والتكاليف المناسبة له عليه ، ولأخذ العهد والميثاق منه ، ولصدور الطاعة والعصيان عنه. سواء تعيّن بصورة خاصّة أو بعروض عرض عليه أم لم يتعيّن ، بل هو دائر مدار مشيئة الله تعالى. وما يشاهد من العلل والأسباب العاديّة ، فإنّها سنة أجراها الله بقدرته واختياره ، وله تبديلها بأخرى ، كما تشهد عليه شهادة الأيدي والأرجل والجلود والأمكنة وغيرها يوم القيامة بما يكتسب الإنسان بها وفيها من الطاعة والعصيان ، على ما نطقت به الآيات المباركة (٤) ، والروايات الواردة عن السادة الأطياب صلوات الله عليهم (٥) ، وشهادة الحيوان والنبات والجماد على نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) ، وأذكار أصناف من الحيوانات (٧) ، وظاهر قوله تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ

__________________

(١) هود : ٧.

(٢) البحار ٥٥ : الباب ١ ، وتقدّم بعض رواياته في ص ٢٦.

(٣) الكافي ١ : ١٣٢ ، البحار ٥٧ : ٩٥.

(٤) النور : ٢٤ ، يس : ٦٥ ، فصّلت : ٢٠.

(٥) البحار ٧ : ٣٠٦ ، الباب ١٦.

(٦) البحار ١٧ : الباب ٢ ، ٤ ، ٥.

(٧) راجع كلمه طيبة للنوريّ : ٢٨٦.

٢١٤

تَسْبِيحَهُمْ ) (١) ، ولا موجب لحمله على خصوص التسبيح التكويني.

ويظهر من رواية ابن سنان المتقدمة عرض التكليف في الجملة على الماء قبل تعيين أجزائه بصورة المخلوقات ، فراجع.

التنبيه الثالث : انشعاب تلك المادّة إلى : علّيين وسجّين

يظهر من جملة من الروايات المباركة أنّ الله تعالى جعل المادّة التي خلق جميع الأشياء منها على قسمين ، أحدهما : العذب الفرات ، والثاني الملح الأجاج ، وخلق الطينة الطيّبة من الأوّل ، والطينة المنتنة من الثاني ، وسمّى الأوّل علّيّين الذي خلق منه بعد ذلك أرواح المؤمنين وأبدانهم وما يناسبهم من الجنّة ونعيمها ، وسمّى القسم الثاني سجّين الذي خلق منه أرواح الكفار وأبدانهم وما يناسبهم من النار وما فيها.

ويظهر من بعضها أنّ الماء كلّه كان عذبا ، ثمّ عرضت الملوحة على بعض أجزائه. كما في رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : كان الله تبارك وتعالى كما وصف نفسه وكان عرشه على الماء ، والماء على الهواء ، والهواء لا يجري ، ولم يكن غير الماء خلق ، والماء يومئذ عذب فرات ... الخبر (٢).

ولعلّ منشأ التقسيم المذكور مسبوقيّته بعرض ربوبيّته تعالى شأنه على الماء بما له من الأجزاء قبل تمييزها وتجزئتها حسّا ، وإجابة بعضها واستنكاف بعض آخر ، بعد إعطاء العلم والقدرة إيّاها.

ويمكن أن يكون المنشأ علمه سبحانه بما يصدر من كلّ جزء من الطاعة والعصيان ، بعد التمييز والتشخيص ووجدان شرائط التكليف ، كما هو ظاهر رواية الصدوق في العلل بسنده عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في مقام الردّ على قول العمريّ القائل بعدم النفع لاستلام الحجر وبطلان حجّ من فعله ـ : إنّ الله تبارك وتعالى لما خلق السماوات والأرض خلق بحرين : بحرا عذبا وبحرا أجاجا ... فقال أهل اليسار : لم خلقت لنا النار ولم تبيّن لنا ولم تبعث إلينا رسولا؟ فقال الله عزّ وجلّ لهم : ذلك لعلمي بما

__________________

(١) الإسراء ٤٤.

(٢) البحار ٥٧ : ٨٦ ، عن تفسير العيّاشيّ.

٢١٥

أنتم صائرون إليه ، وإنّي سأبتليكم ، فأمر الله عزّ وجلّ النار فأسعرت ... (١).

ويمكن أيضا أن يقال : إنّ ذلك التقسيم واختلاف الطينة لطف من الله تعالى على أصحاب الطينتين. أمّا بالنسبة إلى من يعلم أنّه يؤمن فلأنّ جعل أرواحهم وأبدانهم طيّبة مقتضية للطاعة مائلة إليها إعانة منه تعالى لأهل الإيمان والطاعة بما جعل فيهم من الاقتضاء والميل الطبيعيّ إليهما. وأما بالنسبة إلى من يعلم أنّه يكفر بسوء اختياره فلأنّ جعل طبيعتهم خبيثة مائلة إلى الكفر والعصيان تخفيف منه تعالى في الاستحقاق العقليّ للعقوبة والعذاب ، بما جعل فيهم من الاقتضاء والتمايل إلى المعصية ، فإنّ استحقاق العقوبة على الزنا مثلا ممّن له شهوة شديدة ليس كاستحقاق من هو أقلّ شهوة منه (٢).

ويمكن أن يكون المنشأ غير ذلك ممّا لا نعلمه.

ثمّ بعد تقسيم المادّة على قسمين ـ كما ذكرنا ـ خلق الله تعالى أرواح المؤمنين من عليّين ، وأرواح الكفار من سجّين ، بأن ميّز بين أجزاء تلك المادّة بالأعراض والحدود المختلفة وأفاض على كلّ شخص منها ما شاء من العلم والقدرة ، ثمّ عرض روح محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأرواح أوصيائه عليهم‌السلام على سائر الأرواح وكلّفهم بأشخاصهم بالإقرار بربوبيّته ونبوّة نبيّه الأكرم وولاية أوليائه المكرمين ، فآمن القسم الأوّل من الأرواح ، وسمّاهم أصحاب اليمين ، وكفر الآخرون ، وسمّاهم أصحاب الشمال.

وممّا يدلّ على ذلك ما في عدّة من الروايات من أنّ الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، رواه في البحار (٣) ، عن البصائر بسنده عن إسماعيل بن أبي حمزة عمن حدّثه عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وعن سلام بن أبي عمير عن عمارة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وعن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وعن أبي محمّد المشهدي من آل رجاء البجلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وعن أبي البلاد عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعن صالح بن سهل

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٤٢٥ ، البحار ٥ : ٢٤٥.

(٢) وبهذا علّل في بعض الروايات كفر تارك الصلاة دون الزاني كرواية مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه‌السلام ، فراجع العلل ٢ : ٣٣٩.

(٣) البحار ٦١ : ١٣١ ـ ١٣٨.

٢١٦

عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وعن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وفيه أيضا عن الكافي بسنده عن بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وعن معاني الأخبار مسندا عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وعن رجال الكشّيّ بسنده عن ميمون بن عبد الله عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وإشكال الشيخ المفيد ـ قدس الله نفسه الزكيّة ـ عليها من جهة السند بأنّها من أخبار الآحاد وليست مما يقطع بصحّته ، ومن جهة الدلالة بدعوى كون المراد منها خلق التقدير في العلم لا خلق ذواتها ، وإلاّ لزم كون الأرواح قائمة بذواتها غير محتاجة إلى الآلات التي تتعلّق بها ، ولزم أيضا أن نعرف ونذكر ما سلف لنا قبل الأجساد كما نعلم أحوالنا بعد خلق الأجساد ، وهذا محال (١) ... فانّه مدفوع بأنّ استشكاله ـ قدس‌سره ـ إنّما هو في أصل خلقة الإنسان قبل خلق تلك الأجساد المشهودة ، لا في خصوص تلك الجملة ، أعني خلق الأرواح قبل الأجساد. وعلى هذا يرد على ما قال في سند الأخبار أنّه مضافا إلى ما ذكرنا من أنّ هذه الجملة منقولة بطرق عديدة يمكن دعوى أنّه ليس في الأخبار المتواترة ما يبلغ هذا الحدّ من التواتر المعنويّ أو الإجماليّ ، بحيث يعدّ مضمون تلك الجملة من أحد الأدلّة النقليّة على سبق الخلقة ، وهذا واضح لمن لاحظ مجموع ما دلّ عليه في الأبواب المتعدّدة ، كما أشرنا إليها سابقا.

وأمّا إيراده على دلالتها فخال عن الإنصاف ، كما لا يخفى على من نظر إليها. وأمّا المحاذير العقليّة فكلّها استبعادات محضة ، إذ لا دليل على امتناع قيام الأرواح بأنفسها ، لا سيّما بعد ملاحظة ما ورد في كيفيّة خلقتها ، ولا دليل أيضا على امتناع النسيان ، خصوصا مع ورود أنّ الذكر من صنعه تعالى ، وأنّه أنساهم رؤيته ، كما مرّ في مبحث المعرفة الفطريّة.

التنبيه الرابع : عالم الأظلّة والأشباح

قد ورد في عدّة من الروايات التي سنذكرها التعبير بالأظلّة والأشباح. ولعلّ المراد

__________________

(١) البحار ٥ : ٢٦٦ ، عن المفيد في جواب المسائل السرويّة.

٢١٧

منها هي الأرواح. ووجه التعبير وجود مناسبة بين الروح وبينهما. أمّا الظلّ فهو الهواء الفاقد للضياء ، لا الصورة المحضة الخالية عن المادّة ، والروح من هذا القبيل ، كما صرّح به في الروايتين المتقدّمتين (١).

نعم فرق بين الروح والظلّ ، وهو أنّ الهواء في الظلّ المتحرّك يتبدّل ، والروح لا تتبدّل. ولعلّ وجه التعبير بالظلّ كون الروح جسما رقيقا في قبال الجسد الذي هو جسم غليظ ، بمنزلة الظلّ بالنسبة إلى الأجسام الغليظة الكثيفة ، أو كونها فاقدة للنور الحقيقيّ وهو نور العلم. والتعبير بالشبح أيضا يمكن أن يكون لبعض هذه الوجوه ، ففي اللغة : شبح فلان ، أي ظهر ومثل.

وبالجملة لا وجه لحمل الأظلّة والأشباح على الصور المحضة بلا مادّة لطيفة ، ولا على كون المراد منها سوى الأرواح ، بل يظهر من الروايات أنّ المراد منهما الأرواح.

ففي العلل بسنده عن الحسين بن أبي العلاء ، عن حبيب ، قال : حدّثنا الثقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق العباد وهم أظلّة قبل الميلاد ، فما تعارف من الأرواح ائتلف ، وما تناكر منها اختلف (٢).

وفيه أيضا بسنده عن حبيب ، عمّن رواه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : ما تقول في الأرواح أنّها جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف؟ قال : فقلت : إنّا نقول ذلك ، قال : فإنّه كذلك ، إنّ الله عزّ وجلّ أخذ من العباد ميثاقهم وهم أظلّة قبل الميلاد ، وهو قوله عزّ وجلّ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ ... ) (٣) ، قال : فمن أقرّ له يومئذ جاءت الالفة هاهنا ، ومن أنكره يومئذ جاء خلافه هاهنا (٤).

__________________

(١) الأولى ما في معاني الأخبار : ١٧ عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنّ الروح متحرّك كالريح ... الروح مجانس للريح ... الخبر. والثانية ما في البحار ٦١ : ٣٤ عن الاحتجاج عن الصادق عليه‌السلام : الروح جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا ... الروح بمنزلة الريح في الزقّ ... الخبر

(٢) علل الشرائع ٨٤ ، وعنه البحار ٦١ : ١٣٩.

(٣) الأعراف ١٧٢.

(٤) علل الشرائع ٨٤ ، وعنه البحار ٦١ : ١٣٩.

٢١٨

وعن الأمالي بسنده عن ابن محبوب ، عن أبي زكريّا الموصليّ ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم‌السلام ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ عليه‌السلام : أنت الذي احتجّ الله بك في ابتدائه الخلق حيث أقامهم أشباحا فقال لهم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى ، قال : ومحمّد رسولي؟ قالوا : بلى ، قال : وعليّ أمير المؤمنين؟ فأبى الخلق جميعا استكبارا وعتوّا عن ولايتك إلاّ نفر قليل ، وهم أقلّ الأقلّين ، وهم أصحاب اليمين (١).

وعن البصائر بسنده عن حذيفة بن أسيد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما تكاملت النبوّة لنبيّ في الأظلّة حتى عرضت عليه ولايتي وولاية أهل بيتي ، ومثلوا له فأقرّوا بطاعتهم وولايتهم (٢).

وعن تفسير العيّاشيّ عن زرارة وحمران ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، قالا : إنّ الله خلق الخلق وهي أظلّة ، فأرسل رسوله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من كذّبه ، ثمّ بعثه في الخلق الآخر ، فآمن به من كان آمن به في الأظلّة ، وجحده من جحد به يومئذ ، فقال : ما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل (٣).

وعن الكافي بسنده عن جابر بن يزيد ، قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : يا جابر إنّ الله أوّل ما خلق خلق محمّدا وعترته الهداة المهتدين ، فكانوا أشباح نور بين يدي الله ، قلت : وما الأشباح؟ قال : ظلّ النور ، أبدان نورانيّة بلا أرواح ، وكان مؤيّدا بروح واحدة وهي روح القدس ، فبه كان يعبد الله وعترته ، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء ، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل ، ويصلون الصلوات ، ويحجّون ويصومون (٤).

توضيح الخبر أنّهم كسائر أفراد الإنسان في هذه الدنيا أبدان ، واجد كلّ واحد منهم لروح مشخّصة هي جسم رقيق ، وهي حيّة كسائر الأرواح ومؤيّدة بنور مسمّى بروح القدس. وأمّا في عالم الأرواح فليسوا إلاّ تلك الأرواح الحيّة المؤيّدة بذلك النور الواحد ،

__________________

(١) البحار ٢٦ : ٢٧٢ ، عن أمالي الطوسيّ.

(٢) البحار ٢٦ : ٢٨١.

(٣) البحار ٥ : ٢٥٩.

(٤) البحار ١٥ : ٢٥ ، البحار ٦١ : ١٤٢.

٢١٩

لا روح لها سوى تلك الروح الواحدة. وحيث إنّها أجسام رقيقة مؤيّدة بالنور الواحد فصحّ التعبير عنها بأنّها أبدان نورانيّة. قوله : بلا أرواح ... أي من غير أن يكون لكلّ واحد منها روح مستقلة كالأبدان في الدنيا ، بل جميعها حيّة بروح واحدة هي روح القدس.

أقول : حمل هذه الروايات وأشباهها على مجرّد الصور وإنكار كونها أرواحا ناطقة مجيبة ، وكذا تأويل سائر الروايات الدالّة على سبق الأرواح كما مرّ عن المفيد ـ رحمه‌الله ـ مما لا ينبغي للمنصف.

التنبيه الخامس : لكلّ روح بدن يناسبها

ثمّ بعد خلق الأرواح بألفي سنة وأخذ العهد والميثاق منها خلق الله تعالى من جزء آخر من المادّة المذكورة ـ بعد جعله ترابا ـ لكل روح بدنا متناسبا ، أي خلق للروح المخلوقة من عليّين ومن العذب الفرات بدنا من عليّين ، وللروح المخلوقة من سجّين والملح الأجاج بدنا من سجين ، كما تدلّ عليه معتبرة جابر ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول في هذه الآية : ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) (١) ، يعني من جرى فيه شيء من شرك الشيطان. ( عَلَى الطَّرِيقَةِ ) يعني على الولاية في الأصل عند الأظلّة حين أخذ الله ميثاق بني آدم. ( لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) : يعني لكنّا وضعنا أظلّتهم في الماء الفرات العذب (٢).

ثمّ مزج بين الطينتين فمسح بكلّ بدن مخلوق من عليين مسحة من سجّين ، وبكل بدن مخلوق من سجّين مسحة من عليين ، وخلق منهما الأبدان الذرية ، وصار هذا الامتزاج والمسحة موجبا لصدور العصيان من المؤمن ، والحسنة من الكافر ، وفيه جبر لكسر وقع لأصحاب الشمال في خلقهم من سجّين والملح الأجاج ومزيد محنة لأصحاب اليمين يوجب زيادة أجرهم في الطاعات لوجود مقتضي العصيان فيهم أيضا.

ويستفاد من رواية العلل أنّه لم يفعل بطينة الأئمّة عليهم‌السلام ما فعل بطينة المؤمنين من

__________________

(١) الجن : ١٦.

(٢) البحار ٥ : ٢٣٤ ، عن تفسير القمّيّ.

٢٢٠