تنبيهات حول المبدأ والمعاد

الميرزا حسنعلي مرواريد

تنبيهات حول المبدأ والمعاد

المؤلف:

الميرزا حسنعلي مرواريد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: العتبة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 964-444-083-8
الصفحات: ٢٧٣

١
٢

٣
٤

مقدمة

منذ انتقل آية الله الميرزا مهديّ الغرويّ الأصفهانيّ ( ١٣٠٣ ـ ١٣٦٥ ه‍ ) من النجف الأشرف إلى مدينة مشهد المقدّسة عام ١٣٤٠ ه‍ عمل على تكوين نواة بين تلاميذه للاتّجاه الذي آمن به في اكتساب المعرفة الإسلامية.

كان الميرزا قد خرج من تجربة معرفيّة لم يطمئنّ إليها ، فعكف على النصّ الإسلاميّ من خلال القرآن والحديث ، من أجل إنارة العقل والفطرة الصافية. وعمد إلى تخليص قضايا العقل من شوائب الأوهام ، مستعينا على ذلك بتزكية النفس وتقواها ، مقتفيا إلى هدفه خطى المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. ذلك أنّه كان يرى في القرآن والحديث النبع الصافي الذي تستلهم منه المعرفة الأصيلة ، ويلتمس فيه الهدى والنجاة.

وفي ربع القرن الذي سلخه الميرزا في مشهد المقدّسة عقد حلقات درسه ، وألّف ما ألّف من كتبه ، جادّا في طريقته ، شديدا في نقده ، معنيّا بإيصال ما يهمّه إلى تلاميذه.

وكان ـ رحمه‌الله ـ مع ذلك من أعلام الفقه وفحول الأصول ، وألقى دروسا فيهما مدّة من الزمان ، وحيث كان يرى سدّ الفراغ في معرفة أصول الدين أهمّ وألزم ، أضاف إلى جلسات درسه في الفقه والأصول دروسا في معرفة المبدأ والمعاد.

كان له رحمه‌الله تلاميذ ، ثمّ لتلاميذه تلاميذ .. فيهم أعلام بارزون ، وفيهم مؤلّفون ، مزيّتهم أنّهم التزموا المنهج وحافظوا عليه. وحاول بعضهم تنظيم هذا الاتّجاه في طرائقه ومضامين معارفه ، واختار له اسم « مدرسة التفكيك » التي يراد بها : العودة إلى النصّ

٥

الأصيل بعيدا عن الامتزاج والتأويل (١).

وكتاب « تنبيهات حول المبدأ والمعاد » الذي يقدّمه مجمع البحوث الإسلاميّة اليوم هو أحد نتاجات هذه المدرسة ، يسلك بطالب المعرفة هذه المحجّة ، ويستدلّ بأصولها على فروعها.

مؤلّفه آية الله الميرزا حسنعلي مرواريد ـ المتولّد سنة ١٣٢٩ ه‍ ـ من علماء مشهد البارزين. وهو ينحدر من أسرة كريمة أنتجت طائفة من العلماء ، منهم والده المرحوم الشيخ محمد رضا ( ١٢٩٩ ـ ١٣٣٨ ه‍ ) المعروف بالتقى والصلاح. وعمّه الشيخ علي أكبر الذي كان من تلاميذ آية الله محمّد كاظم الخراسانيّ. ومن أجداده الخواجة شهاب الدين عبد الله مرواريد الكرمانيّ ( ٨٦٥ ـ ٩٩٢ ه‍ ) الذي كان من أدباء عصره ومشاهير الكتّاب فيه. وأمّا جدّه لأمّه فهو آية الله الشيخ حسنعلي الطهرانيّ ـ المتوفّى سنة ١٣٢٥ ه‍ ـ الذي كان من أبرز تلاميذ الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ الكبير. (٢)

وقد درس المؤلّف على عدّة من العلماء ، منهم الشيخ حسنعلي الأصفهانيّ. والشيخ

__________________

(١) ينظر كتاب « مكتب التفكيك » ، تأليف الشيخ محمد رضا الحكيمي. طبع الكتاب عام ١٤١٤ ه‍ في ٣٦٥ صفحة ، وكان في أصله بحثا نشرته مجلّة « كيهان فرهنگى » في عددها الثاني عشر الخاصّ في اسفند سنة ١٣٧١ ه‍. ش.

(٢) للاطّلاع على تراجم طائفة من أعلام أسرة المؤلّف تنظر هذه المصادر :

١ ـ أعيان الشيعة : السيّد محسن الأمين العامليّ ٩ : ١٨٥.

٢ ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : آقا بزرگ الطهرانيّ ٤ : ٣٧٦ ، ٣٧٧ ، ٣٧٩.

٣ ـ طبقات أعلام الشيعة ـ نقباء البشر : آقا بزرگ الطهرانيّ ١ / ١ : ٤٥٤ ـ ٤٥٥ ، ١ / ٢ : ٧٢٩ ، ١ / ٤ : ١٣٠١ ، ١٦٢٧ ، ١٦٥٥.

٤ ـ تاريخ علماء خراسان : ميرزا عبد الرحمن المدرّس الأوّل في الآستانة الرضويّة ٣٠٢.

٥ ـ فهرست كتابخانه آستان قدس رضوي ٥ : ٥٧٥.

٦ ـ اطلس خطّ : حبيب فضائلي ٣٢٧ ، ٣٤٦ ، ٤٠٨.

٧ ـ كرامات رضويّة : علي أكبر مروّج الإسلام ١ : ٣٠١ ـ ٣٠٢.

٨ ـ الكلام يجرّ الكلام : السيّد أحمد الزنجاني ١ : ٥٥ ـ ٥٦.

٩ ـ گنجينه دانشمندان : محمّد شريف الرازيّ ٢٧٢.

١٠ ـ منتخب التواريخ : هاشم الخراسانيّ ٦٢٦ ، ٦٣١ ، ٧٠٠.

١١ ـ هديّة الرّازي إلى الإمام المجدّد الشيرازيّ : آقا بزرگ الطهرانيّ ٨٦ ـ ٨٧.

٦

هاشم القزوينيّ. بيد أنّ جلّ تتلمذه كان على آية الله الميرزا مهديّ الأصفهانيّ ، إذ لازمه حتى وفاة الميرزا قدس‌سره (١). وابتدأ بتدريس خارج الفقه بعد سنتين أو ثلاث سنين من وفاة الأستاذ إلى زهاء أربعين سنة ، وألقى خلال هذه السنين دروسا في المعارف ، وتخرّج عليه العديد من العلماء والفضلاء.

وهذا الكتاب الّذي نضعه في أيدي القرّاء الأعزّاء هو خلاصة من دروس ألقاها المؤلّف في دورات متعدّدة ، ثمّ جعلها في كتاب مستقلّ استجابة لرغبة ثلّة من تلاميذه ، ليكون في متناول أيدي الطلبة والدارسين.

وقد عني كتاب « تنبيهات حول المبدأ والمعاد » ـ كما يدلّ عنوانه ـ بقضايا المعتقد الإسلاميّ في التوحيد والصفات ، وفي خلق الروح الإنسانيّة ، وفي أفعال الإنسان ، وفي المصير والعودة إلى الله تعالى ، وفيما يتّصل بهذه القضايا الاعتقاديّة من فروع وتفصيلات.

إنّ غاية المجمع ، في تقديم هذا الكتاب ، أن يهيّئ للقارئ فرصة جديدة للاطّلاع على لون من نتاجات مدرسة التفكيك ، وللوقوف على مقوّماتها وملامح تفكيرها ... والله جلّ جلاله الهادي إلى السبيل.

مجمع البحوث الإسلاميّة

__________________

(١) كان المرحوم الميرزا الأصفهانيّ من أوائل تلاميذ النائينيّ ومن المبرّزين لديه. ودرس كذلك على السيّد محمّد كاظم اليزديّ ، والسيّد إسماعيل الصدر. ونهل في السير والسلوك على عدّة من العلماء منهم السيّد أحمد الكربلائيّ رضوان الله عليهم أجمعين.

٧
٨

تنبيهات

حول المبدأ والمعاد

٩
١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

وبعد ، فهذه جملة من الأمور الاعتقاديّة المرتبطة بمعرفة الحقّ المتعال جلّت عظمته ، ومعرفة النفس التي فيها معرفة الربّ ، ومعرفة أنّها من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟.

اهتدينا إليها بالآيات المباركة ، وبما روي عن المعصومين سلام الله عليهم ، إمّا بالاستضاءة منها في تبيّن الحقائق ، والانتباه لوجوه الاستدلال وإقامة البراهين في ما يستقلّ به العقل ، أو التمسّك بها في ما لا يثبت إلاّ من طريق الوحي.

كتبتها تذكرة لنفسي ورجاء لانتفاع غيري من طالبي العلم والحكمة. والله المؤيّد المعين.

تنبيهات في مبدأ

ضرورة البرهان

لا بدّ في إثبات كلّ أمر من حجة وبرهان ، كما تشير إليه الآيات الكريمة التالية :

١١

( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١).

( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) (٢).

( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (٣).

( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٤).

( فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ) (٥).

( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ). (٦)

( وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ) (٧).

وتلك الحجّة والبرهان لا بدّ من أن تكون حجيّتها ذاتيّة أو منتهية إليها ، وإلاّ لزم الدور أو التسلسل الباطلان ، وأن لا يثبت أمر ، فإنّ إثبات صدق القضيّة في صغرى البرهان المصطلح أو كبراه الذي يتوقّف عليه الإنتاج ، إن لم يكن بحجّة ذاتيّة أو منتهية إليها ، فإمّا أن ينتهي إلى نفس البرهان ويتوقّف عليه فهو الدور ، وإلاّ فيتسلسل.

« البرهان » في القرآن الكريم

يظهر من التدبّر في الآيات المتقدمة وغيرها وموارد نزولها أنّ البرهان والحجّة عبارة عن كل ما يوضح الأمر ، ويصحّ أن يحتجّ به ، سواء كان مؤلّفا من القضايا أم لا ، كالعقل والعلم ، وكالنبيّ والإمام ، والمعجزة ، ومطلق الآيات التكوينيّة ، فلا وجه لحمله على البرهان المصطلح بما له من تفصيل الشرائط.

فمتى قام أحد الأمور المذكورة ممّا يصحّ إطلاق الحجّة والبرهان بمعناها اللغويّ عليه ـ وإن كان مجازا من باب تسمية الجزء باسم الكلّ ، وتسمية السبب باسم المسبّب ـ

__________________

(١) النمل ٦٤.

(٢) الأنبياء ٢٤.

(٣) المؤمنون ١١٧.

(٤) النساء ١٧٤.

(٥) القصص ٣٢.

(٦) الأنعام ١٤٩.

(٧) الأنعام ٨٣.

١٢

فإنّه يكتفى به عقلا وعرفا ، كما عليه السيرة العقلائيّة حتى من علماء المنطق والفلسفة ، فإنّهم كثيرا ما يعتمدون في إثبات مرامهم على ما يوضح المطلوب ، أي على المنطق الارتكازيّ ، من دون تكلّف النظر إلى مباحث المنطق المصطلح.

الحجّة الذاتيّة هو العلم والعقل

الحجّة الذاتيّة التي لا بدّ من أن ينتهي جميع الحجج والبراهين إليها ـ بل بها قوامها ـ هي حقيقة العلم ، والعقل الذي حقيقته من حقيقة العلم ، كما سيأتي التنبيه عليه.

وممّا يشهد على ما ذكرنا احتجاج العقلاء وكذلك الكتاب والسنّة بهما في قولهم : ألم تعلم وأ لم تعقل ، ونحوهما ، فتدبّر.

الإنكار أو التشكيك في حجّيّة العقل من بعض الأخباريّين

من العجب خفاء حجيّة العقل على بعض ، كما يظهر من ملاحظة التعبيرات المحكيّة عنهم. فعن غير واحد من الأخباريّين ـ على ما في رسائل الشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة غير الضروريّة.

وعن بعض الأعاظم قدس‌سره توضيحا لكلام الشيخ : أنّ مرادهم ليس هو القطع ـ الذي هو حالة نفسانيّة بخلاف العلم والعقل ـ فإنّ الذي قاله الأصوليّون وأنكر عليهم الأخباريّون القول بأنّ أدلّة الأحكام الشرعيّة أربعة ، منها العقل ، فأنكروا عليهم تارة بعدم حجّيّة العقل فيها رأسا ، كما يظهر عن بعضهم ، وأخرى بعدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة ، كما هو ظاهر كلمات بعض آخر (١).

وعن بعض المحدّثين ـ بعد الإشكال بوقوع الخطاء في العقليّات والشرعيّات كليهما ـ قال : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة باطلة عقليّة بالمقدّمة النقليّة ، وقال الشيخ قدس‌سره : المستفاد من كلامه عدم حجيّة إدراكات العقل في غير المحسوسات وما تكون مباديه قريبة من الإحساس ، إذا لم تتوافق عليه العقول.

__________________

(١) انظر خاتمة مستدرك الوسائل ، الفائدة الحادية عشرة.

١٣

وعن بعضهم في ذيل كلام المحدّث المذكور : وتحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه. فإن قلت : قد عزلت العقل عن الحكم في الاصول والفروع ، فهل يبقى له حكم في مسألة من المسائل؟ قلت : أما البديهيّات فهي له وحده ، وأما النظريّات فإن وافقها النقل وحكم بحكمها قدّم حكمه على النقل وحده. وأمّا لو تعارض هو والنقلي فلا شك عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى ما حكم به العقل (١).

الجواب عن مقالتهم بذكر بعض الآيات والأحاديث

أقول : كيف تتلاءم هذه التعابير مع ما ورد في القرآن الكريم في شأن العقل وأولي الألباب المفسّرة بأولي العقول ، من حثّ الناس على التعقل ، والإنكار على ترك التعقّل ، وذمّه بقوله تعالى : ( أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) (٢). والتوعيد بقوله : ( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) (٣).

وما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : استرشدوا العقل ترشدوا ، ولا تعصوه فتندموا (٤).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما يدرك الخير كلّه بالعقل ، ولا دين لمن لا عقل له (٥).

وعن الصادق عليه‌السلام : حجة الله على العباد النبيّ ، والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل (٦).

وعن الصادق عليه‌السلام : العقل دليل المؤمن (٧).

وعن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في خبر ابن السكّيت : حيث قال : فما الحجّة على الخلق اليوم؟ قال : العقل ، يعرف به الصادق على الله فيصدّقه ، والكاذب فيكذّبه (٨).

__________________

(١) رسائل الشيخ الأنصاريّ : مبحث القطع.

(٢) يس ٦٢.

(٣) يونس ١٠٠.

(٤) البحار ١ : ٩٦ ، عن كنز الفوائد.

(٥) تحف العقول ٥٤ ، وعنه البحار ٧٧ : ١٥٨.

(٦) الكافي ١ : ٢٥.

(٧) الكافي ١ : ٢٥.

(٨) الكافي ١ : ٢٥ ، البحار ١ : ١٠٥.

١٤

وعن موسى بن جعفر عليه‌السلام في وصيّته لهشام : إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال : ( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (١) ... ثم ذمّ الذين لا يعقلون فقال : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) (٢). وقال : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) (٣) ... إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول ... ولا علم إلاّ من عالم ربّانيّ ، ومعرفة العالم بالعقل (٤).

وفي تفسير الإمام عليه‌السلام في قصّة آدم وحواء : .... فأرادت الملائكة أن تدفعها عنها بحرابها ، فأوحى الله إليهم : إنّما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره ، فأمّا من جعلته ممكّنا مميّزا مختارا فكلوه إلى عقله الذي جعلته حجّة عليه ... الخبر (٥).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : العقول أئمّة الأفكار (٦).

وعنه عليه‌السلام : العقل شرع من داخل ، والشرع عقل من خارج (٧).

وبالجملة : التعبير بأنّه حجة الله وسائر ما ورد في تعظيمه ينافي التشكيك في حجّيّته واحتمال الخطاء في أحكامه ، أو التبعيض فيها بعد فرض إدراك العقل لها. وليس ذلك إلاّ من جهة عدم عرفان حقيقة العقل وأحكامه ، وتوهّم أنّ كل ما يحصّله الإنسان ويستنتجه من المقدّمات فهو حكم العقل.

فلا بدّ من التحقيق في هذين المقامين ، كما أشار إليه ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام : اعرفوا العقل وجنده ، والجهل وجنده تهتدوا ... وإنّما يدرك الحقّ بمعرفة العقل وجنوده ،

__________________

(١) الزمر ١٧ ، ١٨.

(٢) البقرة ١٧٠.

(٣) الانفال ٢٢.

(٤) تحف العقول ٣٨٣ ، وعنه البحار ١ : ١٣٢ ، ورواه في الكافي ١ : ١٣ بتفاوت.

(٥) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكرى عليه‌السلام : ٢٢٣ ، وعنه البحار ١١ : ١٩١.

(٦) البحار ١ : ٩٦ ، عن كنز الفوائد.

(٧) مجمع البحرين ٥ : ٤٢٥.

١٥

وبمجانبة الجهل وجنوده (١).

العقل والنفس عند الفلاسفة ، وفي الكتاب والحديث

ينبغي ذكر إجمال ممّا قاله بعض الحكماء في شأن النفس والعقل وحقيقتهما ، كي يمتاز ما قالوا به في هذا الباب عمّا نطق به الكتاب الكريم والرسول الأكرم والأئمّة المعصومون عليهم‌السلام ، ويظهر أنّ الحقيقة التي سمّوها بالعقل أجنبيّة عن الحقيقة المسمّاة في الروايات ـ بل وعند العرف أيضا ـ بالعقل.

فعن غير واحد : أنّ للنفس قوى يشترك فيها النبات ، والحيوان ، والإنسان ، وقوى تختصّ بالإنسان ، والقوى المشتركة في الثلاثة أصولها ثلاثة : الغاذية ، والنامية ، والمولّدة.

والقوى المشتركة بين الإنسان والحيوان على قسمين : مدركة ، ومحركة ، والقوى المدركة عشر : خمس في الظاهر ، وخمس في الباطن ، والقوى الظاهرة : الباصرة ، والسامعة ، والذائقة ، واللامسة ، والشامّة.

والقوى الباطنة ـ على ما قاله بعضهم ـ : أوّلها الحسّ المشترك ، وهو الذي ترتسم فيه صور الأشياء المحسوسة بالحواسّ الظاهرة.

والثانية : الخيال ، وهو الذي يحفظ ما يرتسم في الحسّ المشترك.

والثالثة : الواهمة ، وهي التي تدرك بها المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات.

والمراد بالمعنى ما لا يدرك بالحواسّ الظاهرة ، كعداوة زيد ، ومحبّة عمرو ، ومحبّة الشاة لولدها ، وعداوة الذئب لها.

والرابعة : الحافظة ، وهي التي تحفظ المعاني الجزئيّة ، ونسبتها إلى الواهمة كنسبة الخيال إلى الحسّ المشترك.

والخامسة : المتخيّلة ، وهي التي تركّب بين الصور والمعاني ، فتثبت بعضها لبعض ، وتنفي بعضها عن بعض. وعن بعضهم : أنّ محلّ تلك القوى الدماغ.

والقوى المحرّكة المشتركة بين الإنسان والحيوان تنقسم إلى : باعثة ، وفاعلة ،

__________________

(١) علل الشرائع : ١١٣ ؛ وفي المحاسن : ١٩٨ ، والخصال : ٥٩١ : وإنّما يدرك الفوز ...

١٦

والباعثة هي التي إذا حصلت في الخيال صورة أمر مطلوب حصوله ، أو أمر مطلوب دفعه ، بعثت القوّة الفاعلة. ويعبّر عنها في الأوّل ( أي في حصول أمر مطلوب حصوله ) بالقوّة الشهويّة ، وفي الثاني ( أي في حصول أمر مطلوب دفعه ) بالقوّة الغضبيّة. والقوّة الفاعلة هي التي تحرّك آلات التحريك نحو العمل.

وعن بعضهم أنّ للنفس الإنسانيّة قوّتين تختصّان بها ، إحداهما ما يعبّر عنه بالعقل العملي ، والثانية ما يعبّر عنه بالعقل النظري. والعقل النظري ما يتهيّأ به لحصول المعقولات ، أي المفاهيم الكلّيّة بالفكر والنظر ممّا ليس من شأنه أن يعمل ، والعقل العملي ما من شأنه أن يعمله بإرادته.

قالوا : ما ترتسم فيه المفاهيم الكليّة هي النفس المجرّدة لا البدن ، بخلاف الامور الجزئيّة ، فعن المشهور أنّ محلّها البدن ، كما ذكرنا ( وعن كثير من المتأخّرين بل المشهور بينهم أنّها أيضا من شئون النفس وأطوارها ، قال السبزواري في منظومته : النفس في وحدتها كلّ القوى ) (١).

وقالوا أيضا : العقل له مراتب أربع : العقل الهيولائيّ ، والعقل بالملكة ، والعقل بالفعل والعقل المستفاد. وتفصيلها أنّ النفس لها مراتب أربع عبّر عنها جميعا بالعقل :

الاولى : ما يسمّى بالعقل الهيولائيّ ، وهي قوّة استعداد انتزاع ماهيات الموجودات على النحو الكلّي.

الثانية : أن تصل إلى مرتبة حصول هذا الاستعداد وفعليّتها فيه ، ويعبّر عن تلك المرتبة بالعقل بالملكة ، أي حصلت له ملكة ، أي حالة راسخة يقتدر بها على تصوّر المفاهيم الكليّة.

الثالثة : أن تحصل لها تلك الامور فعلا ، أي ترتسم فيها فعلا المفاهيم الكليّة بالاستنتاج والنظر ، سواء كانت حاضرة في النفس ، أي مشهودة لها ، أو صارت بعد حصولها في النفس تحصل بأدنى التفات وقال بعضهم : النفس حينئذ تكون عقلا وعاقلا ومعقولا ، ويعبّر عن النفس في تلك المرتبة بالعقل بالفعل. والعقل النظريّ عندهم هو مقام

__________________

(١) شرح المنظومة ٣٠٩.

١٧

فعليّة وكمال للنفس في استخراج النظريّات عن الضروريّات. وبعبارة أخرى : إذا وصلت النفس إلى حدّ حصل لها استخراج النظريّات من الضروريّات في جميع المطالب أو في كثير منها فإنّه يعبّر عنها بالعقل الفعلي أو بالفعل. وحكم العقل حينئذ ما يحصل له من النتيجة بسبب الاستخراج المذكور.

الرابعة : أن لا تحتاج في حصول تلك الصور الكليّة وارتسامها في النفس إلى استنتاج وفكر ونزع وتجريد ، بل تفاض عليها تلك الصور الكليّة بواسطة الاتصال بالعقل الفعّال الذي هو مخزن تلك الصور الكليّة ، لا بالفكر والتجريد.

هذا خلاصة ما ذكره بعض محقّقيهم في العقل ، وحاصلها أنّ العقل هو النفس بما لها المراتب الأربع.

فنقول : لا ننكر القوى المودعة في جسد الإنسان الحيّ ، ولا في النفس الإنسانيّة المعبّر عنها تارة بالنفس وأخرى بالروح ، وأخرى بالقلب ـ على أحد معنييهما ـ التي يعبّر عنها بـ « أنا » ، ولا ننكر أيضا القوى المودعة في طبيعة الحيوان ، ولا المودعة في الإنسان ، ولا المراتب الأربع المفروضة فيه.

ولا يهمّنا التعرّض لها والتحقيق فيها ، وإقامة الدليل على إثباتها أو نفيها. إلاّ أنّ الذي يهمّنا وينبغي التنبيه عليه هو أنّ حقيقة العقل الذي به تدرك المعقولات ، وحقيقة العلم الذي به تدرك المعلومات ، وبه يحتجّ الكتاب والسنّة أجنبيّ عن ذلك كلّه ، وعن حقيقة الإنسان المعبّر عنها بلفظ « أنا » ، وعن المراتب المذكورة لها. بل هو النور المتعالي عن ذلك كلّه.

والنفس وجميع قواها بجميع مراتبها ـ التي تصل إليها في كمالها ـ مظلمة محضة في ذاتها ، وفاقدة بذاتها لتلك الحقيقة النوريّة ، وصيرورتها عالما عاقلا إنّما هي بوجدانها لتلك الحقيقة ( أي العلم والعقل ) بما للوجدان من المراتب ، من غير أن تدخل النفس في حالة من الحالات في صقع تلك الحقيقة النوريّة ، أو تتنزّل تلك الحقيقة وتصير من مراتب النفس.

ولا تزال تلك الحقيقة النوريّة تكون هكذا بالنسبة إلى جميع الحقائق الخارجيّة

١٨

وإلى جميع الصور والمعاني الجزئيّة والكليّة الذهنيّة. حتى بالنسبة إلى النفوس الكاملة العالية.

وإنّ تسمية المراتب الأربع المتقدّمة بالعقل اصطلاح محض ، ولعله مبعّد عن نيل حقيقة العقل الواقعيّ الذي نبّه عليه الكتاب والسنّة.

فصل في ذكر بعض ما ورد من الروايات المباركة في : شأن العقل وحقيقته وأحكامه :

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علمه الذي لم يطّلع عليه نبيّ مرسل ولا ملك مقرّب ، فجعل العلم نفسه ، والفهم روحه ، والزهد رأسه ... الخبر (١).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه سئل ممّا خلق الله عزّ وجلّ العقل؟ قال : ... فإذا بلغ كشف ذلك الستر ، فيقع في قلب هذا الإنسان نور فيفهم به الفريضة والسنّة ، والجيّد والرديّ ، ألا ومثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت (٢).

وعن موسى بن جعفر عليهما‌السلام في وصيّته لهشام : وإنّ ضوء الروح العقل (٣).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ : العقل منه الفطنة ، والفهم ، والحفظ ، والعلم (٤).

وعنه عليه‌السلام : دعامة الإنسان العقل ، ومن العقل الفطنة ، والفهم ، والحفظ ، والعلم. فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالما ، حافظا ، ذكيّا ، فطنا ، فهما. وبالعقل يكمل ، وهو دليله ، ومبصّره ، ومفتاح أمره (٥).

وعنه عليه‌السلام : خلق الله العقل من أربعة أشياء : من العلم ، والقدرة ، والنور ، والمشيئة

__________________

(١) الخصال ٤٢٧.

(٢) البحار ١ : ٩٩ ، عن علل الشرائع.

(٣) تحف العقول ٣٩٦ ، وراجع ص ١٥ الهامش ٤.

(٤) الكافي ١ : ٢٥.

(٥) البحار ١ : ٩٠ ، عن علل الشرائع.

١٩

بالأمر ، فجعله قائما بالعلم ، دائما في الملكوت (١).

ففي هذه الروايات عرّفوا العقل بأنّه من نور ، وأنّه نور ، وأنّ مثله في القلب كمثل السراج في وسط البيت. وأنّه خلق من العلم ، وأنّه قائم بالعلم ، وأنّ منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم. ثم عرّفوا العلم بأنّه نور ، كما في رواية عنوان البصري : ليس العلم بالتعلّم ، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه (٢).

وستأتي روايات أخرى تدلّ على ذلك.

ويظهر منها أنّ : العقل ـ وكذلك العلم ـ حقيقة نوريّة مغايرة للقلب ولحقيقة النفس الإنسانيّة المشار إليها بلفظة « أنا » ، لما مرّ من أنّ صيرورة الإنسان عالما وعاقلا إنّما هي بوجدانه لهذه الحقيقة النوريّة ، بما له ( أي للوجدان ) من المراتب ، من دون تداخل بينه وبينها في حقيقتهما.

حقيقة العلم هو النور الظاهر بذاته المظهر لغيره

قد مرّ آنفا في بعض الروايات أنّ العقل خلق من العلم ، فينبغي التذكير بهذه الحقيقة ( أي العلم ) ، فنقول :

حيث إنّ العلم هو الكاشف والمظهر ، ولا كاشف ولا مظهر في المخلوقات سواه فلا محالة أن يكون هو المظهر لغيره ولنفسه أيضا.

كما عن صحيفة إدريس : بالحقّ عرف الحقّ ، وبالنور اهتدي إلى النور ، وبالشمس ابصرت الشمس ، وبضوء النار رئيت النار (٣).

ويقرب منه التعريف المشهور للنور بأنه الظاهر بنفسه المظهر لغيره.

فنقول :

إنّ الإنسان إذا توجّه إلى نفسه يجد أنّ له الشعور بها وبكونها وتحقّقها ، وإذا توجّه

__________________

(١) البحار ١ : ٩٨ ، عن الاختصاص.

(٢) البحار ١ : ٢٢٥ ، عن الشيخ البهائيّ.

(٣) البحار ٩٥ : ٤٦٦ ، عن نسخة وجدها ابن متّويه.

٢٠