تنبيهات حول المبدأ والمعاد

الميرزا حسنعلي مرواريد

تنبيهات حول المبدأ والمعاد

المؤلف:

الميرزا حسنعلي مرواريد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: العتبة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 964-444-083-8
الصفحات: ٢٧٣

اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) (١).

( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ) (٢).

( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ. ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (٣).

( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ ) (٤).

( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ) (٥).

( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٦).

( فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (٧).

وبالتأمّل فيها يندفع احتمال كون تلك الحالة من آثار الاعتقاد بالتوحيد الثابت بالعقل والآيات ، فإنّ مورد تلك الآيات هم المشركون بالشرك الجليّ أيضا لا المعتقدون بالتوحيد فقط.

وحيث إنّ الآيات المتقدمة واضحة الدلالة على ما ذكرنا نكتفي في الروايات بذكر

__________________

(١) يونس ٢٢ ، ٢٣.

(٢) الأنعام ٦٣ ، ٦٤.

(٣) النحل ٥٣ ـ ٥٥.

(٤) الأنعام ٤٠ ـ ٤١.

(٥) الزمر ٨.

(٦) يونس ١٢.

(٧) الزمر ٤٩.

١٠١

حديث يغنينا علوّ مضمونه عن التكلم في سنده ، وهو ما رواه الصدوق في التوحيد بسنده عن محمّد بن القاسم الجرجانيّ المفسّر ، قال : حدّثنا أبو يعقوب يوسف بن محمّد بن زياد ، وأبو الحسن علي بن محمّد بن سيّار ـ وكانا من الشيعة الإمامية ـ عن أبويهما عن الحسن ابن علي بن محمّد عليهم‌السلام في قول الله عزّ وجلّ : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : الله هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كلّ من دونه ، وتقطّع الأسباب من جميع من سواه ، يقول : بسم الله ، أي أستعين على أموري كلها بالله الذي لا تحقّ العبادة إلاّ له ، المغيث إذا استغيث والمجيب إذا دعي ، وهو ما قال رجل للصادق عليه‌السلام : يا ابن رسول الله دلّني على الله ما هو؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني ، فقال له : يا عبد الله! هل ركبت سفينة قطّ؟ قال : نعم ، قال : فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك؟ قال : نعم ، قال : فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال : نعم. قال الصادق عليه‌السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث.

... وقام رجل إلى علي بن الحسين عليه‌السلام : فقال : أخبرني ما معنى بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال علي بن الحسين عليه‌السلام : حدّثني أبي عن أخيه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام : أنّ رجلا قام إليه فقال : يا أمير المؤمنين! أخبرني عن بسم الله الرحمن الرحيم ما معناه؟

فقال : إنّ قولك : « الله » ، أعظم اسم من أسماء الله تعالى ، وهو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمّى به غير الله ، ولم يتسمّ به مخلوق.

فقال الرجل : فما تفسير قول : « الله » ، قال : هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من جميع من دونه وتقطّع الأسباب من كل من سواه ، وذلك أنّ كل مترئّس في الدنيا ومتعظّم فيها ، وإن عظم غناه وطغيانه ، وكثرت حوائج من دونه إليه ، فإنّهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا المتعاظم ، وكذلك هذا المتعاظم يحتاج حوائج لا يقدر عليها فينقطع إلى الله عند ضرورته وفاقته ، حتى إذا كفى همّه عاد إلى شركه.

أما تسمع الله عزّ وجلّ يقول : ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ

١٠٢

أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ ) (١). فقال الله جلّ جلاله لعباده : أيّها الفقراء إلى رحمتي! إنّي قد ألزمتكم الحاجة إليّ في كل حال ، وذلّة العبودية في كل وقت ، فإليّ فافزعوا في كلّ أمر تأخذون فيه ، وترجون تمامه ، وبلوغ غايته ، فإنّي إن أردت أن أعطيكم لم يقدر غيري على منعكم ، وإن أردت أن أمنعكم لم يقدر غيري على إعطائكم ، فأنا أحقّ من سئل ، وأولى من تضرّع إليه.

فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير أو عظيم : بسم الله الرحمن الرحيم ، أي أستعين على هذا الأمر بالله الذي لا تحقّ العبادة لغيره ، المغيث إذا استغيث ، والمجيب إذا دعي ، الرحمن الذي يرحم ببسط الرزق علينا ، الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا ، خفّف علينا الدّين ، وجعله سهلا خفيفا ، وهو يرحمنا بتميزنا عن أعاديه ... (٢).

التجلّي الخاصّ منه تعالى في قلوب المؤمنين

نظير ما ذكرنا من المعرفة والتجلّي الخاص من الله تعالى في البأساء والضراء تجلّ منه تعالى أحيانا في قلوب المؤمنين عند قراءة القرآن وفي بعض عباداتهم وتوجّهاتهم إليه تعالى شأنه ، يترتب عليه من لذّة الانس والمناجاة مع ربّ العالمين ما لا يقدّر قدره ، ويكون أنموذجا لمراتب عالية منها تحصل للأولياء في الدنيا والآخرة ، كرامة من الله رفيع الدرجات فوق كراماته المادّية التي أعدّها لأهل الجنّة. وقد تكون تلك اللذّة مقرونة بالبكاء والتضرّع.

ولهذه المعرفة والتجلي مراتب كثيرة ، تارة من جهة شدّة الوجدان وضعفه ، وأخرى من جهة ما يجده العبد من كمالات الرب تعالى شأنه وأوصافه التي هي عين ذاته ، فتارة يتجلّى في قلب الداعي المتضرع بوصف الرحمة والرأفة ، فيزيد في رجائه ، وأخرى بوصف كبريائه وعظمته وجبروته وكمال عدله فيزيد في خوفه ، وتارة بكلا الوصفين ،

__________________

(١) الأنعام ٤٠ ـ ٤١.

(٢) التوحيد ٢٣٠ ، وعنه البحار ٩٢ : ٢٣٣.

١٠٣

وأخرى بأنّه أقرب إليه من حبل الوريد ، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وأنّه يعلم السرّ وأخفى فيزيد في استحيائه وتضرّعه إليه ، وهكذا. كما ربما يلوح من قول الصادق صلوات الله عليه : إنّ أمر الله كلّه عجيب ، إلاّ أنّه قد احتجّ عليكم بما قد عرّفكم من نفسه (١).

ومن قول زين العابدين صلوات الله عليه : الحمد لله على ما عرّفنا من نفسه وألهمنا من شكره (٢). بناء على إرادة التبعيض من لفظة « من » ، كما يظهر من الخبرين الآتيين ، لا التبيين.

وفي التوحيد باسناده عن ابن أبي نصر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمّا أسرى بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه جبرئيل قطّ ، فكشف لي فأراني الله من نور عظمته ما أحبّ (٣).

وفيه عن يعقوب بن إسحاق قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : كيف يعبد العبد ربّه وهو لا يراه؟ فوقّع عليه‌السلام : يا أبا يوسف ، جلّ سيدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى آبائي أن يرى.

قال : وسألته : هل رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ربّه؟ فقال إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ (٤).

وفي التوحيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويلك ما كنت أعبد ربّا لم أره ، قال : وكيف رأيته؟ قال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان (٥).

وفيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : قلت له : أخبرني عن الله عزّ وجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال : نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة ، فقلت : متى؟ قال :

__________________

(١) الكافي ١ : ٨٦.

(٢) الدعاء الأول من الصحيفة.

(٣) البحار ٤ : ٣٨ ، عن التوحيد.

(٤) البحار ٤ : ٤٣ ، عن التوحيد.

(٥) البحار ٤ : ٤٤ ، عن التوحيد.

١٠٤

حين قال لهم : « ألست بربّكم قالوا بلى » ، ثم سكت ساعة ثم قال : وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير : فقلت له : جعلت فداك ، فأحدّث بهذا عنك؟ فقال : لا فإنك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ، ثم قدّر أن ذلك تشبيه وكفر. وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والملحدون (١).

وفي مناجاة علي والأئمّة من ولده صلوات الله عليهم في شهر شعبان : وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة ، وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك (٢).

وفي دعاء عرفة للحسين بن علي صلوات الله عليهما : إلهي تردّدي في الآثار يوجب بعد المزار ، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك ... إلهي هذا ذلّي ظاهر بين يديك ، وهذا حالي لا يخفى عليك ، منك أطلب الوصول إليك ، وبك أستدلّ عليك. فاهدني بنورك إليك ... إلهي حقّقني بحقائق أهل القرب ، واسلك بي مسلك أهل الجذب ... أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتى لم يحبّوا سواك ولم يلجئوا إلى غيرك ، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم ، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم ، ما ذا وجد من فقدك؟! وما الذي فقد من وجدك؟! لقد خاب من رضي دونك بدلا ، ولقد خسر من بغى عنك متحوّلا ... يا من أذاق أحباءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملّقين ... أنت الذاكر قبل الذاكرين ، وأنت البادئ بالإحسان قبل توجّه العابدين ، إلهي اطلبني برحمتك حتى أصل إليك ، واجذبني بمنّك حتى أقبل إليك (٣).

فإنّه تعالى قد يتجلّى بصفة الرحمة ، وقد يتجلّى بصفة القهر ، وهكذا ، وتختلف حالات العبد باختلاف تلك التجلّيات.

وستجيء الروايات الكثيرة الدالّة على ما ذكرنا ، وفي بعضها التعبير عن هذا

__________________

(١) البحار ٤ : ٤٤ ، عن التوحيد.

(٢) البحار ٩٤ : ٩٩ ، عن الإقبال.

(٣) البحار ٩٨ : ٢٢٥ ، عن بعض نسخ الإقبال.

١٠٥

الوجدان وهذه المعرفة بالمعاينة.

ويمكن الاستشهاد في هذا المقام بما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخطبة المرويّة عن الاحتجاج : هو الدالّ بالدليل عليه ، والمؤدّي بالمعرفة إليه (١). فالفقرة الاولى إشارة إلى المعرفة بالآيات ، والثانية إلى معرفته بذاته تعالى.

تنبيه

تلك الخصوصيّات من التجلّي على قلوب المؤمنين ـ كما ذكرنا ـ إنّما تحصل في بعض الأحيان من غير اختيار ، كما أنّها تحصل للمؤمن والكافر عند الشدائد في بعض الأحيان أيضا ، وبها تتمّ حجّته على جميع خلقه ، كما مرّ.

ويناسب هنا ذكر روايتين :

فعن تحف العقول في رواية سدير عن الصادق صلوات الله عليه : تعرفه وتعلم علمه وتعرف نفسك به ، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك ، وتعلم أنّ ما فيه له وبه ، كما قالوا ليوسف : أإنّك لأنت يوسف؟ قال : أنا يوسف وهذا أخي ، فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره ، ولا أثبتوه من أنفسهم بتوهّم القلوب ... الخبر (٢).

وفي التوحيد عن أبي عبد الله صلوات الله عليه : من زعم أنّه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك ، لأنّ الحجاب والمثال والصورة غيره ، وإنّما هو واحد موحّد ، فكيف يوحّد من زعم أنّه عرفه بغيره ، إنّما عرف الله من عرفه بالله ، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه ، إنّما يعرف غيره ، ليس بين الخالق والمخلوق شيء ، والله خالق الأشياء لا من شيء ... (٣).

ولعلّ دون هذه المرتبة من المعرفة والوجدان الظاهر معرفة ووجدان يعبّر عنه بروح الإيمان لا يخلو منه المؤمن غالبا إلاّ في حال المعصية ، فإنّه يسلب عنه حينئذ ثمّ يعود ،

__________________

(١) البحار ٤ : ٢٥٣ ، عن الاحتجاج.

(٢) تحف العقول ٣٢٨.

(٣) التوحيد ١٩٢ ، وعنه البحار ٤ : ١٦١.

١٠٦

كما دلّت عليه الروايات (١).

وأضعف من هذه المرتبة ظهورا ما فطر كل إنسان عليه ، يعبّر عنه ـ لثبوته أو لغير ذلك ـ بالصبغة ، يظهره المؤمن بإيمانه ، ويكفر به الكافر ويسترده بجحوده.

وربّما يغفل عنه الإنسان بسبب التلقينات المضلّة والمعاصي وإن كان موجودا ثابتا فيه ، ولعلّه المشار إليه بقوله تعالى : ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) (٢).

وقوله تعالى : ( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ) (٣).

وقوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كل مولود يولد على الفطرة (٤). كما في رواية زرارة عن أبي جعفر صلوات الله عليه : يعني المعرفة بأنّ الله عزّ وجلّ خالقه (٥).

وفي رواية زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزّ وجلّ : ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) ، قال : فطرهم جميعا على التوحيد (٦).

ورواية محمّد الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله (٧).

ورواية هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت : ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها )؟ قال : التوحيد (٨).

وستأتي روايات أخرى في ذلك إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) البحار ٦٩ : ١٧٥ ( باب السكينة وروح الإيمان ).

(٢) الروم ٣٠.

(٣) البقرة ١٣٨.

(٤) الكافي ٢ : ١٣.

(٥) نفسه.

(٦) الكافي ٢ : ١٢.

(٧) الكافي ٢ : ١٣.

(٨) الكافي ٢ : ١٢.

١٠٧

تنبيه

أثر مفطوريّتهم على معرفة الله تعالى وتوحيده ـ وقد دلّت عليها الروايات المتقدّمة ـ إنّما يظهر بعد هداية الله تعالى إيّاهم ببعث الرسل والأنبياء واستيدائهم الميثاق الذي واثقهم به في العوالم السابقة ونسوه ، كما في الخطبة المباركة : وابتعث فيهم رسله ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيّ نعمته (١). ولا سيما إذا أخذوا بالبأساء والضرّاء ، وأما قبل ذلك فهم على الضلال وعلى نسيان العهد والميثاق ما لم يذكروا بما فطروا عليه ، كما تدلّ عليه رواية العيّاشيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام في آية : ( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) (٢). قال : كان هذا قبل بعث نوح ، كانوا أمّة واحدة ، فبدا لله فأرسل الرسل قبل بعث نوح ، قيل : أعلى هدى كانوا أم على ضلالة؟ قال : بل كانوا ضلاّلا ، لا مؤمنين ، ولا كافرين ، ولا مشركين (٣).

وفي رواية أخرى قال : وذلك أنّه لما انقرض آدم وصالح ذريّته بقي شيث وصيه لا يقدر على إظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريّته. وذلك أنّ قابيل توعّده بالقتل كما قتل أخاه هابيل ، فسار فيهم بالتقية والكتمان ، فازدادوا كل يوم ضلالا حتى لم يبق على الأرض معهم إلاّ من هو سلف ، ولحق الوصي بجزيرة في البحر يعبد الله ، فبدا لله تبارك وتعالى أن يبعث الرسل ... قلت : أفضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى؟ قال عليه‌السلام : لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق الله ، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله ، أما تسمع يقول إبراهيم عليه‌السلام : ( لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) (٤). أي ناسيا للميثاق (٥).

وعن العلل عنه عليه‌السلام : إنّ الله عزّ وجلّ خلق الناس على الفطرة التي فطرهم عليها لا يعرفون إيمانا بشريعة ولا كفرا بجحود ، ثمّ ابتعث الله الرسل إليهم يدعونهم إلى الإيمان

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١.

(٢) البقرة ٢١٣.

(٣) تفسير العيّاشيّ ١ : ١٠٤ ، تفسير البرهان ١ : ٢١٠.

(٤) الأنعام ٧٧.

(٥) تفسير العيّاشيّ ١ : ١٠٤ ، تفسير البرهان ١ : ٢١٠.

١٠٨

بالله حجة لله عليهم ، فمنهم من هداه الله ، ومنهم من لم يهده (١).

اقول : الظاهر أنّ قوله : فمنهم من هداه الله ... ، الهدايات الخاصة.

منشأ المعرفة الفطرية

منشأ هذا العرفان المفطور عليه كل إنسان من آدم ومن بعده من أولاده وأولاد أولاده إلى يوم القيامة ، ومبدؤه ، هو : معرفة ذاته تعالى شأنه بذاته ووجدان العبد إيّاه وجدانا لائقا بذاته القدّوس حصلت لكل إنسان في عوالم سابقة واقعة قبل خلقة أبدانهم من أجزاء التراب ، المعبّر عنها في الروايات المباركات بالذرّ ، لكون بدن الإنسان فيها من جهة الصغر كالذرّ أو أصغر ، المشار إليها بقوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) (٢). وقبل ذلك في عالم الأرواح والأظلّة والأشباح ، المخلوقة قبل الأبدان الذرّية.

وبالجملة : عرّفهم نفسه في تلك النشآت مرارا معرفة جليّة عبّر عنها بالرؤية ، المفسّرة بقولهم : لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان ، فأثبتها في قلوبهم وأنساهم الرؤية.

وهذه المعرفة من الله تعالى التي ليس للعباد فيها صنع هي المحقّقة لموضوع العهد والميثاق الذي أشار إليه ـ على ما في بعض الروايات ـ بقوله تعالى :

( وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٣).

( وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ ) (٤).

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٢٦٣.

(٢) الأعراف ١٧٢ ، ١٧٣.

(٣) الحديد ٨.

(٤) الأعراف ١٠٢.

١٠٩

( وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) (١).

( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) (٢).

( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) (٣).

( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) (٤).

( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) (٥).

( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) (٦).

( هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) (٧).

المفسّرة بما يرجع إلى ما ذكرنا ، فراجع تفسير البرهان ونور الثقلين ، والصافي والقميّ ، والعيّاشي.

أخذ الميثاق في عالم الأظلّة وعالم الذرّ

يظهر من مجموع روايات كثيرة بعد ضمّ بعضها إلى بعض أنّه تعالى خلق الأرواح قبل الأبدان ، وعبّر عنها بالأظلة والأشباح أيضا ، وأوجدهم الحياة والعقل ، ثم عرّفهم نفسه وكذا رسله وحججه ـ وهم أرواح ـ وأخذ منهم العهد والميثاق على ربوبيّته ، وعلى نبوّة الرسول وخلافة الائمّة الاثني عشر وولايتهم صلوات الله عليهم ، بعد إراءتهم إيّاهم إراءة حقيقية.

ثم بعد برهة من الزمان ـ قبل أن يخلق جسد آدم من التراب ، الخلق المعروف الذي أسجد له الملائكة بعد نفخ الروح فيه ـ خلق لكل روح بدنا ذريّا من التراب يخصّها ، ثم تعلّقت الأرواح بتلك الأبدان ، ثمّ جدّد التعريف وأخذ الميثاق ، ثمّ خلق جسد آدم الخلق

__________________

(١) آل عمران ٨٣.

(٢) الأنعام ١١٠.

(٣) الأعراف ١٠١.

(٤) الأنعام ٢٨.

(٥) النجم ٥٦.

(٦) الجن ١٦.

(٧) الدهر ١.

١١٠

المعروف المذكور آنفا المنطوي فيه بدنه الذّريّ وجعل الأبدان الذريّة من ولده في صلبه ، ثمّ أخرجها من صلبه وأوجدها الروح والحياة ، ثم جدّد التعريف وأخذ الميثاق عنها مرّة أخرى.

وبالجملة اختلاف الخصوصيات المذكورة في بعض الروايات إنّما هو لتعدد المواقف ، فلا وجه لما عن بعض المتأخرين لتضعيف الروايات على كثرتها من جهة اختلافها في الخصوصيات.

تنبيه

من فوائد التعريف وأخذ الميثاق مرّة بعد مرّة ، التأكيد في إتمام الحجة ، كما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله البيعة من أصحابه مرّتين. مضافا إلى أنّ كل تعريف من الله ، وكلّ طاعة أو عصيان من العبد موضوع لاستحقاق المدح والثواب ، أو الذمّ والعقاب ، فإذا لم تحصل للعبد الطاعة واقعا وطوعا في شيء منها كانت الحجّة لله تعالى عليه في تبعيده عن رحمته أتمّ. وإنّما يكشف عن ذلك يوم القيامة الذي هو يوم الجزاء ، وإن لم يظهر ذلك لنا في الدنيا ، كما أشار إليه في قوله تعالى : ( أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ ... ) (١).

مضافا إلى أنّ العصيان الصادر عنهم في تلك النشآت ـ حيث إنّ الله لم يجعل لهم بعض الدواعي الموجودة في دار الدنيا ـ أوجب لاستحقاق الذمّ والعقاب ، فتكون الحجّة عليهم من هذه الجهة أيضا أتمّ ، كما تؤمئ إليه الآية المباركة ، وسيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى.

الأدلّة النقلية على سبق خلقة الأرواح وأخذ الميثاق

ومما يدلّ على سبق خلقة الأرواح روايات كثيرة نقلت في الكافي ، ومعاني الأخبار ، وعلل الشرائع ، وبصائر الدرجات ، والاختصاص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن

__________________

(١) الأعراف ١٧٢ ، ١٧٣.

١١١

أمير المؤمنين ، والإمام الباقر والصادق صلوات الله عليهم.

منها : أنّ الأرواح خلقت قبل الأبدان بألفي عام ثمّ أسكنت الهواء.

ومنها : أنّ الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثم عرضهم علينا.

ومنها : أنّ الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، ثم عرض علينا المحبّ من المبغض.

ومنها : خلق أرواح الشيعة قبل أبدانهم بألفي عام.

ومنها : قوله عليه‌السلام : ما تقول في الأرواح أنّها جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف؟ قال [ الراوي ] : فقلت : إنّا نقول ذلك ، قال عليه‌السلام : فإنّه كذلك ، إن الله عزّ وجلّ أخذ على العباد ميثاقهم وهم أظلّة قبل الميثاق ... الخبر.

ومنها : أنّ الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها في الميثاق ائتلف هاهنا ، وما تناكر منها اختلف هاهنا ، والميثاق هو في هذا الحجر الأسود ... الخبر.

ومنها : أنّ الله تعالى أخذ ميثاق العباد وهم أظلّة قبل الميلاد ، فما تعارف من الأرواح ائتلف ، وما تناكر منها اختلف.

وغير ذلك من الروايات ، أوردها المجلسيّ قدس‌سره ، لا بدّ لمن أراد التحقيق من الرجوع إليها (١).

ويدلّ على ما ذكرنا ـ مضافا إلى ما مرّ ـ رواية العيّاشي عن زرارة ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أرأيت حين أخذ الله الميثاق على الذرّ في صلب آدم فعرضهم على نفسه ، كانت معاينة منهم له؟ قال : نعم يا زرارة وهم ذرّ بين يديه ، وأخذ عليهم بذلك الميثاق بالربوبية له ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوة. ثم كفّل لهم بالأرزاق ، وأنساهم رؤيته ، وأثبت في قلوبهم معرفته ، فلا بدّ من أن يخرج الله إلى الدنيا كل من أخذ عليه الميثاق ، فمن جحد ما أخذ عليه الميثاق لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينفعه اقراره لربّه بالميثاق ، ومن لم يجحد ميثاق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نفعه الميثاق لربّه (٢).

__________________

(١) يلاحظ البحار ٦١ : ١٣١ ـ ١٥٠.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ : ١٨١ ، وعنه البحار ٥ : ٢٥٤.

١١٢

ورواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : وسألته عن قول الله : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ) ... قال : أخرج من ظهر آدم ذريّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرّ ، فعرّفهم وأراهم نفسه ، ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه ... الخبر (١).

ورواية علي بن معمّر عن أبيه ، قال : سألت أبا عبد الله صلوات الله عليه عن قول الله عزّ وجلّ : ( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) (٢) ، قال : إن الله تبارك وتعالى لما ذرأ الخلق في الذرّ الأوّل فأقامهم صفوفا ( قدّامه ) (٣) ، بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فآمن به قوم وأنكره قوم ، فقال الله : ( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) ، يعني به محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث دعاهم إلى الله عزّ وجلّ في الذرّ الأوّل (٤).

ورواية الحسين بن نعيم الصحّاف قال : سألت الصادق صلوات الله عليه عن قوله : ( فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) (٥). فقال : عرف الله عزّ وجلّ إيمانهم بولايتنا ، وكفرهم بتركها يوم أخذ عليهم الميثاق وهم ذرّ في صلب آدم عليه‌السلام (٦).

ورواية جابر قال : سمعت أبا جعفر صلوات الله عليه يقول في هذه الآية : ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) (٧). يعني من جرى فيه شيء من شرك الشيطان. ( عَلَى الطَّرِيقَةِ ) يعني على الولاية ، في الأصل عند الأظلّة ، حين أخذ الله ميثاق بني آدم. ( لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) يعني : لكنّا وضعنا أظلّتهم في الماء الفرات العذب (٨).

قال العلاّمة المجلسيّ قدس‌سره : وحاصل الخبر أنّ المراد بالآية أنّهم لو كانوا أقرّوا في عالم الظلال والأرواح بالولاية لجعلنا أرواحهم في أجساد مخلوقة من الماء العذب ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٢ ، البحار ٥ : ٢٥٨ ، عن تفسير العيّاشيّ.

(٢) النجم ٥٦.

(٣) ما بين القوسين موجود في البحار وليس في تفسير القمّيّ.

(٤) البحار ٥ : ٢٣٤ ، عن تفسير القمّيّ.

(٥) التغابن : ٢.

(٦) البحار ٥ : ٢٣٤ ، عن تفسير القمّيّ.

(٧) الجن : ١٦.

(٨) البحار ٥ : ٢٣٤ ، عن تفسير القمّيّ.

١١٣

فمنشأ اختلاف الطينة هو التكليف الأوّل في عالم الأرواح عند الميثاق (١).

وعن كنز الفوائد عن عبد الله بن حمّاد عن سماعة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول في قول الله عزّ وجلّ : ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) : يعني :

لو استقاموا على الولاية في الأصل عند الأظلّة حين أخذ الله الميثاق على ذريّة آدم ، لاسقيناهم ماء غدقا ، يعني لأسقيناهم من الماء الفرات العذب (٢).

ورواية يحيي الحلبيّ عن ابن سنان قال : قال أبو عبد الله صلوات الله عليه : أوّل من سبق من الرسل إلى « بلي » رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أنّه كان أقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل لمّا اسرى به إلى السماء : تقدّم يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد وطئت موطأ لم يطأه ملك مقرب ولا نبيّ مرسل. ولو لا أنّ روحه ونفسه كان من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه ، فكان من الله عزّ وجلّ كما قال الله : ( قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) (٣) أي بل أدنى. فلمّا خرج الأمر من الله وقع إلى أوليائه عليهم‌السلام ، فقال الصادق عليه‌السلام : كان الميثاق مأخوذا عليهم لله بالربوبيّة ، ولرسوله بالنبوّة ، ولأمير المؤمنين والائمّة عليهم‌السلام بالإمامة ، فقال : ألست بربكم ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين والأئمّة الهادون أئمّتكم؟ فقالوا : بلى شهدنا ، ( أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ، أي لئلا تقولوا يوم القيامة ( إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (٤).

ورواية داود الرّقيّ عن أبي عبد الله صلوات الله عليه قال : لمّا أراد الله أن يخلق الخلق خلقهم ونشرهم بين يديه ، ثم قال لهم : من ربّكم؟ فأوّل من نطق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمير المؤمنين والأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين ، فقالوا : أنت ربّنا ، فحمّلهم العلم والدّين ، ثم قال للملائكة هؤلاء حملة ديني وعلمي وامنائي في خلقي ، وهم المسئولون. ثم قال لبني آدم : أقرّوا لله بالربوبيّة ولهؤلاء النفر بالطاعة والولاية ، فقالوا : نعم ربّنا أقررنا ، فقال الله جلّ جلاله للملائكة : اشهدوا ، فقالت الملائكة : شهدنا على أن لا

__________________

(١) البحار ٥ : ٢٣٥.

(٢) البحار ٢٤ : ٢٨.

(٣) النجم ٩.

(٤) البحار ٥ : ٢٣٦ ، عن تفسير القمّيّ.

١١٤

يقولوا غدا : إنّا كنّا عن هذا غافلين ، أو يقولوا : إنّما أشرك آباؤنا من قبل وكنّا ذريّة من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون. يا داود ، ولايتنا مؤكّدة عليهم في الميثاق (١).

وعن كشف الغمّة عن كتاب دلائل الحميريّ عن أبي هاشم الجعفريّ ، قال : كنت عند أبي محمّد عليه‌السلام ، فسأله محمّد بن صالح الأرمنيّ عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) قال أبو محمّد صلوات الله عليه : ثبتت المعرفة ونسوا ذلك الموقف ، وسيذكرونه ، ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه ، قال أبو هاشم : فجعلت أتعجّب من نفسي من عظيم ما أعطى الله وليّه وجزيل ما حمّله ، فأقبل أبو محمّد صلوات الله عليه عليّ ، فقال : الأمر أعجب ممّا عجبت منه يا أبا هاشم وأعظم ، ما ظنّك بقوم من عرفهم عرف الله ، ومن أنكرهم أنكر الله ، فلا مؤمن إلاّ وهو بهم مصدّق وبمعرفتهم موقن؟ (٢)

وعن تفسير العيّاشيّ عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله صلوات الله عليهما ، قالا : إن الله خلق الخلق وهي أظلّة ، فأرسل رسوله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنهم من آمن به ومنهم من كذّبه ، ثمّ بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن به في الأظلة ، وجحده من جحد به يومئذ ، فقال : ( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) (٣).

وعن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفر صلوات الله عليه ، قال : إنّ الله تبارك وتعالى هبط إلى الأرض في ظلل من الملائكة على آدم وهو بواد يقال له الرّوحاء ، وهو واد بين الطائف ومكّة ، قال : فمسح على ظهر آدم ثم صرخ بذرّيّته وهم ذرّ ، قال : فخرجوا كما يخرج النحل من كورها ، فاجتمعوا على شفير الوادي ، فقال الله لآدم : انظر ، ما ذا ترى؟ فقال آدم : أرى ذرّا كثيرا على شفير الوادي. فقال الله : يا آدم ، هؤلاء ذرّيّتك ، أخرجتهم من ظهرك لآخذ عليهم الميثاق لي بالربوبيّة ، ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة ، كما آخذه عليهم في السماء. قال آدم : يا ربّ وكيف وسعتهم ظهري؟ قال الله : يا آدم ، بلطف صنيعي ونافذ

__________________

(١) البحار ٥ : ٢٤٤ ، عن علل الشرائع.

(٢) البحار ٥ : ٢٦٠.

(٣) يونس ٧٤ ـ البحار ٥ : ٢٥٩.

١١٥

قدرتي. قال آدم : فما تريد منهم في الميثاق؟ قال الله : أن لا يشركوا بي شيئا ... الخبر (١).

قال المجلسيّ قدس‌سره : هبط إلى الأرض أي هبط ونزل وحيه وأمره مع طوائف كثيرة من الملائكة. شبّههم بالظلل في وفورهم وكثرتهم وتراكمهم. والظلل جمع الظلّة ، وهي ما أظلّك من سحاب ونحوه ، وهذا مثل قوله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ ) (٢). والمسح كناية عن شمول اللطف والرحمة ، انتهى. (٣)

وفي دعاء يوم الغدير : اللهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد وحدك لا شريك لك ... كما كان من شأنك أن تفضّلت عليّ بأن جعلتني من أهل إجابتك ، وأهل دينك وأهل دعوتك ، ووفّقتني لذلك في مبتدأ خلقي تفضّلا منك وكرما وجودا ... إلى أن جدّدت ذلك العهد لي تجديدا بعد تجديدك خلقي وكنت نسيا منسيّا ساهيا غافلا (٤).

ورواية الحسن بن الجهم ، قال : سمعت أبا الحسن الرضا صلوات الله عليه يقول : قال أبو جعفر صلوات الله عليه : إنّ النطفة تكون في الرحم أربعين يوما ... فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله عزّ وجلّ ملكين خلاّقين ... ويكتبان الميثاق بين عينيه ، فإذا أكمل الله الأجل بعث الله ملكا فزجره زجرة فيخرج وقد نسي الميثاق ... (٥).

ورواية الأصبغ بن نباتة عن عليّ صلوات الله عليه ، قال : أتاه ابن الكوّاء فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن الله تبارك وتعالى هل كلّم أحدا من ولد آدم قبل موسى؟ فقال علي صلوات الله عليه : قد كلم الله جميع خلقه : برّهم وفاجرهم ، وردّوا عليه الجواب. فثقل ذلك على ابن الكوّاء ولم يعرفه فقال له : كيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له : أو ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) ، فقد أسمعهم كلامه وردّوا عليه الجواب كما تسمع في قول الله ـ يا ابن الكوّاء ـ : ( قالُوا بَلى ) ، فقال لهم : إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا ، وأنا

__________________

(١) البحار ٥ : ٢٥٩ ، عن تفسير العيّاشيّ ٢ : ٢١٨ / ٧٣.

(٢) البقرة ٢١٠.

(٣) البحار ٥ : ٢٥٩.

(٤) البحار ٩٨ : ٢٩٨ ، عن الإقبال.

(٥) البحار ٦٠ : ٣٤٤ ، عن الكافي.

١١٦

الرحمن ، فأقرّوا له بالطاعة والربوبية. وميّز الرسل والأنبياء والأوصياء ، وأمر الخلق بطاعتهم ، فأقرّوا له بذلك في الميثاق ، فقالت الملائكة عند إقرارهم بذلك : شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيامة : إنّا كنا عن هذا غافلين (١).

ورواية أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله صلوات الله عليه : كيف أجابوا وهم ذرّ؟ قال : جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه ـ يعني في الميثاق (٢).

قال العلاّمة المجلسيّ قدس‌سره : أي تعلقت الأرواح بتلك الذرّ فجعل فيهم العقل وآلة السمع وآلة النطق ، حتى فهموا الخطاب وأجابوا وهم ذرّ (٣) ... انتهى.

وفي رواية عبد الله الفضل الهاشمي ، قال : قلت لأبي عبد الله صلوات الله عليه : لأيّ علة جعل الله الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوته الأعلى في أرفع محل؟ فقال عليه‌السلام إنّ الله تبارك وتعالى علم أنّ الأرواح في شرفها وعلوّها متى ما تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبيّة دونه عزّ وجلّ ، فجعلها بقدرته في الأبدان التي قدّر لها في ابتداء التقدير ، نظرا لها ورحمة بها ، وأحوج بعضها إلى بعض ، وعلّق بعضها على بعض ، ورفع بعضها على بعض ، ورفع بعضها فوق بعض درجات ، وكفى بعضها ببعض ، وبعث إليهم رسله ، واتّخذ عليهم حججه مبشّرين ومنذرين ، يأمرون بتعاطي العبودية والتواضع لمعبودهم بالأنواع التي تعبّدهم بها ، ونصب لهم عقوبات في العاجل وعقوبات في الآجل ، ومثوبات في العاجل ومثوبات في الآجل ، ليرغّبهم بذلك في الخير ويزهّدهم في الشرّ ، وليذلّهم بطلب المعاش والمكاسب ، فيعلموا بذلك أنّهم بها مربوبون ، وعباد مخلوقون ، ويقبلوا على عبادته فيستحقّوا بذلك نعيم الأبد وجنّة الخلد ، ويأمنوا من النزوع إلى ما ليس لهم بحقّ. ثم قال عليه‌السلام : يا ابن الفضل إنّ الله تبارك وتعالى أحسن نظرا لعباده منهم لأنفسهم. ألا ترى أنّك لا ترى فيهم إلاّ محبّا للعلوّ على غيره ، حتى إنّه يكون منهم من قد نزع إلى دعوى الربوبية ، ومنهم من نزع إلى دعوى النبوة بغير حقها ،

__________________

(١) البحار ٥ : ٢٥٨ ، عن العيّاشيّ.

(٢) البحار ٥ : ٢٥٧ ، عن العيّاشيّ.

(٣) البحار ٥ : ٢٥٧.

١١٧

ومنهم من نزع إلى دعوى الإمامة بغير حقها. وذلك مع ما يرون في أنفسهم من النقص ، والعجز ، والضعف ، والمهانة ، والحاجة ، والآلام ، والمناوبة عليهم ، والموت الغالب لهم والقاهر لجميعهم. يا ابن الفضل إن الله تبارك وتعالى لا يفعل لعباده إلاّ الأصلح لهم ، ولا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (١).

ومما يدلّ على ما ذكرنا روايات عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وابن بكير عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، والبزنطي عن رفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وعمر بن أذينة عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (٢).

قال العلامة المجلسيّ ـ قدس‌سره ـ في باب الطينة والميثاق من بحار الأنوار ، بعد كلام الشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ وما خطر بباله الشريف من الإشكال في المسألة : طرح ظواهر الآيات والأخبار المستفيضة بأمثال تلك الدلائل الضعيفة والوجوه السخيفة جرأة على الله وعلى أئمّة الدين. ولو تأمّلت فيما يدعوهم إلى ذلك من دلائلهم وما يرد عليها من الاعتراضات الواردة لعرفت أنّ بأمثالها لا يمكن الاجتراء على طرح خبر واحد ، فكيف يمكن طرح تلك الأخبار الكثيرة الموافقة لظاهر الآية الكريمة ، بها وبأمثالها؟! وسيأتي الأخبار الدالّة على تقدّم خلق الأرواح على الأجساد في كتاب السماء والعالم ، وسنتكلم عليها ، (٣) انتهى.

أقول : ولا ينافي ذلك جلالة الشيخ المفيد قدس‌سره ، بل صدور مثل ذلك من مثله ثمّ كشف خلافه إنّما هو من الأدلّة على أن من قامت الحجة القطعية على وجوب عصمته ينحصر في الرسول والإمام المنصوب بشخصه من قبل الله تعالى شأنه. ويحكى عنه قدس‌سره نظير ذلك ، وهو حكمه بدفن حامل مع حملها.

وقال أيضا في باب آخر في خلق الأرواح قبل الأجساد : اعلم أنّ ما تقدّم

__________________

(١) البحار ٦١ : ١٣٣ ، عن علل الشرائع.

(٢) البحار ٣ : ٢٧٨ ـ ٢٨٠.

(٣) البحار ٥ : ٢٦٧.

١١٨

من الأخبار المعتبرة في هذا الباب ، وما أسلفناه في أبواب خلق الرسول والأئمّة عليهم‌السلام ـ وهي قريبة من التواتر ـ دلّت على تقادم خلق الأرواح على الأجساد. وما ذكروه من الأدلّة على حدوث الأرواح عند خلق الأبدان مدخولة ، لا يمكن ردّ تلك الروايات لأجلها (١).

أقول : وفي باب حدوث العالم (٢) ، وباب تاريخ ولادة أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣) ، وغير ذلك أيضا روايات كثيرة تدل عليه.

وفي باب علة استلام الحجر من كتاب الحجّ (٤) ، وباب خلقة الأئمّة عليهم‌السلام ، وباب أخذ ميثاقهم من كتاب الإمامة (٥) ، وأبواب أحوال آدم من كتاب النبوة (٦) ، وباب تسمية الجمعة (٧) ، وباب تسمية أمير المؤمنين عليه‌السلام (٨) ، ورواية تحاكم محمّد بن الحنيفة وزين العابدين صلوات الله عليه إلى الحجر الأسود (٩) ، وغير ذلك أخبار مناسبة لذلك ، رواها كثير من ثقات الأصحاب وفقهائهم ، فلا مجال للريب في صحة أسانيدها ، كما يظهر من ملاحظتها ، وعن طريق العامة أيضا روايات بمضمونها أوردها في البحار.

وروايات الفريقين متفقة على ثبوت عالم الذرّ وسبق خلقة الإنسان ، ولا وجه لرفع اليد عنها أو التأويل فيها بعد عدم الاختلاف في رواياتنا في ثبوت ذلك العالم.

ويؤيّد المطلب وجود الاختلاف فيه بين علماء العامة أيضا ، فلو كان الأئمّة صلوات الله عليهم مخالفين للقول بثبوته لصدر عنهم ما يدل على خلافه ، كيف والروايات متفقة ظاهرة الدلالة عليه ، غير قابلة للتأويل والتوجيه ، إلاّ أن يلتزم بأنّهم صلوات الله عليهم

__________________

(١) البحار ٦١ : ١٤١.

(٢) البحار ٥٧.

(٣) البحار ٣٥.

(٤) البحار ٩٩ : ٢١٦.

(٥) البحار ٢٥.

(٦) البحار ١١.

(٧) البحار ٥٨ : ٣٨٦ ، عن الكافي.

(٨) الكافي ١ : ٤١٢.

(٩) البحار ٤٦ : ١١١ ، عن الاحتجاج والبصائر والاختصاص.

١١٩

لم يكونوا في مقام الهداية والتعليم ، بل كانوا في مقام الإلغاز الموجب للضلالة ، جلّت ساحة قدسهم عن ذلك.

وعمدة ما أوقع بعض الأكابر في التشكيك فيه بل الإنكار شبهات أثارها بعض المذاهب الفلسفية ومقالاتهم في كيفية الخلقة ، وإلا فمن أمعن النظر في ما ورد عن الأئمّة صلوات الله عليهم في كيفية الخلقة لم يبق له أيّة شبهة في إمكان ما دلّت عليه الروايات المذكورة ، ويمنعه ذلك عن ردّ رواية واحدة ، فضلا عن ردّ جميعها ، بما لكثير منها من صحة السند ووضوح الدلالة ، كما مرّ. وستجيء خلاصة منها بعد ذكر الإشكالات والجواب عنها ، إن شاء الله تعالى.

ثبوت الطاعة والعصيان قبل هذه الدنيا

يظهر من بعض الروايات أنّه تعالى ابتلاهم أيضا واختبرهم في مبتدأ الخلق قبل ابتلائهم في هذه الدنيا ، بأن أجّج نارا فأمرهم بدخولها ، فدخل فيها قوم وصارت عليهم بردا وسلاما ، ولم يدخلها آخرون ، فرتّب الله تعالى على تلك الطاعة والعصيان آثارا في طينتهم وفطرتهم توجب التوفيق والخذلان في الدنيا.

ففي رواية زرارة عن أبي جعفر صلوات الله عليه : لو علم الناس كيف كان ابتداء الخلق ما اختلف اثنان ، فقال : إنّ الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخلق قال : كن ماء عذبا أخلق منك جنتي وأهل طاعتي. وقال : كن ماء ملحا اجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي. ثمّ أمرهما فامتزجا. فمن ذلك صار يلد المؤمن كافرا ، والكافر مؤمنا. ثم أخذ طين آدم من أديم الأرض فعركه عركا شديدا ، فإذا هم في الذرّ يدبّون ، فقال لأصحاب اليمين : إلى الجنّة بسلام ، وقال لأصحاب النار : إلى النار ولا أبالي. ثم أمر نارا فاسعرت ، فقال لأصحاب الشمال : ادخلوها ، فهابوها ، وقال لأصحاب اليمين : ادخلوها ، فدخلوها ، فقال : كوني بردا وسلاما ، فكانت بردا وسلاما ، فقال أصحاب الشمال : يا ربّ أقلنا ، فقال : قد أقلتكم فادخلوها ، فذهبوا فهابوها ، فثمّ ثبتت الطاعة والمعصية ،

١٢٠