أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

عبد العزيز كاظم البهادلي

أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

عبد العزيز كاظم البهادلي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-08-0
الصفحات: ١٦٥

سيرة النبي وأهل البيت

الزهراء (الخمسمائة درهم) (١).

مراسيم الزفاف :

لما مضىٰ نحو شهر علىٰ خطبة وعقد الصديقة فاطمة للأمير عليهما‌السلام ، قال عقيل وجعفر لعلي عليه‌السلام : ألا تسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُدخل عليك أهلك ؟ فأجابهما عليّ عليه‌السلام : « أجل ولكن الحياء يمنعني » فأقسما عليه أن يقوم معهما ، فقاما وأعلما أُم أيمن بذلك ، فدخلتْ علىٰ أُم المؤمنين (أُم سلمة) فأعلمتها وأعلمت نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأُخريات ، فاجتمعن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقلن : فديناك بآبائنا وأُمهاتنا ، أنا قد اجتمعنا لأمر لو كانت السيدة خديجة عليها‌السلام في الأحياء لقرّتْ عينها ، قالت السيدة (أُم سلمة) : فلما ذكرنا السيدة خديجة عليها‌السلام بكىٰ وقال : « خديجة وأين مثل خديجة ! صَدَّقَتْني حين كذبني الناس ، ووازَرَتْني علىٰ دين الله ، وأعانَتْني عليه بمالها ، (ولذا) فان الله عزّوجلّ أمرني أن اُبشّر خديجة ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب » (٢).

فقالت السيدة أُم سلمة : فديناك بآبائنا وأُمهاتنا ، انك لم تذكر من خديجة أمراً إلّا وكان كذلك ، غير أنها مضت إلىٰ ربها (راضية مرضيّة) فهنّأها الله بذلك ، وجمع بيننا وبينها في الجنّة.

ثم قالت : يا رسول الله ، هذا أخوك وابن عمّك في النسب علي بن أبي طالب عليه‌السلام يحبّ أن تُدخل عليه زوجته ! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حبّاً وكرامة » ، ثم دعا بعليّ عليه‌السلام وهو مطرق حياءً ، وبالأثناء قمن أزواجه فدخلن البيت ، فقال :

_____________

(١) نور الابصار / الشبلنجي : ١٤٧ ، بحار الأنوار ٤٣ : ١٠٥.

(٢) الإصابة / ابن حجر العسقلاني ٤ : ٢٧٣.

٨١

« أحسبك تشتهي الدخول علىٰ أهلك ! » ، قال : « نعم فداك أبي وأُمي يا رسول الله » ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « غداً إن شاء الله ».

فلما كان اليوم التالي التفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ النساء وقال : « من ها هنا ؟ » فقالت السيدة أُم سلمة : أنا يا رسول الله ، وزينب وفلانة وفلانة (زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) فأمرهنّ أن يزيّنَ (فاطمة) ويطيبنها ويصلحن شأنها في حجرة أُم سلمة ، وأن يفرشن بيتها ، ففعلن النسوة ما أمرهن وعلّقن عليها من حليهنّ وطيبنها (١).

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري ، لمّا كانت ليلة الزفاف أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ببغلته الشهباء ، وثنىٰ عليها قطيفة ، وقال لفاطمة : « اركبي » ، وأمر سلمان أن يقودها ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يسوقها ، فبينما هم في الطريق إذ سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجبة ، فإذا بجبرئيل في سبعين ألفاً من الملائكة ، وميكائيل في سبعين ألفاً ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما أهبطكم إلىٰ الأرض ؟ » قالوا : جئنا نزفّ فاطمة إلىٰ زوجها علي بن أبي طالب ، فكبّر جبرئيل وميكائيل ، وكبّرت الملائكة ، وكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوقع التكبير علىٰ العرائس من تلك الليلة (حيث صار سنّة فيما بعد) (٢).

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنه : لمّا زُفَّت فاطمة الزهراء إلىٰ أمير المؤمنين علي عليهما‌السلام ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قدّامها ، وجبرئيل عن يمينها ، وميكائيل عن يسارها ، وسبعون ألف ملك يسبّحون الله ويقدّسونه حتىٰ طلع الفجر (٣).

_____________

(١) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام / السيد الأمين ١ : ١٦٥ ، بتصرّف.

(٢) دلائل الإمامة / الطبري الإمامي : ١٠٠ ـ ١٠١ / ٣٠ حديث خبر ليلة الزفاف.

(٣) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ٥ : ٧.

٨٢

وروىٰ ابن شهرآشوب عن كتاب مولد فاطمة عليها‌السلام لابن بابويه متحدّثاً عن بقية مراسيم الزفاف قال : أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنات عبد المطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة عليها‌السلام ، وأن يفرحن ويرجزن ويكبّرن ويحمدن ، ولا يقولن ما لا يرضي الله. فارتجزت أُم سلمة وعائشة وحفصة ومعاذة أُمّ سعد بن معاذ ، وكانت النسوة يرجعن أول بيت من كلّ رجز ثمّ يكبّرن ، ودخلن الدار ، ثم أنفذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ علي عليه‌السلام ودعاه إلى المسجد ، ثم دعا فاطمة عليها‌السلام فأخذ يدها ووضعها في يده ، وقال : « بارك الله في ابنة رسول الله » (١).

الوليمة :

روىٰ الشيخ الطوسي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لما زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة أمير المؤمنين عليهما‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : « يا علي اصنع لأهلك طعاماً فاضلاً ، ثمّ قال : من عندنا اللحم والخبز ، وعليك التمر والسمن ، فاشتريت تمرا وسمنا ، فحسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذراعه ، وجعل يشدخ التمر في السمن حتى اتخذ خبيصاً (٢) ، وبعث إلينا كبشاً سميناً فذبح ، وخبز لنا خبزاً كثيراً.

قال علي عليه‌السلام : ثمّ قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أُدع من أحببت ، فأتيت المسجد وهو مشحن بالصحابة ، فاستحييت أن أُشخّص قوماً وأدع قوماً ، ثمّ صعدت علىٰ ربوة هناك وناديت : أجيبوا إلىٰ وليمة فاطمة ، فأقبل الناس أرسالاً ،

_____________

(١) مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٣ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤ في تزويج فاطمة عليها‌السلام.

(٢) الخبيص : الحلواء المخبوصة من التمر والسمن.

٨٣

فاستحييتُ من كثرة الناس وقلّة الطعام ، فعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما تداخلني ، فقال لي : يا علي سأدعوا الله بالبركة.

قال علي عليه‌السلام : وأكل القوم عن آخرهم طعامي ، وشربوا شرابي ، ودعوا لي بالبركة ، وصدروا وهم أكثر من أربعة آلاف رجل ولم ينقص من الطعام شيء ثمّ دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصحاف فمُلئت ووجّه بها إلىٰ منازل أزواجه ، ثمّ أخذ صحفة وجعل فيها طعاماً وقال : هذا لفاطمة وبعلها » (١).

وعن جابر الأنصاري قال : حضرنا وليمة فاطمة ، فما رأيت وليمة أطيب منها (٢).

وعن أسماء بنت عميس قالت : لقد أولم علي علىٰ فاطمة ، فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته (٣).

دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للعروسين :

لمّا انقضى الحفل وانصرف المهنّئون ، دعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أُم سلمة وعائشة وبعض أُمّهات المؤمنين ، وطلب منهن أن يمضين بفاطمة إلىٰ بيت علي عليهما‌السلام ، وبعد صلاة العشاء ذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ بيت علي عليه‌السلام ، فدعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بماء فقرأ عليه بعض آي الذكر الحكيم ، ثمّ أمر العروسين أن يشربا منه ، وتوضّأ بالباقي فنثره علىٰ رأسيهما ، وهو يقول : « الّلهُمَّ بارك فيهما ، وبارك عليهما ، وبارك لهما في نسلهما ».

وهنا لم يتمالك النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أن أرسل دموعه عندما قبّل فاطمة

_____________

(١) الأمالي / الطوسي : ٤٢ / ٤٥ المجلس الثاني.

(٢) ينابيع المودّة / القندوزي الحنفي : ٢٣٣.

(٣) ذخائر العقبىٰ / المحبّ الطبري : ٣٣.

٨٤

ليودّعها وهي تبكي شأنها شأن كل عروس فارقت بيت أبيها ومرتع طفولتها ، ولمّا همّ بالإنصراف انحنى علىٰ فاطمة بكل عطف وحنان قائلاً لها : « لقد تركتك وديعة عند أوّل الناس إسلاماً ، وأقوىٰ الناس إيماناً ، وأكثرهم علماً ، وأفضلهم أخلاقاً ، أما والله يا فاطمة لقد زوّجتك سيّداً في الدنيا والآخرة » (١).

لقد استجاب الله سبحانه وتعالىٰ دعاء نبيّه الكريم في تلك الساعة « جمع الله شملكما ، وأعزّ جدكما ، وبارك عليكما ، وأخرج منكما كثيراً طيباً » (٢).

أجل بارك الله تعالىٰ لعلي وفاطمة عليهما‌السلام زواجهما السعيد ، وحصر ذرّية نبيّه المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله في أولاد ابنته وحبيبته فاطمة الزهراء عليها‌السلام (٣).

تاريخ الخطبة والزواج :

وكانت الخطبة في السنة الثانية للهجرة في شهر رمضان ، والزواج في أوّل ذي الحجّة ، في المدينة المنورة ، أمّا عمرها عند الزواج فهو يختلف بحسب الاختلاف في تاريخ ولادتها وزواجها ، فإذا قلنا بولادتها بعد المبعث بخمس سنين يكون عمرها عند الزواج نحو تسع سنين أو عشر.

وفي الاستيعاب : كان سنّها يوم تزويجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ،

_____________

(١) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ١٤.

(٢) ينابيع المودة / القندوزي الحنفي : ٢٠٧.

(٣) لقد وضح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الحقيقة قائلاً : « إنّ الله جعل ذرية كل نبي في صلبه ، وجعل ذرّيتي في صلب هذا ـ يعني عليّاً ـ » وكذا في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كل ولد أب فإن عصبتهم لأبيهم ، ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم » عن ذخائر العقبىٰ / المحبّ الطبري : ١٢١ ، وتاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ١١ : ٢٨٥.

٨٥

وكان سنّ علي عليه‌السلام إحدىٰ وعشرين سنة (١).

أولادها عليها‌السلام :

كانت ثمرة زواج أمير المؤمنين من الصديقة فاطمة أن رُزقا ولدين ، وهما الحسن والحسين عليهما‌السلام سيدا شباب أهل الجنّة. فقد ولد الحسن السبط عليه‌السلام في النصف من شهر رمضان عام ثلاثة من الهجرة ، وولد الحسين عليه‌السلام في الثالث من شهر شعبان عام أربعة من الهجرة.

وعند ولادة كل منهما استبشرت الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبولادتهما أشرق بيت الزهراء وعلي عليهما‌السلام بكوكبين أنارا سماءه ، وزيّنا جدرانه ، وغمراه بهجة وسروراً.

وكان المولود الثالث زينب العقيلة عليها‌السلام بطلة كربلاء ، وكان مولدها في السنة الخامسة من الهجرة ، ثمّ زينب الصغرى (٢) ، وهي المعروفة بأمّ كلثوم (٣).

ثم ابنها الأخير الذي حملت به في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسمّاه قبل أن يُولد محسناً ، لكنه اُسقط قبل ولادته عليه‌السلام فاستُشهد مظلوماً بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأيام علىٰ أثر ما جرى على أهل البيت عليهم‌السلام في حوادث السقيفة.

الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام يوم وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

حينما اشتدّت حالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تقدّم الإمام علي عليه‌السلام وراح يكفكف دموع

_____________

(١) راجع : إحقاق الحقّ / القاضي التستري ١٠ : ٣٥١ ، الاستيعاب / ابن عبد البر ٤ : ٣٧٤ ، مرآة المؤمنين : ١٦٥ ، تهذيب الكمال ٢ : ١١٤٢.

(٢) التتمّة في تواريخ الأئمّة عليهم‌السلام / تاج الدين العاملي : ٥٧.

(٣) معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : ١٠٦ / ٢.

٨٦

الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ويُهدّأ من روعها ، ثمّ احتضن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين رآه يصارع سكرات الموت حتىٰ فاضت نفسه المقدّسة ولفظ نفسه الأخير وهو علىٰ صدر علي يناجيه ويلقّنه !

روىٰ ابن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في مرضه : « ادعوا لي عليّا .. ادعوا لي أخي » ، فدُعيَ له ، فأقبل مسرعاً ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : « ادنُ منّي » ، قال عليه‌السلام : « فدنوت منه فأوصاني بجميع وصاياه ، ثم استند إليّ فلم يزل مستنداً إليّ ، وأنه ليكلّمني حتى أنّ بعض ريقه ليصيبني ، ثمّ نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله القضاء ، وفاضت نفسه الطاهرة (١) في حجري (٢) ، وقد ثقل في حجري فصحت : يا عمّ يا عباس أدركني فإني هالك » فجاء العباس فكان جهدهما جميعاً أن أضجعاه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهنا علا الصراخ في البيت المحمّدي ، وعلم الناس أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد التحق بالرفيق الأعلىٰ ، فأسرعوا يبكون بحرقة ، وقد أذهلهم المصاب لفقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٣)

لقد اهتزّت أركان الكون ، واظلمّت السماء ، وافتجع الكبير والصغير ، وقلّ العزاء ، وعظم رزؤه علىٰ المخلصين والأقرباء ، فيما كانت فاطمة الزهراء ، أشدّ الناس حزناً وأكثرهم أسىً ولوعة وحرقة وأعظمهم بكاءاً وانتحاباً. لقد

_____________

(١) قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج بلاغته : « ولقد قُبضَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وان رأسه لَعَلىٰ صَدري ، ولقد سالتْ نفسُهُ في كفِّي فأمررتُها علىٰ وجهي .. » شرح نهج البلاغة / محمد عبده ٢ : ٣٤٩.

(٢) مسند أحمد ٢ : ٣٠٠ ، ذخائر العقبىٰ / المحبّ الطبري : ٧٣ ، كفاية الطالب / الكنجي الشافعي : ١٣٣.

(٣) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٢ : ٥١.

٨٧

صرخت الصديقة الزهراء من أعماقها بلوعة الأسى : « واأبتاه ... وامحمّداه ... واربيع الأرامل واليتامىٰ ، من للقبلة والمصلّىٰ ، ومن لابنتك الوالهة الثكلىٰ ... رُميت يا أبتاه بالخطب الجليل ، ولم تكن الرزية بالقليل ... » ثم قالت : « الثكل شاملنا ، والبكاء قاتلنا والأسى لازمنا ».

ثمّ زفرت زفرة وأنّت أنّة كادت روحها أن تخرج ، ثم قالت :

قلّ صبري وبان عنّي عزائي

بعد فقدي لخاتم الأنبياءِ

عين يا عين اسكبي الدمع سحّاً

ويك لا تبخلي بفيض الدماءِ

يا رسول الإله يا خيرة الله

وكهف الأيتام والضعفاءِ

قد بكتك الجبال والوحش جمعاً

والطير والأرض بعد بكي السماءِ

وبكاك الحجون والركن والمشعر

يا سيدي مع البطحاءِ

وبكاك المحراب والدرس للقرآن

في الصبح معلناً والمساءِ (١)

ولمّا أفاقت من غيبوبتها وجدت الناس كالبركان الثائر سكارىٰ من وقع المصاب حيارىٰ في أمرهم ، بينما انصرف جماعة من الصحابة إلىٰ سقيفة بني ساعدة يتداولون أمر الخلافة ، ناسين ما أوصاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بابن عمّه أمير المؤمنين عليه‌السلام وأنّه خليفته عليهم من بعده. حتى فرغ الإمام ومن معه من تجهيز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وتغسيله ، ومن ثمّ دفنه حسب وصيّته الشريفة له في ذلك.

وكانت الزهراء عليها‌السلام في تلك الأحوال يُخشىٰ عليها من الموت ساعة بعد ساعة ، لكنّها تحاملت علىٰ نفسها ، وذهبت تسعى إلىٰ قبر أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فألقت بنفسها علىٰ القبر ، ووقعت مغشياً عليها ، ولمّا أفاقت من غشيتها صاحت ومن

_____________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٧٥ ـ ١٧٧.

٨٨

قلب كئيب : « يا أبتاه جبريل إلينا ينعاه ، يا أبتاه من ربّه ما أدناه ، يا أبتاه من جنان الفردوس مأواه ، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه » (١). واستعبرت باكية ، فبكى الناس رفقاً بها ، وتقطّعت قلوب المؤمنين حزناً عليها ، ثمّ أخذت حفنة من تراب القبر الطاهر وهي تقول متفجّعة :

ماذا علىٰ من شمّ تربة أحمد

ألّا يشمَّ مدىٰ الزمان غواليا

ورجعت سلام الله عليها مع بعض النسوة والناس تتبعها بعيون دامعة ، وعندها رأت أنس بن مالك خادم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت له معاتبة : « يا أنس كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب علىٰ رسول الله ؟! » (٢).

عن محمّد بن المفضل قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : جاءت فاطمة عليها‌السلام إلىٰ سارية في المسجد وهي تقول وتخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم يكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختل قومك فاشهدهم ولاتغب (٣)

قال ابن شهرآشوب : إنّ السيدة الزهراء عليها‌السلام ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشىٰ عليها ساعة بعد ساعة ، وتقول لولديها : « أين أبوكما (٤) الذي كان يكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة ، أين أبوكما الذي كان أشدّ الناس شفقة عليكما ؟ »

_____________

(١) بحار الأنوار ٢٢ : ٥٥٢ / ٢٩.

(٢) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام / باقر شريف القرشي ١ : ٢٦٨ ـ مطبعة الآداب ـ النجف.

(٣) بحار الأنوار ٤٣ : ١٩٥ / ٢٥.

(٤) لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : « الحسن والحسين ابناي .. » ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٦.

٨٩

ثم مرضت ومكثت أربعين ليلة ، ثم دعت أُم أيمن وأسماء بنت عميس وعليّاً عليه‌السلام وأوصت إلىٰ عليّ عليه‌السلام بوصاياها. (١)

وفي هذه الأثناء جاء بنو هاشم وخيار الصحابة إلىٰ السيدة الزهراء يسألونها الصبر والعزاء ، ومن أين لها بالصبر والعزاء وكيف ... وكل مصاب بعد مصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمَمٌ.

وجاء بعض الناس إلىٰ علي والزهراء سلام الله عليهما يسألونهما عمّا كان من أمر البيعة ، وكيف تمّت لابن أبي قحافة في سقيفة بني ساعدة !. ولم يكد يمضي علىٰ وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا ساعات وأهله مشغولون عن كلّ شيء منصرفون في تجهيزه لمثواه الأخير ، ونسمع علياً عليه‌السلام يقول وفي نبرات صوته حزن عميق وألم دفين : « أفكنت أدَع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته مسجّى بلا غسل ولا كفن وأخرج أنازع القوم الخلافة » (٢).

فأجابت الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام علىٰ الفور قائلةً : « ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم » (٣).

الأحداث التي جرت علىٰ فاطمة عليها‌السلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ما أن أغمض النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عينيه إلّا وانقلبت الاُمة رأساً علىٰ عقب ، وكانت المأساة تسير في خطين متوازيين ؛ وهما غصب الخلافة الحقّة من

_____________

(١) مناقب آل ابي طالب / ابن شهر آشوب ٣ : ٣٦٢ فصل في وفاة وزيارة الزهراء عليها‌السلام.

(٢) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٢ : ٦٠ ، بحار الأنوار / المجلسي ٢٨ : ٣٥٢.

(٣) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٢.

٩٠

الأمير عليه‌السلام ، وغصب حقوق أهل البيت عليهم‌السلام وعلىٰ رأسها نحلة الزهراء عليها‌السلام فدك ، وقد احتفظ التاريخ بجملة من الروايات التي تؤكّد ذلك ومنها :

عن عروة بن الزبير : أن عائشة أخبرته أنّ فاطمة عليها‌السلام ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سألت أبا بكر بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقسم لها ميراثها ، ما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مما أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا نورث ، ما تركناه صدقة » ، فغضبت فاطمة عليها‌السلام فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتىٰ تُوفّيت (١).

وعن ابن قتيبة أنه أرسل أبو بكر عمر بن الخطاب إلىٰ بيت فاطمة عليها‌السلام ليخرج عليّاً عليه‌السلام للبيعة وأنّه دعا بالحطب ليحرق دار فاطمة عليها‌السلام وحينها خاطبتهم الزهراء عليها‌السلام بقولها : « لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا ، ولم تردّوا لنا حقّاً ! » (٢).

فانصرفوا ثم أعادوا الكرة إلىٰ بيتها فصاحت عليها‌السلام بهم قائلة : « يا أبت يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة !؟ » فانصرفوا باكين إلّا عمر وجماعته حيث بقوا وأخرجوا عليّاً عليه‌السلام لأجل البيعة.

إلى أن قال ابن قتيبة : فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلىٰ فاطمة ، فإنّا قد أغضبناها. فانطلقا جميعا فاستأذنا علىٰ فاطمة فلم تأذن لهما ، فأتيا عليّاً فكلّماه ، فأدخلهما عليها ، فلما قعدا عندها حوّلت وجهها إلىٰ الحائط ، فسلّما

_____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ٧٩.

(٢) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٢.

٩١

عليها ، فلم تردّ عليهما السلام ، وحينها اعتذر أبو بكر من غصبه فدك زاعماً أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « لا نورث ، ما تركناه صدقة ».

فقالت عليها‌السلام : « أرأيتكما إنّ حدّثتكما حديثاً عن رسول الله تعرفانه وتفعلان به ؟ » ، قالا : نعم. فقالت : « نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة ابنتي أحبّني ، ومن أرضىٰ فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ » قالا : نعم ، سمعناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قالت : « فإنّي اُشهِد الله وملائكته أنّكما اسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه !!! ».

ولما خرجا خائبين نادت أبا بكر : « والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أُصلّيها » (١).

نعم أقدمت سلطة الخلافة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ اغتصاب نحلة الزهراء عليها‌السلام في فدك ، وهي قرية في الحجاز بينها وبين المدينة المنورة ثلاثة أيام ، فيها عين فوّارة ونخل كثير ، ومن ضمنها احدىٰ عشرة نخلة غرسها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده الكريمة ، كانت لليهود ، وبعد فتح خيبر ألقىٰ الله سبحانه وتعالىٰ في قلوب أهلها الرعب ، وصالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ النصف فقبل منهم ، فكانت له خالصة لأنّها لم يُوجف عليها بخيل ولا ركاب ، وبعد نزول الآية ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) (٢) دفعها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فكانت تتصرّف فيها أربع سنين في

_____________

(١) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٤.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٦.

٩٢

حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشكيل حكومة السقيفة برئاسة أبي بكر ، استولى عليها وطرد عمّال الزهراء عليها‌السلام منها ، وجعلها تابعة لبيت مال حكومته (١).

والمفارقة الغريبة التي حدثت هي أنّه في الوقت الذي صدر فيه حكماً إلهياً نفّذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فوهب بموجبه فدكاً لابنته الزهراء ، يُلاحظ أنّ أبا بكر قد اجتهد قبال حكم الله وأخذ هذه الهبة الإلهيّة وضمّها لحكومته ظلماً وعدواناً ، فجاءت الزهراء سلام الله عليها مطالبةً إيّاه بفدك علىٰ أنها نحلة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لها ، فطالبها أبو بكر بالبيّنة ، فجاءت بعلي والحسنين عليهم‌السلام وأُم أيمن يشهدون لها بذلك ، فردّ أبو بكر شهادة الشهود مدّعياً أنّها ليست بِحُجّة ؛ لأنّ علياً يجرّ النار إلىٰ قرصه ، وانّ الحسنين صغيران ، وان أُم أيمن امرأة أعجمية (٢).

فلم تسكت الزهراء عليها‌السلام عن المطالبة بحقّها ، وأقامت الدعوىٰ ثانية ، وطالبت بفدك علىٰ أنها سهم ذوي القربىٰ ، فاقتنع أبو بكر بالقضية ، وكتب لفاطمة سلام الله عليها كتاباً يقرّ لها بذلك ، ويعترف بأن فدكاً تعود لها إلّا أن دخول عمر الذي كان غائباً حين كتابة أبي بكر الكتاب لفاطمة قد غيّر مجاري الأمور ، حيث سأل أبا بكر فقال له : ما هذا الكتاب ؟ فقال أبو بكر : كتاب كتبته لفاطمة بحقّها من أبيها ، فقال عمر : ماذا تنفق علىٰ المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى ؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فبصق فيه وشقّه (٣).

_____________

(١) فدك في التاريخ / السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر : ٢٠.

(٢) في رحاب أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ١ : ٣١٩.

(٣) السيرة الحلبية / الحلبي الشافعي ٣ : ٤٠.

٩٣

وبذلك نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، حيث نسوا بالأمس القريب كيف قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّها وهو بين ظهرانيهم : « فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها أغضبني » (١).

أسباب مطالبة الزهراء عليها‌السلام بفدك :

لقد عرفنا أنّ الزهراء عاشت خشونة الحياة وشظف العيش ، وكانت الدنيا في عينها أحقر وأصغر من جناح بعوضة تنظر إليها باشمئزاز ، ولهذا فانها كانت أكبر من أن تنازع أو تخاصم أحداً في بقعة أرض لأجل إرث المنصب أو الإرث المادي وغيره من متاع الدنيا ، ولو كانت كذلك لظهر جلياً عندما كانت الاُمور كلها بأيدي أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتاريخ يقول العكس حيث أنها طحنت بالرحىٰ حتىٰ مجلت يداها ، وأثّر عمل الرحىٰ في يدها (٢) ، إلىٰ غير ذلك من الأحاديث التي لم تظهر لها أي تعلّق بالدنيا ولو بقيد أنملة ، فقد كانت في زمن أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله زاهدة عابدة منصرفة عن ملذات الدنيا وطيباتها ، ومن ناحية اُخرىٰ فهي وكما أخبرها أبوها صلى‌الله‌عليه‌وآله تعلم علم اليقين أن حياتها قصيرة ، وسوف لا تبقىٰ بعده إلّا أيّاماً معدودات ، ولهذا فقد كانت حريصة علىٰ تضامن المسلمين وإعلاء كلمة الدين ، لهذا نرىٰ أنّها لم تقف ذلك الموقف المتصلّب إلّا لتبيّن للناس حقّ علي عليه‌السلام في الخلافة ، وتزيل الغشاوة عن المسلمين السابحين في لجج الضوضاء.

إنّها ترىٰ خلافة علي عليه‌السلام امتداداً لرسالة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله المقدّسة ، ولذا فإن بعض

_____________

(١) صحيح البخاري ٥ : ٢١ / ٣٧١٤ من كتاب فضائل الصحابة ، باب مناقب قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) حلية الأولياء / أبو نعيم ٢ : ٤١.

٩٤

الروايات تؤكّد أنّ انتزاع فدك والعوالي وسهم ذوي القربى من يد الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام وحرمانها من ميراث أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان داخلاً في الحسابات السياسية لسلطة الخلافة ، حتىٰ لا تتوفّر لعلي عليه‌السلام أسباب القوة المادية التي تعينه علىٰ المضي في موقفه المعادي للغاصبين ، ومن هنا تمّت مصادرة فدك.

ومن جانب آخر أدركت السلطة أن الاعتراف بحقّ الزهراء عليها‌السلام بفدك ، سيؤدّي إلىٰ اعترافهم بحقّ علي عليه‌السلام في الخلافة فيما لو احتجّت عليهم الزهراء عليها‌السلام بذلك.

ومع هذا فقد استثمرت بنت المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الموقف ، وحاولت خلق شعور جماعي لا يرضىٰ بالاستكانة ، ولا يقبل بالحاكم الظالم ، ويرفض تمكّنه من أي موقع قيادي في دولة الإسلام ما دام ظالماً جائراً ، فكيف لو كان الموقع هو القيادة العامة للمسلمين ؟!

إنّ حقيقة المطالبة بفدك تتجلّىٰ بالمطالبة بالخلافة الحقّة المغتصبة ، وإن المطالبة فيها هي المطالبة بعزّة النفس وأصالة الحقّ وعنفوان الرسالة وامتداد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ركائز الثورة الفاطمية :

لقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وانحرفت المسيرة ورأت الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ضياع أُمّةِ أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما كان منها إلّا أنّ أعلنت ثورتها ، لأنّها تعلم علم اليقين أنّ الله سبحانه نصّب للإمامة والخلافة ربيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وحينما رأت أن هؤلاء سيطروا علىٰ كل شيء ، فاغتصبوا الخلافة ،

_____________

(١) فاطمة وتر في غمد / سليمان كتاني : ١٠٧.

٩٥

وصادروا فدكاً ، ولم يبقَ لأهل الحقّ باقية ، تحركت عليها‌السلام فوراً وقادت حملة اعتمدت علىٰ ركيزتين :

الاُولى : استدرار عواطف الناس بالبكاء ، حيث بكت بكاءً شديداً حتىٰ ضجّ منها بعض رجال المدينة ، وقالوا لها : لقد آذيتنا بكثرة بكائك ! علىٰ أنهم يعلمون علم اليقين ما هي حقيقة بكاء فاطمة !

ولما سأم بعض رجال أهل المدينة من كثرة بكاء الزهراء عليها‌السلام ، بنىٰ الإمام علي عليه‌السلام لها بيتاً كانت تأوي إليه في ساعات من الليل والنهار ، تبكي أباها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ما شاء لها وسُمّي ببيت الأحزان.

لقد خلّد بيت الأحزان صوت الزهراء عليها‌السلام في ذاكرة التأريخ الإسلامي ، حيث ضمن استمرار معارضتها للظلم مع تعاقب الأجيال ، حتىٰ انقلب بيت الأحزان منذ بواكير نشأته إلىٰ مقرّ سياسي لاعلان المعارضة في مواجهة الطغاة ، فكان مجمع النسوة المؤمنات ، فكل امرأة أرادت زيارة الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام لتعزّيها وتسلّيها ، كان عليها أن تصل بيت الأحزان لتلتقيها فترجع إلىٰ بيت زوجها لتعلن استياءها من أعداء الزهراء عليها‌السلام وغاصبي حقّها ، فتروي لزوجها وأولادها كل ما شاهدته وسمعته من الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ، فكنّ تلك النسوة الزائرات يطلبن من ذويهن أن يضمّوا أصواتهم إلىٰ صوت الزهراء عليها‌السلام ، وينهضوا للدفاع عن بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبضعته المظلومة المقهورة ، فصار بعض تلك النسوة سفيرات الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام في إعلان الثورة.

وهكذا أصبحت دموع الزهراء عليها‌السلام دروساً للجهاد والثورة ، وأصبح بيت الأحزان مدرسة كفاح ضد الطغمة الفاسدة الغاصبة.

الركيزة الثانية : تتمثّل في إلقاء الخطب الرنّانة التي دافعت فيها عن حقّ أمير

٩٦

المؤمنين عليه‌السلام في الخلافة ، ونبّهت الناس علىٰ انحراف القوم عن الخط الذي رسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمسيرة الإسلام من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان مغزىٰ هاتين الركيزتين وحقيقتهما هو تسديد الأُمّة وإنقاذها وتسييرها لطريق الحقّ وكشف زيغ الباطل.

ولقد حفظ لنا التاريخ الإسلامي خطبتين في هذا المضمار ، الأولىٰ : ألقتها عليها‌السلام في حشد من المهاجرين والأنصار ، والثانية : ألقتها علىٰ مسامع نساء المهاجرين والأنصار.

وكانتا غاية في الفصاحة والبلاغة والمتانة وقوّة الحجّة ، وتمثّلان أهم الوثائق التاريخية التي تعكس حالة التردّي التي كان يعيشها المجتمع الإسلامي آنذاك ، وتكشفان لنا عن سبب ما تعانيه الاُمّة الإسلامية حتىٰ اليوم من انحطاط وتقهقر واضطراب في الحالة الإسلامية.

الخطبة الاُولىٰ :

عن عبد الله بن الحسن عليه‌السلام بإسناده عن آبائه عليهم‌السلام : انّه لمّا أجمع أبو بكر وعمر علىٰ منع فاطمة عليها‌السلام فدكاً وبلغها ذلك ، لاثت خمارها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتىٰ دخلت علىٰ أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة ، ثمَّ أنّتْ أنّةً ، أجهش لها القوم بالبكاء ، وارتجّ المجلس ، ثمّ أمهلت هنيهة حتىٰ إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ، افتتحت كلامها بالحمد لله عزّوجلّ والثناء عليه ، والصلاة علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وممّا جاء في خطبتها عليها‌السلام : « ... وكنتم علىٰ شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ،

٩٧

وتقتاتون القِدّ ، أذلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالىٰ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعد اللتيّا والتي ، وبعد أن مُني ببُهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن الشيطان ، أو فغر فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتىٰ يطأ جناحها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء الله ، مشمّراً ناصحاً مجدّاً كادحاً ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنتم علىٰ رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون ، تتربّصون بنا الدوائر ، وتتوكّفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال.

فلمّا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوىٰ أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، واطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللعزّة فيه ملاحظين ، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحشمكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير مشربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يقبر ... ».

وتعرّضت عليها‌السلام في هذه الخطبة للدفاع عن حقّها في إرث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلة : « وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي من أبي ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (١) ؟! أفلا تعلمون ؟ بلىٰ قد تجلّى لكم

_____________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٠.

٩٨

كالشمس الضاحية بأني ابنته ! أيها المسلمون ، أأُغلب علىٰ إرثي ؟! يا بن أبي قحافة ، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فريّاً ، أفعلىٰ عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (١) وقال فيما اقتضىٰ من خبر يحيىٰ بن زكريا إذ قال : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا  * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٢) ، وقال : ( وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) (٣) ، وقال : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ) (٤) ، وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (٥) ، وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها ؟ أم تقولون أنّا أهل ملّتين لا يتوارثان ؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي ! فدونكهما مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله والزعيم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ... ».

وقالت عليها‌السلام : « سبحان الله ما كان أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن كتاب الله صادفاً ، ولا لأحكامه مخالفاً ، بل يتّبع أثره ، ويقفو سوره ، أفتجمعون إلىٰ الغدر اعتلالاً عليه بالزور ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته ،

_____________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٥ ـ ٦.

(٣) سورة الأنفال : ٨ / ٧٥.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١١.

(٥) سورة البقرة : ٢ / ١٨٠.

٩٩

هذا كتاب الله حكم عدل وناطق فصل يقول : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (١) ويقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (٢) وبيّن عزّوجلّ فيما وزّع من الأقساط وشرع من الفرائض والميراث وأباح من حظّ الذكران والاُناث ما أزاح به علّة المبطلين وأزال التظنين والشبهات في الغابرين ، كلاّ ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ) (٣).

وناشدت الأنصار مشيرةً إلىٰ حقّ علي عليه‌السلام في خلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلة : « ألا وقد أرى قد أخلدتم إلىٰ الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ، وخلوتم بالدعة ، ونجوتم بالضيق من السعة ، فمججتم ما وعيتم ، ودسعتم الذي تسوّغتم ( إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (٤).

ثمّ عطفت علىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلةً :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فأشهدهم فقد نكبوا

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا

فغبت عنّا فكلّ الخير محتجب

وكنت بدراً ونوراً يُستضاء به

عليك تنزل من ذي العزّة الكتب

تجهّمتنا رجال واستُخِفّ بنا

بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ الإرث مغتصب

سيعلم المتولّي ظلم حامتنا

يوم القيامة أنّىٰ سوف ينقلب

_____________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٦.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ١٨.

(٤) سورة إبراهيم : ١٤ / ٨.

١٠٠