تنبيهات حول المبدأ والمعاد

الميرزا حسنعلي مرواريد

تنبيهات حول المبدأ والمعاد

المؤلف:

الميرزا حسنعلي مرواريد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: العتبة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 964-444-083-8
الصفحات: ٢٧٣

فلا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء. ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء (١).

وفي تفسير قوله تعالى : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) (٢) عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله صلوات الله عليه ما يقرب منه (٣).

وفي رواية اخرى عن زرارة : أنّ رجلا سأل أبا جعفر صلوات الله عليه عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ... ) فقال وأبوه يسمع : حدّثني أبي أنّ الله عزّ وجلّ أخذ قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم عليه‌السلام ، فصبّ عليها الماء العذب الفرات ، فتركها أربعين صباحا ، فلمّا اختمرت الطينة أخذها تبارك وتعالى ، فعركها عركا شديدا ... فخرجوا كالذرّ من يمينه وشماله ، فأمرهم جميعا أن يقعوا في النار ، فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم بردا وسلاما ، وأبي أصحاب الشمال أن يدخلوها (٤).

وفي رواية محمّد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله صلوات الله عليه قال : إنّ الله عزّ وجلّ لمّا أراد أن يخلق آدم عليه‌السلام أرسل الماء على الطين ، ثم قبض قبضة فعركها ، ثم فرقها فرقتين بيده ، ثم ذرأهم فإذا هم يدبّون ، ثم رفع لهم نارا فأمر أهل الشمال أن يدخلوها ، فذهبوا إليها فهابوها فلم يدخلوها ، ثمّ أمر أهل اليمين أن يدخلوها ، فذهبوا فدخلوها ، فأمر الله جلّ وعزّ النار فكانت عليهم بردا وسلاما. فلمّا رأى ذلك أهل الشمال قالوا : ربّنا أقلنا ، فأقالهم ، ثمّ قال لهم : ادخلوها ، فذهبوا فقاموا عليها ولم يدخلوها ، فأعادهم طينا ، وخلق منها آدم ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فلن يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، قال : فيرون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّل من دخل تلك النار ،

__________________

(١) البحار ٥ : ٢٥٢ ، عن المحاسن. الظاهر أن المراد من عدم الاستطاعة أن كلّ واحد من أصحاب اليمين وأصحاب الشمال لا يستطيع أن يغيّر ما جعل الله في فطرته من دواعي الخير والشرّ. وقد أثبتنا في بعض التنبيهات أنّ بعد إفاضة القدرة على منع ترتّب المقتضي على المقتضي ، لا توجب الدواعي إلاّ سهولة العمل وصعوبته ، لا العجز المنافي للتكليف.

(٢) الأنعام ٢٨.

(٣) البحار ٥ : ٢٥٦ ، عن تفسير العيّاشيّ.

(٤) الكافي ٢ : ٧ ، وفي البحار ٥ : ٢٥٧ عن العيّاشيّ عن زرارة أنّ رجلا سأل أبا عبد الله عليه‌السلام ... الخبر.

١٢١

فذلك قوله جلّ وعزّ : ( قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ) (١).

ويمكن استظهار وجه التسمية بأصحاب اليمين وأصحاب الشمال مما في رواية إبراهيم عن أبي عبد الله صلوات الله عليه قال : إن الله عزّ وجلّ لمّا أراد أن يخلق آدم عليه‌السلام بعث جبرئيل في أوّل ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة ، فبلغت قبضته من السماء السابعة إلى السماء الدنيا ، وأخذ من كل سماء تربة ، وقبض قبضة اخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى ، فأمر الله عزّ وجلّ كلمته فأمسك القبضة الاولى بيمينه ، والقبضة الاخرى بشماله ، ففلق الطين فلقتين ، فذرا من الأرض ذروا ، ومن السماوات ذروا ، فقال الذي بيمينه : منك الرسل والأنبياء ، والأوصياء ، والصديقون ، والمؤمنون ، والسعداء ، ومن أريد كرامته ، فوجب لهم ما قال كما قال. وقال للذي بشماله : منك الجبّارون والمشركون والكافرون والطواغيت ومن أريد هوانه وشقوته ، فوجب لهم ما قال كما قال.

ثم إنّ الطينتين خلطتا جميعا فذلك قول الله عزّ وجلّ : ( إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ) (٢) ، فالحبّ طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته ، والنوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل خير. وإنّما سمّي النوى من أجل أنّه نأى من كل خير وتباعد عنه ، وقال الله عزّ وجلّ : ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ ) (٣) ، فالحيّ المؤمن الذي يخرج طينته من طينة الكافر ، والميت الذي يخرج هو من الحيّ هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن. فالحيّ المؤمن ، والميت الكافر ، وذلك قول الله عزّ وجلّ : ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ) (٤) فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر ، وكان حياته حين فرق الله عزّ وجلّ بينهما بكلمته. كذلك يخرج الله عزّ وجلّ المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى النور ، وذلك قوله

__________________

(١) الزخرف ٨١ ـ الكافي ٢ : ٧.

(٢) الأنعام ٩٥.

(٣) الأنعام ٩٥.

(٤) الأنعام : ١٢٢.

١٢٢

عزّ وجلّ : ( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ) (١).

أقول : الظاهر أنّ هذا الفعل من الله تعالى كان قبل التكليف بدخولهم في النار بتوسّط كلمته التي يتصوّر منها اليمين والشمال. ويمكن أن يكون وجه التسمية شيئا آخر ، لما في بعض الروايات : وكلتا يديه يمين (٢).

وفي رواية ابن اذينة عن أبي عبد الله صلوات الله عليه قال : كنّا عنده فذكرنا رجلا من أصحابنا فقلنا : فيه حدّة ، فقال : من علامة المؤمن أن تكون فيه حدّة ، قال : فقلنا له : إنّ عامّة أصحابنا فيهم حدّة ، فقال : إن الله تبارك وتعالى في وقت ما ذرأهم ، أمر أصحاب اليمين ـ وأنتم هم ـ أن يدخلوا النار فدخلوها ، فأصابهم وهج ، فالحدّة من ذلك الوهج ، وأمر أصحاب الشمال ـ وهم مخالفوهم ـ أن يدخلوا النار فلم يفعلوا ، فمن ثمّ لهم سمت ، ولهم وقار (٣).

عدم رجوع المعرفة الفطرية إلى المعرفة بالآيات

في رواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قوله : فعرّفهم وأراهم صنعه ، ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه ... (٤). لعلّ المراد من قوله عليه‌السلام : « أراهم صنعه » أي أراهم معرفته التي هي صنعه تعالى. فلا دلالة فيه على أنّ هذه المعرفة كانت من طريق الآيات والمصنوعات بأنّ كل مصنوع لا بدّ له من صانع. فما عن بعض من إرجاع المعرفة الفطرية إلى مجرّد المفطورية على الإقرار بالصانع من باب حكم العقل ممنوع ، لأنّ نتيجة الاستدلال بالآيات ـ كما مرّ ـ إثبات وجود صانع جامع للكمالات ، منزّه عما لا يليق به على النحو الكلّي ، وأمّا وجدانه من غير تصور ولا مجال استدلال على وجه يدعوه ويأنس به ويتضرّع إليه ، ويجده قريبا سميعا بصيرا قادرا رءوفا رحيما ، كما هو ظاهر لمن وجده في البأساء والضرّاء فلا يقتضي الاستدلال ذلك.

__________________

(١) يس : ٧٠ ـ البحار ٦٧ : ٨٧ ، عن الكافي.

(٢) البحار ٥ : ٢٣٧ ، عن تفسير القمّيّ.

(٣) البحار ٥ : ٢٤١ ، عن علل الشرائع.

(٤) راجع ص ١١٣. ولفظ الرواية ـ كما في الكافي ـ : ... وأراهم نفسه ... ، وعليه فلا وجه للتوهّم المذكور.

١٢٣

وبينهما فرق ظاهر ، ففي الأوّل يعلم بالآثار أنّ له مولى عالما قادرا رءوفا رحيما ، وفي الثاني يصل إليه ويخاطبه ويأنس به ، وإن لم يره ببصره ولم يعلم له كيفية.

كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : ولو لا ذلك لم يعرف أحد من خالقه ولا من رازقه (١).

ومما يظهر منه أنّه ليس من جهة الاستدلال العقلي ولا من جهة أنس الذهن : تجلّيه تعالى بالوحدانيّة على قلوب المشركين ، كما دلّت عليه الآيات المتقدّمة ، فإنّه خلاف ما أنسوا به من الشرك كما مرّ.

تنبيه وتفريع

ثبوت هذه الحقيقة ـ أي المعرفة الوجدانيّة التي فطر الناس عليها ـ أوجب سهولة الأمر على الأنبياء في إتمام الحجة على اممهم في مقام الدعوة إلى الله وإلى توحيده. ولعلّه ملاك قتل المشركين بمجرد الدعوة إلى الله تعالى وإلى توحيده ، وإظهار الشرك منهم ، وملاك صحة إيمان الأطفال بمجرد بلوغهم وإن لم يكونوا على حدّ يصلح الاستدلال العقلي لهم ، وصحّة إيمان النساء والرجال الذين لا يتيسّر لهم الاستدلال من طريق العقل ، كما قامت عليه السيرة.

والحاصل أنّه لا يحتاج ـ في صحة الإيمان بالله تعالى وبتوحيده لو آمنوا ، وفي ثبوت الكفر بترك الإيمان ـ إلى سبق الاستدلال العقلي العاجز عنه كثير من الناس.

نعم ، حكم العقل والاستدلال به مؤكّد للحجة على الكفار ، وقاطع آخر للاعتذار ، ولو أظهر أحد الشك أو شك واقعا لأجل خفاء هذه الفطرة بسبب من الأسباب فإنّه هو الذي يحتاج إلى الاستدلال العقلي من طريق العقل. وإلا فالأصل الأصيل الذي يكتفى به في عرفان الربّ تعالى شأنه والإيمان به المعرفة الفطرية.

__________________

(١) راجع ص ١١٥.

١٢٤

ظهور المعرفة الفطرية في حال الانقطاع عن غيره تعالى

الذي دعانا إلى إثبات تقدّم خلقة الأرواح بالروايات المباركات ـ وإن لم نكن في هذا المقام ـ تأييد الروايات المشتملة على فطريّة المعرفة بالله. وسنذكر الإشكالات التي أوردوها عليها والجواب عنها إن شاء الله تعالى.

وخلاصة ما ذكرناه أنّ مفطورية كل إنسان على معرفته تعالى وتوحيده ، وظهور هذه الفطرة في البأساء والضراء وفي بعض الحالات التي ينقطع فيها عن التوجّه إلى غيره تعالى ، في الصلاة وفي غيرها من العبادات ممّا يشهد به الوجدان ، وتدلّ عليه الروايات المتواترة التي تقدّم ذكر بعضها ، وهي من إحدى الحجج ، كما قال الرضا صلوات الله عليه في خطبته : وبالفطرة تثبت حجّته (١) وأشار إليه قوله تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (٢).

أقول : لو سألت من اتّفق له تلك المكاشفة ـ ولو في دقيقة ـ إلى من التجأت وإلى من تضرّعت؟ إلى شيء أم لا؟ ليقولنّ : إلى شيء لا كالأشياء.

إلى حيّ أم إلى ميّت؟ ليقولنّ : إلى حيّ.

إلى قادر أم إلى عاجز؟ ليقولنّ : إلى قادر.

إلى سميع بصير أم إلى غير سميع بصير؟ ليقولنّ إلى سميع بصير.

إلى قريب أم إلى بعيد؟ ليقولن إلى قريب. كل ذلك بلا شبيه ونظير.

ويشعر بما ذكرنا لفظة الله في قوله تعالى : ليقولنّ الله الدال على كونه تعالى مفزعا لجميع المخلوقين في عين تحيّر قلوبهم في شأنه ، لمستوريّته عن حواسّهم وانقطاعهم عن درك ماهيته ، لكونه الفرد الذي لا نظير له.

وهذا معنى كونه تعالى واحدا ، ومعناه بالفارسية ( بى همتا ) ، كما صرّح به أمير المؤمنين صلوات الله عليه في بعض الروايات المتقدمة في جواب الأعرابي حيث سأله

__________________

(١) البحار ٤ : ٢٢٨ ، عن التوحيد والعيون.

(٢) العنكبوت ٦١.

١٢٥

عن الواحد : هو واحد ، ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا (١).

وبالجملة : هذه الحالة انموذج من لقائه ووصله وزيارته ورؤيته ومشاهدته تعالى ، كما ورد التعبير بذلك كله في الروايات المباركات.

ففي دعاء الحسين عليه‌السلام في يوم عرفة : إلهي اطلبني برحمتك حتى أصل إليك ، واجذبني بمنّك حتى أقبل عليك (٢).

وفي مناجاة المريدين المنسوبة إلى السيد السجّاد عليه‌السلام : ولقاؤك قرّة عيني ، ووصلك منى نفسي (٣).

وفي التوحيد عن عليّ صلوات الله عليه في تفسير قد قامت الصلاة : أي حان وقت الزيارة والمناجاة وقضاء الحوائج ، ودرك المنى ، والوصول إلى الله عزّ وجلّ ، وإلى كرامته وغفرانه وعفوه ورضوانه (٤).

وفيه أيضا : جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال : هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويلك ما كنت أعبد ربّا لم أره. قال : وكيف رأيته؟ قال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان (٥).

وفي رواية أبي بصير قول الصادق عليه‌السلام : وقد رأوه قبل يوم القيامة ، فقلت : متى؟ قال : حين قال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى ، ثمّ قال : إنّ المؤمنين يرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ... وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ... الخبر (٦)

وعن سيد الساجدين عليه‌السلام : في مناجاة المحبّين : اللهمّ اجعلنا ممّن اصطفيته لقربك وولايتك ... وأهّلته لعبادتك ، وهيّمت قلبه لإرادتك ، واجتبيته لمشاهدتك (٧).

ويجد من وجده من لذّة المؤانسة وحلاوة المناجاة ما لا يقدّر قدره ، كما ورد في

__________________

(١) البحار ٣ : ٢٠٧ ، عن التوحيد والخصال.

(٢) الإقبال ٣٥٠. البحار ٩٨ : ٢٢٧ عن بعض نسخ الإقبال.

(٣) البحار ٩٤ : ١٤٨ ، عن بعض كتب الأصحاب.

(٤) البحار ٨٤ : ١٣٤ ، عن معاني الأخبار والتوحيد.

(٥) البحار ٤ : ٤٤ ، وتقدم الخبر بتمامه في ص ١٠٢.

(٦) البحار ٤ : ٤٤ ، وتقدم الخبر بتمامه في ص ١٠٢.

(٧) البحار ٩٤ : ١٤٨ ، عن بعض كتب الأصحاب.

١٢٦

الدعاء : يا من أذاق أحبّاءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملّقين (١).

تنبيه لا بدّ منه جدّا

مما يظهر للإنسان في تلك المكاشفة التي صرّح بها في الآيات المتقدمة مباينته لمن يتوجّه إليه ، ومغايرته بلا عزلة ، لا الوحدة التي يزعمها الصوفية حتى أكابرهم المسمّون بالشامخين ، كيف وهو يرى نفسه سائلا ، عاجزا ، ذليلا ، مسيئا ، مقصّرا. ويرى محبوبه الذي يسأله ويتضرع إليه قادرا ، قاهرا ، منزّها ، غفورا ، وهكذا.

وما في كلماتهم ومن يحذو حذوهم في هذا المقال من دعوى الفناء في الله ، إن كان المراد هو نفي الإنّيّة والميز واقعا ، كما في فناء القطرة واستهلاكها في البحر عند وصولها إليه ، فهذا ـ مضافا إلى امتناعه ذاتا ، لما مرّ من المباينة التامّة بين المخلوق الحادث واقعا لا من شيء الذي حقيقته الشيئية بالغير والظلمة ، وبين الذات الأزلي الأبدي ، القائم بذاته ، الشيء بحقيقة الشيئية ، والنور المحض ـ مخالف لما نجده من أنفسنا في حال المكاشفة الحاصلة لنا في بعض عباداتنا وفي حال البأساء والضراء المذكورة في غير واحدة من الآيات والروايات المباركات المتقدم ذكرها ، ولا أثر منه في كلام المعصومين الذين هم أعرف الخلق بالله تعالى شأنه ، بل التعبيرات المروية عنهم صريحة في المباينة والغيرية الحقيقية. وكذلك لفظ الوصول واللقاء وأمثالهما ظاهر في وصول الحبيب إلى حبيبه ولقائه إيّاه لا الاندكاك والاستهلاك والفناء فيه.

وإن كان المراد هو الاعتقاد ورؤية نفسه أنها كذلك ـ كما هو ظاهر كلمات بعضهم ـ فمرجعه إلى اعتقاد أنّ حقيقته ليست إلاّ الوجود الحقّ المتعيّن. ووجه عروض تلك الحالة على الإنسان ليس إلاّ غمض العين عن تعيّن نفسه وسائر التعيّنات ، وعطف توجهه إلى صرف الوجود الذي توهّموا أنّه الحق المتعالي ، وهذا معلول التلقينات الباطلة التي لا حقيقة لها أصلا ، وليست مكاشفاتهم إلاّ تجلّي ذلك الاعتقاد وتلك الحالة عند اشتغالهم بالذكر ، وفي مناماتهم التي يسمّونها بالواقعة ، وظاهر أنّ المنام بعضه أضغاث أحلام ، ولذا

__________________

(١) البحار ٩٨ : ٢٢٦ ، عن الإقبال ( دعاء يوم عرفة ).

١٢٧

لا يعتمدون هم أنفسهم عليها ، ويعرضونها على البرهان بزعمهم ، ولذا لا حجّية لها بوجه من الوجوه ، والاعتناء بها من تسويلات الشيطان.

الاشكالات الواردة في ثبوت عالم الذرّ والجواب عنها

استشكل في القول بأخذ الميثاق عن البشر في عالم الذرّ بوجوه ، مرجع بعضها إلى استحالة عالم الذرّ عقلا ، وبعضها الآخر إلى نفي الدليل على إثباته.

أمّا الأول فمنها : أنّ أخذ الميثاق لا يتمّ إلاّ بكون المأخوذ عليهم الميثاق أولي تمييز وعقل ، ولو كانوا كذلك لذكروه ، لا سيما مع عظم الموقف ، كما أنّ أهل القيامة يذكرون مواقفهم في الدنيا ـ كما دلّت عليه بعض الآيات المباركات ـ مع أنّ العهد فيها أطول منه هناك.

وفيه : أنّه لا دليل على امتناع النسيان هناك ( والله على كلّ شيء قدير ) ، وفي رواية زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : فأنساهم المعاينة (١) ، وفي روايات عنه عن أبي جعفر عليه‌السلام : ونسوا الموقف ( وفي نسخة : الوقت ) (٢) ، وأنساهم رؤيته (٣) ، وأنسوا ذلك الميثاق وسيذكرونه بعد (٤).

وتدلّ عليه أيضا رواية الحسن بن الجهم ، ورواية أبي هاشم الجعفري المتقدمتان (٥) ، ورواية ابن مسكان (٦).

وكما أنّ الإنسان لا يتذكّر في نومه ـ مع أنّه حيّ يرى الرؤيا ـ شيئا من العالم الذي كان فيه طول عمره ، فلا مانع عقلا من أن يكون الأمر هنا كذلك.

ومنها : أن فائدة أخذ الميثاق إتمام الحجة ، كما دلّت عليه الآية الشريفة والروايات

__________________

(١) البحار ٥ : ٢٢٣ ، عن المحاسن.

(٢) البحار ٥ : ٢٤٣ ، عن علل الشرائع.

(٣) البحار ٥ : ٢٥٤ ، عن تفسير العيّاشيّ.

(٤) البحار ٥ : ٢٥٧ ، عن تفسير العيّاشيّ.

(٥) راجع ص ١١٥ ، ١١٦.

(٦) البحار ٥ : ٢٣٧.

١٢٨

المباركات ، والحجّة إنما تتمّ عليهم إذا وقع إنكارهم في حال الالتفات إلى العهد الذي عاهدوه ، وإقرارهم الذي أقرّوا به ، فإنّ العهد والإقرار المنسيّ لا يحتجّ به ، ومن المعلوم أنّ بني آدم لا يلتفتون إلى الميثاق المذكور ، فكيف تتمّ الحجة عليهم؟!.

وفيه : أنّ إتمام الحجة يحصل بثبوت المعرفة في قلوبهم ولو كانوا ناسين للموقف ، كما دلّت عليه الآية المباركة ، فليس متوقّفا على التوجه إلى خصوصية الموقف بعد ثبوت نتيجته في فطرة الإنسان. فالمنكر للربّ مكابر لفطرته التي فطر عليها من التوجه إلى الله تعالى قهرا ، لا سيما مع تجلّي هذه الفطرة بوضوح في مواقع الشدة والانقطاع من الأسباب ، كما دلّت عليه الآيات المتقدمة (١).

ومنها : أنّه لا يعقل اتّساع ظهر آدم على صغره لتلك الذرّات التي هي بعدد بني آدم من أوّلهم إلى آخرهم.

وفيه : أنّه مع فرض صغر الذرّات جدّا وعظم جثة آدم ـ على ما تشهد به بعض الروايات ـ لا مانع عقلا من اجتماعها في صلبه.

ومنها : أنّ القول بوجود عالم الذرّ ملازم للتصديق بالتناسخ ـ وهو تعلّق الأرواح بأبدان اخر مغايرة للأبدان الأولى ـ وهو باطل.

وفيه : أنّ التناسخ الذي قام الإجماع بل ضرورة الدين على بطلانه هو القول بأنّ الذي يجزى الإنسان به عبارة عن تعلّق نفوس السعداء والأشقياء ، أو الأشقياء فقط ـ على اختلاف بين القائلين ـ بأبدان غير أبدانهم في هذه النشأة ، فبعضهم جوّز انتقال النفس بعد الموت من بدن إلى بدن إنسان آخر ، وهو النسخ ، وبعضهم جوّز الانتقال إلى بدن حيوان غير الإنسان ، وهو المسخ ، بل إلى النبات ، وهو الفسخ. أو الجماد ، وهو الرسخ. ولا معاد إلاّ ذلك. وهذا هو الذي قامت ضرورة الدين على خلافه.

والأدلّة التي أقاموها على البطلان ـ على فرض تماميتها ـ إنّما تدلّ على بطلان تعلّق نفس الإنسان ببدن آخر غير بدنه ، ولا تدلّ على بطلان تعلّقه ببدن واحد مع اختلاف حالاته من حيث الصغر والكبر والأعراض والحدود.

__________________

(١) راجع ص ١٠٠.

١٢٩

والآيات والروايات المتواترة معنى دالّة على وقوع المسخ في الامم السابقة ، وبعضها يدلّ على وقوعه في هذه الأمّة أيضا (١).

ومنها : ما أقام ملا صدرا من الاستدلال على امتناع تعلّق الروح ثانيا بالبدن مطلقا ، بعد خروجها عن البدن ، ولو بهذا البدن الذي تعلّقت به أوّلا ، وحاصله :

أنّ تعلق النفس ثانيا ولو بهذا البدن الذي كان تعلّقها به أولا بعد صيرورتها كاملة ومجردة عن هذا التعلق تخصّص بلا مخصّص ، وليس التخصص بلا مخصص في الامور الطبيعية ، فإنّ الامور الطبيعية والحوادث الكونية كلها مرهونة بالمصالح ، والغايات الحكمية والاستعدادات ، والفوائد ، والمناسبات العقلية. وليست التعلقات الطبيعية والذاتية كالتعلقات الإرادية الواقعة من الإنسان لأجل مصلحة وداعية جزافية أو عادية ، كمن توجّه ثانيا إلى خرابة عاش فيها مدّة وكانت معمورة ، ويريد تعميرها طلبا لما يتذكره من التلذذات والتنعمات التي وقعت منه فيها على سبيل المجازفة الشهوية ، من غير فائدة فكرية وغاية عقلية وملاحظة مصلحة رآها وحكمة كذلك ، فإنّ شيئا من هذه الامور لا يجري في الأسباب الذاتية للغايات الطبيعية.

ومنشأ حدوث النفس وتعلّقها هو الحركة الذاتية الاستكمالية لمادّة ما في الصور الجوهرية على سبيل الترقّي من الأدنى إلى الأعلى حتى يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس وما بعدها. وبعبارة اخرى : هي المناسبة التامة والاستعداد الكامل المخصص لها بهذه النفس الكذائية دون غيرها.

فبعد أن تتحرك النفس في ذاتها وجوهرها من المرتبة الأدنى إلى الأعلى وتمزّقت هذه الشبكة وصارت ترابا ورمادا ، وطار طائرها السماوي وحمامها القدسي إلى عالم الملكوت ، وخلص من هذا المضيق ، فأيّ مناسبة ذاتية واستعداد للأجزاء الترابية بالنفس المجردة؟ وأيّ تعلق لها ثانيا بالتراب وإن فرض مجتمع الأجزاء؟ ولو كان كذلك لكان كل تراب ورماد ذا نفس ، لاشتراك الجميع في الترابية والرمادية (٢).

__________________

(١) انظر ص ٢٤٨.

(٢) الأسفار ٩ : ٢٠٥.

١٣٠

وفيه : أنّ هذه الخطابة مبتنية على ما بناه من الحركة الجوهرية ، وعلى أنّ النفس جسمانيّة الحدوث وروحانية البقاء ، بمعنى أنّها تحدث بحدوث البدن ثمّ تتحرك بجوهرها إلى جانب الكمال حتى تتجرّد عن المادة وعن الجسمانية بمعناها الحقيقي. وهذا المبنى لم يقم عليه برهان عقلي ، وإنّما هي فرضية فرضها ، بل تدفعها روايات كثيرة دالّة على سبق خلقة الأرواح على الأجساد. بضميمة ما دلّ على أنّ روح البشر الذي هو حقيقته ، وكذلك الملك والجنّ ـ كسائر الأجسام ـ كلّها مخلوقة من جوهر واحد سمّي بالماء. والفرق باللطافة والكثافة ، والرقة والغلظة ، وسائر الأعراض.

ويقرب منه ما في تفسير الميزان حيث قال : وكيف الطريق إلى أنّ ذرّة من ذرّات بدن زيد ـ وهو الجزء الذرّيّ الذي انتقل من صلب آدم من طريقة نطفته إلى ابنه ثم إلى ابن ابنه حتى انتهى إلى زيد ـ هو زيد بعينه ، وله إدراك زيد وعقله وضميره وسمعه وبصره ، وهو الذي يتوجه إليه التكليف وتتمّ له الحجة ، وتحمل عليه العهود والمواثيق ، ويقع عليه الثواب والعقاب.

وقد صحّ بالحجة القاطعة من طريق العقل والنقل أنّ إنسانية الإنسان بنفسه التي هي أمر وراء المادة ، حادث بحدوث هذا البدن الدنيوي ، وقد تقدم شطر من البحث فيها.

على أنّه قد ثبت بالبحث القطعي أنّ هذه العلوم التصديقية البديهية والنظرية ، ومنها التصديق بأنّ له ربّا يملكه ويدبّر أمره ، تحصل للإنسان بعد حصول التصورات ، والجميع ينتهي إلى الإحساسات الظاهرة والباطنة ، وهي تتوقف على وجود التركيب الدنيوي المادّي. فهو حال العلوم الحصولية التي منها التصديق بأنّ له ربّا هو القائم برفع حاجته ... إلى أن قال ـ بعد ذكر وجوه أخر من هذا القبيل ـ : لكن الذي أحال هذا المعنى ( أي عالم الذّرّ ) هو استلزامه وجود الإنسان بماله من الشخصيّة الدنيويّة مرّتين في الدنيا ، واحدة بعد أخرى ، المستلزم لكون الشيء غير نفسه بتعدد شخصيّته (١).

وفيه : أنّ هذه الاستبعادات مبتنية على كون شخصية الإنسان متكوّنة في هذا العالم ، وكون النفس جسمانية الحدوث وروحانيّة البقاء ، وهو أحد المسالك في باب الروح ، وفي

__________________

(١) تفسير الميزان ٨ : ٣١٥.

١٣١

قباله مسلك القائلين بسبق الأرواح على الأجساد ، مع القول بقدمها زمانا ( وهو قول افلاطون ومن تبعه ). وفي قبال المسلكين ما يظهر من الروايات المباركات من سبقها على الأجساد مع القول بحدوثها زمانا.

وفي جواب قوله أنّه يلزم منه تعدد شخصية الإنسان نقول : إنّ شخص الإنسان عبارة عن روحه وبدنه الواجد لها ، وليست شخصيته إلاّ ذلك ، وأمّا عقله وشعوره فهو من مواهب الله تعالى ، خارج عن ذاته ، قد يعطيه إياه ، وقد يسلبه عنه ، فإذا سلب عنه المعرفة والعقل والشعور فليس معناه انتفاء شخصيته بل يكون حاله كحاله وهو نائم ( فيما إذا لا يرى الرؤيا ولا يدرك في المنام شيئا ) ، فإنّ الإنسان في تلك الحال موجود بشخصيته ، إلاّ أنّه سلب عنه الإدراك ، فلا يلتفت إلى شيء ولو إلى وجوده ، وكذا إذا عرضت له حالات من الإغماء ونحوه.

وفي محل الكلام نقول : لو كان الأمر على ما هو ظاهر من الروايات فأيّ إشكال يلزم على القول بثبوت عالم الذرّ ، كما هو صريح الروايات؟

وهو أنّ الله خلق بدن زيد ـ مثلا ـ في عالم الذرّ في نهاية الصغر بصورة خاصّة ، وتعلق به الروح الخاص ، ووهبه العقل والمعرفة بحيث أدرك نفسه وعرفها بالمخلوقية والحدوث ، وعرف ربه بوضوح وعاينه بما له من المعنى المناسب له ـ وهو ظهور ذاته تبارك وتعالى بنفسه لعبده بلا كيف ، لا بالتصور ، ولا بمعنى الفناء الذي يقولون به ـ فأقرّ به ، وأخذ عليه العهد والميثاق ، وبقي أثر هذه المعرفة والمعاينة في روحه ، ثم سلب عنه العقل والشعور ، وانتقلت الذرّة إلى الأصلاب والأرحام ، ثم في هذه النشأة ينتقل ذلك البدن المشبّه بالذرّ من صلب الأب إلى رحم الام ، وينمو بالتغذية والتربية ، ويسير سيره المشهود ، ويعطيه العقل والشعور ، وقد نسي مواقفة السابقة ، كما أنّ الإنسان في حال الرؤيا ينسى مواقفه في اليقظة ، فكأنّها لم تكن أصلا. وكما أنّه كثيرا ما ينسى ما رآه في المنام مع وحدته الشخصية في كلتا الحالتين.

نعم لو كان المبني هو القول بالحركة الجوهرية ، وأنّ النفس جسمانية الحدوث وروحانية البقاء تحدث بحدوث البدن ثم تتحرك إلى جانب الكمال حتى تتجرد عن

١٣٢

المادية للزم الإشكال.

ولكنه ـ كما مرّ ـ فرضية محضة تدفعها الروايات الكثيرة الدالّة على سبق خلقة الأرواح على الأجساد ، والروايات الدالة على أنّ جميع المخلوقات مخلوقة من مادّة واحدة مسمّاة بالماء ، وقول الرضا صلوات الله عليه الدالّ على اختلاف المخلوقات بالأعراض والحدود المختلفة الظاهر في الحدّ بمعناه اللغوي لا الاصطلاحي في مقابل الرسم ، فيدل على أنّ الصور النوعية عرضية لا جوهرية ، كما تشهد عليه الآيات الدالّة على مسخ بعض الامم السابقة بالقردة والخنازير ، وصيرورة النار بردا وسلاما على إبراهيم ، وكذلك الآيات والروايات الواردة في معجزات الرسول الأكرم والأئمّة عليهم‌السلام ، منها صيرورة الصورة المحضة أسدا ، وصيرورة الملك الذي لقّم الميثاق الحجر الأسود ، وصيرورة بعض خلفاء بني مروان بصورة الوزغة ، وغير ذلك من الروايات المتواترة بالتواتر الإجمالي.

وقد حرّر في محله أنّ الأدلّة التي استدل بها على تجرد الروح عن المادة وعوارضها ، وعلى جوهرية الصور النوعية كلّها مدخولة.

ومحصل الكلام أنّ كيفية بدء خلق الإنسان مما ليس للعقل إليه سبيل ، ولا يمكن استكشافها مما نرى في هذه النشأة من انعقاد النطفة فيها ، هل هي مبدأ خلق الإنسان ، أو له خلق سابق وحالات سابقة على هذه النشأة وهذه النطفة ، فروحه الذي هو حقيقته كان مخلوقا قبل جسده ، وأصل جسده الذي كان محفوظا مشخصا في جميع حالاته كان مخلوقا قبل النطفة ، ولا يمكن للإنسان مع عجزه المشهود القول القاطع فيه ، بل الطريق منحصر في إخبار الخالق عزّ وجلّ وحملة وحيه. وقد مرّ جملة منه.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّه لا مانع عقلا من سبق عالم الذرّ ، وسبق خلقة الأرواح على الأجساد. فمع ورود رواية عن أهل البيت عليهم‌السلام على ثبوته لا يجوز للعالم الملتزم بمكتب الوحي ردّه ، فكيف بما إذا قامت الروايات المتواترة معنى أو إجمالا ، مع صحة السند ووضوح الدلالة المؤيّدة بالآية المباركة.

وأما الثاني ، أي الإشكال على مقام الإثبات والاستدلال :

١٣٣

فمنه : أنّه لو كانت الذرّية مأخوذة من ظهر آدم كما هو ظاهر الروايات لقال الله تعالى : وإذ أخذ ربك من آدم من ظهره ذريته ، ولم يقل من بني آدم من ظهورهم ذريتهم.

وفيه : أنّ إخراج الذرّية من ظهور بني آدم ـ كما هو ظاهر الآية ـ لعلّه إشارة إلى أنّ الله تعالى أظهر علمه بأنّ الشخص الفلاني يتولد منه فلان ، ومن ذلك الفلان فلان آخر ، فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في عالم التوالد والتناسل أخرجهم وميّز بعضهم من بعض ، وأشهدهم على ربوبيته ، وأقروا له بذلك. وأما أنّه أخرج كل تلك الذرّية من صلب آدم فيكفي في الدلالة عليه قوله : من بني آدم ، فإن فرض بني آدم فرض إخراجهم من صلب آدم.

فتحصّل منه أنّ الله أخرج أولاد آدم لصلبه من صلبه ، ثم أولادهم من أصلابهم ، ثم أولاد أولادهم من أصلاب أولادهم حتى ينتهي إلى آخرهم ، نظير ما يجري عليه الأمر في عالم التوالد والتناسل.

ولو سلم أنّه ليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته ولا ما يدل على بطلانه نقول : إنّ الأخبار المتواترة قد دلّت عليه ، فثبت إخراج الذرّية من ظهور بني آدم بالقرآن ، وثبت إخراجها من ظهر آدم بالأخبار ، ولا منافاة بينهما.

ومنه : أنّ إفادة الآية المباركة الإخبار عن أمر سابق ـ كما هو الوجه في الاستدلال بها ـ إنّما هو بمقتضى كلمة « إذ » والفعل الماضي : « أخذ » و « أشهد » ، ولكن ربما يستعمل الماضي ويراد به المستقبل لتحقق وقوعه ، كما في قوله تعالى : ( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ... قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) (١). وربما يستعمل ويراد به الإخبار عن السنّة المستمرة فيما مضى وما يأتي.

فيحتمل أن يكون المراد من الآية هو المعنى الأخير ، أي إنّ السنة المستمرة فيما مضى ويأتي كذا ، بأن يحمل الإشهاد والإقرار على المعنى المجازي ، بأن يقال : إنّ الله يخرج نطف بني آدم من أصلاب الرجال إلى أرحام النساء ، وينشئها خلقا سويّا ، و

__________________

(١) المائدة : ١١٦ ، ١١٩.

١٣٤

يجعل فيهم آثار صنعه وحكمته وقدرته ، ويمكّنهم في الدنيا من معرفة دلائله. فيكون ذلك بمنزلة إشهادهم على ربوبيته وأخذ الإقرار منهم عليها.

وبعبارة اخرى : إنّهم يشهدون ويقولون بلسان الحال : بلى ، نظير قوله تعالى : ( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) (١) ، وكما يقول القائل : جوارحي تشهد بنعمك.

أو يحملان على معناهما الحقيقي ولكن يقال بأنّ المراد من ذرّيّة بني آدم خصوص أولاد المشركين ممّن أكمل عقولهم وأرسل إليهم الأنبياء ، فآمنوا بهم وأقروا بالربوبية لله تعالى. وهو الذي نسبه الطبرسي إلى الجبائي والقاضي (٢).

أو يقال : إنّ المراد جماعة من ذرية بني آدم ، وهو خصوص قوم خلقهم الله وأشهدهم على أنفسهم بعد أن أكمل عقولهم وأجابوه بـ « بلى » ، وهم اليوم يذكرونه ولا يغفلون عنه ، ولا يكون ذلك عاما في جميع العقلاء.

وفيه : أنّ جميع ما ذكر مخالف لظاهر الآية المباركة من جهة ظهورها في إخراج جميع العقلاء من ذريّة بني آدم ، لا خصوص المؤمنين بالأنبياء ، ولا خصوص من لهم آباء مشركون ، كما أنّ المناسب لإرادة السنة المستمرة التعبير بالفعل المضارع ، نظير قوله : ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً ) (٣) ، و ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) (٤) ، ونحوهما ، ولا يناسبه التعبير بالفعل الماضي. مضافا إلى أنّه طرح للروايات الكثيرة.

ومنه : أن ما استظهر من الآية المباركة ومن الروايات المباركات معارض لقوله تعالى : ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) (٥) ، و ( أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) (٦) ، وأمثالهما من الآيات ، فلو كان مخلوقا قبل ذلك فلا يكون مخلوقا من ماء

__________________

(١) فصلت ١١.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٤٩٨.

(٣) الروم ٢٤.

(٤) الرعد ٣٩.

(٥) الطارق ٥ ، ٦.

(٦) المرسلات ٢٠.

١٣٥

دافق.

وفيه : أنّه بملاحظة قوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) (١) ، وقوله تعالى : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ) (٢) ، الصريحين في الترتيب الزماني يظهر أنّ خلق الإنسان من النطفة لا ينفي كونه مسبوقا بخلقة اخرى ، منتقلا من صلب إلى رحم ، ومن رحم إلى صلب حتى يستقر في صلب أبيه الذي يتولد منه بصورة النطفة ، كما نشهد بذلك للمعصومين عليهم‌السلام بقولنا : أشهد أنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة (٣).

ويدلّ على ما ذكرنا قول أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه في دعاء يوم عرفة : فابتدعت خلقي من منيّ يمنى وأسكنتني في ظلمات ثلاث ... الدعاء. فإنّ الخلق المبتدع من المني هو الخلق المنشأ من الأغذية ، وهو لا ينافي خلقا آخر له من قبل ذلك من التراب المخلوقة منه الأبدان الذرّية. كما يظهر من مجموع كلامه عليه‌السلام : ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئا مذكورا ، خلقتني من التراب ثم أسكنتني الأصلاب آمنا لريب المنون واختلاف الدهور والسنين ، فلم أزل ظاعنا من صلب إلى رحم في تقادم من الأيام الماضية والقرون الخالية ، ولم تخرجني لرأفتك بي ولطفك لي وإحسانك إليّ في دولة أئمة الكفر الذين نقضوا عهدك وكذّبوا رسلك ، لكنك أخرجتني للذي سبق لي من الهدى الذي له يسّرتني ، وفيه أنشأتني ، ومن قبل ذلك رؤفت بي بجميل صنعك وسوابغ نعمك ، فابتدعت خلقي من منيّ يمنى ... الدعاء (٤) ، فإنّه كالصريح في الترتيب والتأخر الزماني ، وحمله على الرتبي ـ كما عن بعض ـ كما ترى.

__________________

(١) المؤمنون ١٢ ، ١٣ ، ١٤.

(٢) الزمر ٦.

(٣) انظر البحار ١٠٠ : ١٨٧ ، ٢٠٣ ، مفاتيح الجنان ٣٢٩ في زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله و ٣٣١ في زيارة أئمّة البقيع عليهم‌السلام ، و ٤٣١ في زيارة الحسين عليه‌السلام المعروفة بـ « زيارة وارث ».

(٤) الإقبال ٣٤٠ ، البحار ٩٨ : ٢١٦.

١٣٦

تنبيه : استغناء نور العلم في كشفه عن وجود المعلوم

من كمال نور العلم أنّه لا يحتاج في كاشفيته إلى وجود المعلوم ، بل إنّه يكشف الامور الماضية والمستقبلة والتقديريّات مع أنّه لا وجود لها في زمان الحال ، وكذا يكشف العدم المضاف في ظرف واقعيته ، ويكشف العدم المضاف في ظرف واقعية نقيضه ، وهو الوجود المضاف مع أنّه لا واقعية له بوجه ، وإلاّ فإنّه يلزم اجتماع النقيضين ، ولذا يخبر بالخبر الصادق عن نقيض الوجود في ظرف الوجود في قولنا : هذا ونقيضه لا يجتمعان ، مع عدم الواقعية لنقيض الوجود الخاصّ في ظرف هذا الوجود الخاص.

وكذا يكشف العدم المطلق مع أنّه لا واقعية له بوجه من الوجوه في ظرف الوجود.

وذلك كلّه لاستغناء العلم في كاشفيته عن وجود المعلوم. وبعبارة أخرى : إنّه كاشف عن الواقعيات ، موجودة كانت أو معدومة ، وجودا أو عدما ، مضافا أو مطلقا ، ولذا يخبر عنها وبها بما لها من الواقعية.

وحصول ذلك لنا في مورد أو موارد دائر مدار إذن الحق المتعالي في وجداننا مراتب العلم.

وأمّا ذاته تعالى فحيث إنّه عين العلم فهو لا يزال كذلك ، أي علمه بالشيء قبل تحقّقه كعلمه به بعده.

ففي التوحيد بسنده عن ابن مسكان عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لم يزل الله عزّ وجلّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ، والسمع على المسموع ، والبصر على المبصر ، والقدرة على المقدور. قال : قلت : فلم يزل الله متكلما؟ قال : إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزلية ، كان الله عزّ وجلّ ولا متكلم (١).

قوله عليه‌السلام : « وقع العلم على المعلوم » أي وقع العلم على ما كان كاشفا عنه قبل وجوده.

__________________

(١) التوحيد ١٣٩ ، وعنه البحار ٤ : ٧١.

١٣٧

ومنه تظهر قوة احتمال كون المراد من رواية أخرى في التوحيد بسنده عن حماد بن عيسى قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقلت : لم يزل الله يعلم؟ قال : أنّي يكون يعلم ولا معلوم؟! قال : قلت : فلم يزل الله يسمع؟ قال : أنّي يكون ذلك ولا مسموع؟! قال : قلت : فلم يزل يبصر؟! قال : أنّي يكون ذلك ولا مبصر؟! قال : ثم قال : لم يزل الله عليما سميعا بصيرا ، ذات علاّمة سميعة بصيرة (١) ، ـ كما أشار إليه العلاّمة المجلسيّ قدس‌سره ـ : السؤال عن العلم بوجود الشيء وحضوره ، بأن يكون المعلوم حاضرا موجودا ، مع أنّه لم يوجد بعد ، فنفى عليه‌السلام خصوص ذلك ، كما يؤيّده أنّه ـ عليه‌السلام ـ أثبت كونه تعالى متّصفا بالعلم أزلا مع أنّه لا وجود للمعلوم ولا حضور.

وكذلك الكلام في السمع والبصر بعد وضوح كون المراد بالنسبة إليه تعالى العلم بالمسموعات والمبصرات بذاته لا بالآلة. وحاصله أن المراد من أنّه يسمع إن كان أنّه يسمع الصوت الموجود خارجا فظاهر أنّه منفي بانتفاء الموضوع ، كما دلت عليه الرواية ، وقوله : ( وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ ... ) (٢). ومفهوم قوله تعالى : ( وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ) (٣) وإن كان المراد العلم بالصوت قبل تحقق الصوت فهو ثابت ، كما دلّ عليه ذيل الرواية ، وكذا رواية أبي بصير.

ومما يدلّ على المطلب ما أورده العلاّمة المجلسيّ ـ قدس‌سره ـ في باب العلم وكيفيته من الآيات والروايات في المجلد الثاني من بحار الأنوار (٤).

منها قوله تعالى : ( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ ) (٥).

وقوله تعالى : ( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ) (٦).

__________________

(١) التوحيد ١٣٩ ، وعنه البحار ٤ : ٧٢.

(٢) آل عمران ١٤٢.

(٣) الأنفال ٢٣.

(٤) من الطبعة الحجرية ، ويقابله في الطبعة الجديدة ٤ : ٧٤.

(٥) البقرة ٢٥٥.

(٦) الرعد ٨.

١٣٨

وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) (١).

وقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ) (٢).

وفي التوحيد بسنده عن الحسين بن بشار عن ثامن الأئمة صلوات الله عليه ، قال : سألته أيعلم الله الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ، أولا يعلم إلاّ ما يكون؟

فقال : إنّ الله تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء ، قال الله عزّ وجلّ : ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣) ، وقال لأهل النار : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) (٤) ، فقد علم الله عزّ وجلّ أنّه لو ردّهم لعادوا لما نهوا عنه. (٥)

تنبيه

قد علمت فيما مضى أنّ حقيقة العلم نور مغاير لذواتنا ولجميع المعلومات بالحواس الظاهرة والمتصورات والموهومات والمعقولات. وصيرورتنا عالمين بالشيء إنّما هو بوجداننا ذلك النور الظاهر بذاته المظهر لغيره ، واستضاءتنا به ، فنحن محتاجون في ظهور الأشياء ـ بل في ظهور أنفسنا ـ إلى ذلك النور ، وأمّا الله تعالى فحيث إنّ ذاته عين العلم فلا يحتاج في ذاته وكمالاته إلى صفة زائدة على ذاته ، وهذا معنى قول العلماء بنفي الصفات الزائدة عنه تعالى ، أي لا يكون ذاته مركّبا من أجزاء ومعان ، فإنّ المركب يحتاج كل جزء منه في قوامه إلى الجزء الآخر ، والذات الازليّ منزّه عن ذلك الاحتياج أيضا.

من الكمالات : القدرة

وهي الاستيلاء والسلطنة على طرفي فعل الشيء وتركه ، بحيث إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، وهي كمال فوق القوة ، وإن كان قد يطلق لفظها عليها ، فإنّ المنصرف من

__________________

(١) الحجر ٢٤.

(٢) لقمان ٣٤.

(٣) الجاثية ٢٩.

(٤) الأنعام ٢٨.

(٥) التوحيد ١٣٦ ، وعنه البحار ٤ : ٧٨.

١٣٩

القوّة هو التمكن من فعل الشيء ، ويقابله الضعف ، ومن القدرة التمكن من فعل الشيء وتركه ، ويقابله العجز ، يقال للجدار مثلا إنّه يقوى على حمل السقف ، ولا يقال إنّه يقدر عليه إلاّ تنزيلا.

تنبيه

قد مرّ في بيان حقيقة العلم أنّه نور خارج عن حقيقة المخلوقات في عين إحاطته بها ظاهرها وباطنها دائما ، وأنّ صيرورتها عالمة وشاعرة بشيء ـ حتّى بذاتها ـ إنّما هي بوجدانها إيّاه واستضاءتها به وتحمّلها له بتحميل الله تعالى ـ كما يظهر من قوله عليه‌السلام في الماء الذي هو مادّة جميع المخلوقات : إنّ الله عزّ وجلّ حمّل دينه وعلمه الماء (١) ـ من غير تغيّر في ذات العلم ولا تركيب بينها وبينه ، بل التغير فيها لا فيه ، فتارة تجده وتستضيء به فتعلم ، وأخرى تفقده من غير تجاف فتجهل ، كما هو مقتضى ذواتنا ، ونحن نجد هذا الوجدان والفقدان في أنفسنا وإن لم نعرف حقيقة العلم ولا كيفية وجداننا إيّاه.

والظاهر أنّ القدرة من كمال هذا النور ، كما يؤيّده أنّ الإنسان ربما يكون عالما بشيء مع عدم القدرة عليه ، ولا يكون قادرا عليه إلاّ أن يكون عالما به ، ويلوح كونهما حقيقة واحدة من قوله عليه‌السلام : العرش ليس هو الله ، والعرش اسم علم وقدرة (٢) ، فتدبر ، والله العالم.

وصيرورة الإنسان قادرا على شيء إنّما هو بوجدانه إيّاها بالنسبة إلى ذلك الشيء وعجزه بفقدانه ـ كما مرّ في العلم ـ وإنّا نجد من أنفسنا هذا الوجدان والفقدان وإن لم نعرف حقيقة القدرة ولا كيفية وجداننا إيّاها.

وأمّا في الله تعالى فإنها عين العلم ، وكذلك سائر الكمالات كلها عين ذاته بلا تركيب. وممّا استدل به لنفي التركيب في ذاته تعالى : أنّ التركيب انضمام الشيء بالشيء الآخر ، والمركب متقوّم بأجزائه محتاج كل جزء منه إلى انضمامه إلى الجزء الآخر ، وهذا

__________________

(١) البحار ٥٧ : ٩٥ ، عن الكافي.

(٢) راجع ص ٢٧.

١٤٠